فصل: فصل في التحريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في شجاعة العربية

اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف‏.‏

الحذف قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة‏.‏

وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه‏.‏

وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته‏.‏

فأما الجملة فنحو قولهم في القسم‏:‏ والله لا فعلت وتالله لقد فعلت‏.‏

وأصله‏:‏ أقسم بالله فحذف الفعل والفاعل وبقيت الحال من الجار والجواب دليلاً على الجملة المحذوفة‏.‏

وكذلك الأفعال في الأمر والنهي والتحضيض نحو قولك‏:‏ زيداً إذا أردت‏:‏ اضرب زيداً أو نحوه‏.‏

ومنه إياك إذا حذرته أي احفظ نفسك ولا تضعها والطريق الطريق وهلا خيرا من ذلك‏.‏

وقد حذفت الجملة من الخبر نحو قولك‏:‏ القرطاس والله أي أصاب القرطاس‏.‏

وخير مقدم أي قدمت خير مقدم‏.‏

وكذلك الشرط في نحو قوله‏:‏ الناس مجزيون بأفعالهم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً أي إن فعل المرء خيراً جزى خيراً وإن فعل شراً جزي شراً‏.‏

ومنه قول التغلبي‏:‏ إذا ما الماء خالطها سخينا أي فشربنا سخيناً وعليه قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً‏}‏ أي فضرب فانفجرت وقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ‏}‏ أي فحلق فعليه فدية‏.‏

ومن ه قولهم‏:‏ ألا تا بلى فا أي ألا تفعل بلى فافعل وقول الآخر‏:‏ قلنا لها قفي لنا قالت قاف أي وقفت وقوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

وكأن قد أي كأنها قد زالت‏.‏

فأما قوله‏:‏ إذا قيل مهلاً قال حاجزه قد فيكون على هذا أي قد قطع وأغنى‏.‏

ويجوز أن يكون معناه‏:‏ قَدْك‏!‏ أي حسبك كأنه قد فرغ ما قد أريد منه فلا معنى لردعك وزجرك‏.‏

وإنما تحذف الجملة من الفعل الفاعل لمشابهتها المفرد بكون الفاعل في كثير من الأمر بمنزلة الجزء من الفعل نحو ضربت ويضربان وقامت هند و ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ‏}‏ وحبذا زيد وما أشبه ذلك مما يدل على شدة اتصال الفعل بالفاعل وكونه معه كالجزء الواحد‏.‏

وليس كذلك المبتدأ والخبر‏.‏

وأما حذف المفرد فعلى ثلاثة أضرب‏:‏ اسم وفعل وحرف‏.‏

حذف الاسم على أضرب قد حذف المبتدأ تارة نحو هل لك في كذا وكذا أي هل لك فيه حاجة أو أرب‏.‏

وكذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ‏}‏ أي ذلك أو هذا بلاغ‏.‏

وهو كثير‏.‏

وقد حذف الخبر نحو قولهم في جواب من عندك‏:‏ زيد أي زيد عندي‏.‏

وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ وإن شئت كان على‏:‏ طاعة وقول معروف أمثل من غيرهما وإن شئت كان على‏:‏ أمرنا طاعة وقول معروف‏.‏

وعليه قوله‏:‏ فقالت‏:‏ على اسم الله أمرك طاعة وإن كنت قد كلفت ما لم أعود وقد حذف المضاف وذلك كثير واسع وإن كان أبو الحسن لا يرى القياس عليه نحو قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى‏}‏ أي بر من اتقى‏.‏

وإن شئت كان تقديره‏:‏ ولكن ذا البر من اتقى‏.‏

والأول أجود لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع والخبر أولى بذلك من المبتدأ لأن الاتساع بالأعجاز أولى منه بالصدور‏.‏

ومنه قوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ‏}‏ أي أهلها‏.‏

وقد حذف المضاف مكرراً نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ‏}‏ أي من تراب أثر حافر فرس الرسول‏.‏

ومثله مسئلة الكتاب‏:‏ أنت منى فرسخان أي ذو مسافة فرسخين‏.‏

وكذلك قوله جل اسمه‏:‏ ‏{‏يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت‏.‏

وقد حذف المضاف إليه نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ أي من قبل ذلك ومن بعده‏.‏

وقولهم‏:‏ ابدأ بهذا أول أي أول ما تفعل‏.‏

وإن شئت كان تقديره‏:‏ أول من غيره ثم شبه الجار والمجرور هنا بالمضاف إليه لمعاقبة المضاف إليه إياهما‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ جئت من عل أي من أعلى كذا وقوله‏:‏ فملك بالليط الذي تحت قشرها كغرقئ بيضٍ كنه القيض من علُ فأما قوله‏:‏ فلا حذف فيه لأنه نكرة ولذلك أعربه فكأنه قال‏:‏ حطه السيل من مكان عالٍ لكن قول العجلي‏:‏ أقب من تحت عريض من عل هو محذوف المضاف إليه لأنه معرفة وفي موضع المبني على الضم ألا تراه قابل به ما هذه حاله وهو قوله‏:‏ من تحت‏.‏

وينبغي أن يكتب ‏"‏ علي ‏"‏ في هذا بالياء‏.‏

وهو فعل في معنى فاعل أي أقب من تحته عريض من عاليه بمعنى أعلاه‏.‏

والسافل والعالي بمنزلة الأسفل والأعلى‏.‏

قال‏:‏ ما هو إلا الموت يغلي غاليه مختلطاً سافله بعاليه لا بد يوماً أنني ملاقيه ونظير عالٍ وعلٍ هنا قوله‏:‏ وقد علتني ذرأة بادي بدي أي باديَ باديَ‏.‏

وإن شئت كان ظرفاً غير مركب أي في بادى بدي كقوله‏:‏ عز اسمه‏:‏ ‏{‏بَادِيَ الرَّأْيِ‏}‏ أي في بادي الرأي إلا أنه أسكن الياء في موضع النصب مضطراً كقوله‏:‏ يا دار هند عفت إلا أثافيها وإن شئت كان مركباً على حد قوله‏:‏ إلا أنه أسكن لطول الاسم بالتركيب كمعدي كرب‏.‏

ومثل فاعل وفعل في هذا المعنى قوله‏:‏ أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا إلا عراداً عردا وصلياناً بردا وعنكثاً ملتبدا أراد‏:‏ الإعراد عارداً وصليانا باردا‏.‏

وعليه قوله‏:‏ كأن في الفرش القتاد العاردا فأما قولهم‏:‏ عرد الشتاء فيجوز أن يكون مخففاً من عرد هذا‏.‏

ويجوز أن يكون مثالاً في الصفة على فعل كصعب وندب‏.‏

ومنه يومئذ وحينئذ ونحو ذلك أي إذ ذاك كذلك فحذفت الجملة المضاف إليها‏.‏

وعليه قول ذي الرمة‏:‏ فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح أي‏:‏ أو حين أقبل‏.‏

وحكى الكسائي‏:‏ أفوق تنام أم أسفل حذف المضاف ولم يبن‏.‏

وسمع أيضاً‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ فحذف ولم يبن‏.‏

وقد حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأكثر ذلك في الشعر‏.‏

وإنما كانت كثرته فيه دون النثر من حيث كان القياس يكاد يحظره‏.‏

وذلك أن الصفة في الكلام على ضربين‏:‏ إما للتخليص والتخصيص وإما للمدح الثناء‏.‏

وكلاهما من مقامات الإسهاب والإطناب لا من مظان الإيجاز والاختصار‏.‏

وإذا كان كذلك لم يلق الحذف به ولا تخفيف اللفظ منه‏.‏

هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من الإلباس وضد البيان‏.‏

ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ مررت بطويل لم يستبن من ظاهر هذا اللفظ أن الممرور به إنسان دون رمح أو ثوب أو نحو ذلك‏.‏

وإذا كان كذلك كان حذف الموصوف إنما هو متى قام الدليل عليه أو شهدت الحال به‏.‏

وكلما استبهم الموصوف كان حذفه غير لائق بالحديث‏.‏

ومما يؤكد عندك ضعف حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه‏.‏

وذلك أن تكون الصفة جملة نحو مررت برجل قام أخوه ولقيت غلاماً وجهه حسن‏.‏

ألا تراك لو قلت‏:‏ مررت بقام أخوه أو لقيت وجهه حسن لم يحسن‏.‏

فأما قوله‏:‏ والله ما زيد بنام صاحبه ولا مخالط الليان جانبه فقد قيل فيه‏:‏ إن نام صاحبه علم اسم لرجل وإذا كان كذلك جرى مجرى قوله‏:‏ بني شاب قرناها‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

ولا مخالط الليان جانبه ليس علماً وإنما هو صفة وهو معطوف على نام صاحبه صفة أيضاً‏.‏

قيل‏:‏ قد يكون في الجمل إذا سمى بها معاني الأفعال فيها‏.‏

ألا ترى أن شاب قرناها تصر وتحلب هو اسم علم وفيه مع ذلك معنى الذم‏.‏

وإذا كان كذلك جاز أن يكون قوله‏:‏ ولا مخالط الليان جانبه معطوفاً على ما في قوله ما زيد بنام صاحبه من معنى الفعل‏.‏

فأما قوله‏:‏ مالك عندي غير سهم وحجر وغير كبداء شديدة الوتر جادت بكفي كان من أرمى البشر أي بكفي رجل أو إنسان كان من أرمى البشر فقد روى غير هذه الرواية‏.‏

روى‏:‏ بكفى كان من أرمى البشر بفتح ميم من أي بكفى من هو أرمى البشر وكان على هذا زائدة‏.‏

ولو لم تكن فيه إلا هذه الرواية لما جاز القياس عليه لفروده وشذوذه عما عليه عقد هذا الموضع‏.‏

ألا تراك لا تقول‏:‏ مررت بوجهه حسن ولا نظرت إلى غلامه سعيد‏.‏

فأما قولهم بدأت بالحمد لله وانتهيت من القرآن إلى ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏ ونحو ذلك فلا يدخل على هذا القول من قبل أن هذه طريق الحكاية وما كان كذلك فالخطب فيه أيسر والشناعة فيه أوهى وأسقط‏.‏

وليس منا كنا عليه مذهباً له تعلق بحديث الحكاية‏.‏

وكذاك إن كانت الصفة جملة لم يجز أ تقع فاعلة ولا مقامة مقام الفاعل ألا تراك لا تجيز قام وجهه حسن ولا ضرب قام غلامه وأنت تريد‏:‏ قام رجل وجهه حسن ولا ضرب إنسان قام غلامه‏.‏

وكذاك إن كانت الصفة حرف جر أو ظرفاً لا يستعمل استعمال الأسماء‏.‏

فلو قلت‏:‏ جاءني من الكرام أي رجل من الكرام‏.‏

أو حضرني سواك أي إنسان سواك لم يجسن لأن الفاعل لا يحذف‏.‏

فأما قوله‏:‏ أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل فليست الكاف هنا حرف جر بل هي اسم بمنزلة مثل كالتي في قوله‏:‏ على كالقطا الجوني أفزعه الزجر وكالكاف الثانية من قوله‏:‏ وصاليات ككما يؤثفين أي كمثل ما يؤثفين وعليه قول ذي الرمة‏:‏ أبيت على مي كئيباً وبعلها على كالنقا من عالج يتبطح فأما قول الهذلي‏:‏ فلم يبق منها سوى هامد وغير الثمام وغير النؤى ففيه قولان‏:‏ أحدهما أن يكون في يبق ضمير فاعل من بعض ما تقدم كذا قال أبو علي رحمه الله‏.‏

والآخر أن يكون استعمل سوى للضرورة اسماً فرفعه‏.‏

وكأن هذا أقوى لأن بعده‏:‏ وغير الثمام وغير النؤى فكأنه قال‏:‏ لم يبق منها غير هامد‏.‏

ومثله ما أنشدناه للفرزدق من قوله‏:‏ أئته بمجلوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطها قد تفلقا وعليه قول الآخر‏:‏ في وسط جمع بني قريط بعدما هتفت ربيعة يا بني جواب وقد أقيمت الصفة الجملة مقام الموصوف المبتدأ نحو قوله‏:‏ لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم أي ما في قومها أجد يفضلها وقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي قوم دون ذلك‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ فيمن قرأه بالنصب فيحتمل أمرين‏:‏ أحدهما أن يكون الفاعل مضمراً أي لقد تقطع الأمر أو العقد أو الود ونحو ذلك بينكم‏.‏

