فصل: باب في مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر

نبهنا أبو علي رحمه الله من هذا الموضع على أغراض حسنة‏.‏

من ذلك قولهم في لا النافية للنكرة‏:‏ إنها تبنى معها فتصير كجزء من الاسم نحو لا رجل في الدار ولا بأس عليك وأنشدنا في هذا المعنى قوله‏:‏ خيط على زفرة فتم ولم يرجع إلى دقة ولا هضم وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه كأنه زفر فلما اغترق نفسه بنى على ذلك فلزمته تلك الزفرة فصيغ عليها لا يفارقها كما أن الاسم بني مع لا حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها وهذا موضع متناه في حسنه آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه‏.‏

ومثله أيضاً من وصف الفرس‏:‏ بنيت معاقمها على مطوائها أي كأنها تمطت فلما تناءت أطرافها ورحبت شحوتها صيغت على ذلك‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ ما أدري أأذن أو أقام إذا قالها بأو لا بأم‏.‏

فهو أنه لم يعتد أذانه أذانا ولا قال‏:‏ فمثل ذلك قول عبيد‏:‏ أعاقر كذات رحم أم غانم كمن يخيب فكان ينبغي أن يعادل بقوله‏:‏ ذات رحم نقيضتها فيقول‏:‏ أغير ذات رحم كذات رحم وهكذا أراد لا محالة ولكنه جاء بالبيت على المسئلة‏.‏

وذلك أنه لما لم تكن العاقر ولودا صارت وإن كانت ذات رحم كأنها لا رحم لها فكأنه قال‏:‏ أغير ذات رحم كذات رحم كما أنه لما لم يوف أذانه ولا إقامته حقهما لمن يثبت له واحداً منهما لأنه قاله بأو ولو قال‏:‏ ما أدري أأذن أم أقام بأم لأثبت له أحدهما لا محالة‏.‏

ومن ذلك قول النحويين‏:‏ إنهم لا يبنون من ضرب وعلم وما كانت عينه لاما أو راء مثل عنسل‏.‏

قالوا‏:‏ لأنا نصير به إلى ضنرب وعنلم فإن أدغمنا ألبس بفعل وإن أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت فتركنا بناءه أصلاً‏.‏

وكان ينشد في هذا المعنى قوله‏:‏ فقال‏:‏ ثكل وغدر أنت بينهما فاختر وما فيهما حظ لمختار وقول الآخر‏:‏ رأى الأمر يفضى إلى آخر فصير آخره أولا ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة‏.‏

منها أن الشعر المجزوء إذا لحق ضربه قطع لم تتداركه العرب بالردف‏.‏

وذلك أنه لا يبلغ من قدره أن يفي بما حذفه الجزء فيكون هذا أيضاً كقولهم للمغني غير المحسن‏:‏ تتعب ولا أطرب‏.‏

ومنهم من يلحق الردف على كل حال‏.‏

فنطير معنى هذا معنى قول الآخر‏:‏ ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح وقول الآخر‏:‏ فإن لم تنل مطلباً رمته فليس عليك سوى الاجتهاد ومن ذلك قول من اختار إعمال الفعل الثاني لأنه العامل الأقرب نحو ضربت وضربني زيد وضربني وضربت زيداً‏.‏

فنظير معنى هذا معنى قول الهذلي‏:‏ بلى إنها تعفو الكلوم وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي وعليه قول أبي نواس‏:‏ أمر غدٍ أنت منه في لبس وأمس قد فات فاله عن أمس فإنما العيش عيش يومك ذا فباكر الشمس بابنة الشمس ومنه قول تأبط شراً وما قدم نسي ومن كان ذا شر خشي في كلام له وقوله‏:‏ وقول الآخر أنشدناه أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن الأصمعي عن أبي عمر و أن رجلاً من أهل نجد أنشده‏:‏ حتى كأن لم يكن إلا تذكره والدهر أيتما حال دهارير ومن ذلك أيضاً قول شاعرنا‏:‏ خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ومما جاء في معنى إعمال الأول قول الطائي الكبير‏:‏ نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول وقول كثير‏:‏ ولقد أردت الصبر عنك فعاقني علق بقلبي من هواك قديم وقول الآخر‏:‏ تمر به الأيام تسحب ذيلها فتبلى به الأيام وهو جديد ومن ذلك ما جاء عنهم من الجوار في قولهم‏:‏ هذا حجر ضب خرب وما يحكى أن أعرابياً أراد امرأة له فقالت له‏:‏ إني حائض فقال‏:‏ فأين الهنة الأخرى فقالت له‏:‏ اتق الله فقال‏:‏ كلا ورب البيت ذي الأستار لأهتكن حلق الحتار ومنه قول العرب‏:‏ أعطيتك إذ سألتني وزدتك إذ شكرنني‏.‏

فإذ معمولة العطية والزيادة وإذا عمل الفعل في ظرف زمانياً كان أو مكانياً فإنه لا بد أن يكون واقعاً فيه وليست العطية واقعة فقي وقت المسئلة وإنما هي عقيبه لأن المسئلة سبب العطية والسبب جار مجرى العلة فيجب أن يتقدم المعلول والمسبب لكنه لما كانت العطية مسببة عن المسئلة وواقعة على أثرها وتقارب وقتاهما صار لذلك كأنهما في وقت واحد‏.‏

فهذا تجاور في الزمان كما أن ذاك تجاور في الإعراب‏.‏

ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏‏.‏

طاولت أبا علي رحمه الله تعالى في هذا وراجعته فيه عودا على بدء فكان أكثر ما برد منه في اليد أنه لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا لا فاصل بينهما إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة تلى الدار الدنيا لا فاصل بينهما إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة كأنه واقع في الدنيا فلذلك أجرى اليوم وهو الآخرة مجرى وقت الظلم وهو قوله‏:‏ إذ طلمتم ووقت الظلم إنما كان في الدنيا‏.‏

فإن لم تفعل هذا وترتكبه بقي إذا ظلمتم ووقت الظلم إنما كان في الدنيا‏.‏

فإن لم تفعل هذا وتركبه بقي إذ ظلمتم غير متعلق بشيء فيصير ما قاله أبو علي إلى أنه كأنه أبدل إذ ظلمتم من اليوم أو كرره عليه وهو كأنه هو‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم لا تكون إذ محمولة على فعل آخر حتى كأنه قال‏:‏ ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون اذكروا إذ ظلمتم أو نحو ذلك‏.‏

قيل‏:‏ ذلك يفسد من موضعين‏:‏ أحدهما اللفظ والآخر المعنى‏.‏

أما اللفظ فلأنك تفصل بالأجنبي وهو قوله إذ ظلمتم بين الفعل وهو ينفعكم وفاعله وهو أنكم في العذاب مشتركون وأنت عالم بما في الفصل بينهما بالأجنبي‏.‏

وإن كان الفصل بالظرف متجوزاً فيه‏.‏

وأما المعنى فلأنك لو فعلت ذلك لأخرجت من الجملة الظرف الذي هو إذ ظلمتم وهذا ينقض معناها‏.‏

