فصل: باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


الجزء الثاني

  باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر

علّة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل‏.‏

ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر‏.‏

وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها‏.‏

وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحا‏.‏

وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه‏.‏

وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له وميزناه تمييزاً حسن في النفوس موقعه إلى أن أنشدني يوماً شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه‏:‏ أشئؤها وادأؤها بوزن أشععها وأدععها فجمع بين الهمزتين كما ترى واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغه‏.‏

نعم وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظ في الهمز له بضد ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما فكيف أن يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز ثم يحقق الهمزتين جميعاً‏!‏ هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماع‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ ودريئة ودرائئ ولفيئة ولفائئ وأنشدوا قوله‏:‏ فإنك لا تدري متى الموت جائئ إليك ولا ما يحدث الله في غد قيل‏:‏ أجل قد جاء هذا لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة ألا ترى أن عين فاعل مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة نحو قائم وبائع فاجتمعت همزة فاعل وهمزة لامه فصححها بعضهم في بعض الاستعمال‏.‏

وكذلك خطائئ وبابها‏:‏ عرضت همزة فعائل عن وجوب كهمزة سفائن ورسائل واللام مهموزة فصحت في بعض الأحوال بعد وجوب اجتماع الهمزتين‏.‏

فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما بأصلين‏.‏

وكيف تكونان أصلين وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا كلاهما أيضاً عن وجوب‏.‏

فالناطق بذلك بصورة من جر الفاعل أو رفع المضاف إليه في أنه لا أصل يسوغه ولا قياس يحتمله ولا سماع ورد به‏.‏

وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أورده‏.‏

وأنشدني أيضاً شعراً لنفسه يقول فيه‏:‏ كأن فاي‏.‏

‏.‏

‏.‏

فقوى في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبه‏.‏

وذلك أن ياء المتكلم تكسر أبداً ما قبلها‏.‏

ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو مررت بأخيك وفيك‏.‏

فكان قياسه أن يقول كأن في بالياء كما يقول كأن غلامي‏.‏

ومثله سواء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم‏:‏ كسرت في ولم يقل فاي وقد قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ إن أباي‏.‏

وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقول‏:‏ إن غلامي قائم وإنما تقول‏:‏ كأن غلامي بالكسر‏.‏

فكذلك تقول كأن في بالياء‏.‏

وهذا واضح‏.‏

ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله كأن فاي على قوله‏:‏ كأن فاه وكأن فاك وأنسى ما توجبه ياء المتكلم‏:‏ من كسر ما قبلها وجعله ياء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكان يجب على هذا أن تقول‏:‏ هذان غلامى فتبدل ألف التثنية ياء لأنك تقول هذا غلامي فتكسر الميم قيل هذا قياس لعمري غير أنه عارضه قياس أقوى منه فترك إليه‏.‏

وذلك أن التثنية ضرب من الكلام قائم برأسه مخالف للواحد والجميع ألا تراك تقول‏:‏ هذا وهؤلاء فتبني فيهما فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء المعرب فقلت‏:‏ هذان وهذين‏.‏

وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن رأيناه ممن جاءنا مجئه وتحلى عندنا حليته‏.‏

فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف فأصغر حجماً وأنزل قدراً أن يحكى في جملة ما يثنى‏.‏

ومع هذا فإذا كانوا قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلحن في كلامه فقال‏:‏ ‏(‏ أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل ‏)‏ ورووا أيضاً أن أحد ولاة عمر رضي الله تعالى عنه كتب إليه كتاباً لحن فيه فكتب إليه عمر‏:‏ أن قنع كاتبك سوطاً وروى من حديث علي رضي الله عنه مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ حتى قال الأعرابي‏:‏ برئت من رسول الله فأنكر ذلك علي عليه السلام ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه‏:‏ مالا يجهل موضعه فكان ما يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته‏.‏

وقد قال الفراء في بعض كلامه‏:‏ إلا أن تسمع شيئاً من بدوي فصيح فتقوله‏.‏

وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحقي في نحو يعدو وهو محموم ولم أسمعها من غيره من عقيل فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته‏.‏

وما أظن الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك الحرف الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في له نعل لا تطبي الكلب ريحها وإن جعلت وسط المجالس شمت وقول أبي النجم‏:‏ وجبلا طال معدا فاشمخر أشم لا يسطيعه الناس الدهر وهذا قد قاسه الكوفيون وإن كنا نحن لا نراه قياساً لكن مثل يعدو وهو محموم لم يرو عنهم فيما علمت‏.‏

فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه بل تأمل حال مورده وكيف موقعه من الفصاحة فاحكم عليه وله‏.‏

  باب اختلاف اللغات وكلها حجة

اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال ما يقبلها القياس ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله‏.‏

وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها‏.‏

لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها‏.‏

فأما رد إحداهما بالأخرى فلا‏.‏

أولا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف ‏)‏‏.‏

هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين‏.‏

فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا ألا تراك لا تقول‏:‏ مررت بك ولا المال لك قياساً على قول قضاعة‏:‏ المال له ومررت به ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياساً على لغة من قال‏:‏ مررت بكش وعجبت منكس‏.‏

حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال‏:‏ ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء‏.‏

فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن‏:‏ عن تقول‏:‏ عن عبد الله قائم وأنشد ذو الرمة عبد الملك‏:‏ أعن ترسمت من خرقاء منزلة قال الأصمعي‏:‏ سمعت ابن هرمة ينشد هارون الرشيد‏:‏ أعن تغنت على ساق مطوقة ورقاء تدعو هديلا فوق أعواد وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون‏:‏ تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون بكسر أوائل الحروف‏.‏

وأما كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث‏:‏ إنكش ورأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف فإذا وصلت أسقطت الشين‏.‏

وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً‏:‏ أعطيتكس ومنكس وعنكس‏.‏

وهذا في الوقف دون الوصل‏.‏

فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها إلا أن إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب لكنه كان يكون مخطئاً لأجود اللغتين‏.‏

فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه‏.‏

وكذلك إن قال‏:‏ يقول علي قياس من لغته كذا كذا ويقول على مذهب من قال كذا كذا‏.‏

وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيراً منه‏.‏

  باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه

اعلم أن المعمول عليه في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه‏.‏

فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها أو نطق ساكت من أهلها‏.‏

فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لم يزل من أهلها‏.‏

وهذا واضح‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فساداً بعد أن لم يكن فيها فيما علمت أن يكون فيها فساد آخر فيما لم تعلمه‏.‏

فإن أخذت به كنت آخذا بفاسد عروض ما حدث فيها من الفساد فيما علمت قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن ويجوز أن تعلمه بعد زمان كما علمت من حال غيرها فساداً حادثاً لم يكن فيما قبل فيها‏.‏

وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألا تطيب نفساً بلغة وإن كانت فصيحة مستحكمة‏.‏

فإذا كان أخذك بهذا مؤدياً إلى هذا رفضته ولم تأخذ به وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها‏.‏

وألا توجه ظنة إليها ولا تسوء رأيا في المشهود تظاهره من اعتدال أمرها‏.‏

وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال‏:‏ كيف تقول استأصل الله عرقاتهم ففتح أبو خيرة التاء فقال له أبو عمرو‏:‏ هيهات أبا خيرة لأن جلدك‏!‏ فليس لأحد أن يقول‏:‏ كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره لما حذرناه قبل ووصفنا‏.‏

فهذا هو القياس وعليه يجب أن يكون العمل‏.‏

  باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعيها ويعتمدها ام يلغيها ويطرح حكمها

أخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد قال‏:‏ سألت خليلاً عن الذين قالوا‏:‏ مررت بأخواك وضربت أخواك فقال‏:‏ هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس‏:‏ ياءس أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها‏.‏

قال يعني الخليل‏:‏ ومثله قول العرب من أهل الحجاز‏:‏ يا تزن وهم ياتعدون فروا من يوتزن ويوتعدون‏.‏

فقوله‏:‏ أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها يحتمل أمرين‏:‏ أحدهما أن يكون يريد‏:‏ أبدلوا الياء في ييأس والآخر‏:‏ أبدلوا الياء في أخويك ألفاً‏.‏

وكلاهما يحتمله القياس ههنا ألا ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك في لغة غيرهم ممن يقولها بالياء وهم أكثر العرب فجعلوا مكانها ألفا في لغتهم استخفافاً للألف فأما في لغتهم هم فلا‏.‏

وذلك أنهم هم لم ينطقوا قط بالياء في لغتهم فيبدلوها ألفاً ولا غيرها‏.‏

ويؤكد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها في النصب والجرياء‏.‏

فلما كان الأكثر هذا شاع على أسماع بلحرث فراعوه وصنعوا لغتهم فيه ولم تكن الياء في التثنية شاذة ولا دخيلة في كلام العرب فيقل الحفل بها ولا ينسب بلحرث إلى راعوها أو تخيروا للغتهم عليها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلعل الخليل يريد أن من قال‏:‏ مررت بأخواك قد كان مرة يقول‏:‏ مررت بأخويك كالجماعة ثم رأى فيما بعد أن قلب هذه الياء ألفاً للخفة أسهل عليه وأخف كما قد تجد العربي ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى قيل‏:‏ إن الخليل إنما أخرج كلامه على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف في موضع جر التثنية ونصبها لا على الانتقال من لغة إلى أخرى‏.‏

وإذا كان قولهم‏:‏ مررت بأخواك معللاً عندهم بالقياس فكان ينبغي أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أول أمرهم لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد فقوي قياسهم‏.‏

وكيف كانوا يكونون في ذلك على ضعف من القياس والجماعة عليه‏!‏ أفتجمع كافة اللغات على ضعف ونقص حتى ينبغ نابغ منهم فيرد لسانه إلى قوة القياس دونهم‏!‏ نعم ونحن أيضاً نعلم أن القياس مقتض لصحة لغة الكافة وهي الياء في موضع الجر والنصب ألا ترى أن في ذلك فرقاً بين المرفوع وبينهما وهذا هو القياس في التثنية كما كان موجوداً في الواحد‏.‏

ويؤكده لك أنا نعتذر لهم من مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور‏.‏

وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على صورة واحدة‏!‏ وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى لغة غيره‏.‏

وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيراً منتشرين وخلقاً عظيماً في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة‏.‏

فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته كما يراعي ذلك من مهم أمره‏.‏