والآخر أن يكون ما كان يراه أبو الحسن من أن يكون ‏"‏ بينكم ‏"‏ وإن كان منصوب اللفظ مرفوع الموضع بفعله غير أنه أقرت نصبة الظرف وإن كان مرفوع الموضع لاطراد استعمالهم إياه ظرفاً‏.‏

إلا أن استعمال الجملة التي هي صفة للمبتدأ مكانه أسهل من استعمالها فاعلة لأنه ليس يلزم أن يكون المبتدأ اسماً محضاً‏.‏

كلزوم ذلك في الفاعل ألا ترى إلى قولهم‏:‏ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي سماعك به خير من رؤيته‏.‏

وقد تقصينا ذلك في غير موضع‏.‏

وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها‏.‏

وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم‏:‏ سير عليه ليل وهم يريدون‏:‏ ليل طويل‏.‏

وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها‏.‏

وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله‏:‏ طويل أو نحو ذلك‏.‏

وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته‏.‏

وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول‏:‏ كان والله رجلاً فتزيد في قوة اللفظ بالله هذه الكلمة وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك‏.‏

وكذلك تقول‏:‏ سألناه فوجدناه إنساناً وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه فتستغني بذلك عن وصفه بقولك‏:‏ إنساناً سمحاً أو جواداً أو نحو ذلك‏.‏

وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت‏:‏ سألناه وكان إنساناً وتزوى وجهك وتقطبه فيغنى ذلك عن قولك‏:‏ إنساناً لئيما أو لحزا أو مبخلا أو نحو ذلك‏.‏

فعلى هذا وما يجري مجراه تحذف الصفة‏.‏

فأما إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ أو من الحال فإن حذفها لا يجوز ألا تراك لو قلت‏:‏ وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلة على رجل أو رأينا بستاناً وسكت لم تفد بذلك شيئاً لأن هذا ونحوه مما لا يعرى منه ذلك المكان وإنما المتوقع أن تصف من ذكرت أو ما ذكرت فإن لم تفعل كلفت علم ما لم تدلل عليه وهذا لغو من الحديث وجور في التكليف‏.‏

ومن ذلك ما يروى في الحديث‏:‏ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أي لا صلاة كاملة أو فاضلة ونحو ذلك‏.‏

وقد خالف في ذلك من لا يعد خلافه خلافاً‏.‏

وقد حذف المفعول به نحو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ أي أوتيت منه شيئاً‏.‏

وعليه قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ أي غشاها إياه‏.‏

فحذف المفعولين جميعاً‏.‏

وقال الحطيئة‏:‏ منعمة تصون إليك منها كصونك من رداء شرعبي أي تصون الحديث منها‏.‏

وله نظائر‏.‏

وقد حذف الظرف نحو قوله‏:‏ فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد أي إن مت قبلك هذا يريد لا محالة‏.‏

ألا ترى أنه لا يجوز أن يشرط الإنسان موته لأنه يعلم أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت أوكل بدعدٍ من يهيم بها بعدي أي فإن أمت قبلها لا بد أن يريد هذا‏.‏

وعلى هذا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ أي من شهد الشهر منكم صحيحاً بالغاً في مصرٍ فليصمه‏.‏

وكان أبو علي رحمه الله يرى أن نصب الشهر هنا إنما هو على الظرف ويذهب إلى أن المفعول محذوف أي فمن شهد منكم المصر في هذا الشهر فليصمه‏.‏

وكيف تصرفت الحال فلا بد من حذف‏.‏

وقد حذف المعطوف تارة والمعطوف عليه أخرى‏.‏

روينا عن أحمد بن يحيى أنهم يقولون‏:‏ راكب الناقة طليحان أي راكب الناقة والناقة طليحان‏.‏

وقد مضى ذكر هذا‏.‏

وتقول‏:‏ الذي ضربت وزيداً جعفر تريد الذي ضربته وزيداً فتحذف المفعول من الصلة‏.‏

وقد حذف المستثنى نحو قولهم‏:‏ جاءني زيد ليس إلا وليس غير أي ليس إلا إياه وليس غيره‏.‏

وقد حذف خبر إن مع النكرة خاصة نحو قول الأعشى‏:‏ إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر إذ مضوا مهلا أي إن لنا محلا وإن لنا مرتحلا‏.‏

وأصحا بنا يجيزون حذف خبر إن مع المعرفة ويحكون عنهم أنهم إذ قيل لهم إن الناس ألب عليكم فمن لكم قالوا‏:‏ إن زيداً وإن عمرا أي إن لنا زيداً وإن لنا عمرا‏.‏

والكوفيون يأبون حذف خبرها إلا مع النكرة‏.‏

فأما احتجاج أبي العباس عليهم بقوله‏:‏ خلا أن حيا من قريش تفضلوا على الناس أو أن الأكارم نهشلا أي أو أن الأكارم نهشلا تفضلوا‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وهذا لا يلزمهم لأن لهم أن يقولوا‏:‏ إنما منعنا حذف خبر المعرفة مع إن المكسورة فأما مع أن المفتوحة فلن نمنعه‏.‏

قال‏:‏ ووجه فصلهم فيه بين المكسورة والمفتوحة أن المكسورة حذف خبرها كما حذف خبر نقيضها‏.‏

وهو قولهم لا بأسَ ولا شكّ أي عليك وفيه‏.‏

فكما أن لا تختص هنا بالنكرات فكذلك إنما تشبهها نقيضتها في حذف الخبر مع النكرة أيضاً‏.‏

وقد حذف أحد مفعولي ظننت‏.‏

وذلك نحو قولهم‏:‏ أزيدا ظننته منطلقاً ألا ترى أن تقديره‏:‏ أظننت زيداً منطلقاً ظننته منطلقاً فلما أضمرت الفعل فسرته بقولك‏:‏ ظننته وحذفت المفعول الثاني من الفعل الأول المقدر اكتفاء بالمفعول الثاني الظاهر في الفعل الآخر‏.‏

وكذلك بقية أخوات ظننت‏.‏

وقد حذف خبر كان أيضاً في نحو قوله‏:‏ أسكرانُ كان ابنَ المراغة إذ هجا تميما ببطن الشأم أم متساكر ألا ترى أن تقديره‏:‏ أكان سكرانُ ابن المراغة فلما حذف الفعل الرافع فسره بالثاني فقال‏:‏ كان ابن المراغة‏.‏

وابن المراغة هذا الظاهر خبر ‏"‏ كان ‏"‏ الظاهرة وخبر ‏"‏ كان ‏"‏ المضمر محذوف معها لأن ‏"‏ كان ‏"‏ الثانية دلت على الأولى‏.‏

وكذلك الخبر الثاني الظاهر دل على الخبر الأول المحذوف‏.‏

وقد حذف المنادى فيما أنشده أبو زيد من قوله‏:‏ فخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يالا أراد‏:‏ يا لبني فلان ونحو ذلك‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف جاز تعليق حرف الحر قيل‏:‏ لما خلط بيا صار كالجزء منها‏.‏

ولذلك شبه أبو علي ألفه التي قبل اللام بألف باب ودار فحكم عليها حينئذ بالانقلاب‏.‏

وقد ذكرنا ذلك‏.‏

وحسن الحال أيضاً شيء آخر وهو تشبث اللام الجارة بألف الإطلاق فصارت كأنها معاقبة للمجرور‏.‏

ألا ترى أنك لو أظهرت ذلك المضاف إليه فقلت‏:‏ يا لبني فلان لم يجز إلحاق الألف هنا وجرت ألف الإطلاق في منابها هنا عما كان ينبغي أن يكون بمكانها مجرى ألف الإطلاق في منابها عن تاء التأنيث في نحو قوله‏:‏ ولاعب بالعشيِّ بني بنيه كفعل الهِرِّ يحترش العَظَايا وكذلك نابت أيضاً واو الإطلاق في قوله‏:‏ وما كل من وافى مني أنا عارف فيمن رفع كلا عن الضمير الذي يزاد في عارفه وكما ناب التنوين في نحو حينئذ ويومئذ عن المضاف إليه إذْ‏.‏

وعليه قوله‏:‏ نهيتك عن طلابك أم عمرو بعاقبة وأنت إذٍ صحيح فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ ألا يا اسجدوا ‏}‏ فقد تقدم القول عليه‏:‏ أنه ليس المنادى هنا محذوفاً ولا مراداً كما ذهب إليه محمد بن يزيد وأن ‏"‏ يا ‏"‏ هنا أخلصت للتنبيه مجرداً من النداء كما أن ‏"‏ ها ‏"‏ من قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ‏}‏ للتنبيه من غير أن تكون للنداء‏.‏

وتأول أبو العباس قول الشاعر‏:‏ طلبوا صلحنا ولات أوانٍ فأجبنا أن ليس حين بقاء قول الجماعة في تنوين إذْ‏.‏

وهذا ليس بالسهل‏.‏

وذلك أن التنوين في نحو هذا إنما دخل فيما لا يضاف إلى الواحد وهو إذ‏.‏

فأما ‏"‏ أوان ‏"‏ فمعرب ويضاف إلى الواحد كقوله‏:‏ فهذا أوان العرض حي ذبابه زنابيره والأزرق المتلمس وقد كسروه على آونة وتكسيرهم إياه يبعده عن البناء لأنه أخذ به في شق التصريف قال‏:‏ أبو حنشٍ يؤرقنا وطلقٌ وعبادٌ وآونةً أثالا وقد حذف المميز‏.‏

وذلك إذا علم من الحال حكم ما كان يعلم منها به‏.‏

وذلك قولك‏:‏ عندي عشرون واشتريت ثلاثين وملكت خمسة وأربعين‏.‏

فإن لم يعلم المراد لزم التمييز إذا قصد المتكلم الإبانة‏.‏

فإن لم يرد ذلك وأراد الإلغاز وحذف جانب البيان لم يوجب على نفسه ذكر التمييز‏.‏

وهذا إنما يصلحه ويفسده غرض المتكلم وعليه مدار الكلام‏.‏

فاعرفه‏.‏

وحذف الحال لا يحسن‏.‏

وذلك أن الغرض فيها إنما هو توكيد الخبر بها وما طريقه طريق التوكيد غير لائق به الحذف لأنه ضد الغرض ونقيضه ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن توكيد الهاء المحذوفة من الصلة نحو الذي ضربت نفسه زيد على أن يكون نفسه توكيداً للهاء المحذوفة من ضربت وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقاً من انتقاض الغرض بإدغامه‏.‏

فأما ما أجزناه من حذف الحال في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ أي فمن شهده صحيحاً بالغاً فطريقه أنه لما دلت الدلالة عليه من الإجمع والسنة جاز حذفه تخفيفاً‏.‏

وأما لو عريت الحال من هذه القرينة وتجرد الأمر دونها لما جاز حذف الحال على وجه‏.‏

ولم أعلم المصدر حذف في موضع‏.‏

وذلك أن الغرض فيه إذا تجرد من الصفة أو التعريف أو عدد المرات فإنما هو لتوكيد الفعل وحذف المؤكد لا يجوز‏.‏

وإنما كلامنا على حذف ما يحذف وهو مراد‏.‏

فأما حذفه إذا لم يرد فسائغ لا سؤال فيه‏.‏

وذلك كقولنا‏:‏ انطلق زيد ألا ترى هذا كلاماً تاماً وإن لم تذكر معه شيئاً من الفضلات مصدراً ولا ظرفاً ولا حالاً ولا مفعولاً له ولا مفعولاً معه ولا غيره‏.‏

وذلك أنك لم ترد الزيادة في الفائدة بأكثر من الإخبار عنه بانطلاقه دون غيره‏.‏

حذف الفعل حذف الفعل على ضربين‏:‏ أحدهما أن تحذفه والفاعل فيه‏.‏

فإذا وقع ذلك فهو حذف جملة‏.‏

وذلك نحو زيداً ضربته لأنك أردت‏:‏ ضربت زيداً فلما أضمرت ضربت فسرته بقولك‏:‏ ضربته‏.‏

وكذلك قولك‏:‏ أزيدا مررت به وقولهم‏:‏ المرء مقتول بما قَتَل به إن سيفاً فسيف وإن خنجراً فخنجر أي إن كان الذي قَتَل به سيفاً فالذي يُقتل به سيف‏.‏

فكان واسمها وإن لم تكن مستقلة فإنها تعتد اعتداد الجملة‏.‏

وذلك أن يكون الفاعل مفصولا عنه مرفوعاً به‏.‏

وذلك نحو قولك‏:‏ أزيد قام‏.‏

فزيد مرفوع بفعل مضمر محذوف خال من الفاعل لأنك تريد‏:‏ أقام زيد فلما أضمرته فسرته بقولك‏:‏ قام‏.‏