وذلك لأنها معقودة على دخول الظرف الذي هو إذ فيها ووجوده في أثنائها ألا ترى أن عدم انتفاعهم بمشاركة أمثالهم لهم في العذاب إنما سببه وعلته ظلمهم فإذا كان كذلك كان احتياج الجملة إليه نحواً من احتياجها إلى المفعول له نحو قولك‏:‏ قصدتك رغبة في برك وأتيتك طمعا في صلتك ألا ترى أن معناه‏:‏ أنكم عدمتم سلوة التأسي بمن شارككم في العذاب لأجل ظلمكم فيما مضى كما قيل في نظيره‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ أي ذق بما كنت تعد في أهل العز والكرم‏.‏

وكما قال الله تعالى في نقيضه‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏‏.‏

ومن الأول قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ومثله في الشعر كثير منه قول قول الأعشى‏:‏ على أنها إذ رأتني أقاد تقول بما قد أراه بصيرا ومنه قولهم حكاية عن الشيخ‏:‏ بما لا أخشى بالذئب أي هذا الضعف بتلك القوة‏.‏

ومنه أبيات العجاج أنشدناها سنة إحدى وأربعين‏:‏ إما تربني أصل القعادا وأتقى أن أنهض الإرعادا من أن تبدلت بآدي آدا لم يك يناد فأمسى آنادا وقصبا حنى حتى كادا يعود بعد أعظمٍ أعوادا فقد أكون مرة رواداً أطلع النجاد فالنجادا وآخر من جاء به على كثرته شاعرنا فقال‏:‏ وكم دون الثوية من حزين يقول له قدومي ذا بذاكا فكشفه وحرره‏.‏

ويدل على الانتفاع بالتأسي في المصيبة قولها‏:‏ ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزى النفس عنه بالتأسي ومنه قول أبي داود‏:‏ ويصيخ أحيانا كما اس تمع المضل لصوت ناشد وهو كثير جداً‏.‏

ولسنا نريد ههنا الجوار الصناعي نحو قولهم في الوقف‏:‏ هذا بكُرْ ومررت ببِكرْ وقولهم‏:‏ صُيمَّ وقُيمَّ وقول جرير‏:‏ ومررت ببكر وقولهم‏:‏ صيم وقيم وقول جرير‏:‏ لحب المؤقدان إلى مؤسى وقولهم‏:‏ هذا مصباح ومقلات ومطعان وقوله‏:‏ إذا اجتمعوا علي وأشقذوني فصرت كأنني فرأ متار وما جرى مجرى ذلك‏.‏

وإنما اعتزامنا هنا الجوار المعنوي لا اللفظي الصناعي‏.‏

ومن ذلك قول سيبويه في نحو قولهم‏:‏ هذا الحسن الوجه‏:‏ إن الجر فيه من وجهين أحدهما طريق الإضافة والآخر تشبيه بالضارب الرجلِ هذا مع العلم بأن الجر في الضارب الرجل إنما جاءه وجاز فيه لتشبيههم إياه بالحسن الوجه فعاد الأصل فاستعاد من الفرع نفس الحكم الذي كان الأصل بدأ أعطاه إياه حتى دل ذلك على تمكن الفروع وعلوها في التقدير‏.‏

وقد ذكرنا ذلك‏.‏

ونظيره في المعنى قول ذي الرمة‏:‏ ورملٍ كأوراك العذارى قطعته إذا ألبسته المظلمات الحنادس وإنما المعتاد في نحو هذا تشبيه أعجاز بكثبان الأنقاء‏.‏

وقد تقدم ذكر هذا المعنى في باب قبل وقربوا كل جمالي عضه قريبةٍ ندوته من محمضه وقد ذكرنا حاله وشرحنا الغرض فيه في باب متقدم فلا وجه لإعادته ههنا‏.‏

وسبب تمكن هذه الفروع عندي أنها في حال استعمالها على فرعيتها تأتي مأتى الأصل الحقيقي لا الفرع التشبيهي وذلك قولهم‏:‏ أنت الأسد وكفك البحر فهذا لفظه لفظ الحقيقة ومعناه المجاز والاتساع ألا ترى أنه إنما يريد‏:‏ أنت كالأسد وكفك مثل البحر‏.‏

وعليه جاء قوله‏:‏ ليلى قضيب تحته كثيب وإنما يريد‏:‏ نصف ليلى الأعلى كالقضيب وتحته ردف مثل الكثيب وقول طرفة‏:‏ جازت القوم إلى أرحلنا آخر الليل بيعفور خدر أي بشخص أو بإنسان مثل اليعفور وهو واسع كثير‏.‏

فلما كثر استعمالهم إياه وهو مجاز استعمال الحقيقة واستمر واتلاب وتجاوزوا به ذاك إلى أن أصاروه كأنه هو الأصل والحقيقة فعادوا فاستعاروا معناه لأصله فقال‏:‏ ورمل كأوراك العذارى وهذا من باب تدريج اللغة وقد ذكر فيما مضى‏.‏

وكان أبو علي رحمه الله إذا أوجبت القسمة عنده أمرين كل واحد منهما غير جائز يقول فيه‏:‏ قسمة الأعشي يريد قوله‏:‏ وسأله مرة بعض أصحابه فقال له‏:‏ قال الخليل في ذراع‏:‏ كذا وكذا فما عندك أنت في هذا فأنشده مجيباً له‏:‏ إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام ويشبه هذا ما يحكى عن الشعبي أنه ارتفع إليه في رجل بخص عين رجل ما الواجب في ذلك فلم يزدهم على أن أنشدهم بيت الراعي‏:‏ لها مالها حتى إذا ما تبوأت بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا فانصرف القوم مجابين‏.‏

أي ينتظر بهذه العين المبخوصة فإن ترامى أمرها إلى الذهاب ففيها الدية كاملة وإن لم تبلغ ذاك ففيها حكومة‏.‏

  باب في خلع الأدلة

من ذلك حكاية يونس قول العرب‏:‏ ضرب من منا أي إنسان إنسانا أو رجل رجلا أفلا تراه كيف جرد مَنْ من الاستفهام ولذلك أعربها‏.‏

ونحوه قولهم في الخبر‏:‏ مررت برجل أي رجل‏.‏

فجرد أيا من الاستفهام أيضاً‏.‏

وعليه بيت الكتاب‏:‏ والدهر أينما حالٍ دهارير أي والدهر في كل وقت وعلى كل حال دهارير أي متلون ومتقلب بأهله‏.‏

وأنشدنا أبو علي‏:‏ وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت إلي وأصحابي بأي وأينما قال‏:‏ فجرد أي من الاستفهام ومنعها الصرف لما فيها من التعريف والتأنيث‏.‏

وذلك أنه وضعها علما على الجهة التي حلتها‏.‏

فأما قوله‏:‏ وأينما فكذلك أيضاً غير أن لك في أينما وجهين‏:‏ أحدهما أن تكون الفتحة هي التي تكون في موضع جرما لا ينصرف لأنه جعله علماً للبقعة والآخر أن تكون فتحة النون من أينما فتحة التركيب ويضم أين إلى ما فيبنى الأول على الفتح كما يجب في نحو حضرموت وبيت بيت فإذا أنت فعلت ذلك قدرت في ألف ما فتحة ما لا ينصرف في موضع الجر كمررت بأحمد وعمر‏.‏

ويدل على أنه قد يضم ما هذه إلى ما قبلها ما أنشدناه أبو علي عن أبي عثمان‏:‏ أثور ما أصيدكم أم ثورين أم تيكم الجماء ذات القرنين فقوله‏:‏ أثور ما فتحة الراء منه فتحة تركيب ثور مع ما بعده كفتحة راء حضرموت ولو كانت فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف‏.‏