فهذا هذا‏.‏

وإن كان الخليل أراد بقوله‏:‏ تقلب الياء ألفاً‏:‏ أي في ييأس فالأمر أيضاً عائد إلى ما قدمنا ألا ترى أنه إذا شبه مررت بأخواك بقولهم‏:‏ ييأس وياءس فقد راعى أيضاً في مررت بأخواك لغة من قال‏:‏ مررت بأخويك‏.‏

فالأمران إذاً صائران إلى موضع واحد‏.‏

ولهذا نظائر في كلامهم وإنما أضع منه رسماً ليرى به غيره بإذن الله‏.‏

وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قدماً تقول‏:‏ مررت بأخويك وأخواك جميعاً إلا أن الياء كانت أقيس للفرق فكثر استعمالها وأقام الآخرون على الألف أو أن يكون الأصل قبله الياء في الجر والنصب ثم قلبت للفتحة فيها ألفاً في لغة بلحرث بن كعب‏.‏

وهذا تصريح بظاهر قول الخليل الذي قدمناه‏.‏

ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من هذا جحر ضب خرب قال‏:‏ لأنه قد كثر عنهم الإتباع نحو شد وشروبابه فشبه هذا به‏.‏

ومن هذا حذف بني تميم ألف ها من قولهم هلم لسكون اللام في لغة أهل الحجاز إذا قالوا المم وإن لم يقل ذلك بنو تميم أو أن يكونوا حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها‏.‏

وأيا ما كان فقد نظر فيه بنو تميم إلى أهل الحجاز‏.‏

ومن ذلك قول بعضهم في الوقف رأيت رجلاً بالهمزة‏.‏

فهذه الهمزة بدل من الألف في الوقف في لغة من وقف بالألف لا في لغته هو لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة‏.‏

أفلا تراه كيف راعى لغة غيره فأبدل من الألف همزة‏.‏

  باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع

سألت أبا علي رحمه الله فقلت‏:‏ من أجرى المضمر مجرى المظهر في قوله أعطيتكمه فأسكن الميم مستخفاً كما أسكنها في قوله‏:‏ أعطيتكم درهما كيف قياس قوله على قول الجماعة‏:‏ أعطيته درهماً إذا اضمر الدرهم على قول الشاعر‏:‏ له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير إذا وقع ذلك قافية فقال‏:‏ لا يجوز ذلك في هذه المسألة وإن جاز في غيرها لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله‏:‏ كأنه صوت حاد لأن هذا أمر قد شاع عنهم وتعولمت فيه لغتهم بل لقرينة انضمت إليه ليست مع ذلك ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول‏:‏ أعطيتهه خلافاً على قول الجماعة‏:‏ أعطيتهوه‏.‏

فإن جعل الهاء الأولى روياً والأخرى وصلا لم يجز ذلك لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها وهاء الضمير لا تكون روياً إذا تحرك ما قبلها‏.‏

فإن قلت‏:‏ أجعل الثانية رويا فكذلك أيضاً لأن الأولى قبلها متحركة‏.‏

فإن قلت‏:‏ أجعل التاء روياً والهاء الأولى وصلا قيل‏:‏ فما تصنع بالهاء الثانية أتجعلها خروجاً هذا محال لأن الخروج لا يكون إلا أحد الأحرف الثلاثة‏:‏ الألف والياء والواو‏.‏

فإذا أداك تركيب هذه المسئلة في القافية إلى هذا الفساد وجب ألا يجوز ذلك أصلاً‏.‏

فأما في غير القافية فتتابعة جائز‏.‏

هذا محصول معنى أبي علي فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته‏.‏

وإذا كان كذلك وجب إذا وقع نحو هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى فيقال‏:‏ أعطيتهوه البتة فتكون الواو ردفاً والهاء بعدها روياً وجاز أن يكون بعد الواو روياً لسكون ما قبلها‏.‏

ومثل ذلك في الامتناع أن تضمر زيداً من قولك‏:‏ هذه عصا زيد على قول من قال‏:‏ وأشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ إلا لأن عيونه سيل واديها لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول‏:‏ هذه عصاه فتجمع بين ساكنين في الوصل فحينئذ ما تضطر إلى مراجعة لغة من حرك الهاء في نحو هذا بالضمة وحدها أو بالضمة والواو بعدها فتقول‏:‏ هذه عصاه فاعلم أو عصا هو فاعلم على قراءة من قرأ خذوهو فغلوهو وفألقى عصاهو ونحوه‏.‏

ونحو من ذلك أن يقال لك‏:‏ كيف تضمر زيداً من قولك‏:‏ مررت بزيد وعمرو فلا يمكنك أن تضمره هنا والكلام على هذا النضد حتى تغيره فتقول‏:‏ مررت به وبعمرو فتزيد حرف الجر لما أعقب الإضمار من العطف على المضمر المجرور بغير إعادة الجار‏.‏

وكذلك لو قيل لك‏:‏ كيف تضمر اسم الله تعالى في قولك‏:‏ والله لأقومن ونحوه لم يجز لك حتى تأتي بالباء التي هي الأصل فتقول‏:‏ به لأقومن كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر‏:‏ ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي وكإنشاده أيضاً‏:‏ رأى برقاً فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما وكذلك لو قيل لك‏:‏ أضمر ضارباً وحده من قولك‏:‏ هذا ضارب زيداً لم يجز لأنه كان يلزمك عليه أن تقول‏:‏ هذا هو زيداً فتعمل المضمر وهذا مستحيل‏.‏

