فصل: بابُ نَفَقَةِ المضاربِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ نَفَقَةِ المضاربِ:

(قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-:) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَعَمِلَ بِهِ فِي مِصْرِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، أَوْ الْمُسْتَبْضِعِ عَامِلٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لَمَّا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ لِأَجَلِ الصَّرْفِ، فَبَقِيَ مَا قَبْلَ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي مِصْرِهِ أَوْ فِي أَهْلِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَوَطِّنًا فِيهِ لَا لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُتَوَطِّنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمُضَارَبَةِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ، وَفِي الْمِصْرِ الَّذِي يَأْتِيهِ لِأَجَلِ الْعَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ وَسَفَرَهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ، ثُمَّ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِبْحٍ مَوْهُومٍ، عَسَى يَحْصُلُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ، بَلْ إنَّمَا رَضِيَ بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ، بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كِفَايَتِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَالْمُسْتَبْضِعِ، فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ، غَيْرُ طَامِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَجْلِهِ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِبَدَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَقِينٍ، فَأَمَّا هَذَا فَغَيْرُ مُتَبَرِّعٍ، وَلَا هُوَ مُسْتَوْجِبٌ بَدَلًا مَضْمُونًا، بَلْ حَقُّهُ فِي رِبْحٍ عَسَى يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِإِزَاءِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ الْمَشَقَّةِ، شَيْءٌ مَعْلُومٌ.
وَذَلِكَ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ، وَالشَّرِيكُ إذَا سَافَرَ بِمَالٍ الشَّرِكَةِ، فَنَفَقَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ.
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَالْمُضَارِبُ كَذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ عَنْ أَشْغَالِهِ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا فَرَّغَتْ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا بِالْمُقَامِ فِي بَيْتِهِ، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَمَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ نَفَقَتَهُ فِيهِ.
وَنَفَقَتُهُ، طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَدَهْنُهُ، وَغَسْلُ ثِيَابِهِ، وَرُكُوبُهُ فِي سَفَرِهِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَتَاهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي السَّفَرِ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّ دَهْنَهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً، فَتَكُونُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ نَادِرَةً، وَالثَّابِتُ عُرْفًا لَا يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ نَادِرٌ.
وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إذَا سَافَرَ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً، وَذَلِكَ فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَقُّ نَفَقَةُ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، كَمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حُسِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَفَقَةُ مِثْلِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُ ثِيَابٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ غَيْرُهُ، رَدَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ قَدْ انْتَهَى بِرُجُوعِهِ إلَى مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ، كَالْحَاجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَكَالْمَوْلَى إذَا بَوَّأَ أُمَّتَهُ مَعَ زَوْجِهَا بَيْتًا، ثُمَّ شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ، كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَّا الدَّوَاءُ وَالْحِجَامَةُ وَالْكُحْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُدَّةَ سَفَرِهِ فِي حَاجَتِهِ، كَمَالِ نَفْسِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا يَصْرِفُ فِي النَّفَقَةِ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
وَثَمَنُ الدَّوَاءِ، وَأُجْرَةُ الْحَجَّامِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَاجِ لَيْسَ مِنْ النَّفَقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؟ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، بَلْ هِيَ نَادِرَةٌ وَالنَّادِرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ.