وبنيت ما مع الاسم وهي مبقاة على حرفيتها كما بنيت لا مع النكرة في نحو لا رجل‏.‏

ولو جعلت ما مع ثور اسما ضممت إليه ثورا لوجب مدها لأنها قد صارت اسما فقلت‏:‏ أثور ماء أصيدكم‏.‏

وكما أنك لو جعلت حاميم من قوله‏:‏ يذكرني حاميم والرمح شاجر اسمين مضموما أحدهما إلى صاحبه لمددت حا فقلت‏:‏ حاء ميم ليصر كحضرموت‏.‏

ومثل قوله‏:‏ أثور ما أصيدكم في أنه اسم ضم إلى حرف في قول أبي عثمان ما أنشدناه أبو على‏:‏ وأسماء ليلة أدلجت إلي وأصحابي بأي وأينما فكلام في ويحما هو الكلام في أثور ما‏.‏

فأما قول الآخر‏:‏ وهل لي أم غيرها إن هجوتها أبي الله إلا أن أكون لها لها أينما فليس من هذا الضرب في شيء وإنما هي ميم زيدت آخر ابن وجرت قبلها حركة الإتباع فصارت هذا ابنم ورأيت ابنما ومررت بابنم‏.‏

فجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست ما‏.‏

وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضرزم ودفعتم ودردم‏.‏

وأخبرنا أبو علي أن أبا عثمان ذهب في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ إلى أنه جعل مثل وما اسما واحدا فبنى الأول على الفتح وهما جميعا عنده في موضع رفع لكونهما صفة لحق‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما موضع ‏{‏أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ قيل‏:‏ هو جر بإضافة مثل ما إليه‏.‏

فإن قلت‏:‏ ألا تعلم أن ما على بنائها لأنها على حرفين الثاني منهما حرف لين فكيف تجوز إضافة المبنى قيل ليس المضاف ما وحدها إنما المضاف الاسم المضموم إليه ما فلم تعد ما هذه أن تكون كتاء التأنيث في نحو هذه جارية زيد أو كالألف والنون في سرحان عمرو أو في غائلات الحائر المتوه فهذا وجه‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ وما في إضافة المبنى‏!‏ ألا ترى إلى إضافة كم في الخبر نحوكم عبد ملكت وهي مبنية وإلى إضافة أي من قول الله سبحانه ‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا‏}‏ وهي مبنية عند سيبويه‏.‏

وأيضاً فلو ذهب ذاهب واعتقد معتقد أن الإضافة كان يجب أن تكون داعية إلى البناء من حيث كان المضاف من المضاف إليه بمنزلة صدر الكلمة من عجزها وبعض الكلمة صوت والأصوات إلى الضعف والبناء لكان قولا‏!‏‏.‏

ومما خلعت عنه دلالة الاستفهام قول الشاعر أنشدناه سنة إحدى وأربعين‏:‏ أني جزوا عامرا سيئاً بفعلهم أم كيف يجزونني السوأى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به رثمان أنف إذ ما ضن باللبن فأم في أصل الوضع للاستفهام كما أن كيف كذلك‏.‏

ومحال اجتماع حرفين لمعنى واحد فلا بد أن يكون أحدهما قد خلعت عنه دلالة الاستفهام‏.‏

وينبغي أن يكون ذلك الحرف أم دون كيف حتى كأنه قال‏:‏ بل كيف ينفع فجعلها بمنزلة بل في الترك والتحول‏.‏

ولا يجوز أن تكون كيف هي المخلوعة عنها دلالة الاستفهام لأنها لو خلعت عنها لوجب إعرابها لأنها إنما بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام فإذا زال ذلك عنها وجب إعرابها كما أنه لما خلعت دلالة الاستفهام عن مَنْ أعربت في قولهم‏:‏ ضرب من مناً‏.‏

وكذلك قولك‏:‏ مررت برجل أي رجل لما خلعت عنها دلالة الاستفهام جرت وصفا‏.‏

وهذا واضح جلى‏.‏

ومن ذلك كاف المخاطب للمذكر والمؤنث نحو رأيتك وكلمتك هي تفيد شيئين‏:‏ الاسمية والخطاب ثم قد خلع عنها دلالة الاسم في قولهم‏:‏ ذلك وأولئك وهاك وهاءك وأبصرك زيدا وأنت تريد‏:‏ أبصر زيداً وليسك أخالك في معنى ليس أخاك‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ أرأيتك زيدا ما صنع وحكى أبو زيد‏:‏ بلاك والله وكلاك والله أي بلى وكلا‏.‏

فالكاف في جميع ذلك حرف خطاب مخلوعة عنه دلالة الاسمية وعليه قول سيبويه‏.‏

ومن زعم أن الكاف في ذلك اسم انبغى له أن يقول‏:‏ ذلك نفسك‏.‏

وهذا كله مشروح في أماكنه‏.‏

فلا موضع إذاً لهذه الكاف من الإعراب‏.‏

وكذلك هي إذا وصلت بالميم والألف والواو نحو ذلكما وذلكمو‏.‏

فعلى هذا يكون قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ‏}‏‏.‏

كما من أنهكما منصوبة الموضع وكما من تلكما لا موضع لها لأنها حرف خطاب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان تحرفاً لا اسما فكيف جاز أن تكون الألف المنفصلة التي قبلها تأسيسا في ‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

على صدفي كالحنية بارك ولا غرو إلا جارتي وسؤالها أليس لنا أهل سئلت كذلك وقول خفاف بن ندبة‏:‏ وقفت له علوي وقدم خام صحبتي لأبني مجدا أو لأثار هالكا أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا ألا ترى أن الألف في هالكا وبارك تأسيس لا محالة وقد جمعهما مع الألف في ذلكا وذلك وهي منفصلة وليس الروي وهو الكاف اسما مضمرا كياء قوله بداليا ولا من جملة اسم مضمركميم كماهما‏.‏

وهذا يدل على أن الكاف في ذلك اسم مضمر لا حرف‏.‏

قيل‏:‏ هذا كلام لا يدخل على المذهب في كونها حرفاً وقد قامت الدلالة على ذلك من عدة أوجه‏.‏

ولكن بقي علينا الآن أن نرى وجه علة جواز كون الألف في ذلك تأسيساً مع أن الكاف ليست باسم مضمر‏.‏

وعلة ذلك أنها وإن تجردت في هذا الموضع من معنى الاسمية فإنها في أكثر أحوالها اسم نحو رأيتك وكلمتك ونظرت إليك واشتريت لك ثوباً وعجبت منك ونحو ذلك‏.‏

فلما جاءت ههنا على لفظ تلك التي هي اسم وهو أقل الموضعين حملت على الحكم في أكثر الأحوال لا سيما وهي هنا وإن جردت من معنى الاسمية فإن ما كان فيها من معنى الخطاب باق عليها وغير مختزل عنها‏.‏

وإذا جاز حمل همزة علباء على همزة حمراء للزيادة وإن عريت من التأنيث الذي دعا إلى قلبها في صحراوات وصحراوي كان حمل كاف ذلك على كاف رأيتك جائزا أيضاً وإن لم يكن أقوى لم يكن أضعف‏.‏

وقد اتصل بما نحن عليه موضع طريف‏.‏

ونذكره لاستمرار مثله‏.‏

وذلك أن أصغر الناس قدراً قد يخاطب أكبر الملوك محلا بالكاف من غير احتشام منه ولا إنكار عليه‏.‏

