فصل: باب النكاح بغير وليّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ نِكَاحِ الثَّيِّبِ:

(قَالَ:) قَدْ «بَلَّغَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهِيَ كَارِهَةٌ، وَهِيَ تُرِيدُ عَمَّ صِبْيَانِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَبُوهَا ثُمَّ زَوَّجَهَا عَمَّ وَلَدِهَا»، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: وَهِيَ تُرِيدُ عَمَّ صِبْيَانِهَا فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَبِ الثَّيِّبَ لَا يَنْفُذُ بِدُونِ رِضَاهَا، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْنَا فِي الْبِكْرِ؛ لِأَنَّ ضِدَّ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ مَفْهُومٌ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ وَلِأَنَّهُ خَصَّ الثَّيِّبَ بِالذِّكْرِ، وَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهَا بِخِلَافِهِ ثُمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا امْتَنَعَ عَنْ التَّزْوِيجِ زَوَّجَهَا الْإِمَامُ فَإِنَّ الْأَبَ هُنَا امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِمَّنْ أَرَادَتْ فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ إلَيْهَا لَا إلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعَاشِرُ الْأَزْوَاجَ فَإِنَّمَا تُحْسِنُ الْعِشْرَةَ مَعَ مَنْ تَخْتَارُهُ دُونَ مَنْ يَخْتَارُهُ الْوَلِيُّ (قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الثَّيِّبَ أَبُوهَا فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّكُوتِ أَنْ لَا يَكُونَ رِضًا؛ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الرِّضَا فِي الْبِكْرِ؛ لِضَرُورَةِ الْحَيَاءِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ فَلِهَذَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ، وَلَا إذَا بَلَغَهَا الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.باب النكاح بغير وليّ:

(قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ أَمَرَتْ غَيْرَ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَزَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا جَازَ النِّكَاحُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا لَا يَجُوزُ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا جَازَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا أَوْ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الزَّوْجَ إنْ كَانَ كُفُؤًا أَمَرَ الْقَاضِي الْوَلِيَّ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيزَهُ لَمْ يَنْفَسِخْ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُهُ فَيَجُوزُ.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ نِكَاحُهَا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ وَإِنْ أَبْطَلَهُ بَطَلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجَدِّدَ الْعَقْدَ إذَا أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍّ، وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ بِنْتَهَا أَوْ أَمَتَهَا أَوْ تَوَكَّلَتْ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْغَيْرِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ غَنِيَّةً شَرِيفَةً لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ رِضَا الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً خَسِيسَةً يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ أَمَّا مَنْ شَرَطَ الْوَلِيَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ أَبْيَنُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَمْنُوعُ فِي يَدِهِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ فَإِنْ تَشَاجَرَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ»، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَإِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا»، وَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَحْضُرُ النِّكَاحَ وَتَخْطُبُ ثُمَّ تَقُولُ اعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِنُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ فَلَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِنَفْسِهَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَظِيمٌ خَطَرُهُ كَبِيرٌ، وَمَقَاصِدُهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا أَظْهَرَ الشَّرْعُ خَطَرَهُ بِاشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ تُجْعَلُ مُبَاشَرَتُهُ مُفَوَّضَةً إلَى أُولِي الرَّأْيِ الْكَامِلِ مِنْ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَكَأَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ بِمَنْزِلَةِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا بِصِفَةِ الصِّغَرِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ عَقْدَهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تَعْقِلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِعِبَارَةِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حَقِّ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ إذَا وَضَعَتْ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَوْ ثَبَتَتْ لَهَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ بِالْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ تَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَلِيِّ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا لَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الْوَلِيَّ بِهِ.
، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ إلَيْهَا مِنْ جَانِبِ رَفْعِ الْعَقْدِ شَيْءٌ بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَضْلِ الْمَنْعُ حَبْسًا بِأَنْ يَحْبِسَهَا فِي بَيْتٍ وَيَمْنَعَهَا مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} وَبِهِ نَقُولُ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَالْأَيِّمُ: اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْأَيِّمُ مِنْ النِّسَاءِ كَالْأَعْزَبِ مِنْ الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْأَيِّمَ: اسْمٌ لِلثَّيِّبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ»، وَحَدِيثُ الْخَنْسَاءِ حَيْثُ «قَالَتْ: بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ أُمُورِ بَنَاتِهِمْ شَيْءٌ» «وَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اعْتَذَرَتْ بِأَعْذَارٍ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّ أَوْلِيَاءَهَا غُيَّبٌ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي أَوْلِيَائِك مَنْ لَا يَرْضَى بِي قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ أُمَّك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ بِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَكَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ» وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا زَوَّجَتْ ابْنَةَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ غَائِبٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: أَوَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ؟ وَاَللَّهِ لَتُمَلِّكَنَّهُ أَمْرَهَا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَوْا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ فَتْوَى الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ وَهَنِ الْحَدِيثِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، وَجَوَّزَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ.
ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ عَلَى الصَّغِيرَةِ أَوْ عَلَى الْمَجْنُونَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَوْا عَلَى هَذَا تُحْمَلُ أَوْ عَلَى بَيَانِ النَّدْبِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْعَقْدَ وَلَكِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يُزَوِّجُهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَلَمْ تُلْحِقْ الضَّرَرَ بِغَيْرِهَا فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ خَالِصُ حَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الْوَلِيَّ بِهِ، وَيُجْبَرُ الْوَلِيُّ عَلَى الْإِيفَاءِ عِنْدَ طَلَبِهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ نَفْسِهَا فَإِنَّمَا اسْتَوْفَتْ بِالْمُبَاشَرَةِ حَقَّهَا وَكَفَتْ الْوَلِيَّ الْإِيفَاءَ فَهُوَ نَظِيرُ صَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَاسْتَوْفَى كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ هُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ إلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي حَقِّ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ إنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا عِبْرَةٌ لَمَا كَانَ لَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ صَحِيحٌ عَلَى نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ مَا صَحَّ إقْرَارُهَا بِالنِّكَاحِ.
وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الْعَقْدَ وَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ لَمَا اُعْتُبِرَ رِضَاهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا عِنْدَ طَلَبِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَالصَّغِيرَةِ لَمَا وَجَبَ الْإِيفَاءُ بِطَلَبِهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ؛ لِنَوْعٍ مِنْ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ لِتُبَاشِرَ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهَا، وَيُعَدُّ هَذَا رُعُونَةً مِنْهَا وَوَقَاحَةً، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مُبَاشَرَتِهَا كَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ؛ لِنَوْعٍ مِنْ الْمُرُوءَةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَقَدْ أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِمْ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُودَ أَصْلِ عَقْدِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ أَصْلًا.
وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يَحْتَسِبُ فِي الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي، وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ فَكَانَ الْأَحْوَطُ سَدَّ بَابِ التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عَلَيْهَا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْأَحْوَطُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَصَدَ بِالْفَسْخِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لَهَا صَحَّ فَسْخُهُ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا لَمْ يَصِحَّ فَسْخُهُ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِجَازَةِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَقْدِ إذَا عَضَلَهَا وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ؛ لِتَمَامِ الِاحْتِيَاطِ فَكَمَا يَنْعَقِدُ بِإِجَازَتِهِ يَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِ، وَبَعْدَ مَا يَفْسَخُ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَهُ، وَلَكِنْ يُسْتَقْبَلُ الْعَقْدُ إذَا تَحَقَّقَ الْعَضْلُ مِنْ الْوَلِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَقُولُ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي تَوَارَثَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ تَصَرُّفَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ، وَمَعْنَى التَّوَقُّفِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَلِيِّ، وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا انْتَهَى النِّكَاحُ الصَّحِيحُ بِالْمَوْتِ فَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَوَارَثَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ مَوْقُوفًا، وَفِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى مِنْهَا صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ كَانَتْ قَصَّرَتْ فِي مَهْرِهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ إلَّا أَنَّ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ: وَإِذَا أَكْرَهَتْ الْمَرْأَةُ الْوَلِيَّ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَزَوَّجَهَا ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ فَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ، وَأَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يَرْضَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهَا فَإِنَّهُ بَدَلُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ إلَيْهَا وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ، وَتَصَرُّفُهَا فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهَا صَحِيحٌ فَلَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إنَّهَا أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَكُونُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَتَفَاخَرُونَ بِكَمَالِ مَهْرِهَا وَيُعَيَّرُونَ بِنُقْصَانِ مَهْرِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَهْرُ الْمُومِسَاتِ الزَّانِيَاتِ عَادَةً وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ:
