فصل: مَسَائِلُ شَتَّى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفتاوى الهندية



.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الدَّعْوَى فِي الْحَوَالَةُ وَالشَّهَادَةِ:

زَعَمَ الْمَدْيُونُ أَنَّهُ كَانَ أَحَالَ الدَّائِنَ عَلَى فُلَانٍ وَقَبِلَهُ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ، ثُمَّ سُئِلَ الْمَدْيُونُ عَنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحَوَالَةِ إنْ أَحْضَرَهَا، وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَاضِرٌ قُبِلَتْ وَبَرِئَ الْمَدْيُونُ، وَإِنْ غَابَ قُبِلَتْ فِي حَقِّ التَّوْقِيتِ إلَى حُضُورِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ حَضَرَ وَأَقَرَّ بِمَا قَالَ الْمَدْيُونُ بَرِئَ، وَإِلَّا أُمِرَ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ غَابُوا، أَوْ مَاتُوا حَلَفَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمَدْيُونِ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ حَلِفًا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا احْتَالَ عَلَى فُلَانٍ بِالْمَالِ فَإِنْ نَكَلَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
غَابَ الْمُحِيلُ وَزَعَمَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا عَلَى الْمُحِيلِ كَانَ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَإِنْ بَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ إلَى الْمُحْتَالِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ فَقَالَ الْمُحِيلُ الْمَالُ الْمُحْتَالُ بِهِ كَانَ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يُسْمَعُ، وَإِنْ بَرْهَنَ وَيُقَالُ لِلْمُحِيلِ أَدِّهِ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَاصَمَ الْمُحْتَالَ فَإِنْ بَرْهَنَ عَلَى الْمُحْتَالِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثَمَنَ خَمْرٍ تُقْبَلُ، ثُمَّ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَالْمُحْتَالِ كَذَا فِي الْوَجِيزِ لِلْكَرْدَرِيِّ وَلَوْ أَنَّ الْمُحْتَالَ أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَنَّ مَالَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ فَلَا خُصُومَةَ لِلْمُحْتَالِ لَهُ مَعَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ حَضَرَ الْمُحِيلُ وَقَالَ لَا بَلْ الْمَالُ قَرْضٌ لَزِمَهُ الْمَالُ إنْ صَدَّقَهُ الْمُحْتَالُ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
لَوْ أَحَالَ امْرَأَتَهُ بِصَدَاقِهَا وَقَبِلَ الْحَوَالَةَ، ثُمَّ غَابَ الزَّوْجُ فَأَقَامَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ نِكَاحَهَا كَانَ فَاسِدًا وَبَيَّنَ لِذَلِكَ وَجْهًا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا عَنْ صَدَاقِهَا، أَوْ أَنَّ الزَّوْجَ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ، أَوْ بَاعَ صَدَاقَهَا مِنْهَا شَيْئًا وَقَبَضَتْ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ أَحَالَ مُسْلِمًا عَلَى الْمُشْتَرِي حَوَالَةً مُقَيَّدَةً بِأَنْ قَالَ أَحَلْت فُلَانًا عَلَيْك بِالْأَلْفِ الَّتِي عَلَيْك، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَلْفُ كَانَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَقَالَ الْمُحِيلُ، وَهُوَ الْبَائِعُ كَانَ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ الْمُحِيلِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى الْمُحِيلِ بِذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بَلْ كَانَتْ مُطْلَقَةً بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَحَلْت فُلَانًا عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، وَإِنْ أَثْبَتَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُحِيلِ أَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ كَانَ ثَمَنَ خَمْرٍ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ رَجُلًا عَلَى الْمَدْيُونِ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ فَقَبَضَ الْمُحْتَالُ لَهُ الْمَالَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُحِيلُ لِلْقَابِضِ مَا كَانَ لَك عَلَى شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَمَرْتُك لِتَقْبِضَ الْمَالَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَطَالَبَهُ بِدَفْعِ الْمَقْبُوضِ إلَيْهِ وَقَالَ الْقَابِضُ بَلْ كَانَ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَأَحَلْتنِي بِهَا عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُحِيلِ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَلَوْ أَدَّى الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِمَا لِي عَلَيْك فَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَك عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَرْجِعُ عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ.
وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَالُ لَهُ غَائِبًا فَأَرَادَ الْمُحِيلُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَقَالَ أَحَلْته بِوَكَالَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا أُصَدِّقُهُ وَلَا أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الْغَائِبِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ أَنَّهُ وَكَّلَهُ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَحَالَ بِمَا لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ عَلَى إبْرَاءِ الْأَصِيلِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ، وَالطَّالِبُ يَدَّعِي الْحَوَالَةَ بَرِئَ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى كَوْنِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ضَامِنًا بِشَهَادَتِهِمَا إلَّا أَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ بِالْحَوَالَةِ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ ضَمِنَ بِغَيْرِ حَوَالَةٍ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ وَيَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَا بِهَا عَلَى رَجُلٍ لَهُمَا عَلَيْهِ مَالٌ فَجَحَدَ الطَّالِبُ الْحَوَالَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ابْنَاهُ، أَوْ أَبَوَاهُ بِالْحَوَالَةِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَطْلُوبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ جَحَدَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

.مَسَائِلُ شَتَّى:

الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ كَذَا فِي السِّرَاجِيَّةِ.
رَبُّ الدَّيْنِ إذَا أَحَالَ رَجُلًا عَلَى غَرِيمِهِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ دَيْنٌ فَهَذِهِ وَكَالَةٌ وَلَيْسَتْ بِحَوَالَةٍ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
أَحَالَ عَلَيْهِ بِمِائَةِ مَنٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا لِلْمُحْتَالِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ فَقَبِلَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْقُنْيَةِ.
دَفَعَ السِّمْسَارُ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ إلَى الرُّسْتَاقِيِّ ثَمَنَ دِبْسٍ، أَوْ قُطْنٍ، أَوْ حِنْطَةٍ لِيَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَعَجَزَ السِّمْسَارُ عَنْ أَخْذِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي لِإِفْلَاسِهِ يَسْتَرِدُّهَا مِنْ الْآخِذِ اسْتِحْسَانًا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي بِلَادِنَا أَنَّ السِّمْسَارَ يَدْفَعُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَوْ أَحَالَ الْبَائِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي نَصًّا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالسَّمَاسِرَةُ فِي بُخَارَى قَوْمٌ لَهُمْ حَوَانِيتُ مُعَدَّةٌ لِلسَّمْسَرَةِ يَضَعُ فِيهَا أَهْلُ الرَّسَاتِيقِ مَا يُرِيدُونَ بَيْعَهُ مِنْ الْحُبُوبِ، وَالْفَوَاكِهِ وَيَتْرُكُونَهَا فَيَبِيعُهَا السِّمْسَارُ، ثُمَّ قَدْ يَتَعَجَّلُ الرُّسْتَاقِيُّ الرُّجُوعَ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ السِّمْسَارُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ لِيَأْخُذَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَذَا فِي الْقُنْيَةِ.
رَجُلٌ أَحَالَ عَلَى آخَرَ بِقَدْرٍ مِنْ الْغَلَّةِ، ثُمَّ بَاعَ الْمُحْتَالُ لَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ الْغَلَّةَ إنْ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ كَذَا فِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى.
لَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَ بَائِعُ الدِّينَارِ إلَيْهِ الدِّينَارَ وَلَمْ يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ حَتَّى كَفَلَ بِالدَّرَاهِمِ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَتْ الْكَفَالَةُ فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى أَبْرَأَهُمَا صَاحِبُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ بَرِئَ الْكَفِيلُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ إبْرَاءٌ مَحْضٌ، وَأَمَّا الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَإِنْ قَبِلَ الْإِبْرَاءَ يَصِحُّ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَفَّلْ أَحَدٌ لَكِنْ بَائِعُ الْعَشَرَةِ أَحَالَ بِهَا صَاحِبَهُ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ وَقَبِلَ يَجُوزُ وَشُرِطَ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَاقِدَيْنِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا حَتَّى أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ عَنْ الدَّيْنِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَانْتَقَضَ الصَّرْفُ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ بَرِئَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ إبْرَاءٌ مَحْضٌ وَيَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ بَائِعِ الْعَشَرَةِ عَلَى رِضَاهُ وَقَبُولِهِ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْحَوَالَةُ فَاسِدَةً إذَا أَدَّى الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمَالَ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
إذَا أَحَالَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِمَا عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُحْتَالَ لَهُ بِالْخِيَارِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْحَوَالَةِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ وَكَذَلِكَ إنْ أَحَالَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُحْتَالَ لَهُ مَتَى شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْمُحْتَالِ لَهُ الْخِيَارُ يَرْجِعُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ غَرِيمًا لَهُ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَحْتَالَ بِالثَّمَنِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ مُوجَبَ الْعَقْدِ كَذَا فِي الْكَافِي.