وكذلك ‏{‏إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ‏}‏ و ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ و ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ‏}‏ و ‏{‏لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي‏}‏ ونحوه الفعل فيه مضمر وحده أي إذا انشقت السماء وإذا كورت الشمس وإن هلك امرؤ ولو تملكون‏.‏

وعليه قوله‏:‏ إذا ابنُ أبي موسى بلالٌ بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر أي إذا بلغ ابن أبي موسى‏.‏

وعبرة هذا أن الفعل المضمر إذا كان بعده اسم منصوب به ففيه فاعله مضمراً‏.‏

وإن كان بعده المرفوع به فهو مضمر مجرداً من الفاعل ألا ترى أنه لا يرتفع فاعلان به‏.‏

وربما جاء بعده المرفوع والمنصوب جميعاً نحو قولهم‏:‏ أما أنت منطلقاً انطلقتُ معك تقديره‏:‏ لأن كنت منطلقاً انطلقتُ معك فحذف الفعل فصار تقديره‏:‏ لأن أنت منطلقاً وكرهت مباشرة ‏"‏ أن ‏"‏ الاسم فزيدت ‏"‏ ما ‏"‏ فصارت عوضاً من الفعل ومصلحة للفظ لنزول مباشرة أن الاسم‏.‏

وعليه بيت الكتاب‏:‏ أبا خراشسة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع أي لأن كنت ذا نفر قويت وشددت والضبع هنا السنة الشديدة‏.‏

قيل‏:‏ بما لأنها عاقبت الفعل الرافع الناصب فعملت عمله من الرفع والنصب‏.‏

وهذه طريقة أبي علي وجلة أصحابنا من قبله في أن الشيء إذا عاقب الشيء ولي من الأمر ما كان المحذوف يليه‏.‏

من ذلك الظرف إذا تعلق بالمحذوف فإنه يتضمن الضمير الذي كان فيه ويعمل ما كان يعمله‏:‏ من نصبه الحال والظرف‏.‏

وعلى ذلك صار قوله‏:‏ فاه إلى في من قوله‏:‏ كلمته فاه إلى في ضامناً للضمير الذي كان في جاعلا لما عاقبه‏.‏

والطريق واضحة فيه متلئبة‏.‏

حذف الحرف قد حذف الحرف في الكلام على ضربين‏:‏ أحدهما حرف زائد على الكلمة مما يجيء لمعنى‏.‏

والآخر حرف من نفس الكلمة‏.‏

وقد تقدم فيما مضى ذكر حذف هذين الضربين بما أغنى عن إعادته‏.‏

ومضت الزيادة في الحروف وغيرها‏.‏

  فصل في التقديم والتأخير‏.‏

وذلك على ضربين‏:‏ أحدهما ما يقبله القياس‏.‏

والآخر ما يسهله الاضطرار‏.‏

الأول كتقديم المفعول على الفاعل تارة وعلى الفعل الناصبة أخرى كضرب زيداً عمرو وزيداً ضرب عمرو‏.‏

وكذلك الظرف نحو قام عندك زيد وعندك قام زيد وسار يوم الجمعة جعفر ويوم الجمعة سار جعفر‏.‏

وكذلك الحال نحو جا ضاحكاً زيد وضاحكاً جاء زيد‏.‏

وكذلك الاستثناء نحو ما قام إلا زيداً أحد‏.‏

ولا يجوز تقديم المستثنى على الفعل الناصب له‏.‏

لو قلت‏:‏ إلا زيداً قام القوم لم يجز لمضارعة الاستثناء البدل ألا تراك تقول‏:‏ ما قام أحد إلا زيداً وإلا زيد والمعنى واحد‏.‏

فما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف جاز تقديمه على المستثنى منه والبدل لا يصح تقديمه على المبدل منه‏.‏

قيل‏:‏ لما تجاذب المستثنى شبهان‏:‏ أحدهما كونه مفعولا والآخر كونه بدلاً خليت له منزلة وسيطة فقدم على المستثنى منه وأخر البتة عن الفعل الناصبة‏.‏

فأما قولهم‏:‏ ما مررت إلا زيداً بأحد فإنما تقدم على الباء لأنها ليست هي الناصبة له إنما الناصب له على كل حال نفس مررت‏.‏

وما يصح ويجوز تقديمه خبر المبتدأ نحو قائم أخوك وفي الدار صاحبك‏.‏

وكذلك خبر كان وأخواتها على أسمائها وعليها أنفسها‏.‏

وكذلك خبر ليس نحو زيدا ليس أخوك ومنطلقين ليس أخواك‏.‏

وامتناع أبي العباس من ذلك خلاف للفرقين‏:‏ البصريين والكوفيين وترك لموجب القياس عند النظار والمتكلمين وقد ذكرنا ذلك في غير مكان‏.‏

ويجوز تقديم المفعول له على الفعل الناصبة نحو قولك‏:‏ طمعاً في برك زرتك ورغبة في ولا يجوز تقديم المفعول معه على الفعل نحو قولك‏:‏ والطيالسة جاء البرد من حيث كانت صورة هذه الواو صورة العاطفة ألا تراك لا تستعملها إلا في الموضع الذي لو شئت لا استعملت العاطفة فيه نحو جاء البرد والطيالسة‏.‏

ولو شئت لرفت الطيالسة عطفاً على البرد‏.‏

وكذلك لو تركت والأسد لأكلك يجوز أن ترفع الأسد عطفاً على التاء‏.‏

ولهذا لم يجز أبو الحسن جئتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس لأنك لو أردت أن تعطف بها هنا فتقول‏:‏ أتيتك وطلوع الشمس لم يجز لأن طلوع الشمس لا يصح إتيانه لك‏.‏

فلما ساوقت حرف المعطف قبح والطيلالسة جاء البرد كما قبح وزيد قام عمرو لكنه يجوز جاء والطيالسة البردُ كما تقول‏:‏ ضربت وزيداً عمرا قال‏:‏ جمعتَ وفحشا غيبة ونميمة ثلاث خصال لست عنها بمرعو ومما يقبح تقديمه الاسم المميز وإن كان الناصبة فعلاً متصرفاً‏.‏

فلا نجيز شحما تفقأت ولا عرقا تصببت‏.‏

فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل أتهجر ليلى للفراق حبيها وما كان نفساً بالفراق يطيب فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضاً‏:‏ وما كان نفسي بالفراق تطيب فرواية برواية والقياس من بعد حاكم‏.‏

وذلك أن هذا المميز هو الفاعل في المعنى ألا ترى أن أصل الكلام تصبب عرقي وتفقأ شحمي ثم نقل الفعل فصار في اللفظ لي فخرج الفاعل في الفاصل مميزاً فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم المميز إّ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقدم الحال على العامل فيها وإن كانت الحال هي صاحبة الحال في المعنى نحو قولك‏:‏ راكباً جئت و ‏{‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ الفرق أن الحال لم تكن في الأصل هي الفاعلة كما كان المميز كذلك ألا ترى أنه ليس التقدير والأصل‏:‏ جاء راكبي كما أن أصل طبت به نفسا طابت به نفسي وإنما الحال مفعول فيها كالظرف ولم تكن قط فاعلة فنقل الفعل عنها‏.‏

فأما كونها هي الفاعل في المعنى فككون خبر كان هو اسمها الجاري مجرى الفاعل في المعنى وأنت تقدمه على كان فتقول‏:‏ قائماً كان زيد ولا تجيز تقديم اسمها عليها‏.‏

فهذا فرق‏.‏

وكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم ما أقيم مقام الفاعل كضرب زيد‏.‏

وبعد فليس في الدنيا مرفوع يجوز تقديمه على رافعه‏.‏

فأما خبر المبتدأ فلم يتقدم عند على رافعه لأن رافعه ليس المبتدأ وحده إنما الرافع له المبتدأ والابتداء جميعاً فلم يتقدم الخبر عليهما معاً وإنما تقدم على أحدهما وهو المبتدأ‏.‏

فهذا لا ينتقض‏.‏

لكنه على قول أبي الحسن مرفوع بالمبتدأ وحده ولو كان كذلك لم يجز تقديمه على المبتدأ‏.‏

ولا يجوز تقديم الصلة ولا شيء منها على الموصول ولا الصفة على الموصوف ولا المبدل على المبدل منه ولا عطف البيان على المعطوف عليه ولا العطف الذي هو نسق على المعطوف عليه إلا في الواو وحدها وعلى قلته أيضاً نحو قام وعمرو زيد‏.‏

وأسهل منه ضربت وعمرا زيدا لأن الفعل في هذا قد استقل بفاعله وفي قولك‏:‏ قام وعمرو زيد اتسعت في الكلام قبل الاستقلال والتمام‏.‏

فأما قوله‏:‏ ألا يا نخلةً من ذات عرق عليك ورحمةُ الله السلام فحملته الجماعة على هذا حتى كأنه عندها‏:‏ عليك السلام ورحمة الله‏.‏

وهذا وجه إلا أن عندي فيه وجهاً لا تقديم فيه ولا تأخير من قبل العطف‏.‏

وهو أن يكون رحمة الله معطوفاً على الضمير في عليك‏.‏

وذلك أن السلام مرفوع بالابتداء وخبره مقدم عليه وهو عليك ففيه إذاً ضمير منه مرفوع بالظرف فإذا عطفت رحمة الله عليه ذهب عنك مكروه التقديم‏.‏

لكن فيه العطف على المضمر المرفوع المتصل من غير توكيد له وهذا أسهل عندي من تقديم قلت إذ أقبلت وزهرٌ تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا وذهب بعضهم في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى‏}‏ إلى أن هو معطوف على الضمير في استوى‏.‏

ومما يضعف تقديم المعطوف على المعطوف عليه من جهة القياس أنك إذا قلت‏:‏ قام وزيد عمرو فقد جمعت أمام زيد بين عاملين‏:‏ أحدهما قام والآخر الواو ألا تراها قائمة مقام العامل قبلها وإذا صرت إلى ذلك صرت كأنك قد أعملت فيه عاملين وليس هذا كإعمال الأول أو الثاني في نحو قام وقعد زيد لأنك في هذا مخير‏:‏ إن شئت أعملت الأول وإن شئت أعملت الآخر‏.‏

وليس ذلك في نحو قام زيد وعمرو لأنك لا ترفع عمرا في هذا إلا بالأول‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقول في الفعلين جميعاً بإعمال أحدهما البتة كقوله‏:‏ كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال قيل‏:‏ لم يجب هذا في هذا البيت لشيء يرجع إلى العمل اللفظي وإنما هو شيء راجع إلى المعنى وليس كذلك قام وزيد عمرو لأن هذا كذا حاله ومعناه واحد تقدم أو تأخر‏.‏

فقد عرفت ما في هذا الحديث‏.‏

ولا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف ولا شيء ما اتصل به‏.‏

ولا يجوز تقديم الجواب على المجاب شرطاً كان أو قسماً أو غيرهما ألا تراك لا تقول‏:‏ أقُمْ إن تَقُمْ‏.‏

فأما قولك أقوم إن قمت فإن قولك‏:‏ أقوم ليس جواباً للشرط ولكنه دال على الجواب أي إن قمت قمت ودلت أقوم على قمت‏.‏

ومثله أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت ظلمت فحذفت ظلمت ودل قولك‏:‏ أنت ظالم عليه‏.‏

فأما قوله‏:‏ فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت فطعنة لاغس ولا بمغمر فذهب أبو زيد إلى أنه أراد‏:‏ إن ينج منها فلم أرقه وقدم الجواب‏.‏

وهذا عند كافة أصحابنا غير جائز‏.‏

والقياس له دافع وعنه حاجز‏.‏

وذلك أن جواب الشرط مجزوم بنفس الشرط ومحال تقدم المجزوم على جازمه بل إذا كان الجار وهو أقوى من الجازم لأن عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال لا يجوز تقديم ما انجر به عليه كان ألا يجوز تقديم المجزوم على جازمه أحرى وأجدر‏.‏

وإذا كان كذلك فقد وجب النظر في البيت‏.‏

ووجه القول عليه أن الفاء في قوله‏:‏ فلم أرقه لا يخلو أن تكون معلقة بما قبلها أو زائدة وأيهما كان فكأنه قال‏:‏ لم أرقه إن ينج منها وقد علم أن لم أفعل نفي فعلت وقد أنابوا فعلت عن جواب الشرط وجعلوه دليلاً عليه في قوله‏:‏ أي إن لم تحب أوديت‏.‏

فجعل أوديت دليلاً على أوديت هذه المؤخرة‏.‏

فكما جاز أن تجعل فعلت دليلاً على جواب الشرط المحذوف كذلك جعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلاً على جوابه‏.‏