وَكَذَلِكَ جَارِيَةُ الْوَطْءِ وَالْخِدْمَةِ، لَا يُحْتَسَبُ بِثَمَنِهَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بَلْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّهِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ؛ وَلِأَنَّ مَا قَصَدَ لِشِرَائِهَا، لَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَخْدُمُهُ فِي سَفَرِهِ وَفِي مِصْرِهِ الَّذِي أَتَاهُ لِيَخْبِزَ لَهُ وَيَطْبُخَ وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَيَعْمَلَ لَهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، اُحْتُسِبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ احْتَاجَ إلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِذَا عَمِلَ لَهُ أَجِيرُهُ، تَفَرَّغَ هُوَ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُضَارَبَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ غِلْمَانٌ لَهُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ، كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ، وَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ فِي الْمَالِ كَمَا يَعْمَلُ هُوَ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهُ عَلَى إنْسَانٍ يَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ خَادِمِهِ كَالْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي عَمَلِهَا لِلزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَى غِلْمَانٍ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ مَعَهُ، فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمُضَارِبِ دَوَابُّ يُحْمَلُ عَلَيْهَا مَتَاعُ الْمُضَارَبَةِ إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ، كَانَ عَلَفُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَادَامَ فِي عَمَلِهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْعَلَفِ تَتَقَوَّى عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ، وَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ، بَدَأَ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَأُخْرِجَ مِنْ الْمَالِ، وَجُعِلَتْ النَّفَقَةُ مِمَّا بَقِيَ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهُوَ الرِّبْحُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْبَاقِي وَبَاعَ وَرَبِحَ، اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ يُجْعَلُ كَالتَّاوِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ يَبْقَى فِي الْكُلِّ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ، فَيُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ.
وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَيْهِ، فَخَرَجَ إلَى السَّوَادِ يَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ فِي طَرِيقِهِ وَمُقَامُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا وَمَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَارَقَ وَطَنَهُ لِعَمَلِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا، فَيَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ، إلَّا أَنَّ الْمِصْرَ عِظَمُ أَهْلِهِ فِي أَقْصَاهُ، وَالْمَقَامُ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَكَانَ يُقِيمُ هُنَاكَ لِيَتَّجِرَ وَلَا يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، فَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُقِيمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمِصْرِ يَكُونُ مُقِيمًا فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهِ؟ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَقَامَهُ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ لَوْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْعَمَلِ إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ، وَيَعُودُ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبِيتَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِالْكُوفَةِ وَأَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ، وَوَطَنُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَخَرَجَ بِالْمَالِ مِنْ الْكُوفَةِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا دَامَ بِهَا، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا رَاجِعًا إلَى الْكُوفَةِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا فِي الْبَلْدَتَيْنِ فَهُوَ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ، وَإِقَامَتُهُ فِي أَهْلِهِ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، فَفِي الْبَلْدَتَيْنِ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْمُضَارِبِ بِالْكُوفَةِ، وَأَهْلُ رَبّ الْمَالِ بِالْبَصْرَةِ، فَخَرَجَ بِالْمَالِ إلَى الْبَصْرَةِ مَعَ رَبّ الْمَالِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، فَنَفَقَتُهُ فِي طَرِيقِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَفِي رُجُوعِهِ إلَى الْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِالْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، إذْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ؛ لِتَكُونَ الْبَصْرَةُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ لَهُ، وَيَسْتَوِي إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ فِي بَلَدِهِ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَبِهَذِهِ النِّيَّةِ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنًا مُسْتَعَارًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ أَوْ تَأَهَّلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنُ إقَامَتِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَهُمَا بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَتْ الْكُوفَةُ بِوَطَنٍ لِلْمُضَارِبِ، لَمْ يُنْفِقْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ مَا دَامَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِالْكُوفَةِ- عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ- لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا إلَى وَطَنِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فِي تِجَارَتِهِ، أَنْفَقَ بِالْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَافَرَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَصَارَتْ الْكُوفَةُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِهَا كَانَ مُسْتَعَارًا، وَقَدْ انْتَقَضَ بِالسَّفَرِ، فَرُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكُوفَةِ وَذَهَابُهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا امْرَأَةً وَاِتَّخَذَهَا وَطَنًا، زَالَتْ نَفَقَتُهُ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِهَا بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا وَاِتَّخَذَهَا دَارًا لِأَجْلِ أَهْلِهِ لَا لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ.
وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، فَأَعَانَهُ رَبُّ الْمَالِ بِغِلْمَانِهِ يَعْمَلُونَ مَعَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، أَوْ أَعَانَهُ بِدَوَابِّهِ لِحَمْلِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَشْتَرِي بِالْمُضَارَبَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَفْسُدُ بِهَذَا، كَمَا لَوْ أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَنَفَقَةُ الْغِلْمَانِ وَالدَّوَابِّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ وَعَلَفَ دَوَابِّهِ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَوْ سَافَرَ مَعَهُ لِيُعِينَهُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، لَمْ يَسْتَوْجِبْ نَفَقَةً فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا السَّبَبِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ بِخِلَافِ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ وَدَوَابِّهِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ نَفَقَةً فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا سَافَرَ لِأَجْلِهِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غِلْمَانِ رَبّ الْمَالِ وَدَوَابِّهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبّ الْمَالِ، ضَمِنَهُ مِنْ مَالِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى وَجْهٍ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ صَرْفُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِذَلِكَ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ حُسِبَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ إلَى مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ بِمَنْزِلَةِ صَرْفِهِ إلَيْهِ، فَيُحْسَبُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَفِي الْأَصْلِ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَةَ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ تَلْحَقُ الْمُضَارِبَ فِي سَفَرِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَذَلِكَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَنَفَقَةُ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ لَوْ لَمْ أَجْعَلْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى اعْتِبَارُ نَفَقَةِ هَؤُلَاءِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى عَبْدِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مِصْرٍ فَيَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ، فَخَرَجَ بِهِ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبْدِهِ كَنَفَقَتِهِ، وَهُوَ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَذَلِكَ عَبْدُهُ إذَا خَرَجَ.
(أَلَا تَرَى) أَنِّي لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِعَانَتِهِ وَإِذْنِهِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَا تَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَجَ رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَانَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْفَقَ نَفْسَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَبْضِعِ نَفَقَةٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ مُتَبَرِّعٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُسَافِرُ عَادَةً لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ، وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَبّ الْمَالِ فَعَمِلَ بِهِ، فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا؛ كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ، إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا، وَلَا نَفَقَةَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضِعِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ، فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً، فَسَافَرَ الْآخَرُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ بَعْدَ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ.
لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً، وَيَقُومَ هُوَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ رَبِّ الْمَالِ، فَكَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِي سَفَرِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَخَرَجَ الْمُضَارِبُ فِيهَا وَفِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ بِهَا وَيَبِيعَ، فَإِنَّ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، جُزْءٌ مِنْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجْلِ مَالِ نَفْسِهِ، احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، فَيَنْظُرُ إلَى مَنْفَعَةِ خُرُوجِهِ وَعَمَلِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، فَيَقْسِمُ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَغْرَمَ مُقَابِلٌ بِالْمَغْنَمِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَخَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ خَرَجَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْخَلْطِ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ الْمَالَيْنِ بَعْدَ الْخَلْطِ؛ كَإِخْرَاجِهِ قَبْلَ الْخَلْطِ، وَكُلُّ مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ فَلَا نَفَقَةَ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ؟ وَالْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِالصَّحِيحَةِ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ بَدَلًا مَضْمُونًا بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ حُسِبَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَأُخِذَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ دَيْنٍ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ مَدْيُونِهِ، وَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَفِي هَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الزِّيَادَةِ.
وَإِذَا أَنْفَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا حَتَّى رَجَعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِهِ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانُ مَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ فَإِنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِأَنْ لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَفَرَهُ لَا يَكُونُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ.
فَالتَّاجِرُ لَا يَشْتَرِي بِالْمَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَأْتِيهِ لِلتِّجَارَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ مَا يَرْبَحُ عَلَيْهِ اشْتَرَى، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْفَقُ الْوَجْهَيْنِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ، لَا يَخْرُجُ هُوَ بِهِ، مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ.
وَإِذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْعَاشِرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْعَاشِرُ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا- لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَاوِيًا أَوْ مَأْخُوذًا بِحَقٍّ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ.
وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْعَاشِرَ بِغَيْرِ إلْزَامٍ مِنْ الْعَاشِرِ لَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى.
وَكَذَلِكَ إنْ صَانَعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى بِاخْتِيَارِهِ إلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا أَعْطَى، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: الْجَوَابُ فِي زَمَانِنَا بِخِلَافِ هَذَا.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى سُلْطَانٍ طَمِعَ فِيهِ وَقَصَدَ أَخْذَهُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ.