فإن قلت فقد تقول‏:‏ قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح فتعمل في اليوم هو قيل‏:‏ في هذا أجوبة‏:‏ أحدها أن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا كذا عهد إلي أبو علي رحمه الله في هذا‏.‏

وهذا لفظه لي فيه البتة‏.‏

والآخر أنه يجوز في المعطوف مالا يجوز في المعطوف عليه‏.‏

ولا تقول على هذا‏:‏ ضربك زيداً حسن وهو عمرا قبيح لأن الظرف يجوز فيه من الاتساع ما لا يجوز في غيره‏.‏

وثالث‏:‏ وهو أنه قد يجوز أن يكون اليوم من قولك‏:‏ قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح ظرفا لنفس قبيح يتناوله فيعمل فيه‏.‏

نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف‏.‏

نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف‏.‏

نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً من هو وإن تعلق بما العامل فيه قبيح لأنه قد يكون العامل في الحال غير العامل في ذي الحال‏.‏

نحو قول الله تعالى ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً‏}‏ فالحال ههنا من الحق والعامل فيه ‏"‏ هو ‏"‏ وحده أو ‏"‏ هو ‏"‏ والابتداء الرافع له‏.‏

وكلاذينك لا ينصب الحال‏.‏

وإنما جاز أن يعمل في الحال غير العامل في صاحبها من حيث كانت ضرباً من الخبر والخبر العامل فيه غير العامل في المخبر عنه‏.‏

فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسئلتين‏.‏

وكذلك لو قيل لك‏:‏ أضمر رجلاً من قولك‏:‏ رب رجل مررت به لم يحز لأنك تصير إلى أن تقول‏:‏ ربه مررت به فتعمل رب في المعرفة‏.‏

فأما قولهم‏:‏ ربه رجلاً وربها امرأة فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة إذ كان إضماراً على غير تقدم ذكر ومحتاجاً إلى التفسير فجرى تفسيره مجرى الوصف له‏.‏

فلما كان المضمر لا يوصف ولحق هذا المضمر من التفسير ما يضارع الوصف خرج بذلك عن حكم الضمير‏.‏

وهذا واضح‏.‏

نعم ولو قلت‏:‏ ربه مررت به لوصفت المضمر والمضمر لا يوصف‏.‏

وأيضاً فإنك كنت تصفه بالجملة وهي نكرة والمعرفة لا توصف بالنكرة‏.‏

أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام وانتقاض الأوضاع‏.‏

فالزم هذه المحجة‏.‏

فمتى كان التصرف في الموضع ينقض عليك أصلاً أو يخالف بك مسموعاً مقيساً فالغه ولا

يسمع من العربي الفصيح

  باب في الشيء يسمع من العربي الفصيح لا يسمع من غيره

وذلك ما جاء به ابن أحمر في تلك الأحرف المحفوظة عنه‏.‏

قال أحمد بن يحيى‏:‏ حدثني بعض أصحابي عن الأصمعي أنه ذكر حروفاً من الغريب فقال‏:‏ لا أعلم أحداً أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي‏.‏

منها الجبر وهو الملك‏.‏

وإنما سمى بذلك أظن لأنه يجبر بجوده‏.‏

وهو قوله‏:‏ اسلم براووق حبيت به وانعم صباحا أيها الجبر ومنها قوله‏:‏ كأس رنوناة أي دائمة وذلك قوله‏:‏ بنت عليه الملك أطنابها كأس رنوناةٌ وطرف طمر ومنها الديدبون وهو قوله‏:‏ خلوا طريق الديدبون وقد فات الصبا وتنوزع الفخر ومنها مارية أي لؤلؤية لونها لون اللؤلؤ‏.‏

ومنها قوله البابوس وهو أعجمي يعني ولد ناقته‏.‏

وذلك قوله‏:‏ حنت قلوصي إلى بابوسها جزعا فما حنينك أم ما أنت والذكر وإنما العيش بربانه وأنت من أفنانه مقتفر ومنها المأنوسة وهي النار وذلك قوله‏:‏ كما تطاير عن مأنوسة الشرر قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضاً‏:‏ وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعي قال‏:‏ من قول ابن أحمر الحيرم وهو البقر ما جاء به غيره‏.‏

انتهت الحكاية‏.‏

وقد أنشد أبو زيد‏:‏ كأنها بنقا العزاف طاوية لما انطوى بطنها واخروط السفر مارية لؤلؤان اللون أودها طل وبنس عنها فرقد خصر وقال‏:‏ المارية‏:‏ البقرة الوحشية‏.‏

وقوله‏.‏

بنس عنها هو من النوم غير أنه إنما يقال للبقر‏.‏

ولم سيند أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر ولا هما أيضاً في ديوانه ولا أنشدهما الأصمعي فيما أنشده من الأبيات التي أورد فيها كلماته‏.‏

وينبغي أن يكون ذلك شيئاً جاء به غير ابن أحمر تابعاً له فيه ومتقيلاً أثره‏.‏

هذا أوفق لقول الأصمعي‏:‏ إنه لم يأت به غيره من أن يكون قد جاء به غير متبع أثره‏.‏

والظاهر أن يكون ما أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعي لا من متبع فيه ابن أحمر ولا غير متبع‏.‏