والعرب قد تجري الشيء مجرى نقيضه كما تجريه مجرى نظيره ألا تراهم قالوا‏:‏ جوعان كما قالوا‏:‏ شبعان وقالوا‏:‏ علم كما قالوا‏:‏ جهل وقالوا‏:‏ كثر ما تقومن كما قالوا‏:‏ قلما تقومن‏.‏

وذهب الكسائي في قوله‏:‏ إذا رضيت على بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها إلى أنه عدى رضيت بعلى لما كان ضد سخطت وسخطت مما يعدي بعلى وهذا واضح‏.‏

وكان أبو علي يستحسنه من الكسائي‏.‏

فكأنه قال‏:‏ إن ينج منها ينج غير مرقي منها وصار قوله‏:‏ لم أرقه بدلاً من الجواب ودليلاً عليه‏.‏

فهذه وجوه التقديم والتأخير في كلام العرب‏.‏

وإن كنا تركنا منها شيئاً فإنه معلوم الحال ولاحق بما قدمناه‏.‏

وأما الفروق والفصول فمعلومة المواقع أيضاً‏.‏

فمن قبيح الفرق بين المضاف والمضاف إليه والفصل بين الفعل والفاعل بالأجنبي وهو دون الأول ألا ترى إلى جواز الفصل بينهما بالظرف نحو قولك‏:‏ كان فيك زيد راغباً وقبح الفصل فلما للصلاة دعا المنادي نهضت وكنت منها في غرور وسترى ذلك‏.‏

ويلحق بالفعل والفاعل في ذل المبتدأ والخبر في قبح الفصل بينهما‏.‏

وعلى الجملة فكلما ازداد الجزءان اتصالاً قوي قبح الفصل بينهما‏.‏

فمن الفصول والتقديم والتأخير قوله‏:‏ فقد والشك بين لي عناء بوشك فراقهم صرد يصيح أراد‏:‏ فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم ولاشك عناء‏.‏

ففيه من الفصول ما أذكره‏.‏

وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو بين‏.‏

وهذا قبيح لقوة اتصال قد بما تدخل عليه من الأفعال ألا تراها تعتد مع الفعل كالجزء منه‏.‏

ولذلك دخلت اللام المراد بها توكيد الفعل على قد في نحو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ‏}‏ وقوله‏:‏ ولقد أجمع رجالي بها حذر الموت وإني لفرور فصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله‏:‏ بين لي وفصل بين الفعل الذي هو بين وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء وقدم قوله‏:‏ بوشك فراقهم وهو معمول يصيح ويصيح صفة لصرد على صرد وتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على موصوفها قبيح ألا ترى أنك لا تجيز هذا اليوم رجل ورد من موضع كذا لأنك تريد‏:‏ هذا رجل ورد اليوم من موضع كذا‏.‏

وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها كذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها كما لا يجوز تقديم معمول المضاف إليه على نفس المضاف لما لم يجز تقديم المضاف إليه عليه‏.‏

ولذلك لم يجز قولك‏:‏ القتال زيدا حين تأتي وأنت تريد‏:‏ القتال حين تأتي زيدا‏.‏

فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دل من وجه على جوره وتعسفه فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته‏.‏

بل مثله في ذلك عندي مث لمجرى الجموح بلا لجام ووارد الحرب الضروس حاسراً من غير احتشام‏.‏

فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه أو أعصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة وأبعد عن الملحاة لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالاً بقوة طبعه ودلالة على شهامة نفسه‏.‏

ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال‏:‏ أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم لكنا نرى أن في الثناء بإنفاقها عوضا من حفظها بإمساكها‏.‏

ونحو منه قولهم‏:‏ تجوع الحرة ولا تأكل بثييها وقول الآخر‏:‏ لا خير في طمع يدني إلى طبع وغفة من قوام العيش تكفيني فاعرف بما ذكرناه حال ما يرد في معناه وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً ولا جشم إلا أمما وافق بذلك قابلاً له أو صادف غير آنس به إلا أنه هو قد استرسل واثقاً وبنى الأمر على أن ليس ملتبساً‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفرا رسومها قلما أراد‏:‏ فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلما خط رسومها‏.‏

ففصل بين المضاف الذي هو بعد والمضاف إليه الذي هو بهجتها بالفعل الذي هو خط وفصل أيضاً بخط بين أصبحت وخبرها الذي هو قفرا وفصل بين كأن واسمها الذي هو قلما بأجنبيين‏:‏ أحدهما قفرا والآخر‏:‏ رسومها ألا ترى أن رسومها مفعول خط الذي هو خبر كأن وأنت لا تجيز كأن خبزا زيداً آكل‏.‏

بل إذا لم تجز الفصل بين الفعل والفاعل على قوة الفعل في نحو كانت زيداً الحمى تأخذ كان ألا تجيز الفصل بين كأن واسمها بمفعول فاعلها أجدر‏.‏

نعم وأغلظ من ذا أنه قدم خبر كأن عليها وهو قوله‏:‏ خط‏.‏

فهذا ونحوه مما لا يجوز لأحد قياس عليه‏.‏

غير أن فيه ما قدمناه ذكره من سمو الشاعر وتغطرفه وبأوه وتعجرفه‏.‏

فاعرفه واجتنبه‏.‏

ومن ذلك بيت الكتاب‏:‏ وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه وأما قول الفرزدق‏:‏ إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانتكليب تصاهره فإنه مستقيم ولا خبط فيه‏.‏

وذلك أنه أراد‏:‏ إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي ما أم أبيه من محارب فقدم خبر الأب عليه وهو جملة كقولك‏:‏ قام أخوها هند ومررت بغلامهما أخواك‏.‏

وتقول على هذا‏:‏ فضته محرقة سرجها فرسك تريد‏:‏ فرسك سرجها فضته محرقة ثم تقدم خبر السرج أيضاً عليه فتقول‏:‏ فضته محرقة سرجها فرسك‏.‏

فإن زدت على هذا شيئاً قلت‏:‏ أكثرها محرق فضته سرجها فرسك أردت‏:‏ فرسك سرجها فضته أكثرها محرق فقدمت الجملة التي هي خبر عن الفضة عليها ونقلت الجمل عن مواضعها شيئاً فشيئاً‏.‏

وطريق تجاوز فأما قوله‏:‏ معاوي لم ترع الأمانة فارعها وكن حافظاً لله والدين شاكر فإن شاكر هذه قبيلة‏.‏

أراد‏:‏ لم ترع الأمانة شاكر فارعها وكن حافظاً لله والدين‏.‏

فهذا شيء من الاعتراض‏.‏

وقد قدمنا ذكره وعلة حسنه ووجه جوازه‏.‏

وأما قوله‏:‏ يوماً تراها كمثل أردية العص ب ويوماً أديمها نغلا فإنه أراد‏:‏ تراها يوماً كمثل أردية العصب وأديمها يوماً آخر نغلا‏.‏

ففصل بالظرف بين حرف العطف والمعطوف به على المنصوب من قبله وهو ‏"‏ ها ‏"‏ من تراها‏.‏

وهذا أسهل من قراءة من قرأ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ إذا جعلت يعقوب في موضع جر وعليه تلقاه القوم من أنه مجرور الموضع‏.‏

وإنما كانت الآية أصعب مأخذاً من قبل أن حرف العطف منها الذي هو الواو ناب عن الجار الذي هو الباء في قوله بإسحاق وأقوى أحوال حرف العطف أن يكون في قوة العامل قبله وأن يلي من العمل ما كان الأول يليه والجار لا يجوز فصله من مجروره وهو في الآية قد فصل بين الواو ويعقوب بقوله ‏{‏وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ‏}‏‏.‏

والفصل بين الجار ومجروره لا يجوز وهو أقبح منه بين المضاف والمضاف إليه‏.‏

وربما فرد الحرف منه فجاء منفوراً عنه قال‏:‏ ففصل بين حرف الجر ومجروره بالظرف الذي هو منها وليس كذلك حرف العطف في قوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

ويوماً أديمها نغلا لأنه عطف على الناصب الذي هو ترى فكأن الواو أيضاً ناصبة والفصل بين الناصب ومنصوبه ليس كالفصل بين الجار ومجروره‏.‏

وليس كذلك قوله‏:‏ فصلقنا في مراد صلقة وصداء ألحقتهم بالثلل فليس منه لأنه لم يفصل بين حرف العطف وما عطفه وإنما فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمصدر الذي هو صلقة وفيه أيضاً الفصل بين الموصوف الذي هو صلقة وصفته التي هي قوله ألحقتهم بالثلل بالمعطوف والحرف العاطفة أعني قوله‏:‏ وصداء وقد جاء مثله أنشدنا‏:‏ أمرت من الكتان خيطاً وأرسلت رسولاً إلى أخرى جرياً يعينها أراد‏:‏ وأرسلت إلى أخرى رسولاً جرياً‏.‏

والأحسن عندي في يعقوب من قوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ فيمن فتح أن يكون في موضع نصب بفعل مضمر دل عليه قوله ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ‏}‏ أي وآتيناها يعقوب‏.‏

فإذا فعلت ذلك لم يكن فيه فصل بين الجار والمجرور‏.‏

فاعرفه‏.‏

فليست خراسان التي كان خالد بها أسد إذ كان سيفاً أميرها فحديثه طريف‏.‏

وذلك أنه فيما ذكر يمدح خالد بن الوليد ويهجو أسداً وكان أسد وليها بعد خالد قالوا فكأنه قال‏:‏ وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفاً إذ كان أسد أميرها ففي كان على هذا ضمير الشأن والحديث والجملة بعدها التي هي أسد أميرها خبر عنها‏.‏

ففي هذا التنزيل أشياء‏:‏ منها الفصل بين اسم كان الأولى وهو خالد وبين خبرها الذي هو سيفاً بقوله بها أسد إذ كان فهذا واحد‏.‏

وثان‏:‏ أنه قدم بعضص ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها‏.‏

وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح والفساد ما لا خفاء به ولا ارتياب‏.‏

وفيه أيضاً أن أسد أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير على شريطة التفسير أعني ما في كان منه‏.‏

وهذا الضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده‏.‏

ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ فقدم إذا وهي منصوبة بشاخصة وإنما يجوز وقعوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكأنه على هذا قال‏:‏ فإذا هي شاخصة هي أبصار الذين كفروا وهي ضمير القصة وقد ترى كيف قدرت تقديم أحد الجزأين اللذين يفسرانها عليها فكما جاز هذا فكذلك يجوز أيضاً أن يقدم أسد على الضمير قيل‏:‏ الفرق أن الآية إنما تقدم فيها الظرف المتعلق عندك بأحد جزأي تفسير الضمير وهو شاخصة والظرف مما يتسع الأمر فيه ولا تضيق مساحة التعذر له بأن تعلقه بمحذوف يدل عليه شاخصة أو شاخصة أبصار الذين كفروا كما تقول في أشياء كثيرة نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وقول الشاعر‏:‏ وكنت أرى زيداً كما قيل سيدا إذا إنه عبد الفقا واللهازم فيمن كسر إن‏.‏

وأما البيت فإنه قدم فيه أحد الجزأين البتة وهو أسد‏.‏

وهذا ما لا يسمح به ولا يطوي كشح عليه‏.‏

وعلى أنه أيضاً قد يمكن أن تكون كان زائدة فيصير تقديره‏:‏ إذ أسد أميرها‏.‏

فليس في هذا أكثر من شيء واحد وهو ما قدمنا ذكره من تقديم ما بعد إذ عليها وهي مضافة إليه‏.‏

وهذا أشبه من الأول ألا ترى أنه إنما نعى على خراسان إذ أسد أميرها لأنه إنما فضل أيام خالد المنقضية بها على أيام أسد المشاهدة فيها‏.‏

فلا حاجة به إذاً إلى كان لأنه أمر حاضر مشاهد‏.‏

فأما إذ هذه فمتعلقة بأحد شيئين‏:‏ إما بليس وحدها وإما بما دلت عليه من غيرها حتى كأنه قال‏:‏ خالفت خراسان إذ أسد أميرها حالتها التي كانت عليه لها أيام ولاية خالد لها على حد ما تقول فيما يضم للظروف لتتناولها وتصل إليها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف يجوز لليس أن تعمل في الظرف وليس فيها تقدير حدث‏.‏

قيل‏:‏ جاز ذلك فيها من حيث جاز أن ترفع وتنصب وكانت على مثال الفعل فكما عملت الرفع والنصب وإن عريت من معنى الحدث كذلك أيضاً تنصب الظرف لفظاً كما عملت الرفع والنصب لفظاً ولأنها على وزن الفعل‏.‏