وَمَا عَلَيَّ أَنْ تَكُونَ جَارِيَهْ تَمْشُطُ رَأْسِي وَتَكُونُ فَالِيَهْ

حَتَّى مَا إذَا بَلَغَتْ ثَمَانِيَهْ زَوَّجْتُهَا مَرْوَانَ أَوْ مُعَاوِيَهْ

أَخْتَانُ صِدْقٍ وَمُهُورٌ غَالِيَهْ، وَمَعَ لُحُوقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِنِسَاءِ الْعَشِيرَةِ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ تُزَوَّجُ مِنْهُنَّ بَعْدَ هَذَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فَإِنَّمَا يُقَدَّرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ هَذِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا يَذُبُّ عَنْ نِسَاءِ الْعَشِيرَةِ رِجَالُهَا فَكَانَ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ فَأَمَّا بَعْدَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ كَامِلًا صَارَ حَقُّ الْعَشِيرَةِ مُسْتَوْفًى، وَبَقَاءُ الْمَهْرِ يَخْلُصُ لَهَا فَإِنْ شَاءَتْ اسْتَوْفَتْ وَإِنْ شَاءَتْ أَبْرَأَتْ، وَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ الشَّرْعِ فِي تَسْمِيَةِ أَصْلِ الْمَهْرِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَ الْبَقَاءُ يَخْلُصُ لَهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ مَا سَمَّى لَهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ لِلصَّدَاقِ قِيَاسًا فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَعُودُ إلَيْهَا كَمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهَا، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِسُقُوطِ الْبَدَلِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا لَهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ أَصْلَ النِّكَاحِ بِهَذَا التَّفْرِيقِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ وَإِنْ وَلَّتْ الْمَرْأَةُ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُؤًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا زَادَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، وَهَذَا شَيْءٌ رَوَاهُ أَبُو رَجَاءِ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْته عَنْ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ؟ قَالَ: يُرْفَعُ أَمْرُهَا إلَى الْحَاكِمِ؛ لِيُزَوِّجَهَا قُلْت: فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ قَالَ: يُفْعَلُ مَا قَالَ: سُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُلْت: وَمَا فَعَلَ سُفْيَانَ قَالَ: تُوَلَّيْ أَمْرَهَا رَجُلًا لِيُزَوِّجَهَا ثُمَّ قَدْ صَحَّ رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَعَلَى ذَلِكَ تَنْبَنِي مَسَائِلُ الْجَامِعِ.
يَقُولُ فِي الْكِتَابِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْحَاكِمُ أَوْ الْوَلِيُّ عَقْدَهَا يَكُونُ هَذَا رَدًّا لِلنِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَصِحُّ التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنَّ هَذَا رَدٌّ لِلنِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَاشْتِبَاهِ الْأَخْبَارِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ نِكَاحِ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ:

(قَالَ:) وَإِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ لَمْ يَأْمُرْهُ فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا بِرِضَاهَا فَقَدِمَ الْغَائِبُ أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَجَازَ النِّكَاحَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ بَاطِلٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِي الْبُيُوعِ مَعْرُوفَةٌ، وَعِنْدَنَا تَتَوَقَّفُ الْعُقُودُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَوْ سَبَقَ الْإِذْنُ بِهِ مِمَّنْ يَقَعُ لَهُ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَهُ فِي الِانْتِهَاءِ جُعِلَ ذَلِكَ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَوْ عُقِدَ هَذَا الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ بِإِجَازَتِهِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلْعَقْدِ فَيَتِمُّ بِهِ الِانْعِقَادُ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْغَائِبِ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْتِزَامِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَتَرَاخَى الِالْتِزَامُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَتَثْبُتُ صِفَةُ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَيَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الْغَائِبَ وَكَّلَ هَذَا الْحَاضِرَ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ حَتَّى زَوَّجَهَا مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ إلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ كَانَ صَحِيحًا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى النَّجَاشِيِّ يَخْطُبُ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ مِنْهُ وَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا بِالسَّلْطَنَةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ كِتَابَهُ»، وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ لَنَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَأَنَّ الْخِطْبَةَ بِالْكِتَابِ تَصِحُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ مِمَّنْ نَأَى كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا فَإِنَّ الْكِتَابَ لَهُ حُرُوفٌ وَمَفْهُومٌ يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى مَعْلُومٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ؛ لِعِظَمِ خَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ}، وَقَدْ بَلَّغَ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الدِّينِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا تَامًّا فَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهَا فَبَلَغَهَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ كَمَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ».