وجاء في شعر أمية الثغرور ولم يأت به غيره‏.‏

والقول في هذه الكلم المقدم ذكرها وجوب قبولها‏.‏

وذلك لما ثبتت به الشهادة من فصاحة ابن أحمر‏.‏

فإما أن يكون شيئاً أخذه عمن ينطق بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح كقوله في الذرحرح‏:‏ الذرحرح ونحو ذلك وإما أن يكون شيئاً ارتجله ابن أحمر فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به فقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها ولا سبقا إليها‏.‏

وعلى نحو من هذا قال أبو عثمان‏:‏ ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب‏.‏

وقد تقدم نحو ذلك‏.‏

وفي هذا الضرب غار أبو علي في إجازته أن تبنى اسماً وفعلاً وصفة ونحو ذلك من ضرب فتقول‏:‏ ضربب زيد عمرا وهذا رجل ضربب وضرنبي ومررت برجل خرجج وهذا رجل خرجج ودخلخل وخرجج أفضل من ضربب ونحو ذلك‏.‏

وقد سبق القول على مراجعتي إياه في هذا المعنى وقولي له‏:‏ أفترتجل اللغة ارتجالاً وما كان من جوابه في ذلك‏.‏

وكذلك إن جاء نحو هذا الذي رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت حاله فيه حاله‏.‏

لكن لو جاء شيء من لك عن ظنين أو متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته كان مردوداً غير متقبل‏.‏

فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم‏.‏

فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه في القياس فإن ذلك مجازه وجهان‏:‏ أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه على لغة آبائهم وإما أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته‏.‏

ولا أدفع أيضاً مع هذا أن يسمع الفصيح لغة غيره مما ليس فصيحاً وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت في كلامه ثم تسمعها أنت منه وقد قويت عندك في كل شيء من كلامه غيرها فصاحته فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها منه على فساد أصلها الذي وصل إليه منه‏.‏

وهذا موضع متعب مؤذ يشوب النفس ويشرى اللبس إلا أن هذا كأنه متعدر ولا يكاد يقع مثله‏.‏

وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يبهأ بها‏.‏

سألت مرة الشجري أبا عبد الله ومعه ابن عم له دونه في فصاحته وكان اسمع غصنا فقلت لهما‏:‏ كيف تحقران حمراء فقالا‏:‏ حميراء‏.‏

قلت‏:‏ فسوداء قالا‏:‏ سويداء‏.‏

وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيئان بالصواب‏.‏

ثم دسست في ذلك علباء فقال غصن‏:‏ عليباء وتبعه الشجري‏.‏

فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال‏:‏ آه‏!‏ عليبي ورام الضمة في الياء‏.‏

فكانت تلك عادة له إلا أنهم أشد استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة لأن بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها‏.‏

إلا أن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيع الإعراب ألا ترى أن أبا مهدية سمع رجلاً من العجم يقول لصاحبه زوذ فسأل أبو مهدية عنها فقيل له‏:‏ يقول له‏:‏ اعجل فقال أبو مهدية‏:‏ فهلا قال له‏:‏ حيهلك‏.‏

فقيل له‏:‏ ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية‏.‏

وحدثني المتنبي أنه حضرته جماعة من العرب منصرفه من مصر وأحدهم يصف بلدة واسعة فقال في كلامه‏:‏ تحير فيها العيون قال‏:‏ وآخر من الجماعة يحي إليه سراً ويقول له‏:‏ تحار تحار‏.‏

والحكايات في هذا المعنى كثيرة منبسطة‏.‏

ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يكون من غيره‏.‏

وذلك كقبول القاضي شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به ألا تراه يمضي الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحتها لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو وإن كان في المغيب غيره‏.‏

فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشك في لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئاً من لغته مخافة أن يكون فيها بعض ما يخفى عليك فيعترض الشك على يقينك وتسقط بكل اللغات ثقتك‏.‏

ويكفي من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابني نزار‏.‏

روينا عن الأصمعي أن رجلاً من العرب دخل على ملك ظفار وهي مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفاري فقال له الملك‏:‏ ثب وثب بالحميرة‏:‏ اجلس فوثب الرجل فانتدقت رجلاه فضحك الملك وقال لست عندنا عربيت من دخل ظفار حمر أي تكلم بكلام حمير‏.‏

فإذا كان كذلك جاز جوازاً قريباً كثيراً أن يدخل من هذه اللغة في لغتنا وإن لم يكن لها فصاحتنا غير أنها لغة عربية قديمة‏.‏

أوضعت هذه اللغة في وقت واحد باب في هذه اللغة‏:‏ أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة‏:‏ أتواضع هي أم إلهام‏.‏

وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعاً‏.‏

وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فزيد فيها شيئاً فشيئاً إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه لا يخالف الثاني الأول ولا الثالث الثاني كذلك متصلاً متتابعاً‏.‏

وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول‏:‏ إنه يحكى كلام أبيه وسلفه ويتوارثونه آخر عن أول وتابع عن متبع‏.‏

وليس كذلك أهل الحضر لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة‏.‏

غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب في حروفهم وتأليفهم إلا أنهم أخلوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح‏.‏

وهذا رأي أبي الحسن وهو الصواب‏.‏

وذهب إلى أن اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقاً على صحة وقياس ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفاً وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظاً‏.‏