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا صَانَعَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْإِصْلَاحَ بِهَذِهِ الْمُصَانَعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أَخَذَ الطَّامِعُ جَمِيعَ الْمَالِ، فَدَفَعَ الْبَعْضَ لِإِحْرَازِ مَا بَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ فِي زَمَانِنَا، وَالْأَمِينُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ يَكُونُ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ الْمُودَعِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ أَجْنَبِيًّا.
فَأَمَّا فِي زَمَانِهِمْ فَكَانَتْ الْقُوَّةُ لِسَلَاطِينِ الْعَمَلِ، فَكَانَ الْأَمِينُ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْأَمْرِ إلَيْهِمْ؛ لِيَدْفَعُوا الظَّالِمَ عَنْ الْأَمَانَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: إذَا صَانَعَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ مَتَاعًا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا، فَنَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَلْدَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، أَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا، مَا بَقِيَ الْمَالُ نَقْدًا فِي يَدِهِ، فَإِذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصِّحَّةِ، وَالْحَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ كَحَالِ الْعَقْدِ فِي انْتِفَاءِ صِفَةِ اللُّزُومِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَانْعِدَامِ حَقِّ الْمُضَارِبِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ.
فَأَمَّا بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ؛ فَمِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ.
فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ رَفْعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ التَّقَيُّدَ فِيمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ؛ لَهُ حَقُّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْمَالِ عُرُوضًا، لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَمَّا صَارَ مُسْتَفَادًا لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَهُوَ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، عَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِمُطْلَقِ الْمُسَافَرَةِ لِدَلَالَةِ اسْمِ الْعَقْدِ، فَالْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ لِمُرَاعَاةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ مِنْ حِفْظِهِ الْمَالَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ يَنْعَدِمُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ يَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ حِينَ صَارَ الْمَالُ عَرَضًا؛ لِأَنَّ رِبْحَهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ، إمَّا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ، فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُضَارِبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْبَلْدَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِي أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، وَهَذَا مَمْلُوكٌ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ، ضَمِنَهُ لِلْخِلَافِ، وَالْأَمِينُ مَتَى خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا، كَانَ ضَامِنًا، وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى الْمَالِ، بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ حَدَثًا حَتَّى رَدَّهُ إلَى الْبَلَدِ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ، وَالْعَقْدُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، فَيَعُودُ أَمِينًا كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَنْهَهُ، وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَالِ مَاتَ، وَالْمُضَارَبَةُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَيْنٌ، أَوْ مَتَاعٌ فَسَافَرَ بِهِ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالْمَوْتِ انْتَقِلْ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِسَفَرِهِ بِهِ قَطُّ، وَمَا كَانَ مِنْ رِضَا رَبِّ الْمَالِ بِهِ، قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، بِمَنْزِلَةِ نَهْيِهِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إذَا بَلَغَهُ، فَالنَّهْيُ لَا يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَوْتِ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ.
وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ، فَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ سَافَرَ بِالْمَتَاعِ حَتَّى أَتَى مِصْرًا، فَنَفَقَةُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ قَدْ انْتَهَى بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُضَارِبُ، وَبِاعْتِبَارِهِ كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَفَرِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَتَاعِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى يَبِيعَهُ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ بَاعَهُ؛ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ؛ لِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَقِّ الْمُضَارِبِ.
وَقَدْ سَبَقَ ثُبُوتُ حَقِّهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَلَا يَبْطُلُ لِحَقِّهِمْ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ خَرَجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي سَفَرِهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ الْمَتَاعِ؛ كَمَا هُوَ عَادَةُ التُّجَّارِ فَهُوَ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى السَّفَرِ، إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ مُوَافِقٌ لَا مُخَالِفٌ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ.