وَلَوْ قَالَتْ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشُّهُودِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا كَلَامَهَا هُنَا لَا كَلَامَهُ، لَوْ كَانَتْ حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ قَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ وَقَالَتْ: إنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ الْخَاطِبِ بِإِسْمَاعِهَا إيَّاهُمْ إمَّا بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ أَوْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمَا حَيْثُ أَوْجَبَتْ الْعَقْدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلِهَذَا تَمَّ النِّكَاحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ إذَا قَالَ: هُنَاكَ بِعْت هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَمْ يَقْرَأْ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ كَمَا فِي الْحَاضِرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي الْبَيْعِ: أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ بِعْنِي كَذَا بِكَذَا فَقَالَ بِعْت: يَتِمُّ الْبَيْعُ، وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذَا فَقَالُوا: إنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْحَاضِرِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ: بِعْت لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الثَّانِي اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْبَيْعِ مِنْ لَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي.
بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَالْآخَرُ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَّيَا بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ لِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ بِبَغْتَةٍ وَفَلْتَةٍ فَقَوْلُهُ بِعْنِي يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَأَمَّا النِّكَاحُ يَتَقَدَّمُهُ خِطْبَةٌ وَمُرَاوَدَةٌ فَقَلَّمَا يَقَعُ بَغْتَةً فَقَوْلُهُ: زَوِّجْنِي يَكُونُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ.
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجِينِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ لِلْعَقْدِ إلَيْهَا، وَكَلَامُ الْوَاحِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ يَصْلُحُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُفَوَّضًا إلَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهَا زَوَّجْت نَفْسِي عَقْدًا تَامًّا، وَفِي بَابِ الْبَيْعِ كَلَامُ الْوَاحِدِ لَا يَصْلُحُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ بِعْت مِنْك شَطْرُ الْعَقْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الشَّطْرُ الثَّانِي لِيَصِحَّ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: مُرَادُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي شَرْطِ الشُّهُودِ دُونَ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ أَوْ نَقُولُ بِعْنِي قَوْلُهُ مِنْ الْحَاضِرِ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً فَأَمَّا مِنْ الْغَائِبِ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ بِعْنِي يَكُونُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الثَّانِي تَمَّ الْبَيْعُ فَإِنْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْكِتَابِ مَخْتُومًا إلَى الشُّهُودِ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانَةَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَجُوزُ، وَلَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ مَا فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ لَا نَفْسُ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: قَدْ يَشْتَمِلُ الْكِتَابُ عَلَى شَرْطٍ لَا يُعْجِبُهُمْ إعْلَامُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مَخْتُومًا يُؤْمَنُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَخْتُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ، وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْكِتَابَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِيهِ، وَإِذَا كَانَ مَخْتُومًا فَحِينَئِذٍ هَلْ يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الشُّهُودِ مَا فِيهِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا.
(قَالَ): وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى الِاثْنَيْنِ إذَا كَانَ وَلِيًّا لَهُمَا أَوْ وَكِيلًا عَنْهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ وَلِيَّهُمَا جَازَ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لَا يَجُوزُ أَمَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُبَاشِرُهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ قِيَاسٌ يُوَافِقُهُ الْأَثَرُ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ» وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَحْوِهِ يَسْتَدِلُّ فِي الْوَكِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي تَوْكِيلِ الْوَاحِدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ الْعَقْدِ بِعِبَارَتِهِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرُهُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ مَأْمُورُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْعًا فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْتُمْ فِي الْأَبِ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتَهُ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أَيْ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شُرَطَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَتَوْهُ بِشَيْخٍ مَعَ جَارِيَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهَا فَقَالَ: إنَّهَا ابْنَةُ عَمِّي، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ تَرْغَبُ عَنِّي فَتَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ: خُذْ بِيَدِ امْرَأَتِك، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَاقِدَ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، وَالْوَاحِدُ كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الزَّوْجَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لَا مُعَبِّرًا.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَإِذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَالِبًا مُطَالَبًا مُسَلِّمًا مُسْتَلِمًا مُخَاصِمًا مُخَاصَمًا، وَفِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْعَاقِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: بِبَيْعِ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ حُقُوقَ الْعَقْدِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا بَلَغَ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ دُونَ الْأَبِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَوَلَّاهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الْمَعْنَى إذَا بَاشَرَهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ قَدْ حَضَرَهُ أَرْبَعَةٌ مَعْنًى فَإِنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ وَصْفَانِ فِي وَاحِدٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُثَنَّى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِاعْتِبَارِ كُلِّ صِفَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ إذَا كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَفُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا، وَلَا وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ فُضُولِيٌّ بَاشَرَ النِّكَاحَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ فَبَلَغَ الزَّوْجَيْنِ فَأَجَازَاهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ.
وَجَازَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَلَمْ يُخَاطِبْ عَنْهَا أَحَدًا فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ تُخَاطِبْ عَنْهُ أَحَدًا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ قَبِلَ فُضُولِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْغَائِبِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ يَجُوزُ.
أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْوَاحِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ عَقْدًا تَامًّا بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَجَعَلَ هَذَا قِيَاسَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمَالٍ فَإِنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ فِيهِ لَمَّا كَانَ عَقْدًا تَامًّا عِنْدَ الْإِذْنِ كَانَ عَقْدًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَكَلَامُ الْوَاحِدِ فِيهِ يَكُونُ شَطْرَ الْعَقْدِ وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ أَصْلًا.
وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: طَلَّقْت فُلَانَةَ بِكَذَا أَوْ أَعْتَقْت عَبْدِي فُلَانًا بِكَذَا يَكُونُ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُمَا بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ فَإِذَا بَلَغَهُمَا فَقَبِلَا وَقَعَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِي النِّكَاحِ قَوْلُهُ: زَوَّجْت فُلَانَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَعْلِيقًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بِمَحْضَرٍ مِنْهَا: طَلَّقْتُك بِكَذَا فَقَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ لَمَا بَطَلَ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ مَا يَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عِبَارَتُهُ تَنْتَقِلُ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَ عِبَارَتِهِمَا فَإِنَّمَا يَكُونُ تَمَامُ الْعَقْدِ بِالْمُثَنَّى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُنَا لَا تَنْتَقِلُ عِبَارَتُهُ إلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فَإِذَا بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَانَ شَطْرُ الْعَقْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: تَزَوَّجْتُك، وَهِيَ حَاضِرَةٌ كَانَ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهَا بَعْدَ قِيَامِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَكَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ، وَهِيَ غَائِبَةٌ يَكُونُ هَذَا شَطْرَ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ بَيْنَ فُضُولِيَّيْنِ خَاطَبَ أَحَدُهُمَا عَنْ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ عَنْ الْمَرْأَةِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا جَازَ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ كَانَ كَلَامُهُمَا عَقْدًا تَامًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَا فُضُولِيَّيْنِ يَكُونُ كَلَامُهُمَا عَقْدًا مَوْقُوفًا (قَالَ:) وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ وَكِيلًا حَقُّ قَبْضِ مَهْرِهَا بِدُونِ أَمْرِهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعَبِّرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَكَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ شَيْءٌ كَمَا لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْمَعْقُودِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: الصَّدَاقُ عَلَى مَنْ أَخَذَ السَّاقَ إلَّا الْأَبَ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الْبَالِغَةِ فَإِنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
(قَالَ): وَإِذَا أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ رَسُولًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَبْلِيغُ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الْهُدْهُدَ رَسُولًا فِي تَبْلِيغِ كِتَابِهِ إلَى بِلْقِيسَ فَالْآدَمِيُّ الْمُمَيِّزُ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِذَلِكَ فَإِذَا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا سَأَلَكِ أَنْ تُزَوِّجِيهِ نَفْسَك فَأَشْهَدَتْ أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرِّسَالَةِ أَوْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهَا رِسَالَةَ الْمُرْسِلِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ، وَقَدْ سَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَهَا أَيْضًا فَكَانَ نِكَاحًا بِسَمَاعِهِمَا كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِذَا أَنْكَرَ الرِّسَالَةَ وَلَمْ تُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَانَ الْمُخَاطِبُ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِمَا صَنَعَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَطَبَهَا وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَقَالَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ؛ لِلزَّوْجِ إنْ أَقَرَّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْأَمْرِ وَالضَّمَانُ لَازِمٌ؛ لِلرَّسُولِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ زَعِيمًا بِالْمَهْرِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ، وَإِنْ جَحَدَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْأَمْرِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ، وَأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، وَأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَهُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: أَنَّ عَلَى الرَّسُولِ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ فَقِيلَ: مَا ذَكَرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرَ هُنَاكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ فَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفُرْقَةِ هُنَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَسَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فَيَبْقَى جَمِيعُ الْمَهْرِ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ؛ لِإِقْرَارِهِ وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَإِنْكَارُهُ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّدَاقِ بِزَعْمِ الْكَفِيلِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِإِسْقَاطِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يَكْسِبُهُ فَيُجْعَلُ مُسْقِطًا فِيمَا يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَنْ الْأَصِيلِ سُقُوطُهُ عَنْ الْكَفِيلِ فَلِهَذَا كَانَ الْكَفِيلُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الصَّدَاقِ.