ويجوز أيضاً أن يكون الموضوع الأول ضرباً واحداً ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار في الصحة مجرى الأول‏.‏

ولا يبعد عندي ما قال من موضعين‏:‏ أحدهما سعة القياس وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان‏.‏

والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني فلا عليك أيهما تقدم وأيهما تأخر‏.‏

فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به‏.‏

فأما أي الأجناس الثلاثة تقدم أعني الأسماء والأفعال والحروف فليس مما نحن عليه في شيء وإنما كلامنا هنا‏:‏ هل وقع جميعها في وقت واحد أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة وشيئاً بعد شيء وصدراً بعد صدر‏.‏

وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ها هنا فلنذكر ما عندنا في مراتب الأسماء والأفعال والحروف فإنه من أماكنه وأوقاته‏.‏

اعلم أن أبا علي رحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة أعني ما سبق منها ثم لحق به ما بعده إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل وإن كانت رتبة الاسم في النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل والفعل قبل الحرف‏.‏

وإنما يعني القوم بقولهم‏:‏ إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس وأسبق في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان‏.‏

فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل‏.‏

ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم وكذلك الحرف‏.‏

وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف فلا عليهم بأيها بدءوا أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع إذا المعاني لا تستغني عن واحد منهن‏.‏

هذا مذهب أبي علي وبه كان يأخذ ويفتي‏.‏

وهذا يضيق الطريق على أبي إسحاق وأبي بكر في اختلافهما في رتبة الحاضر والمستقبل‏.‏

وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره علماً بأن لا بد من كثرته الداعية إلى تغييره‏.‏

وهذا في المعنى كقوله‏:‏ وقد كان أيضاً أجاز أن يكون قد كانت قديماً معربة فلما كثرت غيرت فيما بعد‏.‏

والقول عندي هو الأول لأنه أدل على حكمتها واشهد لها بعلمها بمصاير أمرها فتركوا بعض الكلام مبنياً غير معرب نحو أمس وهؤلاء وأين وكيف وكم وإذ واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين فكان ذلك أخف عليهم من تجشمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه ألا ترى أن من لا يعرب فيقول‏:‏ ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول ولا يتجشم خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى فإن تخلل الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقلة الفرس ولا يقوى على ذلك من الخيل إلا الناهض الرجيل دون الكودن الثقيل قال جرير‏:‏ من كل مشترف وإن بعد المدى ضرم الرفاق مناقل الأجرال ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا‏:‏ اقتل فضموا الأول توقعاً للضمة تأتي من بعد‏.‏

وكذلك قالوا‏:‏ عظاءة وصلاءة وعباءة فهمزوا مع الهاء توقعاً لما سيصيرون إليه من طرح الهاء ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء‏.‏

وعلى ذلك قالوا‏:‏ الشيء منتن فكسروا أوله لآخره وهو منحدر من الجبل فضموا الدال لضمة الراء‏.‏

وعليه قالوا‏:‏ هو يجوءك وينبؤك فأثر المتوقع لأنه كأنه حاضر‏.‏

وعلى ذلك قالوا‏:‏ امرأة شمباء وقالوا‏:‏ العمبر ونساء شمب فأبدلوا النون ميماً مما يتوقع من مجيء الباء بعدها‏.‏

وعليه أيضاً أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو مرأيت واذهفى ذلك واصحمطرا‏.‏

فهذا كله وما يجري مجراه مما يطول ذكره يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد‏.‏

فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل وبعد علماً بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها فيجب لذلك تغييرها‏.‏

فإن قلت‏:‏ هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء لأنها عبارات عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال ثم جاءوا فيما بعد بالحروف لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها واستقلالها بأنفسها نحو إن زيداً أخوك وليت عمرا عندك وبحسبك أن تكون كذا قيل يمنع من هذا أشياء‏:‏ منها وجودك أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ومنطلق من انطلق ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله نحو ضرب فهو ضارب وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم‏.‏

فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقاً من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان وقد رأيت الاسم مشتقاً منه ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه‏.‏

وأيضاً فإن المصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت وكالاستحجار من الحجر وكلاهما اسم‏.‏

وأيضاً فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي‏.‏

وأيضاً فإن كثيراً من الأفعال مشتق من الحروف نحو قولهم‏:‏ سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي‏:‏ لولا وسألتك حاجة فلاليت لي أي قلت لي‏:‏ لا‏.‏

واشتقوا أيضاً المصدر وهو اسم من الحرف فقالوا‏:‏ اللالاة واللولاة وإن كان الحرف متأخراً في الرتبة عن الأصلين قبله‏:‏ الاسم والفعل‏.‏

وكذلك قالوا‏:‏ سوفت الرجل أي قلت له‏:‏ سوف وهذا فعل كما ترى مأخوذ من الحرفز ومن أبيات الكتاب‏:‏ لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيتها سوف العيوف لراح الركب قد قنع انتصب سوف العيوف على المصدر المحذوف الزيادة أي مساوفة العيوف‏.‏

وأنا أرى أن جميع تصرف ‏"‏ ن ع م ‏"‏ إنما هو من قولنا في الجواب‏:‏ نعم‏.‏

من ذلك النعمة والنعمة والنعيم والتنعيم ونعمت به بالا وتنعم القوم والنعمى والنعماء وأنعمت به له وكذلك البقية‏.‏