وذلك نحو قول التابع الصغير للسيد الخطير‏:‏ قد خاطبت ذلك الرجل واشتريت تينك الفرسين ونظرت إلى ذينك الغلامين فيخاطب الصاحب الأكبر بالكاف وليس الكلام شعرا فتحتمل له جرأة الخطاب فيه كقوله‏:‏ لقينا بك الأسد وسألنا منك البحر وأنت السيد القادر ونحو ذلك‏.‏

وعلة جواز ذلك عندي أنه إنما لم تخاطب الملوك بأسمائها إعظاما لها إذ كان الاسم دليل المعنى وجارياً في أكثر الاستعمال مجراه حتى دعا ذاك قوما إلى أن زعموا أن الاسم هو المسمى‏.‏

فلما أرادوا إعظام الملوك وإكبارهم تجافوا وتجانفوا عن ابتذال أسمائهم التي هي شواهدهم وأدلة عليهم إلى الكناية بلفظ الغيبة فقالوا‏:‏ إن رأى الملك أدام الله علوه ونسأله حرس الله ملكه ونحو ذلك وتحاموا إن رأيت ونحن نسألك لما ذكرنا‏.‏

فهذا هذا‏.‏

فلما خلعت عن هذه الكاف دلالة الاسمية وجردت للخطاب البتة جاز استعمالها لأنها ليست باسم فيكون في اللفظ به ابتذال له‏.‏

فلما خلصت هذه الكاف خطاباً البتة وعريت من معنى الاسمية استعملت في خطاب الملوك لذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهلا جاز على هذا أن يقال للملك ومن يلحق به في غير الشعر أنت لأن التاء هنا أيضاً للخطاب مخلوعة عنها دلالة الاسمية قيل‏:‏ التاء في أنت وإن كانت حرف خطاب لا اسما فإن معها نفسها الاسم وهو أن من أنت فالاسم على كل حال حاضر وإن لم تكن الكاف وليس كذا قولنا ذلك لأنه ليس للمخاطب بالكاف هنا اسم غير الكاف كما كان له مع التاء في أنت اسم للمخاطب نفسه وهو أن‏.‏

فاعرف ذلك فرقا بين الموضعين‏.‏

ونحو من ذلك ما رآه أبو الحسن في أن الهاء والياء في إياه وإياي حرفان أحدهما للغيبة وهو الهاء والآخر للحضور وهو الياء‏.‏

وذلك أنه كان يرى أن الكاف في إياك حرف للخطاب فإذا أدخلت عليه الهاء والياء في إياه وإياي قال‏:‏ هما أيضاً حرفان للغيبة والحضور مخلوعة عنهما دلالة الاسمية في رأيته وغلامي وصاحبي‏.‏

وهذا مذهب هول‏.‏

وهو وإن كان كذلك جار واعلم أن نظير الكاف في رأيتك إذا خلعت عنها دلالة الاسمية واستقرت للخطاب على ما أرينا التاء في قمت وقعدت ونحو ذلك هي هنا تفيد الاسمية والخطاب ثم تخلع عنها دلالة الاسمية وتخلص للخطاب البتة في أنت وأنت‏.‏

فالاسم أن وحده والتاء من بعد للخطاب‏.‏

وللتاء موضع آخر تخلص فيه للاسمية البتة وليس ذلك للكاف‏.‏

وذلك الموضع قولهم‏:‏ أرأيتك زيداً ما صنع‏.‏

فالتاء اسم مجرد من الخطاب والكاف حرف للخطاب مجرد من الاسمية‏.‏

هذا هو المذهب‏.‏

ولذلك لزمت التاء الإفراد والفتح في الأحوال كلها نحو قولك للمرأة‏:‏ أرأيتك زيدا ما شأنه وللاثنين وللاثنتين أرأيتكما زيدا أين جلس ولجماعة المذكر والمؤنث‏:‏ أرأيتكم زيدا ما خبره وأرأيتكن عمرا ما حديثه فالتغيير للخطاب لاحق للكاف والتاء لأنه لا خطاب فيها على صورة واحدة لأنها مخلصة اسما‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا ينقض عليك أصلاً مقررا‏.‏

وذلك أنك إنما تعتل لبناء الأسماء المضمرة بأن تقول‏:‏ إن شبه الحرف غلب عليها ومعنى الاسم بعد عنها وذلك نحو قولك‏:‏ ذلك وأولئك فتجد الكاف مخلصة للخطاب عارية من معنى الاسم‏.‏

وكذلك التاء في أنت وأنت عارية من معنى الاسم مجردة لمعنى الحرف‏.‏

وأنت مع هذا تقول‏:‏ إن التاء في أرأيتك زيداً أين هو ونحو ذلك قد أخلصتها اسما وخلعت عنها دلالة الخطاب‏.‏

فإذا كانت قد تخلص في موضع اسما كما قيل‏:‏ إن الكاف في ذلك جردت من معنى الاسمية ولم تقرن باسم المخاطب بها‏.‏

والتاء في أرأيتك زيداً ما صنع لم تجرد من معنى الحرفية إلا مقترنة بما كان مرة اسما ثم جرد من معنى الاسمية وأخلص للخطاب والحرفية وهو الكاف في أرأيتك زيداً ما صنع ونحوه‏.‏

فأنت وإن خلعت عن تاء أرأيتك زيداً ما خبره معنى الحرفية فقد قرنت بها ما جردته من معنى الاسمية وهو الكاف بعدها فاعتدل الأمران باقتران الاسم البتة بالحرف البتة‏.‏

وليس كذلك ذلك لأنك إنما معك الكاف المجردة لمعنى الخطاب لا اسم معها للمخاطب بالكاف فاعرف ذلك‏.‏

وكذلك أيضاً في أنت قد جردت الاسم وهو أن من معنى الحرفية وأخلصت التاء البتة بعده للخطاب كما أخلصت الكاف بعد التاء في أرأيتك عمرا ما شأنه حرفا للخطاب‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأن من أنت لم تستعمل قط حرفا ولا خلعت دلالة الاسمية عنها فهذا يقوي حكم الأسماء المضمرة كما أضعفها ما قدمت أنت من حالها في تجردها من معنى الأسمية وما غلب عليها من حكم الحرفية‏.‏

قيل‏:‏ لسنا ندعي أن كل اسم مضمر لا بد من أن يخلع عنه حكم الأسمية ويخلص للخطاب والحرفية فيلزمنا ما رمت إلزامنا إياه وإنما قلنا‏:‏ إن معنى الحرفية قدج أخلص له بعضها فضعف لذلك حكم جميعها وذلك أن الخلع العارض فيها إنما لحق متصلها دون منفصلها وذلك لضعف المتصل فاجترئ عليه لضعفه فخلع معنى الاسمية منه‏.‏

وأما المنفصل فجار بانفصاله مجرى الأسماء الظاهرة القوية المعربة‏.‏

وهذا واضح‏.‏

فإن قلت‏:‏ في الأسماء الظاهرة كثيرة من المبنية نحو هذا وهذى وتاك وذلك والذي والتي وما ومن وكم وإذ ونحو ذلك فهلا لما وجد البناء في كثير من المظهرة سرى في جميعها كما أنه لما غلب شبه الحرف في بعض المضمرة أجرى عليها جميعها على ما قدمته قيل‏:‏ إن الأسماء المظهرة من حيث كانت هي الأول القدائم القوية احتمل ذلك فيها لسبقها وقوتها والأسماء المضمرة ثوان لها وأخلاف منها ومعوضة عنها فلم تقو قوة ما هي تابعة له ومعتاضة منه فأعلها ما لا يعله ووصل إليها ما يقصر دونه‏.‏