وعلى ذلك وجه أبو علي قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ‏}‏ لأنه أجاز في نصب يوم ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها أن يكون متعلقاً بنفس ليس من حيث ذكرنا من الشبه اللفظي‏.‏

وقال لي أبو علي رحمه الله يوماً‏:‏ الظرف يتعلق بالوهم مثلا‏.‏

فأما قول الآخر‏:‏ نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل فقيل فيه‏:‏ أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب حتى عقل الشمس ظله أي حاذاها فعلى هذا التفسير قد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ وخبره وقد يجوز ألا يكون فصل لكن على أن يتعلق مطلع الشمس بقوله‏:‏ إلى الغرب حتى كأنه قال‏:‏ شخصي ظله إلى الغرب وقت طلوع الشمس فيعلق الظرف بحرف الجر الجاري خبراً عن الظل كقولك‏:‏ زيد من الكرام يوم الجمعة فيعلق الظرف بحرف الجر ثم قدم الظرف لجواز تقديم ما تعلق به إلى موضعه ألا تراك تجيز أن تقول‏:‏ شخصي إلى الغرب ظله وأنت تريد‏:‏ شخصي ظله إلى الغرب‏.‏

فعلى هذا تقول‏:‏ زيد يوم الجمعة أخوه من الكرام ثم تقدم فتقول‏:‏ زيد من الكرام يوم الجمعة أخوه‏.‏

فاعرفه‏.‏

وقال الآخر‏:‏ أيا بن أناس هل يمينك مطلق نداها إذا عد الفعال شمالها أراد‏:‏ هل يمينك شمالها مطلق نداها‏.‏

فها من نداها عائد إلى الشمال لا اليمين والجملة خبر عن يمينها‏.‏

وقال الفرزدق‏:‏ ملوك يبتنون توارثوها سرادقها المقاول والقبابا أراد‏:‏ ملوك يبتنون المقاول والقباب توارثوها سرادقها‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏ يبتنون المقاول والقباب ‏"‏ صفة لموك‏.‏

وقوله‏:‏ توارثوها سرادقها صفة ثانية لملوك موضعها التأخير فقدمها وهو يريد بها موضعها كقولك‏:‏ مررت برجل مكلمها مار بهند أي مار بهند مكلمها فقدم الصفة الثانية وهو معتقد تأخيرها‏.‏

ومعنى يبتنون المقاول أي أنهم يصطنعون المقاول ويبتنونهم كقول المولد‏:‏ يبني الرجال وغيره يبني القرى شتان بين قرى وبين رجال وقوله‏:‏ توارثوها أي توارثوا الرجال والقباب‏.‏

ويجوز أن تكون الهاء ضمير المصدر أي توارثوا فأما ما أنشده أبو الحسن من قوله‏:‏ لسنا كمن حلت إياد دارها تكريت ترقب حبها أن تحصدا فمعناه‏:‏ لسنا كمن حلت دارها ثم أبدل إياد من ‏"‏ من حلت دارها ‏"‏ فإن حملته على هذا كان لحناً لفصلك بالبدل بين بعض الصلة وبعض فجرى ذلك في فساده مجرى قولك‏:‏ مررت بالضارب زيد جعفرا‏.‏

وذلك أن البدل إذا جرى على المبدل منه آذن بتمامه وانقضاء أجزائه فكيف يسوغ لك أن تبدل منه وقد بقيت منه بقية هذا خطأ في الصناعة‏.‏

وإذا كان كذلك والمعنى عليه أضمرت ما يدل عليه حلت فنصبت به الدار فصار تقديره‏:‏ لسنا كمن حلت إياد أي كإياد التي حلت ثم قلت من بعده‏:‏ حلت دارها‏.‏

فدل حلت في الصلة على حلت هذه التي نصبت دارها‏.‏

ومثله قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ أي يرجعه يومن تبلى السرائر فدل رجعه على يرجعه‏.‏

ولا يجوز أن تعلق يوم بقوله لقادر لئلا يصغر المعنى لأن الله تعالى قادر يوم تبلى السرائر وغيره في كل وقت وعلى كل حال على رجع البشر وغيرهم‏.‏

وكذلك قول الآخر‏.‏ولا تحسبن القتل محضاً شربته نزارا ولا أن النفوس استقرت ومعناه‏:‏ لا تحسبن قتلك نزاراً محضاً شربته إلا أنه وإن كان هذا معناه فإن إعرابه على غيره وسواه ألا ترى أنك إن حملته على هذا جعلت نزارا في صلة المصدر الذي هو القتل وقد فصلت بينهما بالمفعول الثاني الذي هو محضاً وأنت لا تقول‏:‏ حسبت ضربك جميلاً زيداً وأنت تقدره على‏:‏ حسبت ضربك زيداً جميلاً لما فيه من الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي‏.‏

فلا بد إذاً من أن تضمر لنزار ناصباً يتناوله يدل عليه قوله‏:‏ القتل أي قتلت نزارا‏.‏

وإذا جاز أن يقوم الحال مقام اللفظ بالفعل كان اللفظ بأن يقوم مقام اللفظ أولى وأجدر‏.‏

وذاكرت المتنبيء شاعرنا نحوا من هذا وطالبته به في شيء من شعره فقال‏:‏ لا أدري ما هو إلا أن الشاعر قد قال‏:‏ لسنا كمن حلت إياد دارها البيت‏.‏

فعجبت من ذكائه وحضوره مع قوة المطالبة له حتى أورد ما هو في معنى البيت الذي تعقبته عليه من شعره‏.‏

واستكثرت ذلك منه‏.‏

والبيت قوله‏:‏ وفاؤكما كالربع ِأشجاه طاسمه بإن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وذكرنا ذلك لاتصاله بما نحن عليه فإن الأمر يذكر للأمر‏.‏

وأنشدنا أبو علي للكميت‏:‏ أي وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها‏.‏

فإن حملته على هذا ركبت قبح الفصل‏.‏

فلا بد إذاً أن يكون ما يرى المسحل محمولاً على مضمر يدل عليه قوله الناظرات أي نظرن ما يرى المسحل‏.‏

وهذا الفصل الذي نحن عليه ضرب من الحمل على المعنى إلا أنا أوصلناه بما تقدمه لما فيه من التقديم والتأخير في ظاهره‏.‏

وسنفرد للحمل على المعنى فصلا بإذن الله‏.‏

وأنشدوا‏:‏ كأن برذون أبا عصام زيد حمار دق باللجام أي كأن برذون زيد يا أبا عصام حمار دق باللجام‏.‏

والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وحرف الجر قبيح كثير لكنه من ضرورة الشاعر‏.‏

فمن ذلك قول ذي الرمة‏:‏ كأن أصوات من إبغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج أي كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا أصوات الفراريج‏.‏

وقوله‏:‏ ما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل أي بكف يهودي‏.‏

هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما أي هما أخوا منلا أخا له في الحرب فعلق الظرف بما في أخوا من معنى الفعل لأن معناه‏:‏ هما ينصرانه ويعاونانه‏.‏

وقوله‏:‏ هما خطتا إما إسارٍ ومنةٍ وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر ففصل بين خطتا وإسارٍ بقوله إما ونظيره هو غلام إما زيد وإما عمرو‏.‏

وقد ذكرت هذا البيت في جملة كتابي في تفسير أبيات الحماسة وشرحت حال الرفع في إسار ومنة‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده أي زج أبي مزادة القلوص‏.‏

ففصل بينهما بالمفعول به‏.‏

هذا مع قدرته على أن يقول‏:‏ زج القلوص أبو مزادة كقولك‏:‏ سرني أكل الخبز زيد‏.‏

وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول ألا تراه ارتكب ههنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول‏.‏

يطفن بحوزي المراتع لم يرع بواديه من قرع القسي الكنائن فلم نجد فيه بداً من الفصل لأن القوافي مجرورة‏.‏

ومن ذلك قراءة ابن عامر‏:‏ ‏{‏ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ‏}‏ وهذا في النثر وحال السعة صعب جداً ولا سيما والمفصول به مفعول لا ظرف‏.‏

ومنه بيت الأعشى‏:‏ إلا بداهة أو علا لة قارح نهد الجزاره ومذهب سيبويه فيه الفصل بين بداهة وقارح وهذا أمثل عندنا من مذهب غيره فيه لما قدمنا في غير هذا الموضع‏.‏

وحكى الفراء عنهم‏:‏ برئت إليك من خمسة وعشري النخاسين وحكى أيضاً‏:‏ قطع الله الغداة يد ورجل من قاله ومنه قولهم‏:‏ هو خير وأفضل من ثم وقوله‏:‏ يا من رأى عارضاً أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد فإن قيل‏:‏ لو كان الآخر مجروراً بالأول لكنت بين أمرين‏.‏

أما أن تقول‏:‏ إلا علالة أو بداهته قارحٍ وبرئت إليك من خمسة وعشريهم النخاسين وقطع الله يد ورجله من قاله ومررت بخير وأفضله مَنْ ثَمَّ وبين ذراعي وجبهته الأسدِ لأنك إنما تعمل الأول فجرى ذلك مجرى‏:‏ ضربت فأوجعته زيداً إذا أعملت الأول‏.‏

وإما أن تقدر حذف المجرور من الثاني وهو مضمر ومجرور كما ترى والمضمر إذا كان مجروراً قبح حذفه لأنه يضعف أن ينفصل فيقوم برأسه‏.‏

فإذا لم تخل عند جرك الآخر بالأول من واحد من هذين وكل واحد منهما متروك وجب أن يكون المجرور إنما انجر بالمضاف الثاني الذي وليه لا بالأول الذي بَعُد عنه‏.‏

قيل‏:‏ أما تركهم إظهار الضمير في الثاني وأن يقولوا‏:‏ بين ذراعي وجبهته الأسد ونحو ذلك فإنهم لو فعلوه لبقي المجرور لفظاً لا جار له في اللفظ يجاوره لكنهم لما قالوا‏:‏ بين ذراعي وجبهة الأسد صار كأن الأسد في اللفظ مجرور بنفس الجبهة وإن كان في الحقيقة مجروراً بنفس الذراعين‏.‏

وكأنهم في ذلك إنما أرادوا إصلاح اللفظ‏.‏

وأما قبح حذف الضمير مجروراً لضعفه ع الانفصال فساقط عنا أيضاً‏.‏

وذلك أنه إنما يقبح فصل الضمير المجرور متى خرج إلى اللفظ نحو مررت بزيدٍ وك ونزلت على زيد وه لضعفه أن يفارق ما جره‏.‏

فأما إذا لم يظهر إلى اللفظ وكان إنما هو مقدر في النفس غير مستكره عليه اللفظ فإنه لا يقبح ألا ترى أن هنا أشياء مقدرة لو ظهرت إلى اللفظ قبحت ولأنها غير خارجة إليه ما حسنت‏.‏

من ذلك قولهم‏:‏ اختصم زيد وعمرو ألا ترى أن العامل في المعطوف غير العامل في المعطوف عليه فلا بد إذاً من تقديره على‏:‏ اختصم زيد واختصم عمرو وأت لو قلت ذلك لم يجز لأن اختصم ونحوه من الأفعال مثل اقتتل واستب واصطرع لا يكون فاعله أفل من اثنين‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ رب رجل وأخيه ولو قلت‏:‏ ورب أخيه لم يجز وإن كانت رب مرادة هناك ومقدرة‏.‏

فقد علمت بهذا وغيره أن ما تقدره وهماً ليس كما تلفظ به لفظا‏.‏

فلهذا يسقط عندنا إلزام سيبويه هذه الزيادة‏.‏

والفصل بين المضاف والمضاف إليه كثير وفما أوردناه منه كاف بإذن الله‏.‏

وقد جاء الطائي الكبير بالتقديم والتأخير فقال‏:‏ وإن الغنى لي لو لحظت مطالبي من الشعر إلا في مديحك أطوع وتقديره‏:‏ وإن الغنى لي لو لحظت مطالبي أطوع من الشعر إلا في مديحك أي فإنه يطيعني في مدحك ويسارع إلي‏.‏

وهذا كقوله أيضاً معنى لا لفظاً‏:‏ تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل وكقول الآخر‏:‏ ولقد أردت نظامها فتواردت فيها القوافي جحفلا عن حجفل وذهب أبو الحسن في قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ‏}‏ إلى أنه أراد‏:‏ من شر الوسواس الخناس من الجنة والناس الذي يوسوس ومنه قول الله عز اسمه‏:‏ ‏{‏اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ أي اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم‏.‏

وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ إن تقديره‏:‏ والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا‏.‏