الْبَائِعُ إذَا أَحَالَ غَرِيمَهُ بِمَالِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي حَوَالَةً مُقَيَّدَةً بِالثَّمَنِ لَا يَبْقَى لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا أَحَالَ الْبَائِعَ عَلَى غَرِيمٍ لَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً بِمِائَةٍ وَقَبَضَهَا فَأَحَالَ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ عَيْبًا بِالدَّابَّةِ فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالْمِائَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَكِنْ الْبَائِعُ يُحِيلُهُ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ شَاهِدًا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ، أَوْ غَائِبًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْمِائَةَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ رَدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ الْمَالُ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَأَبْطَلَهُ الْقَاضِي وَرَدَّ الدَّابَّةَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِمَا كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
إذَا أَخَذَ الْخَطَّ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُحِيلِ: إنَّهُ مُفْلِسٌ فَقَالَ لَهُ الْمُحِيلُ: ابْعَثْ إلَيَّ الْخَطَّ الَّذِي أَخَذْته مِنْهُ وَاتْرُكْ الْحَوَالَةَ، فَبَعَثَ بِالْخَطِّ وَلَمْ يَقْبَلْ بِلِسَانِهِ شَيْئًا انْفَسَخَتْ الْحَوَالَةُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: ابْعَثْ الْخَطَّ لَكِنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ بِالتَّغَلُّبِ لَوْ أَدَّى الْمُحِيلُ بِاخْتِيَارِهِ يَرْجِعُ الْمُحِيلُ بِمَالِهِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
لَوْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لَا يَحْبِسُ الرَّهْنَ هَكَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
الْمُشْتَرِي إذَا أَعْطَى بِالثَّمَنِ كَفِيلًا، ثُمَّ إنَّ الْكَفِيلَ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالْمَالِ عَلَى إنْسَانٍ فَأَرَادَ الْبَائِعُ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

.كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي:

وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ بَابًا:

.الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْأَدَبِ وَالْقَضَاءِ وَأَقْسَامِهِ وَشَرَائِطِهِ وَمَعْرِفَةِ مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ:

الْأَدَبُ هُوَ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَأَدَبُ الْقَاضِي الْتِزَامُهُ لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ مِنْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ وَتَرْكِ الْمَيْلِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ، وَالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ السُّنَّةِ.
وَالْقَضَاءُ لُغَةً بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَبِمَعْنَى الْفَرَاغِ وَبِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الشَّرْعِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ يَصْدُرُ عَنْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ قَدْ بَاشَرَهُ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ، وَمَضَى عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ وَلَكِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَذَا فِي الْكَافِي، وَالْقَضَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ.
وَاجِبٍ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ وَلَا يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ غَيْرُهُ.
وَمُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَكِنَّهُ هُوَ أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ.
وَمُخَيَّرٍ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الصَّلَاحِيَّةِ، وَالْقِيَامِ بِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَبِلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَا.
وَمَكْرُوهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَصْلَحُ.
وَحَرَامٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْهُ وَعَدَمَ الْإِنْصَافِ فِيهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَاطِنِهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى مَا لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالتَّكْلِيفِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَصَمَّ وَلَا أَخْرَسَ، وَأَمَّا الْأَطْرَشُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْقَوِيَّ مِنْ الْأَصْوَاتِ فَالْأَصَحُّ جَوَازُ تَوْلِيَتِهِ كَذَا فِي النَّهْرِ الْفَائِقِ.
وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ.