وذلك أن نعم أشرف الجوابين وأسرهما للنفس وأجلبهما للحمد ولا بضدها ألا ترى إلى قوله‏:‏ وإذا قلت نعم فاصبر لها بنجاح الوعد إن الخلف ذم وقال الآخر أنشدناه أبو علي‏:‏ أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله يروى بنصب البخل وجره‏.‏

فمن نصبه فعلى ضربين‏:‏ أحدهما أن يكون بدلاً من لا لأن لا موضوعة للبخل فكأنه قال‏:‏ أبي جوده البخل والآخر أن تكون لا زائدة حتى كأنه قال أبي جوده البخل لا على البدل لكن على زيادة لا‏.‏

والوجه هو الأول لأنه قد ذكر بعدها نعم ونعم لا تزاد فكذلك ينبغي أن تكون لا ههنا غير زائدة‏.‏

والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضاً لجرى ذكر لا في مقابلة نعم‏.‏

وإذا جازا للا أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله‏:‏ لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إلي لامت ذوو أحسابها عمراً كان الاكتفاء بلغظها من غير عمل له أولى بالجواز‏.‏

ومن جره فقال لا البخل فبإضافة لا إليه لأن لا كما تكون للبخل قد تكون للجود أيضاً ألا ترى أنه لو قال لك إنسان‏:‏ لا تطعم الناس ولا تقر الضيف ولا تتحمل المكارم فقلت أنت‏:‏ لا لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل فلما كانت لا قد تصلح للأمرين جميعاً أضيفت إلى البخل لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف تضيفها وهي مبنية ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين وهذا أدل شيء على البناء قيل‏:‏ الإضافة لا تنافي البناء بل لو جعلها جاعل سبباً له لكان أعذر من أن يجعلها نافية له ألا ترى أن المضاف بعض الاسم وبعض الاسم صوت والصوت واجب بناؤه‏.‏

فهذا من طريق القياس وأما من طريق السماع فلأنهم قد قالوا‏:‏ كم رجل قد رأيت فكم مبنية وهي مضافة‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ لأضربن أيهم أفضل وهي مبنية عند سيبويه‏.‏

فهذا شيء عرض قلنا فيه‏.‏

ثم لنعد إلى ما كنا عليه من أن جميع باب ‏"‏ ن ع م ‏"‏ إنما هو مأخوذ من نعم لما فيها من المحبة للشيء والسرور به‏.‏

فنعمت الرجل أي قلت له نعم فنعم بذلك بالا كما قالوا‏:‏ بجلته أي قلت له بجل أي حسبك حيث انتهيت فلا غاية من بعدك ثم اشتقوا منه الشيخ البجال والرجل البجيل‏.‏

فنعم وبجل كما ترى حرفان وقد اشتق منهما أحرف كثيرة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا كان نعم وبجل مشتقين من النعمة والنعيم والبجال والبجيل ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقاً منهما قيل‏:‏ الحروف يشتق منها ولا تشتق هي أبداً‏.‏

وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول الكلام الأول التي لا تكون مشتقة من شيء لأنه ليس قبلها ما تكون فرعاً له ومشتقة منه يؤكد ذلك عندك قولهم‏:‏ سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي لولا فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من لو و لا فلا يخلو هذا أن يكون لو هو الأصل أو لولا لا يجوز أن يكون لولا لأنه لو كان لولا هو الأصل كان لو محذوفاً منه والأفعال لا تحذف إنما تحذف الأسماء نحو يدٍ ودمٍ وأخٍ وأب وما جرى مجراه وليس الفعل كذلك‏.‏

فأما خذ وكل ومر فلا يعتد إن شئت لقلته وإن شئت لأنه حذف تخفيفا في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل نحو أخذ يأخذ وأخذ وآخذ‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكذلك أيضاً يدٌ ودمٌ وأخٌ وأبٌ وغدٌ وفمٌ ونحو ذلك ألا ترى أن الجميع تجده متصرفاً وفيه ما حذف منه وذلك نحو أيدٍ وأيادٍ ويدي ودماءٍ ودمي وأدماءٍ والدما في قوله فإذا هي بعظام ودما وإخوة وأخوة وآخاء وأخوان وآباء وأبوة وأبوان وغدواً بلاقع وأفواه وفويه وأفوه وفوهاء وفوه قيل‏:‏ هذا كله إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما حذف من الكلمة التي هي من أصله فدل ذلك على محذوفه فليست الحال فيه كحال خذ من أخذ ويأخذ‏.‏

وذلك أن أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغها فإنها تجري مجرى المثال الواحد حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوضوه منها أن أوجدوها في مصدره فقالوا‏:‏ إكراماً‏.‏

وكذلك بقية الباب‏.‏

وليس كذلك الجمع والواحد ولا التكبير والتصغير من الواحد لأنه ليس كل واحد من هذه المثل جارياً مجرى صاحبه فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه فإن قلت‏:‏ فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجوداً في الأفعال من معناها ولفظها‏.‏

وذلك نحو قولهم في الخبر‏:‏ أخوت عشرة وأبوت عشرة وأنشدنا أبو علي عن الرياشي‏:‏ وبشرة يأبونا كأن خباءنا جناح سماني في السماء تطير وقالوا أيضاً‏:‏ يديت إليه يداً وأيديت ودميت تدمى دمى وغدوت عليه وفهت بالشيء وتفوهت به‏.‏