ونحو من هذا ا قدمنا ذكره من الاعتراض في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ‏}‏ تقديره والله أعلم فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم عظيم لو تعلمون‏.‏

وقد شبه الجازم بالجار ففصل بينهما كما فصل بين الجار والمجرور وأنشدنا لذي الرمة‏:‏ فأضحت مغانيها قفارا رسومها كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل وجاء هذا في ناصب الفعل‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول الشاعر‏:‏ لما رايت أبا يزيد مقاتلاً أدع القتال‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا كما أراد في الأول‏:‏ كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش‏.‏

وكأنه شبه لن بان فكما جاز الفصل بين أن واسمها بالظرف في نحو قولك‏:‏ بلغني أن في الدار زيداً كذلك شبه لن مع الضرورة بها ففصل بينها وبين منصوبها بالظرف الذي هو ما رأيت أبا يزيد أي مدة رؤيتي‏.‏

اعلم أن هذا الشَرْج غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح‏.‏

قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً كتأنيث المذكر وتذكير المؤنيث وتصوير معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعاً وغير ذلك مما تراه بإذن الله‏.‏

فمن تذكير المؤنث قوله‏:‏ فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها ذهب بالأرض إلى الموضع والمكان‏.‏

ومنه قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي‏}‏ أي هذا الشخص أو هذا المرئي ونحوه‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ لأن الموعظة والوعظ واحد‏.‏

وقالوا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ إنه أراد بالرحمة هنا المطر‏.‏

ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل فَعِيل على قوله‏:‏ بأعينٍ أعداءٍ وهن صديق وقوله‏:‏ #‏.‏

‏.‏

‏.‏

ولا عفراء منك قريب وعليه قول الحطيئة‏:‏ ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد جار الزمان على عيالي وأما بيت الحكمى‏:‏ ككمون النار في حجره فيكون على هذا لأنه ذهب إلى النور والضياء ويجوز أن تكون الهاء عائدة على الكمون أي في حجر الكمون‏.‏

والأول أسبق في اصنعه إلى النفس وقال الهذلي‏:‏ بعيد الغزاة فما إن يزا ل مضطمرا طرتاه طليحا ذهب بالطرتين إلى اشعر‏.‏

ويجوز أن يكون طرتاه بدلاً من الضمير إذا جعلته في مضطمر كقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ‏}‏ إذا جعلت في مفتحة ضميراً وجعلت الأبواب بدلاً من ذلك الضمير ولم يكن تقديره‏:‏ الأبواب منها على أن نخلى مفتحة من الضمير‏.‏

نعم وإذا كان في مفتحة ضمير والأبواب بدل منه فلا بد أيضاً من أن يكون تقديره مفتحة لهم الأبواب منها‏.‏

وليس منها وفي مفتحة ضمير مثلها إذا أخليتها من ضمير‏.‏

وذلك أنها إذا خلت مفتحة من ضمير فالضمير في منها عائد الحال إذا كانت مشتقة كقولك‏:‏ مررت بزيد واقفاً الغلام معه وإذا كان في مفتحة ضمير فإن الضمير في منها هو الضمير الذي يرد به المبدل عائداً على المبدل منه كقولك‏:‏ ضربت زيداً رأسه أو الرأس منه وكلمت قومك نصفهم أو النصف منهم وضرب زيد الظهر والبطن أي الظهر منه والبطن منه‏.‏

فاعرف ذلك فرقاً بين الموضعين‏.‏

إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور لما فصل بين الفعل وفاعله حذف علامة التأنيث وإن كان تأنيثه حقيقياً‏.‏

وعليه قولهم‏:‏ حضر القاضي امرأة وقوله‏:‏ لقد ولد الأخيطل أم سوء على باب استها صلب وشام وأما قول جران العود‏:‏ ألا لا يغرن امرأ نوفلية على الرأس بعدي أو ترائب وضح فليست النوفلية هنا امرأة وإنما هي مشطة تعرف بالنوفلية فتذكير الفعل معها أحسن‏.‏

وتذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد فرع إلى أصل‏.‏

لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب‏.‏

وسنذكره‏.‏

وأما تأنيث المذكر فكقراءة من قرأ ‏{‏ تلتقطه بعض السيارة ‏}‏ وكقولهم‏:‏ ما جاءت حاجتك وكقولهم‏:‏ ذهبت بعض أصابعه‏.‏

أنث ذلك لما كان بعض السيارة سيارة في المعنى وبعض الأصابع إصبعاً ولما كانت ‏"‏ ما ‏"‏ هي الحاجة في المعنى‏.‏

وأنشدوا‏:‏ أتهجر بيتاً بالحجاز تلفعت به الخوف والأعداء من كل جانب ذهب بالخوف إلى المخافة‏.‏

وقال لبيد‏:‏ إن شئت قلت‏:‏ أنث الإقدام لما كان في معنى التقدمة‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ ذهب إلى تأنيث العادة كما ذهب إلى تأنيث الحاجة في قوله‏:‏ ما جاءت حاجتك وقال‏:‏ يأيها الراكب المزجى مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت ذهب إلى تأنيث الاستغاثة‏.‏

وحكى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سمع رجلاً من أهل اليمن يقول‏:‏ فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها‏!‏ فقلت له‏:‏ أتقول‏:‏ جاءته كتابي‏!‏ فقال نعم أليس بصحيفة‏!‏ قلت‏:‏ فما اللغوب قال‏:‏ الأحمق‏.‏

وهذا في النثر كما ترى وقد علله‏.‏

وهذا مما قد ذكرناه فيما مضى من كتابنا هذا غير أنا أعدناه لقوته في معناه‏.‏

وقال‏:‏ لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ حبا لغيرك قد أتاها أرسلي كسر رسولا وهو مذكر على أَرْسُل وهو من تكسير المؤنث كأتان وآتُن وعناق وأعنق وعُقاب وأعُقب لما كان الرسول هنا إنما يراد به المرأة لأنها في غالب الأمر مما يستخدم في هذا الباب‏.‏

وكذلك ما جاء عنهم من جناح واجنح‏.‏

قالوا‏:‏ ذهب في التأنيث إلى الريشة‏.‏

وعليه قول عمر‏:‏ فكان مجيء دون من كنت ألقى ثلاث شخوص‏:‏ كأعيان ومعصر أنث الشخص لأنه أراد به المرأة‏.‏

وقال الآخر‏:‏ فإن كلانا هذه شرُ ابطُن وأنت بريء من قبائلها العشر وأما قوله‏:‏ كما شرقت صدر القناة من الدم فإن شئت قلت‏:‏ أنث لأنه أراد القناة وإن شئت قلت‏:‏ إن صدر القناة قناة‏.‏

وعليه قوله‏:‏ مشين كما اهتزت رماحٌ تسفهت أعاليها مرُّ الرياح النواسم وقول الآخر‏:‏ لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقوله‏:‏ طول الليالي أسرعت في نقضي وقوله‏:‏ على قبضة موجوءة ظهر كفه وقول الآخر‏:‏ قد صرح السير عن كتمان وابتذلت وقع المحاجن بالمهرية الذقن وأما قول بعضهم‏:‏ صرعتني بعير لي فليس عن ضرورة لأن البعير يقع على الجمل والناقة وقال عز اسمه‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ لأنه أراد‏:‏ امرأة‏.‏

ومن باب الواجد والجماعة قولهم‏:‏ هو أحسن الفتيان وأجمله وأفرد الضمير لأن هذا موضع يكثر فيه الواحد كقولك‏:‏ هو أحسن فتى في الناس قال ذو الرمة‏:‏ ومية أحسن الثقلين وجها وسالفة وأحسنه قذالا فأفرد الضمير مع قدرته على جمعه‏.‏

وهذا يدلك على قوة اعتقادهم أحوال المواضع وكيف ما يقع فيها ألا ترى أن الموضع موضع جمع وقد تقدم في الأول لفظ الجمع فترك اللفظ وموجب الموضع إلى الإفراد لأنه يؤلف في هذا المكان‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ‏}‏ فحمل على المعنى وقال‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ فأفرد على لفظ من ثم جمع من بعد وقال عبيد‏:‏ فالقطبيات فالذنوب وإنما القُطيبية ماء واحد معروف‏.‏

وقال الفرزدق‏:‏ فيا ليت داري بالمدينة أصبحت بأجفار فلج أو بسيف الكواظم يريد الجفر وكظمة‏.‏

وقال جرير‏:‏ وإنما رامة أرض واحدة معروفة‏.‏

واعم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ كقولك‏:‏ شكرت من أحسنوا إلي على فعله ولو‏:‏ قلت شكرت من أحسن إلي على فعلهم جاز‏.‏

فلهذا ضعف عندنا أن يكون هما من مصطلاهما في قوله‏:‏ كميتاً الأسمالي جوبتا مصطلاهما عائدا على الأعالي في المعنى إذ كانا أعليين اثنين لأنه موضع قد ترك فيه لفظ التثنية حملا على المعنى لأنه جعل كل جهة منهما أعلى كقولهم‏:‏ شابت مفارقه وهذا بعير ذو عثانين ونحو ذلك أو لأن الأعليين شيئان من شيئين‏.‏

فإذا كان قد انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاوته إياه لأنه انتكاث وتراجع فجرى ذلك مجرى إدغام الملحق وتوكيد ما حذف‏.‏

على أنه قد جاء منه شيء قال‏:‏ رءوس كبيريهن ينتطحان وأما قوله‏:‏ كلاهما حين جد الحرب بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي فليس من هذا الباب وإن كان قد عاد من بعد التثنية إلى الإفراد‏.‏

وذلك أنه لم يقل‏:‏ كلاهما قد أقلعا وأنفه راب فيكون ما أنكرناه لكنه قد أعاد كلا أخرى غير الأولى فعاملها على لفظها‏.‏

ولم يقبح ذلك لأنه قد فرغ من حديث الأولى ثم استأنف من بعدها أخرى ولم يجعل الضمير عائدين إلى كلا واحدة‏.‏

وهذا كقولك‏:‏ من يقومون أكرمهم ومن يقعد أضربه‏.‏

فتأتي بمن الثانية فتعاملها على ما تختار مما يجوز مثله‏.‏

وهذا واضح فاعرفه‏.‏

ولا يحسن ومنهم من يستمعون إليك حتى إذا خرج من عندك لما ذكرنا‏.‏

وأما قول الفرزدق‏:‏ وإذا ذكرت أباك أو أيامه أخزاك حيث تقبل الأحجار يريد الحجر فإنه جعل كل ناحية حجراً ألا ترى أنك لو مسست كل ناحية منه لجاز أن تقول‏:‏ مسست الحجر‏.‏

وعليه شابت مفارقه وهو كثير العثانين‏.‏

وهذا عندي هو سبب إيقع لفظ الجماعة على معنى الواحد‏.‏

وأما قوله‏:‏ فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور فيجوز أن يكون جمع أخ قد حذفت نونه للإضافة ويجوز أن يكون واحداً وقع موقع الجماعة كقوله‏:‏ وقد توضع من للتثنية وذلك قليل قال‏:‏ نكن مثل مًنْ يا ذئبُ يصطحبان وأنشدوا‏:‏ أخو الذئب يعوي والغراب ومن يكن شريكيه تطمع نفسه كل مطمع أودع ضمير من في يكن على لفظ الإفراد وهو اسمها وجاء بشريكيه خبراً ليكن على معنى التثنية فكأنه قال‏:‏ وأي اثنين كانا شريكيه طمعت أنفسهما كل مطمع‏.‏

على هذا اللفظ أنشدناه أبو علي وحكى المذهب فيه عن الكسائي أعني عود التثنية على لفظ من إلا أنه عاود لفظ الواحد بعد أن حمل على معنى التثنية بقوله‏:‏ تطمع نفسه ولم يقل‏:‏ تطمع أنفسهما‏.‏

ولو ذهب فيه ذاهب إلى أنه من المقلوب لم أر به بأساً حتى كأنه قال‏:‏ ومن يكن شريكهما تطمع نفسه كل مطمع‏.‏

وحسن ذلك شيئاً العلم بأنه إذا كان شريكهما كانا أيضاً شريكيه فشجع بهذا القدر على ما ركبه من القلب‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

والحمل على المعنى واسع في هذه اللغة جداً‏.‏

ومنه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ‏}‏ ثم قال ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ قيل فيه‏:‏ إنه محمول على المعنى حتى كأنه قال‏:‏ أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مَرَّ على قرية فجاء بالثاني على أن الأول ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي بنصب يحسن والظاهر أن يرفع لأنه معطوف على أن الثقيلة إلا أنه نصب أن هذا موضع قد كان يجوز أن تكون فيه أن الخفيفة حتى كأنه قال‏:‏ ألا زعمت بسباسة أن يكبر فلان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ بالنصب‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ بدا لي أني لستُ مدرك ما مضى ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا لأن هذا موضع يحسن فيه لست بمدرك تما مضى‏.‏

ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن‏}‏ وقوله‏:‏ فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم وأستدرج نويا حتى كأنه قال‏:‏ أصالحكم وأستدرج نوايا‏.‏

ومن ذلك قول الآخر‏:‏ ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح لأنه لما قال‏:‏ ليبك يزيد فكأنه قال‏:‏ ليبكه ضارع لخصومة‏.‏

وعلى هذا تقولك أكل الخبز زيد وركب الفرس محمد فترفع زيداً ومحمداً بفعل ثان يدل عليه الأول وقوله‏:‏ لأنه لما قال‏:‏ هيجني دل على ذَكَّرني فنصبها به‏.‏

فاكتفى بالمسبب الذي هو التهييج من السبب الذي هو التذكير ونحوه قول الآخر‏:‏ أسقي الإله عدوات الوادي وجوزه كل ملثٍّ غاد كل أجشٍّ حالك السواد لأنه إذا أسقاها الله كل ملثٍّ فقد سقاها ذلك الأجشُّ‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ تواهق رجلاها يداها ورأسه لها قتب خلف الحقيبة رادف أراد‏:‏ تواهق رجلاها يديها فحذف المفعول وقد علم أن المواهقة لا تكون من الرجلين دون اليدين وأن اليدين مواهقتان كما أنهما مواهقتان‏.‏

فأضمر لليدين فعلا دل عليه الأول‏.‏

فكأنه قال‏:‏ تواهق يداها رجليها ثم حذف المفعول في هذا كما حذفه في الأول فصار على ما ترى‏:‏ تواهق رجلاها يداها‏.‏

فعلى هذه الصنعة التي وصفت لك تقول‏:‏ ضارب زيد عمرو على أن ترفع عمرا بفعل غير هذا الظاهر ولا يجوز أن يرتفعا جميعاً بهذا الظاهر‏:‏ فأما قولهم‏:‏ اختصم زيد وعمرو ففيه نظر‏.‏

وهو أن عمرا مرفوع بفعل آخر غير هذا الظاهر على حد قولنا في المعطوف‏:‏ إن العامل فيه غير العامل في المعطوف عليه فكأنه قال‏:‏ اختصم زيد واختصم عمرو وأنت مع هذا لو نطقت بهذا الذي تقدره لم يصلح الكلام معه لأن الاختصام لا يكون من أقل من اثنين‏.‏

وعلة جوازه أنه لما لم يظهر الفعل الثاني المقدر إلى اللفظ لم يجب تقديره وإعماله كأشياء تكون في التقدير فتحسن فإذا أنت أبرزتها إلى اللفظ قبحت‏.‏

وقد ذكرنا ذلك فيما مضى‏.‏

ومن ذلك قول الآخر‏:‏ فكرت تبتغيه فوافقته على دمه ومصرعه السباعا وذلك أنه إذا وافقته والسباع معه فقد دخلت السباع في الموافقة فكأنه قال فيما بعد‏:‏ وافقت السباع‏.‏

وهو عندنا على حذف المضاف أي وافقت آثار السباع‏.‏

قال أبو علي‏:‏ لأنها لو وافقت السباع هناك لأكلتها معه‏.‏

فعلى الآن هذه الظرف منصوبة بالفعل المحذوف الذي نصب السباع في التقدير‏.‏

ولو رفعت السباع لكانت على هذه مرفوعة الموضع لكونها خبراً عن السباع مقدماً وكانت تكون متعلقة بالمحذوف كقولنا في قولهم‏:‏ في الدار زيد‏.‏

وعلى هذا قال الآخر‏:‏ تذكرت أرضاً بها أهلها أخوالها فيها وأعمامها لك فيها وجهان‏:‏ إن شئت قلت‏:‏ إنه أضمر فعلاً للأخوال والأعمام على ما تقدم فنصبهما به كأنه قال فيما بعد‏:‏ تذكرت أخوالها فيها وأعمامها‏.‏

ودل على هذا الفعل المقدر قوله‏:‏ تذكرت أرضاً بها أهلها لأنه إذا تذكر هذه الأرض فقد علم أن التذكر قد أحاط بالأخوال والأعمام لأنهم فيها على ما مضى من الأبيات‏.‏

وإن شئت جعلت أخوالها وأعمامها بدلاً من الأرض بدل الاشتمال على قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن البدل العامل عندك فيه هو غير العامل في المبدل منه وإذا كان الأمر كذلك فقد آل الحديث إلى موضع واحد وهو إضمار الفعل فلم قسمت الأمر فيهما إلى موضعين قيل‏:‏ الفرق قائم‏.‏

ووجهه أن اتصال المبدل منه أشد من اتصال ما حمل على المعنى بما قبله وإنما يأتي بعد استقرار الكلام الأول ورسوخه وليس كذلك البدل لأنه وإن كان العامل فيه غير الأول عندنا فإنه مع ذلك مشابه للصفة وجار مجراها‏.‏

نعم وقد خالف فيه أقوام فذهبوا إلى أن العامل في الثاني هو العامل في الأول‏.‏

وحدثنا أبو علي أن الزيادي سأل أبا الحسن عن قولهم‏:‏ مررت برجل قائمٌ زيدٌ أبوه أأبوه بدل أم صفة قال فقال أبو الحسن‏:‏ لا أبالي بأيهما أجبتُ‏.‏

أفلا ترى إلى تداخل الوصف والبدل‏.‏

وهذا يدل على ضعف العامل المقدر مع البدل‏.‏

وسألت أبا علي رحمه الله عن مسئلة الكتاب‏:‏ رأيتك إياك قائماً الحال لمن هي فقال‏:‏ لإياك‏.‏

قلت‏:‏ فالعامل فيها ما هو قال‏:‏ رأيت هذه الظاهرة‏.‏

قلت‏:‏ أفلا تعلم أن إياك معمول فعل آخر غير الأول وهذا يقود إلى أن الناصب للحال هو الناصب لصاحبها أعني الفعل المقدر فقال‏:‏ لما لم يظهر ذلك العامل ضعف حكمه وصارت المعاملة مع هذا الظاهر‏.‏

فهذا يدلك على ضعف العامل في البدل واضطراب حاله وليس كذلك العامل إذا دل عليه غيره نحو قوله‏:‏ تواهق رجلاها يداها‏.‏

‏.‏

‏.‏

وقوله‏:‏ وول تعزيت عنها أم عمار ونحو ذلك لأن هذا فعل مثبت وليس محل ما يعمل فيه المعنى محل البدل‏.‏

فلما اختلف هذان الوجهان من هذين الموضعين اعتددناهما قسمين اثنين‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ لن تراها ولو تأملت إلا ولها في مفارق الرأس طيبا وهذا هو الغريب من هذه الأبيات‏.‏

ولعمي إن الرؤية إذا لحقتها فقد لحقت ما هو متصل بها‏.‏

ففي ذلك شيئان‏:‏ أحدهما أن الرؤية وإن كانت مشتملة عليها فليس لها طريق إلى الطيب في مفارقها اللهم إلا أن تكون حاسرة غير مقنعة وهذه بذلة وتطرح لا توصف به الخفرات ولا المعشقات ألا ترى إلى قول كثير‏:‏ ومن كانت من النساء هذه حالها فليست رذلة ولا مبتذلة‏.‏

وبه وردت الأشعار القديمة والمولدة قال الطائي‏:‏ عالي الهوى مما يعذب مهجتي أروية الشعف التي لم تسهل وهي طريق مهيع‏.‏

وإذا كان كذلك وكانت الرؤية لها ليس مما يلزم معه رؤية طيب مفارقها وجب أن يكون الفعل المقدر لنصب الطيب مما يصحب الرؤية لا الرؤية نفسها فكأنه قال‏:‏ لن تراها إلا وتعلم لها أو تتحقق لها في مفارق الرأس طيباً غير أن سيبويه حمله على الرؤية‏.‏

وينبغي أن يكون أراد‏:‏ ما تدل عليه الرؤية من الفعل الذي قدرناه‏.‏

والآخر أن هذه الواو في قوله‏:‏ ولها كذا هي واو الحال وصارفة للكلام إلى معنى الابتداء فقج وجب أن يكون تقديره‏:‏ لن تراها إلا وأنت تعلم أو تتحقق أو تشم فتأتي بالمبتدأ وتجعل ذلك الفعل المقدر خبراً عنه‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

ومنه قوله‏:‏ قد سلم الحيات منه القدما الأفعوان والشجاع الشجعما وذات قرنين ضموزا ضرزما هو من هذا لأنه قد علم أن الحيات مسالمة كما علم أنها مسالمة ورواها الكوفيون بنصب لنا أعنز لبنٌ ثلاث فبعضها لأولادها ثنتا وما بيننا عنز وينشدون قول الآخر‏:‏ كأن أذنيه إذا تشوفا قادمتتا أو قلما محرفا على أنه أراد‏:‏ قادمتان أو قلمان محرفان‏.‏

ورووه أيضاً‏:‏ تخال أذنيه‏.‏

‏.‏

‏.‏

قادمة أو قلما للحرفا‏.‏

فهذا على أنه يريد‏:‏ كل واحدة من أذنيه ومما ينسبونه إلى كلام الطير قول الحجلة للقطاة اقطي قطا فبيضك ثنتا وبيض مائتا أي ثنتان ومائتان‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا‏.‏

فهذا محمول على معنى الأول لا لفظه‏.‏

وعليه‏:‏ علفتها تبنا وماء بارداً حتى شتت همالة عيناها أي وسقيتها ماء باردا وقوله‏:‏ تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر أي ويفقأ عينيه وقوله‏:‏ تسمع للأجواف منه صردا وفي اليدين جسأة وبددا أي وترى في اليدين جسأة وبددا وقوله‏:‏ أي وأفرخت نعامها وقوله‏:‏ إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون‏.‏

ومن المحمول على المعنى قوله‏:‏ طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنه من قوام ما وممتقباً لأن الأول في معنى‏:‏ يا سحنه قواماً وقول الآخر‏:‏ يذهبن في نجد وغورا غائرا أي ويأتين غورا‏.‏

وقول الآخر‏:‏ فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه من يومه ظلم دعج ولا جبل حتى كأنه قال‏:‏ ما أحد أحرزه ظلم ولا جبل‏.‏

ومنه قوله‏:‏ فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا حمله الفراء على المعنى قال‏:‏ لأن معناه‏:‏ لا يرضيك إلا أن تردني فجعل الفاعل متعلقاً على المعنى‏.‏

وكان أبو علي يغلظ في هذا ويكبره ويتناكره ويقول‏:‏ الفاعل لا يحذف‏.‏

ثم إنه فيما بعد لان له وخفض من جناح تناكره‏.‏

وعلى كل حال فإذا كان الكلام إنما يصلحه أو يفسده معناه وكان هذا معنى صحيحاً مستقيما لم أر به بأساً‏.‏

وعلى أن المسامحة في الفاعل ليست بالمرضية لأنه أصعب حالاً من المبتدأ‏.‏

وهو في المفعول أحسن أنشد أبو زيد‏:‏ وقالوا‏:‏ ما تشاء فقلت‏:‏ ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير أراد‏:‏ اللهو فوضع ألهو موضعه لدلالة الفعل على مصدره‏.‏

ومثله قولك لمن قال لك‏:‏ ما يصنع زيد‏:‏ يصلي أو يقرأ أي الصلاة أو القراءة‏.‏

ومما جاء في المبتدأ من هذا قولهم‏:‏ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي سماعك به خير من رؤيتك له‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي منا قوم دون ذلك فحذف المبتدأ وأقام الصفة التي هي الظرف مقامه‏.‏

وقال جرير‏:‏ نفاك الأغر ابن عبد العزيز وحقك تنفي عن المسجد فحذف أن من خبر المبتدأ وهي‏:‏ حقك أن تنفي عن المسجد‏.‏

وقد جاء ذلك في الفاعل على عزته‏.‏

وأنشدنا‏:‏ وما راعني إلا يسير بشرطة وعهدي به فينا يفش بكير كذا أنشدناه فينا وإنما هو قَيْنا أراد بقوله‏:‏ وما راعني إلا يسير أي مسيره على هذا وجهه‏.‏

ومنه بيت جميل‏:‏ جرعت حذار البين يوم تحملوا وحق لمثلي يا بثينة يجزع أي وحق لمثلي أن يجزع‏.‏