وأيضاً فإن المضمر المتصضل وإن كان أضعف من الضمير المنفصل فإنه أكثر وأسير في الاستعمال منه ألا تراك تقول‏:‏ إذا قدرت على المتصل لم تأت بالمنفصل‏.‏

فهذا يدلك على أن المتصل أخف عليهم وآثر في أنفسهم‏.‏

فلما كان كذلك وهو مع ذلك أضعف من المنفصل وسرى فيه لضعفه حكم لزم المنفصل أعني البناء لأنه مضمر مثله ولا حق في سعة الاستعمال به‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما الذي رغبهم في المتصل حتى شاع استعماله وصار متى قدر عليه لم يؤت قيل‏:‏ علة ذلك أن الأسماء المضمرة إنما رغب فيها وفزع إليها طلباً للخفة بها بعد زوال الشك بمكانها وذلك أنك لو قلت‏:‏ زيد ضرب زيداً فجئت بعائده مظهراً مثله لكان في ذلك إلباس واستثقال‏.‏

أما الإلباس فلأنك إذا قلت‏:‏ زيد ضربت زيدا لم تأمن أن يظن أن زيدا الثاني غير الأول وأن عائد الأول متوقع مترقب‏.‏

فإذا قلت‏:‏ زيد ضربته علم بالمضمر أن الضرب إنما وقع بزيد بزيد المذكور لا محالة وزال تعلق القلب لأجله وسببه‏.‏

وإنما كان كذلك لأن المظهر يرتجل فلو قلت‏:‏ زيد ضربت زيدا لجاز أن يتوقع تمام الكلام وأن يظن أن الثاني غير الأول كما تقول‏:‏ زيد ضربت عمراً فيتوقع أن تقول‏:‏ في داره أو معه أو لأجله‏.‏

فإذا قلت زيد ضربته قطعت بالضمير سبب الإشكال من حيث كان المظهر يرتجل والمضمر تابع غير مرتجل في أكثر اللغة‏.‏

فهذا وجه كراهية الإشكال‏.‏

وأما وجه الاستخفاف فلأنك إذا قلت‏:‏ العبيثران شممته فجعلت موضع التسعة واحدا كان أمثل من أن تعيد التسعة كلها فتقول‏:‏ العبيثران شممت العبيثران‏.‏

نعم وينضاف إلى الطول قبح التكرار المملول‏.‏

وكذلك ما تحته من العدد الثماني والسباعي فما تحتهما هو على كل حال أكثر من الواحد‏.‏

فلما كان الأمر الباعث عليه والسبب المقتاد إليه إنما هو طلب الخفة به كان المتصل منه آثر في نفوسهم وأقرب رحما عندهم حتى إنهم متى قدروا عليه لم يأتوا بالمنفصل مكانه‏.‏

فلذلك لما غلب شبه الحرفية على المتصل بما ذكرناه‏:‏ من خلع دلالة الاسمية عنه في ذلك وأولئك وأنتَ وأنتِ وقاما أخواك وقاموا إخوتك‏:‏ و‏.‏

‏.‏

‏.‏

يعصرن السليط أقاربه و قلن الجواري ما ذهبت مذهبا حملوا المنفصل عليه في البناء إذ كان ضميرا مثله وقد يستعمل في بعض الأماكن في موضعه نحو قوله‏:‏ إليك حتى بلغت إياكا أي بلغتك وقول أبي بجيلة وهو بيت الكتاب‏:‏ كأنا يوم قرى إن ما نقتل إيانا وبيت أمية‏:‏ بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير كذلك قد يستعمل المتصل موضع المنفصل نحو قوله‏:‏ فإن قلت‏:‏ زعمت أن المتصل آثر في نفوسهم من المنفصل وقد ترى إلى أكثر استعمال المنفصل موضع المتصل وقلة استعمال المتصل موضع المنفصل فهلا دلك ذلك على خلاف مذهبك قيل‏:‏ لما كانوا متى قدروا على المتصل لم يأتوا مكانه بالمنفصل غلب حكم المتصل فلما كان كذلك عوضوا منه أن جاءوا في بعض المواضع بالمنفصل في موضع المتصل كما قلبوا الياء إلى الواو في نحو الشروى والفتوى لكثرة دخول الياء على الواو في اللغة‏.‏

ومن ذلك قولنا‏:‏ ألا قد كان كذا وقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ فألا هذه فيها هنا شيئان‏:‏ التنبيه وافتتاح الكلام فإذا جاءت معها يا خلصت افتتاحا لا غير وصار التنبيه الذي كان فيها ليا دونها‏.‏

وذلك نحو قول الله عز اسمه‏:‏ ‏{‏ ألا يا اسجدوا لله ‏}‏ وقول الشاعر‏:‏ ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علي كريم ومن ذلك واو العطف فيها معنيان‏:‏ العطف ومعنى الجمع‏.‏

فإذا وضعت موضع مع خلصت للاجتماع وخلعت عنها دلالة العطف نحو قولهم‏:‏ استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة‏.‏

ومن ذلك فاء العطف فيها معنيان‏:‏ العطف والإتباع‏.‏

فإذا استعملت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وخلصت للإتباع‏.‏

وذلك قولك‏:‏ إن تقم فأنا أقوم ونحو ذلك‏.‏

ومن ذلك همزة الخطاب في هاء يا رجل وهاء يا امرأة كقولك‏:‏ هاكَ وهاكِ فإذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب لأنه يصير بعدها في الكاف وتفتح هي أبداً‏.‏

وهو قولك‏:‏ هاءكَ وهاءَكِ وهاء كما وهاء كم‏.‏

ومن ذلك يا في النداء تكون تنبيها ونداء في نحو يا زيد ويا عبد الله‏.‏

وقد تجردها من النداء للتنبيه البتة نحو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ ألا يا اسجدوا ‏}‏ كأنه قال‏:‏ ألا ها اسجدوا‏.‏

وكذلك قول العجاج‏:‏ يا دار سلمة يا أسلمي ثم أسلمي إنما هو كقولك‏:‏ ها أسلمي‏.‏

وهو كقولهم‏:‏ هَلُمَّ في التنبيه على الأمر‏.‏

وأما قول أبي العباس‏:‏ إنه أراد‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجدوا فمردود عندنا‏.‏

وقد كرر ذلك أبو علي في غير موضع فغنينا عن إعادته‏.‏

  باب في تعليق الأعلام على المعاني دون الأعيان

هذا باب من العربية غريب الحديث أراناه أبو علي رحمه الله تعالى‏.‏

وقد كنت شرحت حاله في صدر تفسيري أسماء شعراء الحماسة بما فيه مقنع إلا أنا أردنا ألا نخلي كتابنا هذا منه لإغرابه وحسن التنبيه عليه‏.‏

اعلم أن الأعلام أكثر وقوعها في كلامهم إنما هو على الأعيان دون المعاني‏.‏

الأعيان هي الأشخاص نحو‏:‏ زيد وجعفر وأبي محمد وأبي القاسم وعبد الله وذي النون وذي يزن وأعوج وسبل والوجيه ولاحق وعلوي وعتوة والجديل وشدقم وعمان ونجران والحجاز والعراق والنجم والدبران الثريا وبرقع والجرباء‏.‏