فقد استعملت الأفعال من هذه الكلم كما استملت فيما أوردته‏.‏

قيل‏:‏ وهذا أيضاً ساقط عنا وذلك أنا إنما قلنا‏:‏ إن هذه المثل من الأفعال تجري مجرى المثال الواحد لقيام بعضها قيام بعض واشتراكها في اللفظ‏.‏

وليس كذلك أب وأخ ونحوهما ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة الفعل ولا باسم فاعل ولا مصدر ولا مفعول فيكون رجوع المحذوف منه في أبوت كأنه موجود في أب وإنما أب من أبوت كمدق ومكحلة من دققت وكحلت‏.‏

وكذلك القول في أخٍ ويدٍ ودمٍ وبقية تلك الأسماء‏.‏

فهذا فرق‏.‏

فقد علمت بما قدمناه وهضبنا فيه قوة تداخل الأصول الثلاثة‏:‏ الاسم والفعل والحرف وتمازجها وتقدم بعضها على بعض تارة وتأخرها عنه أخرى‏.‏

فلهذا ذهب أبو علي رحمه الله إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم والميسم يباشر به صفحة الموسوم لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوة والضعف في الأحوال‏.‏

وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف نحو هاهيت وحاحيت وعاعيت وجأجأت وحأحأت وسأسأت وشأشأت‏.‏

وهذا كثير في الزجر‏.‏

وقد كانت حضرتني وقتاً فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره‏.‏

  باب في اللغة المأخوذة قياساً

هذا موضع كأن في ظاهره تعجرفاً وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلاً عن صدور الأشياخ‏.‏

وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك لكني أنبهك على كثير من ذلك لتكثر التعجب ممن تعجب منه أو يستبعد الأخذ به‏.‏

وذلك أنك لا تجد مختصراً من العربية إلا وهذا المعنى منه في عدة مواضع ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع‏:‏ إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على أفعل ككلب وأكلب وكعب وأكعب وفرخ وأفرخ‏.‏

وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال نحو جبل وأجبال وعنق وأعناق وإبل وآبال وعجز وأعجاز وربع وأرباع وضلع وأضلاع وكبد وأكباد وقفل وأقفال وحمل وأحمال‏.‏

فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته منفرداً أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره‏.‏

لا بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه‏.‏

وذلك كأن يحتاج إلى تكسير الرجز الذي هو العذاب فكنت قائلاً لا محالة‏:‏ أرجاز قياساً على أحمال وإن لم تسمع أرجازا في هذا المعنى‏.‏

وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من قولهم‏:‏ وظيف عجر لقلت‏:‏ أعجار قياساً على يقظ وأيقاظ وإن لم تسمع أعجارا‏.‏

وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت‏:‏ أشباع وإن لم تسمع ذلك لكنك سمعت نطع وأنطاع وضلع وأضلاع‏.‏

وكذلك لو احتجت إلى تكسير دمثر لقلت‏:‏ دماثر قياساً على سبطر وسباطر‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ إن كان الماضي على فعل فالمضارع منه على يفعل فلو أنك على هذا سمعت ماضياً على فعل لقلت في مضارعه‏:‏ يفعل وإن لم تسمع ذلك كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه‏:‏ يضؤل وإن لم يسمع ذلك ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وتقبلوها وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا عرض ينتحيه الاعتماد ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة والآحاد والتثاني والجموع والتكابير والتصاغير ولما أقنعهم أن يقولوا‏:‏ إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون مضارعه كذا واسم فاعله كذا واسم مفعوله كذا واسم مكانه كذا واسم زمانه كذا ولا قالوا‏:‏ إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيء من ذلك فيوردوه لفظاً منصوصاً معيناً لا مقيساً ولا مستنبطاً كغيره من اللغة التي لا تؤخذ قياساً ولا تنبيهاً نحو دار وباب وبستان وحجر وضبع وثعلب وخزز لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين‏:‏ أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه نحو حجر ودار وما تقدم ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب المغنى عن المذهب الحزن البعيد‏.‏

وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات ثم أتلوه ما لا بدله من السماع والروايات فقالوا‏:‏ المقصور من حاله كذا ومن صفته كذا والممدود من أمره كذا ومن سببه كذا وقالوا في المذكر والمؤنث‏:‏ علامات التأنيث كذا وأوصافها كذا ثم لما أنجزوا ذلك قالوا‏:‏ ومن المؤنث الذي روى رواية كذا وكذا‏.‏

فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به‏.‏

فلما رأى القوم كثيراً من اللغة مقيساً منقاداً وسموه بمواسمه وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز‏.‏

ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده ونص ألفاظه التزموا وألزموا كلفته إذ لم يجدوا منها بداً ولا عنها منصرفاً‏.‏

ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياساً لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ونبهنا عليه كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون وعلى مثله وأوضاعه حاذون فأما هجنة الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس وخيس الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه ويستعملنا به فيما يدني منه ويوجب الزلفة لديه بمنه‏.‏

فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغي أن يعمل عليه ويؤخذ به فأمضه على ما أريناه وحددناه غير هائب له ولا مرتاب به‏.‏

وهو كثير وفيما جئنا به منه كاف‏.‏