(قَالَ:) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي، وَلَكِنْ أُزَوِّجُهُ، وَأَضْمَنُ عَنْهُ الْمَهْرَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ جَازَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَ الزَّوْجَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ انْتَفَى بِرَدِّ الزَّوْجِ النِّكَاحَ فَيَنْتَفِي حُكْمُهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الصَّدَاقِ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ حَقِيقَةً تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ (قَالَ:) وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا عَلَى مَهْرٍ قَدْ سَمَّاهُ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَجَازَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِخِلَافِ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُهُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْوَكِيلُ فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَقَامَ مَعَهَا بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ شَاءَ فَارَقَهَا وَكَانَ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ؛ لِلشُّبْهَةِ، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ.
(قَالَ:) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ ضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الزَّوْجُ النِّكَاحَ؛ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ فَعَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ إنْكَارَ الزَّوْجِ الْأَمْرَ بِالزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِهِ الْأَمْرَ أَصْلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ (قَالَ:) فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: أَنَا أَغْرَمُ الْمَهْرَ وَأُلْزِمُك النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا بَاشَرَ مِنْ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ أَمْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ، وَإِنْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الزِّيَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ صَدَاقٌ وَالصَّدَاقُ مُطْلَقًا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إلْزَامُ الزَّوْجِ بِذَلِكَ وَانْعَدَمَ مِنْهَا الرِّضَا بِدُونِهِ (قَالَ:) وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَضَمِنَ لَهَا عَنْهُ الْمَهْرَ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ لَا مُلْتَزِمٌ، وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَهُ بِالضَّمَانِ كَتَبَرُّعِهِ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْأَدَاءِ (قَالَ:) وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِنْ الْوَكِيلِ بِشُهُودٍ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّوْكِيلِ شُهُودٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَالشُّهُودَ مِنْ خَصَائِصِ شَرَائِطِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْبُضْعَ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ اُخْتُصَّ بِشُهُودٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَمَلَّكُ بِالتَّوْكِيلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِسَائِرِ الْعُقُودِ (قَالَ:) وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَى الرَّجُلِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَدَخَلَ بِهَا فَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، وَلَا تَتَّقِي فِي عِدَّتِهَا مَا تَتَّقِي الْمُعْتَدَّةُ، وَبِنَحْوِهِ قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَالْحِدَادُ: إظْهَارُ التَّحَزُّنِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْقَى بِالْعِدَّةِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ النَّفَقَةِ بِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ هُنَا؛ لِيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى الَّذِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى، وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعِوَضِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَ بِكَذِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَيْئًا، وَهَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْغَرُورِ لَا يُثْبِتُ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْبَرَهُ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ فِيهِ حَتَّى أَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ.
(قَالَ:) فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ أُمَّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ؛ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ أَيْضًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الَّتِي دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ تَحْرُمُ الْأُمُّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الْبِنْتِ، وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا لَمْ يَقْرُبْ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ فَلَوْ قَرُبَهَا كَانَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.