حَتَّى لَوْ قُلِّدَ جَاهِلٌ، وَقَضَى هَذَا الْجَاهِلُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ يَجُوزُ كَذَا فِي الْمُلْتَقَطِ لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ وَكَذَلِكَ الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لَكِنَّهَا شَرْطُ الْكَمَالِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَلَوْ قُلِّدَ، وَهُوَ عَدْلٌ، ثُمَّ فُسِّقَ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ، وَلَكِنْ لَا يَنْعَزِلُ بِهِ وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَيَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَعْزِلَهُ كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَلَوْ شَرَطَ السُّلْطَانُ أَنَّهُ مَتَى فُسِّقَ يَنْعَزِلُ انْعَزَلَ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَيَجُوزُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ مِنْ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ، وَالْجَائِرُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ، وَلَا يَخُوضُ فِي قَضَايَاهُ بِشَرٍّ وَلَا يَنْهَاهُ عَنْ تَنْفِيذِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَنْبَغِي أَمَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ وَيَخُوضُ فِي قَضَايَاهُ بِشَرٍّ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَنْبَغِي لَا يُتَقَلَّدُ مِنْهُ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ: وَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي الْجَوْرِ وَذَكَرَ فِي الْمُلْتَقَطِ: وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ أَيْ فِي السُّلْطَانِ الَّذِي يُقَلِّدُ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَيَجُوزُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَابِ الْخَوَارِجِ مِنْ سِيَرِ الْأَصْلِ إذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهَا قَاضِيًا فَقَضَى بِأَشْيَاءَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنَّهُ يُنْفِذُ مِنْهَا مَا كَانَ عَدْلًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى بِشَيْءٍ مِمَّا رَآهُ الْفُقَهَاءُ يُمْضِيهِ إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْقُضَاةِ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي أَدَبِ الْقَاضِي إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَيْضًا لَا يُنْفِذُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَاهُ، وَأَشَارَ فِي الْأَقْضِيَةِ إلَى أَنَّهُ يُنْفِذُ، فَإِنَّهُ قَالَ: هُمْ بِمَنْزِلَةِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالْفَاسِقُ يَصْلُحُ قَاضِيًا عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ.
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ النَّوَازِلِ: الْمُتَغَلِّبُ إذَا وَلَّى رَجُلًا قَضَاءَ بَلْدَةٍ، وَقَضَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ أَبْطَلَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى: وَالتَّقْلِيدُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ يَصِحُّ وَبِمُجَرَّدِ اسْتِيلَاءِ الْبَاغِي لَا تَنْعَزِلُ قُضَاةُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَيَصِحُّ عَزْلُ الْبَاغِي لَهُمْ حَتَّى لَوْ انْهَزَمَ الْبَاغِي لَا تَنْفُذُ قَضَايَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُقَلِّدْهُمْ السُّلْطَانُ الْعَدْلُ ثَانِيًا.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى أَيْضًا تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الْمُتَغَلِّبِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ أَيْ لَا مَنْشُورَ لَهُ مِنْ الْخَلِيفَةِ إذَا كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي رَعِيَّتِهِ سِيرَةَ الْأُمَرَاءِ يَحْكُمُ فِيمَا بَيْنَ رَعِيَّتِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا تَثْبُتُ السَّلْطَنَةُ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ.
ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ هُمْ الْخَارِجُونَ عَنْ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حَقٍّ بَيَانُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى إمَامٍ وَصَارُوا آمِنِينَ بِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ بِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُعِينُوا الْإِمَامَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى خُرُوجِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ بِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ ادَّعَوْا الْحَقَّ وَالْوِلَايَةَ فَقَالُوا الْحَقُّ مَعَنَا فَهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَنْصُرَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ لِأَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» فَإِنْ كَانُوا تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ وَفِي زَمَانِنَا الْحُكْمُ لِلْغَلَبَةِ وَلَا يُدْرَى الْعَادِلَةُ وَالْبَاغِيَةُ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
نَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْوَى وَأَوْجَبُ عَلَيْهِمْ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى.
وَيَنْبَغِي لِلْمُوَلِّي أَنْ يَتَمَحَّضَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» كَذَا فِي التَّبْيِينِ.
قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَغُنْيَةٌ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي، أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَهْلَ الْقَضَاءِ-: وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا.
وَيُرِيدُ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إلَّا أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ بِمَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي فِي بَابِ الْحَدِيثِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ الْعَقْلِ، وَالضَّبْطِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالْفَهْمِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
قَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوًى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي.
وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَوْ الْمَشْهُورِ هَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عَزْوُ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- نَعَمْ إذَا وَجَدَ النَّقْلَ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ، وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ ذَكَرَ فِي الْمُلْتَقَطِ: وَإِذَا كَانَ صَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ حَلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ فَيَحْكِيَ مَا يَحْفَظُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَالْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا، وَقِيلَ: لَا يَصْلُحُ قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمَعِ وَشَرْحِهِ وَلَا اخْتِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ إسْلَامِ الْمُفْتِي وَعَقْلِهِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ تَيَقُّظَهُ، نَعَمْ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَلَا ذَكَرًا وَلَا نَاطِقًا فَيَصِحُّ إفْتَاءُ الْأَخْرَسِ حَيْثُ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ بَلْ النَّاطِقُ إنْ قِيلَ لَهُ: أَيَجُوزُ هَذَا، فَحَرَّكَ رَأْسَهُ أَيْ نَعَمْ جَازَ أَنْ يُعْمَلَ بِإِشَارَتِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَنَزِّهًا عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ حَسَنَ التَّصَرُّفِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِفْتَاءَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّنْ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى وَيَمْنَعَ مَنْ لَا يَصْلُحُ كَذَا فِي النَّهْرِ الْفَائِقِ.
وَمِنْ شَرَائِطِ الْفَتْوَى كَوْنُ الْمُفْتِي حَافِظًا لِلتَّرْتِيبِ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْتَفْتِينَ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ، وَالْأُمَرَاءِ بَلْ يَكْتُبُ جَوَابَ مَنْ يَسْبِقُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ الْمَيْلِ.
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِالْحُرْمَةِ وَيَقْرَأَ الْمَسْأَلَةَ بِالْبَصِيرَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ السُّؤَالُ، ثُمَّ يُجِيبَ.
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَرْمِيَ بِالْكَاغَدِ كَمَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُ اسْمِهِ- تَعَالَى- وَاجِبٌ، وَإِذَا أَجَابَ الْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَقِيبَ جَوَابِهِ: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ: وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، أَوْ يَكْتُبَ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، أَوْ يَكْتُبَ: وَبِاَللَّهِ الْعِصْمَةُ كَذَا فِي جَوَاهِرِ الْأَخْلَاطِيِّ.
وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَأْخُذُ الرُّقْعَةَ مِنْ يَدِ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَكَانَ لَهُ تِلْمِيذٌ يَأْخُذُ مِنْهُمْ وَيَجْمَعُهَا وَيَرْفَعُهَا.
فَيَكْتُبُهَا تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ.
وَالْأَحْسَنُ أَخْذُ الْمُفْتِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ تَوَاضُعًا.
وَيَجُوزُ لِلشَّابِّ الْفَتْوَى إذَا كَانَ حَافِظًا لِلرِّوَايَاتِ وَاقِفًا عَلَى الدِّرَايَاتِ مُحَافِظًا عَلَى الطَّاعَاتِ مُجَانِبًا لِلشَّهَوَاتِ، وَالشُّبُهَاتِ، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَالْجَاهِلُ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي حَلِيمًا رَزِينًا لَيِّنَ الْقَوْلِ مُنْبَسِطَ الْوَجْهِ كَذَا فِي السِّرَاجِيَّةِ.
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ لِلْفَتْوَى إذَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، وَإِذَا أَخْطَأَ رَجَعَ وَلَا يَسْتَحِي وَلَا يَأْنَفُ كَذَا فِي النَّهْرِ الْفَائِقِ.
وَفِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ الْحِسَابِ لِتَصْحِيحِ مَسَائِلِهِ وَجْهَانِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَحْفَظَ مَذْهَبَ إمَامِهِ وَيَعْرِفَ قَوَاعِدَهُ وَأَسَالِيبَهُ، وَلَيْسَ لِلْأُصُولِيِّ الْمَاهِرِ وَكَذَا الْبَاحِثُ فِي الْخِلَافِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَفُحُولِ الْمُنَاظِرِينَ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَجِبُ الْإِفْتَاءُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ، وَيَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى وَاتِّبَاعُ الْحِيَلِ إنْ فَسَدَتْ الْأَغْرَاضُ، وَسُؤَالُ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ.