ومنه محوة للشمال لأنها على كل حال جسم وإن لم تكن مرئية‏.‏

وكما جاءت الأعلام في الأعيان فكذلك أيضاً قد جاءت في المعاني نحو قوله‏:‏ أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر فسبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران‏.‏

وإن قال غاو من تنوخ قصيدة بها جرب عدت علي بزوبرا سألت أبا علي عن ترك صرف زوبر فقال‏:‏ علقه علما على القصيدة فاجتمع فيه التعريف والتأنيث كما اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون‏.‏

ومنه فيما ذكره أبو علي ما حكاه أبو زيد من قولهم‏:‏ كان ذلك الفينة وفينة وندرى والندرى‏.‏

فهذا مما اعتقب عليه تعريفان‏:‏ العلمية والألف واللام‏.‏

وهو كقولك‏:‏ شعوب والشعوب للمنية‏.‏

وعروبة والعروبة‏.‏

كما أن الأول كقولك‏:‏ في الفرط والحين‏.‏

ومثله غدوة جعلوها علما للوقت‏.‏

وكذلك أعلام الزمان نحو صفر ورجب وبقية الشهور وأول وأهون وجبار وبقية تلك الأسماء‏.‏

ومنه أسماء الأعداد كقولك‏:‏ ثلاثة نصف ستة وثمانية ضعف أربعة إذا أردت قدر العدد لا نفس المعدود فصار هذا اللفظ علما لهذا المعنى‏.‏

ومنه ما أنشده صاحب الكتاب من قوله‏:‏ أنا اقتسمنا خُطَّتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار فبرة اسم علم لمعنى البر فلذلك لم يصرف للتعريف والتأنيث‏.‏

وعن مثله عدل فجار أي عن فجرة‏.‏

وهي علم غير مصروف كما أن برة كذلك‏.‏

وقول سيبويه‏:‏ إنها معدولة عن الفجرة تفسير على طريق المعنى لا على طريق اللفظ‏.‏

وذلك أنه أراد أن يعرف أنه معدول عن فجرة علماً ولم تستعمل تلك علماً فيريك ذلك فعدل عن لفظ العلمية المراد إلى لفظ التعريف فيها المعتاد‏.‏

وكذلك لو عدلت عن برة هذه لقلت‏:‏ برار كما قال‏:‏ فجار‏.‏

وشاهد ذلك أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمة وقاطمة وهما عَلَمان فكذلك يجب أن تكون فَجَارِ معدولة عن فَفْرَة علماً أيضاً‏.‏

ومن الأعلام المعلقة على المعاني ما استعمله النحويون في عباراتهم من المثل المقابل بها الممثلات نحو قولهم‏:‏ أفعل إذا أرادت به الوصف وله فعلاء لم تصرف‏.‏

فلا تصرف أنت أفعل هذه من حيث صارت علماً لهذا المثال نحو أحمر وأصفر وأسود وأبيض‏.‏

فتجري أفعل هذا مجرى أحمد وأصرم علمين‏.‏

وتقول فاعلة لا تنصرف معرفة وتنصرف نكرة‏.‏

فلا تصرف فاعلة لأنها علم لهذا الوزن فجرت مجرى فاطمة وعاتكة‏.‏

وتقول‏:‏ فعلان إذا كانت له فَعْلَى فإنه لا ينصرف معرفة ولا نكرة‏.‏

فلا تصرف فعلان هذا لأنه عَلَم لهذا الوزن بمنزلة حَمْدان وقحطان‏.‏

وتقول‏:‏ وزن طلحة فَعْلة ومثال عَبَيْثُرَان فَعَيْلُلان ومثال إسحارّ إفعالّ ووزن إستبرق إستفعل ووزن طريفة فعيلة‏.‏

وكذلك جميع ما جاء من هذا الطرز‏.‏

وتقول‏:‏ وزن إبراهيم فعلاليل فتصرف هذا المثال لأنه لا مانع له من الصرف ألا ترى أنه ليس فيه أكثر من التعريف والسبب الواحد لا يمنع الصرف‏.‏

ولا تصرف إبراهيم للتعريف والعجمة‏.‏

وكذلك وزن جبرئيل فعلئيل فلا تصرف جبرئيل وتصرف مثاله‏.‏

والهمزة فيه زائدة لقولهم‏:‏ جبريل‏.‏

وتقول‏:‏ مثال جعفر فعلل فتصرفهما جميعاً لأنه ليس في كل واحد منهما أكثر من التعريف‏.‏

وقد يجوز إذا قيل لك ما مثال أَفْكَلٍ أن تقول‏:‏ مثاله أفعلٍ فتصرفه حكاية لصرف أفكلٍ كما جررته حكاية لجره ألا تراك إذا قيل لك‏:‏ ما مثال ضرب قلت‏:‏ فُعِل فتحكى في المثال بناء ضرب فتبنيه كما بنيت مثال المبنى كذلك حكيت إعراب أفكلٍ وتنوينه فقلت في جواب ما مثال أفكلٍ‏:‏ مثاله أفعلٍ فجررت كما صرفت‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ قد صرجت بِجدّانَ وجلدانَ‏.‏

فهذا علم لمعنى الجِدّ‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ أتى على ذي بليان‏.‏

فهذا علم للبعد قال‏:‏ تنام ويذهب الأقوامُ حتى يقالَ أتوا على ذي بِليَّان فإن قلت‏:‏ ولم قلت الأعلام في المعاني وكثرت في الأعيان نحو زيد وجعفر وجميع ما علق عليه علم وهو شخص قيل‏:‏ لأن الأعيان أظهر للحاسة وأبدى إلى المشاهدة فكانت أشبه بالعلمية مما لا يرى ولا يشاهد حساً وإنما يعلم تأملاً واستدلالاً وليست كمعلوم الضرورة للمشاهدة‏.‏

  باب في الشيء يرد مع نظيره مورده مع نقيضه

وذلك أضرب منها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المؤنثة نحو رجل علامة وامرأة علامة ورجل نسابة وامرأة نسابة ورجل همزة لمزة وامرأة همزة لُمَزة ورجل صرورة وفروقة وامرأة صرورة وفروقة ورجل هلباجة فقاقة وامرأة كذلك‏.‏

وهو كثير‏.‏

وذلك أن الهاء في نحو ذلك لم تلحق لتأنيث الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام المسامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية والنهاية فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة وسواء كان ذلك الموصوف بتلك الصفة مذكراً أم مؤنثاً‏.‏

يدل على ذلك أن الهاء لو كانت في نحو امرأة فروقة إنما لحقت لأن المرأة مؤنثة لوجب أن تحذف في المذكر فيقال‏:‏ رجل فروق كما أن التاء في نحو امرأة قائمة وظريفة لما لحقت لتأنيث الموصوف حذفت مع تذكيره في نحو رجل ظريف وقائم وكريم‏.‏

وهذا واضح‏.‏

ونحو من تأنيث هذه الصفة لا يعلم أنها بلغت المعنى الذي هو مؤنث أيضاً تصحيحهم العين في نحو حول وصيد واعتونوا واجتوروا إيذاناً بأن ذلك في معنى ما لا بد من تصحيحه‏.‏

وهو احول واصيد وتعاونوا وتجاوروا وكما كررت الألفاظ لتكرير المعاني نحو الزلزلة والصلصلة والصرصرة‏.‏