وأجاز هشام يسرني تقوم وينبغي أن يكون ذلك جائزاً عنده في الشعر لا في النثر‏.‏

هذا أولى عندي من أن يكون يرتكبه من غير ضرورة‏.‏

وباب الحمل على المعنى بحر لا يُنْكَش ن ولا يُفْثَج ولا يؤبى ولا يُغَرَّض ولا يُغضغض‏.‏

وقد رأينا وجهه ووكلنا الحال إلى قوة النظر وملاطفة التأول‏.‏

ومنه باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف وهو اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به لأنه في معنى فعل يتعدى به‏.‏

من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ‏}‏ لما كان في معنى الإفضاء عداة بإلى‏.‏

ومثله بيت الفرزدق‏:‏ قد قتل الله زيادا عني لما كان ذلك في معنى‏:‏ صرفه عني‏.‏

وقد ذكرناه فيما مضى‏.‏

وكان أبو علي يستحسنه وينبه عليه‏.‏

ومنه قول الأعشى‏:‏ سبحان من علقمة الفاخر

  فصل في التحريف

قد جاء هذا الموضع في ثلاثة أضرب‏:‏ الاسم والفعل والحرف‏.‏

فالاسم يأتي تحريفه على ضربين‏:‏ أحدهما مقيس والآخر مسموع غير مقيس‏.‏

الأول ما غيره النسب قياساً‏.‏

وذلك قولك في الإضافة إلى نَمِر‏:‏ نَمَريّ وإلى شقِرة‏:‏ شَقَرِيّ وإلى قاض‏:‏ قاضَوِيّ وإلى حنيفة‏:‏ حَنفيّ وإلى عدِيّ‏:‏ عَدَويّ ونحو ذلك‏.‏

وكذلك التحقير وجمع التكسير نحو رجل ورُجَيل ورجال‏.‏

الثاني على أضرب‏:‏ منه ما غيرته الإضافة على غير قياس كقولهم في بني الحُبْلَى حُبَلِيّ وفي بني عَبِيدة وجَذِيمة‏:‏ عُبَدِيّ وجُذَمِيّ وفي زَبِينة‏:‏ زَبانيّ وفي أَمس‏:‏ إمسيّ وفي الأفُق‏:‏ أَفَقيّ وفي جَلولاء‏:‏ جَلوليّ وفي خرسان‏:‏ خُرْسٍيّ وفي دَسْتواء‏:‏ دستوانيّ‏.‏

ومنه ما جاء في غير الإضافة‏.‏

وهو نحو قوله‏:‏ من نسج داود أبي سلام يريد‏:‏ أبي سليمان وقول الآخر‏:‏ وسائلة بثعلبة بن سير وقد علقت بثعلبة العلوق أبوك عطاء ألأم الناس كلهم يريد عطية بن الخطفي وقال العبد‏:‏ وما دمية من دمى ميسنا ن معجبة نظراً واتصافاً أراد‏:‏ ميسان فغير الكلمة بأن زاد فيها نوناً فقال‏:‏ ميسنان وقال لبيد‏:‏ درس المنا بمتالع فأبان أراد‏:‏ المنازل وقال علقمة‏:‏ كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بسبا الكتان ملثوم وقال‏:‏ واستحر القتل في عبد الأشل يريد الأشهل‏.‏

وقال‏:‏ بسبحل الدفين عيسجور أي بسبحل‏.‏

وقال‏:‏ يريد‏:‏ في حجاج حاجب‏.‏

وقد مضى من التحريف في الاسم ما فيه كاف بإذن الله‏.‏

تحريف الفعل من ذلك ما جاء من المضاف مشبهاً بالمعتل‏.‏

وهو قولهم في ظللت‏:‏ ظلت وفي مسست‏:‏ مِسَتْ وفي أحسست‏:‏ أحَسْت قال‏:‏ خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس وهذا مشبه بخفت وأردت‏.‏

وحكى ابن الأعرابي في ظننت ظنت‏.‏

وهذا كله لا يقاس عليه لا تقول في شمعت‏:‏ شمت والشمت ولا في أقضضت‏:‏ أقضت‏.‏

فأما قول أبي الحسن في مثال اطمأن من الضرب‏:‏ اضربب وقول النحويين فيه‏:‏ اضربب فليس تحريفاً وإنما هذا عند كل واحد من القبليلين هو الصواب‏.‏

ومن تحريف الفعل ما جاء منه مقلوباً كقولهم في اضمحل‏:‏ امضحلن وفي أطيب‏:‏ أيطب وفي اكفهر‏:‏ اكرهف وما كان مثله‏.‏

فأما جذب وجبذ فأصلان لأن كل واحد منهما متصرف وذو مصدر كقولك‏:‏ جذب يجذب جذباً وهو جاذب وجبذ يجبذ جبذا وهو جابذ وفلان مجبوذ ومجذوب فإذا تصرفا لم يكن أحدهما بأن يكون أصلاً لصاحبه أولى من أن يكون وأما قولهم‏:‏ أيس فمقلوب من يئس‏.‏

ودليل ذلك من وجهين‏.‏

أحدهما أن لا مصدر لقولهم‏:‏ أيس‏.‏

فأما الإياس فمصدر أست‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وسموا الرجل إياساً كما سموه عطاء لان أست‏:‏ أعطيت‏.‏

ومثله عندي تسميتهم إياه عياضاً فلما لم يكن لأيس مصدر علمت انه لا أصل له وإنما المصدر اليأس‏.‏

فهذا من يئست‏.‏

والآخر صحة العين في أيس ولو لم يكن مقلوبا لوجب فيه إعلالها وأن يقال‏:‏ آس وإست كهاب وهبت وكان يلزم في مضارع أواس كأهاب فتلقب الفاء لتحركها وانفتاحها واواً كقولك في هذا أفعل من هذا من أممت‏:‏ هذا أوم من هذا هذا قول أبي الحسن وهو القياس‏.‏

وعلى قياس قول أبي عثمان أياس كقوله‏:‏ هذا أيم من هذا‏.‏

فصارت صحة الياء في أيس دليلاً على أنها مقلوبة من يئس كما صارت صحة الواو في عور دليلاً على أنها في معنى ما لا بد من صحته وهو اعور‏.‏

وهو باب‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ لم أبله‏.‏

وقد شرحناه في غير هذا‏.‏

تحريف الحرف قالوا‏:‏ لا بَلْ ولابَنْ وقالوا‏:‏ قام زيد فُمَّ عمرو كقولك‏:‏ ثم عمرو‏.‏

وهذا وإن كان بدلا فإنه ضرب من التحريف‏.‏

وقالوا في سوف أفعل‏:‏ سوأ فعل وسَفْ أفعل‏.‏

حذفوا تارة الواو رُبَ هَيْضَلٍ لجب لففتُ بهيضل وقال‏:‏ أن هالكٌ كلُّ منْ يحفى ونتعل وقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏‏.‏

وقال‏:‏ سقته الرواعد من صيف وإن من خريف فلن يعدما مذهب صاحب الكتاب أنه أراد‏:‏ وإما من خريف‏.‏

وقد خولف فيه‏.‏

  باب في فرق بين الحقيقة والمجاز

الحقيقة‏:‏ ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة‏.‏

والمجاز‏:‏ ما كان بضد ذلك‏.‏

وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي‏:‏ الاتساع والتوكيد والتشبيه‏.‏

فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة‏.‏

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس‏:‏ هو بحر‏.‏

فالمعاني الثلاثة موجودة فيه‏.‏

أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر حتى إنه إن احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء لكن لا يفضى علوت مطا جوادك يوم يوم وقد ثمد الجياد فكان بحرا وكأن يقول الساجع‏:‏ فرسك هذا إذا سما بغرته كان فجراً وإذا جرى إلى غايته كان بحراً ونحو ذلك‏.‏

ولو عَرِى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان‏.‏

ألا ترى أن لو قال رأيت بحراً وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه فلم يجز قوله لأنه إلباس وإلغاز على الناس‏.‏

وأما التشبيه فلأن جريه يجر ي في الكثرة مجرى مائه‏.‏

أما التوكيد فأنه شبه العرض بالجوهر وهو أثبت في النفوس منه والشبه في العرض منتفية عنه ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض وليس أحد دفع الجواهر‏.‏

وكذلك قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا‏}‏ هذا هو مجاز‏.‏

وفيه الأوصاف الثلاثة‏.‏

أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة‏.‏

وأما التشبيه فلأنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يجوز دخوله‏.‏

فلذلك وضعها موضعه‏.‏

وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر‏.‏

وهذا تعال بالغرض وتفخيم منه إذ صير إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل‏:‏ ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسنا جميلاً وإنما يرغب فيه بأن ينبه عليه ويعظم من قدره بأن يصوره في النفوس على أشرف أحواله وأنوه صفاته‏.‏

وذلك بأن يتخيل شخصاً متجسماً لا عرضاً متوهماً‏.‏

وعليه قوله‏:‏ تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير أي فباديه إلى الخافي يسير أي فباديه مضموماً إلى خافيه يسير‏.‏

وذلك أنه لما وصف الحب بالتغلغل فقد اتسع به ألا ترى أنه يجوز على هذا أن تقول‏:‏ شكوت إليها حبها المتغلغلا فما زادها شكواي إلا تدللا فيصف بالمتغلغل ما ليس في أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل إنما وصف يخص الجواهر لا الأحداث ألا ترى أن المتغلغل في الشيء لا بد أن يتجاوز مكاناً إلى آخر‏.‏

وذلك تغريغ مكان وشغل مكان‏.‏

وهذه أوصاف تخص في الحقيقة الأعيان لا الأحداث‏.‏

فهذا وج الاتساع‏.‏

وأما التشبيه فلأنه شبه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل‏.‏

وأما المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف إلى قوة الجوهرية‏.‏

وعليه قول الآخر‏:‏ قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا ذهوب بأعناق المئين عطاؤه عزوم على الأمر الذي هو فاعله وقول الآخر‏:‏ عمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال وقوله‏:‏ ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد جعل للشمس رداء وهو جوهر لأنه أبلغ في النور الذي هو العرض‏.‏

وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز‏.‏

فأما قولهم‏:‏ ملكتُ عبداً ودخلت داراً وبنيت حماماً فحقيقي هو ونحوه لا استعارة فيه ولا مجاز في هذه المفعولات لكن في الأفعال الواصلة إليها مجاز‏.‏

وسنذكره‏.‏

ولكن لو قال‏:‏ بنيت لك في قلبي بيتاً أو ملكت من الجود عبداً خالصاً أو أحللتك من رأيي وثقتي دار صدرق لكان ذلك مجازاً واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه على ما مضى‏.‏

ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة‏:‏ من الحذوف والزيادات والتقديم والتأخير‏:‏ والحمل على المعنى والتحريف‏.‏

ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما صح وطؤه‏.‏

فتقول على هذا‏:‏ أخذنا على الطريق الواطئ لبني فلان ومررنا بقوم موطوئين بالطريق و يا طريق طأ بنا بني فلان أي أدنا إليهم‏.‏

وتقول‏:‏ بني فلان بيته على سنن المارة رغبة في طئة الطريق بأضيافه له‏.‏

أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز‏.‏

ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه‏.‏

فشبهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم فكأنه هم‏.‏

وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم‏.‏

وذلك أن الطريق مقيم ملازم فأفعاله مقيمة معه وثابتة بثباته‏.‏

وليس كذلك أهل الطريق لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه فأفعالهم أيضاً كذلك حاضرة وقتاً وغائبة آخر‏.‏

فأين هذا مما أفعاله ثابتة مستمرة‏.‏

ولما كان هذا كلاماً الغرض فيه المدح والثناء اختاروا له أقوى اللفظين لأنه يفيد أقوى المعنيين‏.‏

وكذلك قوله سبحانه ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا‏}‏ فيه المعاني الثلاثة‏.‏

أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله‏.‏

وهذا نحو ما مضى ألا تراك تقول‏:‏ وكم من قرية مسؤولة‏.‏

وتقول‏:‏ القرى وتسآلك كقولك‏:‏ أنت وشأنك‏.‏

فهذا ونحوه اتساع‏.‏

وأما التشبيه فلأنها شبهت بما يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفاً لها‏.‏

وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة‏.‏

فكأنهم تضمنوا لأبيهم عله السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم‏.‏

وهذا تناه في تاصحيح الخبر‏.‏

أي لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب‏.‏

وكيف تصرفت الحال فالاتساع فاش في جميع أجناس شجاعة العربية‏.‏