وَلَا يُفْتِي فِي حَالِ تَغَيُّرِ أَخْلَاقِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ الِاعْتِدَالِ، وَلَوْ بِفَرَحٍ وَمُدَافَعَةِ أَخْبَثَيْنِ فَإِنْ أَفْتَى مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ دَرْكِ الصَّوَابِ صَحَّتْ فَتْوَاهُ، وَإِنْ خَاطَرَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْفَتْوَى وَلَا يَأْخُذَ أُجْرَةً مِمَّنْ يَسْتَفْتِي فَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ رِزْقًا جَازَ، وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ جَازَ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهَا بِأُجْرَةٍ مِثْلَ كُتُبِهِ مَعَ كَرَاهَةٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْرِضَ لِمُدَرِّسٍ وَمُفْتٍ كِفَايَتَهُمَا، وَلِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ اصْطِلَاحٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ أَهْلَ بَلَدٍ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ مَنْ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ، ثُمَّ الْفَتْوَى مُطْلَقًا بِقَوْلِ الْإِمَامِ، ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ بِقَوْلِ زُفَرَ، ثُمَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَقِيلَ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي جَانِبٍ وَصَاحِبَاهُ فِي جَانِبٍ فَالْمُفْتِي بِالْخِيَارِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْتِي مُجْتَهِدًا.
وَفِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِقُوَّةِ الْمُدْرِكِ كَذَا فِي النَّهْرِ الْفَائِقِ.
وَلِلْمُفْتِي وَالْإِمَامِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَى الْخَاصَّةِ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ فَاسْتَوَى وَارْتَدَى وَتَعَمَّمَ، ثُمَّ أَفْتَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْإِفْتَاءِ كَذَا فِي التَّبْيِينِ.

.الباب الثاني في الدخول في القضاء:

أَوْرَدَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَحَادِيثَ فِي كَرَاهَةِ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ، وَفِي الرُّخْصَةِ فِيهِ، قَالَ: وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَامْتَنَعَ عَنْهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ، وَتَرْكُ الدُّخُولِ أَمْثَلُ وَأَسْلَمُ وَأَصْلَحُ فِي الدِّينِ وَهَذَا فَصْلٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ أَنَّ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِي شَخْصٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ لَهُ التَّقَلُّدُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِلَا سِكِّينٍ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ اُسْتُقْضِيَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَتَجَانَّ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ يَخْدِشُ وَجْهَهُ وَيُمَزِّقُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَأْسِ الْكُوَّةِ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ قَبِلْتَ الْقَضَاءَ وَعَدَلْتَ كَانَ خَيْرًا، فَقَالَ يَا هَذَا أَوَعَقْلُكَ هَذَا؟ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «الْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلَاطِينِ، وَالْعُلَمَاءُ يُحْشَرُونَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ»، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كُلِّفَ الْقَضَاءَ فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ تِسْعِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ، فَسَوَّغَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وَقَالَ: لَوْ تَقَلَّدْتَ لَنَفَعْتَ النَّاسَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرَ عَلَيْهِ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَدُعِيَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى حَتَّى قُيِّدَ وَحُبِسَ فَاضْطُرَّ، ثُمَّ تَقَلَّدَ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ.
قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْخَصَّافُ وَعُلَمَاءُ الْعِرَاقِ- وَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ صَاحِبِ.
الْمُذْهَبِ-: إنَّهُ لَا يَسُوغُ مَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ قَالَ مَشَايِخُ دِيَارِنَا: لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ لِمَنْ كَانَ صَالِحًا يَأْمَنُ مِنْ نَفْسِهِ الْجَوْرَ، وَالِامْتِنَاعُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى فَإِنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- وَمَنْ تَلَاهُمْ قَبِلُوهُ بِلَا كُرْهٍ كَذَا فِي الْوَجِيزِ لِلْكَرْدَرِيِّ وَكُرِهَ التَّقَلُّدُ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، وَإِنْ أَمِنَ لَا يُكْرَهُ كَذَا فِي الْكَافِي.
وَفِي الْيَنَابِيعِ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا، فَالطَّالِبُ أَنْ يَقُولَ لِلْإِمَامِ: وَلِّنِي الْقَضَاءَ، وَالسُّؤَالُ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: لَوْ وَلَّانِي الْإِمَامُ قَضَاءَ مَدِينَةِ كَذَا لَأَجَبْته إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ فَيُقَلِّدَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ قُلِّدَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالْقَبُولِ وَمَنْ سَأَلَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَضَاءِ رُخْصَةٌ، وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ عَزِيمَةٌ وَفِي السِّرَاجِيَّةِ هُوَ الْمُخْتَارُ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ لَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَذَا فِي الشُّمُنِّيِّ.