وهذا باب واسع‏.‏

ومنها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المذكرة‏.‏

وذلك نحو رجل خصم وامرأة خصم ورجل عدل وامرأة عدل ورجل ضيف وامرأة ضيف ورجل رضا وامرأة رضاً‏.‏

وكذلك ما فوق الواحد نحو رجلين رضا وعدل وقوم رضا وعدل قال زهير‏:‏ متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا فهم رضاً وهم عدلُ وسبب اجتماعهما هنا في هذه الصفة أن التذكير إنما أتاها من قبل المصدرية فإذا قيل‏:‏ رجل عدل فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة كما تقول‏:‏ استولى على الفضل وحاز جميع الرياسة والنبل ولم يترك لأحد نصيباً في الكرم والجود ونحو ذلك‏.‏

فوصف بالجنس أجمع تمكيناً لهذا الموضع وتوكيداً‏.‏

وقد ظهر منهم ما يؤيد هذا المعنى ويشهد به‏.‏

وذلك نحو قوله‏:‏ أنشدناه أبو علي‏:‏ ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل وضنت علينا والضنين من البخل فهذا كقولك‏:‏ هو مجبول من الكرم ومطين من الخير وهي مخلوقة من البخل‏.‏

وهذا أوفق معنى من أن تحمله على القلب وأنه يريد به‏:‏ والبخل من الضنين لأن فيه من الإعظام والمبالغة ما ليس في القلب‏.‏

ومنه ما أنشدناه أيضاً من قوله‏:‏ وهن من الإخلاف قبلك والمطل وقوله‏:‏ وهن من الإخلاف والولعان وأقوى التأويلين في قولها‏:‏ فإنما هي إقبال وإدبار أن يكون من هذا أي كأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار لا على أن يكون من باب حذف المضاف أي ذات إقبال وذات إدبار‏.‏

ويكفيك من هذا كله قول الله عز وجل ‏{‏خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ وذلك لكثرة فعله إياه واعتياده له‏.‏

وهذا أقوى معنى من أن يكون أراد‏:‏ خلق العجل من الإنسان لأنه أمر قد اطرد واتسع فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويصغر المعنى‏.‏

وكأن هذا الموضع لما خفي على بعضهم قال في تأويله‏:‏ إن العَجَل هنا الطين‏.‏

ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه في هذا الموضع لا يراد به إلا نفس العجلة والسرعة ألا تراه عز اسمه كيف قال عقبه ‏{‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ فنظيره قوله تعالى ‏{‏وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً‏}‏ ‏{‏ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به من الضرورة والحاجة‏.‏

فلما كان الغرض في قولهم‏:‏ رجل عدل وامرأة عدل إنما هو إرادة المصدر والجنس جعل الإفراد والتذكير أمارة للمصدر المذكر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن نفس لفظ المصدر قد جاء مؤنثاً نحو الزيادة والعبادة والضئولة والجهومة والمحمية والموجدة والطلاقة والسباطة‏.‏

وهو كثير جداً‏.‏

فإذا كان نفس المصدر قد جاء مؤنثاً فما هو في معناه ومحمول بالتأويل عليه أحجى بتأنيثه‏.‏

قيل‏:‏ الأصل لقوته أحمل لهذا المعنى من الفرع لضعفه‏.‏

وذلك أن الزيادة والعبادة والجهومة والطلاقة ونحو ذلك مصادر غير مشكوك فيها فلحاق التاء لها لا يخرجها عما ثبت في النفس من مصدريتها‏.‏

وليس كذلك الصفة لأنه اليست في الحقيقة مصدراً وإنما هي متأولة عليه ومردودة بالصنعة إليه‏.‏

فلو قيل‏:‏ رجل عدل وامرأة عدلة وقد جرت صفة كما ترى لم يؤمن أن يظن بها أنها صفة حقيقية كصُعْبة من صعب وندبة من ندب وفخمة من فخم ورطبة من رطب‏.‏

فلم يكن فيها من قوة الدلالة على المصدرية ما في نفس المصدر نحو الجهومة والشهومة والطلاقة والخلاقة‏.‏

فالأصول لقوتها يتصرف فيها والفروع لضعفها يتوقف فإن قلت‏:‏ فقد قالوا‏:‏ رجل عدل وامرأة عدلة وفرس طوعة القياد وقال أمية أنشدناه‏:‏ والحية الحتفة الرقشاء أخرجها من بيتها آمنات الله والكلم قيل‏:‏ هذا مما خرج على صورة الصفة لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كل البعد عن أصل الوصف الذي بابه أن يقع الفرق فيه بين مذكره ومؤنثه فجرى هذا في حفظ الأصول والتلفت إليها للمباقاة لها والتنبيه عليها مجرى إخراج بعض المعتل على أصله نحو استحوذ وضننوا وقد تقدم ذكره ومجرى إعمال صغته وعدته وإن كان قد نقل إلى فَعُلت لما كان أصله فَعَلت‏.‏

وعلى ذلك أنث بعضهم فقال‏:‏ خصمة وضيفة وجمع فقال‏:‏ يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد وعليه قول الآخر‏:‏ إذا نزل الأضياف كان عذوراً على الحي حتى تستقل مراجله الأضياف هنا بلفظ القلة ومعناها أيضاً وليس كقوله‏:‏ وأسيافنا يقطرن من نجدة دما في أن المراد به معنى الكثرة‏.‏

وذلك أمدح لأنه إذا قرى الأضياف وهم قليل بمراجل الحي أجمع فما ظنك به لو نزل به الضيفان الكثيرون‏!‏ فإن قيل‏:‏ فلم أنث المصدر أصلاً وما الذي سوغ التأنيث فيه مع معنى العموم والجنس وكلاهما إلى التذكير حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك‏:‏ إنه أصل وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع‏.‏

قيل‏:‏ علة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أن المصادر أجناس للمعاني كما غيرها أجناس للأعيان نحو رجل وفرس وغلام ودار وبستان‏.‏

فكما أن أسماء أجناس الأعيان قد تأتى مؤنثة الألفاظ ولا حقيقة تأنيث في معناها نحو غرفة ومشرقة وعلية ومروحة ومِقْرَمَة وكذلك جاءت أيضاً أجناس المعاني مؤنثاً بعضها لفظاً لا معنى‏.‏

وذلك نحو المحمدة والموجدة والرشاقة والجباسة والضئولة والجهومة‏.‏

نعم وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على مصدريته غير موصوف به لم يكن تأنيثه وجمعه وقد ورج وصفاً على المحل الذي من عادته أن يفرق فيه بين مذكره ومؤنثه وواحده وجماعته قبيحاً ولا مستكرها أعني ضيفة وخصمة وأضيافاً وخصوماً وإن كان التذكير والإفراد أقوى في اللغة وأعلى في الصنعة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ‏}‏‏.‏

وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لما وصفت بالمصدر أردت المبالغة بذلك فكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكد ذلك بترك التأنيث والجمع كما يجب للمصدر في أول أحواله ألا ترى أنك إذا أنثت وجمعت سلكت به مذهب الصفة الحقيقة التي لا معنى للمبالغة فيها نحو قائمة ومنطلقة وضاربات ومكرمات‏.‏

فكان ذلك يكون نقضا للغرض أو كالنقض له‏.‏

فلذلك قل حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنثاً أو مجموعاً‏.‏

ومما جاء من المصادر مجموعا ومعملا أيضاً قوله‏:‏ مواعيد عرقوب أخاه بيثرب وبيترب ومنه عندي قولهم‏:‏ تركته بملاحس البقر أولادها‏.‏