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مَاتَ وَالْمُضَارِبُ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ غَيْرِ مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، وَالْمُضَارَبَةُ مَتَاعٌ فِي يَدِهِ فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا بِالْمَالِ بَعْدَ مَا انْعَزَلَ عَنْهُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعٍ آمِنٍ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا سَفَرُهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَنَفَقَتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ مِصْرَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَفَرٌ لَا يَجِدُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ بُدًّا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ لِيُسَلَّمَ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَالْعَقْدُ يَبْقَى لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ كَمَا إذَا مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَهِيَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، أَوْ مَاتَ الْمُكَارِي لِلدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ.
بِخِلَافِ سَفَرِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَفِي يَدِهِ مَتَاعٌ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُ مَا هَلَكَ مِنْ الْمَتَاعِ فِي سَفَرِهِ، وَأَجْعَلُ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا نَهَاهُ فِي الْمِصْرِ، فَكَمَا أَنَّ نَهْيَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ إيفَاءً لِحَقِّ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ.
وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَأَقْبَلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ، فَهَلَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ مِصْرَهُ، فَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ هُنَاكَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ، كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا، وَهُوَ بِمَا صَنَعَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْخِلَافِ، فَلَا يَضْمَنُهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى قَدِمَ، وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى سَفَرِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ نَهْيِهِ، إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا، فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَقْدِ بِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَالِ هُنَا، فَهَذَا الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ، وَالْمُودَعُ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِرَبِّ الْمَالِ؟ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا؟ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا، فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ هُنَاكَ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؟ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَبَاعَ، فَصَارَ الْمَالُ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ أَبَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ، فَيُجْبَرُ عَلَى إكْمَالِ الْعَمَلِ كَالْأَجِيرِ، وَذَلِكَ بِالتَّقَاضِي حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ، فَالْمُضَارِبُ كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفِ، إذَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ تَصَرُّفِهِ شَيْئًا، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَقَاضِي الثَّمَنِ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَكَذَلِكَ هُنَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إذَا لَمْ يُعَامِلْهُمْ، وَلَيْسَ فِي امْتِنَاعِ الْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ عَلَيْهِمْ إلَّا التَّعَنُّتُ، وَالْقَصْدُ إلَى إتْوَاءِ مَالِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ، فَلَا بُدَّ لِلْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَيَقْبِضَ، فَإِذَا قَبَضَ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ رَبَّ الْمَالِ، لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، ثُمَّ يَقْبِضُ ثَانِيًا مِثْلَهُ فَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَ الْمَالِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمُضَارِبِ إلَى تَقَاضِي شَيْءٍ مِنْهُ؛ إذْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْمَالِ، فَيُؤْمَرُ أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْوَكِيلُ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَهُوَ فِي مِصْرِهِ، فَأَنْفَقَ فِي تَقَاضِيهِ، وَخُصُومَةِ أَصْحَابِهِ، وَطَعَامِهِ، وَرُكُوبِهِ، نَفَقَةً لَمْ يَرْجِعْ بِهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَا دَامَ يَتَصَرَّفُ فِي مِصْرِهِ، لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ يُحْيِي حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ الْعُرُوضَ فِي مِصْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَائِبًا عَنْ مِصْرِ الْمُضَارِبِ، فَأَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ، وَتَقَاضِيهِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، حُسِبَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ وَسَعْيَهُ كَانَ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ؛ كَمَا لَوْ سَافَرَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ؛ بِأَنْ لَا تَصِلَ يَدُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ إلَى نَفَقَةٍ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ كَالْوَصِيِّ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُؤَدِّي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ عَلَى الدَّيْنِ، فَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلَوْ اسْتَوْجَبَ الزِّيَادَةَ، إنَّمَا يَسْتَوْجِبُهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِإِصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلِمَنْفَعَةِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ.
وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، وَاسْتَأْجَرَ مَا يَرْكَبُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ حَتَّى تَوِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْمَالِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَبِهَلَاكِ الْمَالِ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ؛ كَالْعَبْدِ الْجَانِي، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ.