إذَا كَانَ فِي بَلَدِ قَوْمٍ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ وَامْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يَأْثَمُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
وَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ حَتَّى قُلِّدَ جَاهِلٌ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ: وَإِنْ وُجِدَ اثْنَانِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا أَفْقَهُ، وَالْآخَرَ أَوْرَعُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَفْقَهِ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَلَوْ قَلَّدَ السُّلْطَانُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَفِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَانَ الْإِثْمُ عَلَى السُّلْطَانِ كَذَا فِي شَرْحِ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ.
الْقَاضِي إذَا أَخَذَ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
مَنْ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ، أَوْ بِالشُّفَعَاءِ إذَا قَضَى فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ أَبْطَلَهُ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الَّذِي طَلَبَ الْقَضَاءَ بِالشُّفَعَاءِ فَهُوَ وَاَلَّذِي قُلِّدَ سَوَاءٌ فِي حَقِّ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، وَالْقَاضِي إذَا ارْتَشَى وَحَكَمَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا ارْتَشَى وَنَفَذَ فِيمَا لَمْ يَرْتَشِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّرَخْسِيِّ وَالْخَصَّافِ.
وَإِنْ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي، أَوْ كَاتِبُهُ، أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ وَمَا لَوْ ارْتَشَى الْقَاضِي سَوَاءٌ، يَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَكَانَ عَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْهُ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَرْتِيبِ الدَّلَائِلِ لِلْعَمَلِ بِهَا:

قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى-، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى- مِنْ النَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مِنْ النَّاسِخِ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمَا هُوَ مُتَشَابِهٌ فِي تَأْوِيلِهِ اخْتِلَافٌ كَالْأَقْرَاءِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى- يَقْضِي بِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ، وَالْمَنْسُوخَ مِنْ الْأَخْبَارِ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ يَأْخُذُ بِمَا هُوَ الْأَشْبَهُ وَيَمِيلُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَوَاتِرَ، وَالْمَشْهُورَ وَمَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ مَرَاتِبَ الرُّوَاةِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ، وَالْعَدَالَةِ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَحُسْنِ الضَّبْطِ، وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ عُرِفَ بِطُولِ الصُّحْبَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِطُولِ الصُّحْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْضِي فِيهَا بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ فَإِنْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ فِيهَا مُخْتَلِفِينَ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيُرَجِّحُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا بِاخْتِرَاعِ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ وَكَانَ الْخَصَّافُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالًا، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ التَّابِعِينَ إنْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ عَهْدَ الصَّحَابَةِ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ حَتَّى لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ أَدْرَكَ عَهْدَ الصَّحَابَةِ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ كَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لِمُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا أُقَلِّدُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مِثْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، وَالْحَسَنِ فَأَنَا أُقَلِّدُهُمْ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ وَكَانَ فِيهِ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ قَضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ رَجَّحَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَقَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فِيهِ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ، ثُمَّ يَقْضِي بِهِ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ السُّؤَالِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي شَيْءٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخَالِفَهُمْ بِرَأْيِهِ.
وَالثَّانِي إذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي.
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- وَوُجِدَتْ عَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ يَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ عَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجْتَهِدُ فِيهِ بِرَأْيِهِ إذَا كَانَ يَعْرِفُ وُجُوهَ الْفِقْهِ وَيُشَاوِرُ أَهْلَ الْفِقْهِ فِيهِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: ثُمَّ إذَا قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فَإِنْ خَالَفَ النَّصَّ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ النَّصَّ لَكِنَّهُ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا آخَرَ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى وَيَقْضِي فِي الْمُسْتَأْنَفِ بِمَا يَرَاهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-، وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إنْ قَضَى فِي أَوَّلِ الْمَرَّةِ بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ رَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ كَانَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ؟ فَقَدْ قِيلَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَرْفَعُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَرْفَعُ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَإِنَّمَا يُخَالِفَانِ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ وَانْقَرَضُوا فَخَرَجَ هَذَا الْقَاضِي عَنْ قَوْلِهِمْ وَقَضَى بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ لَمَّا رَأَى الصَّوَابَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ هَذَا الِاتِّفَاقَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ بَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يَسَعُهُ الْخِلَافُ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَسَعُهُ الْخِلَافُ فَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الِاتِّفَاقَ اخْتِلَافٌ لَا يَسَعُهُ الْخِلَافُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْعَتَّابِيَّةِ قَاضٍ اُسْتُفْتِيَ.