فالملاحس جمع ملحس ولا يخلو أن يكون مكاناً أو مصدرا فلا يجوز أن يكون هنا مكاناً لأنه قد عمل في الأولاد فنصبها والمكان لا يعمل في المفعول به كما أن الزمان لا يعمل فيه‏.‏

وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان المضاف هنا محذوفاً مقدراً وكأنه قال‏:‏ تركته بمكان ملاحس البقر أولادها كما أن قوله‏:‏ وما هي إلا في إزار وعلقة مغار ابن همام على حي خثعما محذوف المضاف أي وقت إغارة ابن همام على حي خثعم ألا تراه قد عداه إلى على في قوله على حي خثعما‏.‏

فملاحس البقر إذاً مصدر مجموع معمل في المفعول به كما أن مواعيد عرقوب أخاه بيثرب كذلك‏.‏

وهو غريب‏.‏

وكان أبو علي رحمه الله يورد مواعيد عرقوب مورد فأما قوله‏:‏ قد جربوه فما زادت تجاربهم أبا قدامة إلا المجد والفنعا فقد يجوز أن يكون من هذا‏.‏

وقد يجوز أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت أي فما زادت أبا قدامة تجاربهم إياه إلا المجد‏.‏

والوجه أن ينصب بتجاربهم لأنه العامل الأقرب ولأنه لو أراد إعمال الأول لكان حرى أن يعمل الثاني أيضاً فيقول‏:‏ فما زادت تجاربهم إياه أبا قدامة إلا كذا كما تقول‏:‏ ضربت فأوجعته زيدا وتضعف ضربت فأوجعت زيدا على إعمال الأول‏.‏

وذلك أنك إذا كنت تعمل الأول على بعده وجب إعمال الثاني أيضاً لقربه لأنه لا يكون الأبعد أقوى حالاً من الأقرب‏.‏

فإن قلت‏:‏ أكتفي بمفعول العامل الأول من مفعول العامل الثاني قيل لك‏:‏ فإذا كنت مكتفياً مختصراً فاكتفاؤك بإعمال الثاني الأقرب أولى من اكتفائك بإعمال الأول الأبعد‏.‏

وليس لك في هذا مالك في الفاعل لأنك تقول‏:‏ لا أضمر على غير تقدم ذكر إلا مستكرها فتعمل الأول فتقول قام وقعدا أخواك‏.‏

فأما المفعول فمنه بد فلا ينبغي أن تتباعد بالعمل إليه وتترك ما هو أقرب إلى المعمول فيه منه‏.‏

ومن ذلك فرس وساعٌ الذكر والأنثى فيه سواء وفرس جواد وناقة ضامر وجمل ضامر تدري فوق متنيها قرونا على بشر وآنسة لباب وقال ذو الرمة‏:‏ سبحلا أبا شرخين أحيا بناته مقاليتها فهي اللباب الحبائس فأما ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص وأدرع دلاص فليس من هذا الباب فإن فعالا منه في الجمع تكسير فعال في الواحد‏.‏

وقد تقدم ذكر ذلك في باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره‏.‏

  باب في ورود الوفاق مع وجود الخلاف

هذا الباب ينفصل من الذي قبله بأن ذلك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقاً له نحو رجل نسابة وامرأة عدل وهذا الباب الذي نحن فيه ليس بلفظ تبع لفظاً بل هو قائم برأسه‏.‏

وذلك قولهم‏:‏ غاض الماء وغضته سووا فيه بين المتعدى وغير المتعدى‏.‏

ومثله جبرت يده وجبرتها وعمر المنزل وغمرته وسار الدابة وسرته ودان الرجل ودنته من الدين في معنى أدنته وعليه جاء مديون في لغة التميميين وهلك الشيء وهلكته قال العجاج‏:‏ ومهمه هالك من تعرجا فيه قولان‏:‏ أحدهما أن هالكاً بمعنى مهلك أي مهلك من تعرج فيه‏.‏

والآخر‏:‏ ومهمه هالك المتعرجين فيه كقولك‏:‏ هذا رجل حسن الوجه فوضع من موضع الألف واللام‏.‏

ومثله هبط الشيء وهبطته قال‏:‏ ما راعني إلا جناح هابطاً على البيوت قوطه العلابطا أي مهبطاً قوطه‏.‏

وقد يجوز أن يكون أراد‏:‏ هابطاً بقوطه فلما حذف حرف الجر نصب فأما قول الله سبحانه ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ‏}‏ فأجود القولين فيه أن يكون معناه‏:‏ وإن منها لما يهبط من نظر إليه لخشية الله‏.‏

وذلك أن الإنسان إذا فكر في عظم هذه المخلوقات تضاءل وتخشع وهبطت نفسه لعظم ما شاهد‏.‏

فنسب الفعل إلى تلك الحجارة لما كان السقوط والخشوع مسبباً عنها وحادثاً لأجل النظر إليها كقول الله سبحانه ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ وأنشدوا بيت الآخر‏:‏ فاذكر موقفي إذا التقت الخي ل وسارت إلى الرجال الرجالا أي وسارت الخيل الرجال إلى الرجال‏.‏

وقد يجوز أن يكون أراد‏:‏ وسارت إلى الرجال بالرجال فحذف حرف الجر فنصب‏.‏

والأول أقوى‏.‏

وقال خالد بن زهير‏:‏ فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها ورجنت الدابة بالمكان إذا أقامت فيه ورجنتها وعاب الشيء وعبته وهجمت على القوم وهجمت غيري عليهم أيضاً وعفا الشيء‏:‏ كثر وعفوته‏:‏ كثرته وفغر فاه وفغر فوه وشحا فاه وشحا فوه وعثمت يده وعثمتها أي جبرتها على غير استواء ومد النهر ومددته قال الله عز وجل ‏{‏وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‏}‏ وقال الشاعر‏:‏ وسرحت الماشية وسرحتها وزاد الشيء وزدته وذرا الشيء وذروته‏:‏ طيرته وخسف المكان وخسفه الله ودلع اللسان ودلعته وهاج القوم وهجتهم وطاخ الرجل وطخته أي لطخته بالقبيح في معنى أطخته ووفر الشيء ووفرته‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ رفع البعير ورفعته في السير المرفوع وقالوا‏:‏ نفى الشيء ونفيته أي أبعدته قال القطامي‏:‏ فأصبح جاراكم قتيلاً ونافيا ونحوه نكرت البئر ونكرتها أي أقللت ماءها ونزفت ونزفتها‏.‏

فهذا كله شاذ عن القياس وإن كان مطرداً في الاستعمال إلا أن له عندي وجهاً لأجله جاز‏.‏

وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه وأقدر عليه فهو وإن كان فاعلاً فإنه لما كان معاناً مقدراً صار كأن فعله لغيره ألا ترى إلى قوله سبحانه ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ نعم وقد قال بعض الناس‏:‏ إن الفعل لله وإن العبد مكتسبه وإن كان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم‏.‏

فلما كان قولهم‏:‏ غاض الماء أن غيره أغاضه وإن جرى لفظ الفعل له تجاوزت العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلاً بلفظ الأول متعدياً لأنه قد كان فاعله في وقت فعله إياه إنما هو مشاء إليه أو معان عليه‏.‏

فخرج اللفظان لما ذكرنا خروجاً واحداً‏.‏

فاعرفه‏.‏