فِي حَادِثَةٍ وَأَفْتَى وَرَأْيُهُ بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ فَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَقَضَى بِرَأْيِ الْمُفْتِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي التَّحَرِّي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَنْفُذُ لِمُصَادَفَتِهِ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ وَقَضَى بِرَأْيِ الْمُفْتِي، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ رَأْيٌ بِخِلَافِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَنْقُضُهُ هُوَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَنْقُضُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ آخَرُ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَفِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُخَالِفُهُ وَلَا إجْمَاعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ ظَاهِرًا وَلَوْ أَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ أَفْقَهُ مِنْهُ لَهُ رَأْيٌ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ فِيهِ وَيُرَجِّحَ رَأْيَهُ لِكَوْنِهِ أَفْقَهَ مِنْهُ هَلْ يَسَعُهُ ذَلِكَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَسَعُهُ ذَلِكَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يَسَعُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ ظَاهِرًا.
وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ عَمِلَ.
بِرَأْيِ نَفْسِهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْجَلَ بِالْقَضَاءِ مَا لَمْ يَقْضِ حَقَّ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ.
وَيَنْكَشِفْ لَهُ وَجْهُ الْحَقِّ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ قَضَى بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا يَكُونُ خَائِفًا فِي اجْتِهَادِهِ بَعْدَمَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ حَتَّى لَوْ قَضَى مُجَازِفًا لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ- تَعَالَى-.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَدْرِي يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ وَيَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا وَحَفِظَهَا عَلَى الْإِحْكَامِ، وَالْإِتْقَانِ عَمِلَ بِقَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ الْفِقْهِ فِي بَلَدِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا فَقِيهٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ وَنَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَالِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ.
وَشَرْطُ صَيْرُورَةِ الْمَرْءِ مُجْتَهِدًا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ دُونَ الْمَوَاعِظِ، وَقِيلَ: إذَا كَانَ صَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ حَلَّ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَى عِلْمَ الْكِتَابِ، وَوُجُوهَ مَعَانِيهِ، وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا وَمُتُونِهَا، وَوُجُوهَ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الْقِيَاسِ عَالِمًا بِعُرْفِ النَّاسِ كَذَا فِي الْكَافِي.
قَالَ: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ شَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَاوَرَهُمْ وَاتَّفَقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَاوَرَهُمْ نَظَرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ، وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كِبَرُ السِّنِّ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ كَثْرَةُ الْعَدَدِ فَالْوَاحِدُ قَدْ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ مَا لَا تُوَفَّقُ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فَتُعْتَبَرُ كَثْرَةُ الْعَدَدِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ اجْتِهَادٌ عَلَى شَيْءٍ وَبَقِيَتْ الْحَادِثَةُ مُخْتَلِفَةً وَمُشْكِلَةً عَلَيْهِ كَتَبَ إلَى فُقَهَاءِ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالْمُشَاوَرَةُ بِالْكِتَابِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ اتَّفَقَ الَّذِينَ كَتَبَ إلَيْهِمْ الْقَاضِي عَلَى شَيْءٍ- وَرَأْيُ الْقَاضِي يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ-، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ أَمْضَى ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ نَظَرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ وَأَوْرَعُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي شَاوَرَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ، وَرَأْيُ الْقَاضِي بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَيَقْضِيَ بِرَأْيِهِمْ، وَإِنْ شَاوَرَ الْقَاضِي رَجُلًا وَاحِدًا.
كَفَى، وَلَكِنَّ مُشَاوَرَةَ الْفُقَهَاءِ أَحْوَطُ، وَإِنْ أَشَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلَى شَيْءٍ وَرَأْيُ الْقَاضِي بِخِلَافِ رَأْيِهِ فَالْقَاضِي لَا يَتْرُكُ رَأْيَ نَفْسِهِ فَإِنْ اهْتَمَّ الْقَاضِي بِرَأْيِهِ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَفْضَلُ وَأَفْقَهُ عِنْدَهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَقَالَ: لَوْ قَضَى بِرَأْيِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَمَّ الْقَاضِي بِرَأْيِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَيَقْضِيَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.