وَمَالُ الزَّكَاةِ إذَا هَلَكَ، لَا تَبْقَى الزَّكَاةُ وَاجِبَةً بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ مَالَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ ثَمَنُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَأُجْرَةُ الدَّابَّةِ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِالْتِزَامِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْمُضَارَبَةِ، فَضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَنْفُذَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ عُهْدَةِ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ فِي الْأُجْرَةِ فِيمَا تَعَذَّرَ إيفَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ.
فَأَمَّا فِيمَا يَشْتَرِي أَوْ يَسْتَأْجِرُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِيمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرْجِعُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مَالٍ آخَرَ لِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
وَإِذَا ادَّانَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ، وَرَبِحَ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَتَقَاضَاهُ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُتَقَاضِي.
فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ التَّقَاضِي لِلْمُضَارِبِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ ثَابِتٌ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ، وَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ، أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَقَاضٍ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ، فَرَبُّ الْمَالِ فِيمَا يَسْأَلُ يَقْصِدُ إسْقَاطَ حَقِّ الْمُضَارِبِ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ.
فَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَنَا أَتَقَاضَاهُ، وَتَكُونُ نَفَقَتِي مِنْهُ حَتَّى أَقْبِضَهُ.
وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَحِلْنِي بِهِ أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ هُنَا وَلَا حَقَّ، فَهُوَ بِمُطَالَبَتِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَتَقَاضَى بِنَفْسِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَتَاعًا، وَفِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ، فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَجِدَ بِهِ رِبْحًا كَثِيرًا، وَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنْ كَانَ لَا فَضْلَ فِيهِ، أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُعْطِيَهُ رَبَّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ فِي الْحَالِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ مَالِهِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ عَسَى يَحْصُلُ لَهُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَالِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا، وَالْمَتَاعُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَالْمُضَارِبُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ حَيْلُولَةً بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ مَالِهِ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ حِينَ عَاقَدَهُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، إلَّا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ هُنَا أَنْ يُعْطِيَ رَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَتَاعِ بِرَأْسِ مَالِهِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيُمْسِكُ رُبْعَ الْمَتَاعِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقٌّ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ شَرِيكِهِ، وَكَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ، يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ، وَالطَّرِيقُ الَّذِي يَعْتَدِلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً، وَأَمَرَ الْمُضَارِبَ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَاسْتَأْجَرَ الْمُضَارِبُ بِبَعْضِهِ أَرْضًا بَيْضَاءَ، وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ طَعَامًا فَزَرَعَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الزِّرَاعَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ يَقْصِدُونَ بِهِ تَحْصِيلَ النَّمَاءِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ».
وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ، يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا شَجَرًا أَوْ أَرْطَابًا، فَقَالَ: ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ.
فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ يَقْصِدُونَ بِهِ اسْتِنْمَاءَ الْمَالِ.
وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ.
فَأَخَذَ الْمُضَارِبُ نَخْلًا وَشَجَرًا وَأَرْطَابًا مُعَامَلَةً، عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ بَعْدُ مِنْ ذَلِكَ، فَنِصْفُهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَنِصْفُ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَعَمِلَ، وَأَنْفَقَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ النَّخْلِ وَالْمُضَارِبِ نِصْفَيْنِ، وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ، وَفِي عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ الْعَامِلُ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ، وَصَاحِبُ الْمَالِ إنَّمَا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ يَدِهِ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَتِهِ الْعَمَلَ بِمَنَافِعِهِ، تَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَالنَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَنْفَقَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ، عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا طَعَامًا، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا، فَنِصْفُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَاشْتَرَى طَعَامًا بِبَعْضِ الْمَالِ فَزَرَعَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَنْفَقَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ بِنِصْفِ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِنِصْفِ الْخَارِجِ مِنْهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِذَلِكَ، وَتَصَرُّفُهُ هُنَا فِي الْمَالِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْخَارِجِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِمَا بَذَرَهُ، وَالْبَذْرُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَنِصْفُهُ يُبَاعُ.
يَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لِلْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ الْإِشْرَاكَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ بَعْضَ الْمَالِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا صَارَ مُخَالِفًا بِتَصَرُّفِهِ ضَمِنَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ بِهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْ الزَّرْعِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِ مَسَائِلِ الْبَابِ فِي الْبُيُوعِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقَ الْمُضَارِبُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْحَقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، بِخِلَافِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ؛ وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَسِّرَهُ؛ لِوُجُودِ الْعَادَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي إلْحَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَتَاعِ بِرَأْسِ الْمَالِ دُونَ إلْحَاقِ مَا أَنْفَقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ مُضَارِبًا أَوْ مَالِكًا، فَكَمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَلْحَقُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَا تَرْجِعُ إلَى الْمَتَاعِ خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ أَلْحَقَ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَبَاعَهُ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَذَلِكَ جِنَايَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْجِنَايَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فِي الْبُيُوعِ.
وَفِي قَوْلِ زُفَرَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَقَّمَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ: ابْتَعْهُ مُرَابَحَةً.
عَلَى رَقْمِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي كَمْ رَقْمُهُ فَهُوَ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَرَقْمُهُ مَا أَخْبَرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ رِوَايَةَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِعَادَةِ التُّجَّارِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي كَمْ رَقْمُهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِذَا عَلِمَ بِالرَّقْمِ كَمْ هُوَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْشَفُ لَهُ الْحَالُ الْآنَ.
وَخِيَارُ كَشْفِ الْحَالِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَإِنْ قَبَضَهُ فَبَاعَهُ، ثُمَّ عَلِمَ مَا رَقْمُهُ فَرَضِيَ بِهِ، فَرِضَاهُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَنَفَذَ بَيْعُهُ فِيهِ، وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ بِالرَّقْمِ وَرِضَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْمُفْسِدِ إنَّمَا تُصَحِّحُ الْعَقْدَ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا فِي مِلْكِهِ.
وَالتَّوْلِيَةُ فِي هَذِهِ كَالْمُرَابَحَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ وَلَّاهُ رَجُلًا بِرَقْمِهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي مَا رَقَمُهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آخَرَ بَيْعًا صَحِيحًا، جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا، وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، فَصَحَّ الْبَيْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُضَارِبِ وَانْتَقَضَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ.
وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ عَلِمَ بِرَقْمِهِ فَسَكَتَ حَتَّى بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ آخَرَ، بَيْعًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ الْأَوَّلُ بَعْدَ مَا عَلِمَ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ آخَرَ بَيْعًا صَحِيحًا، فَالْبَيْعُ لِلثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ قَدْ تَمَّ بِرِضَا الْمُشْتَرِي بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَصَارَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي.
وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَبَضَ الْمَتَاعَ مِنْ الْمُضَارِبِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبَ مِنْ آخَرَ، كَانَ بَيْعُهُ الثَّانِي بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِالْقَبْضِ صَارَ مَالِكًا فَمَا لَمْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ بِالرَّقْمِ فَنَقَضَ الْبَيْعَ، لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الثَّانِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ عَوْدُ الْمِلْكِ إلَيْهِ، فَلَا يَنْفُذُ بِعَوْدِهِ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ؛ كَمَنْ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ ثُمَّ مَلَكَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: أَبِيعُك هَذَا الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةٍ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ.
وَلَمْ يُسَمِّ رَقْمًا وَلَا غَيْرَهُ، فَاشْتَرَاهُ بِرَقْمِهِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا بَأْسَ لِلْمُضَارِبِ بِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ مَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فِيهِ، بَلْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ.
وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ، أَوْ بِمَا فِيهِ شُبْهَةُ الْكَذِبِ، فَأَمَّا إذَا خَلَا كَلَامُهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ، وَقَدْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَسْرَفَ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّقِيقِ فَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَى رَأْسِ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ نَفَقَةَ مِثْلِهِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ كَالتَّبَضُّعِ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الْغَرِيمِ، لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ دَيْنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ صُلْحًا، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّجَاوُزِ بِدُونِ الْحَقِّ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَفْظُ الصُّلْحِ يُمْكِنُ شُبْهَةُ الْحَطِيطَةِ، وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَمَانَةِ وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً نَسِيئَةً سَنَةً، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلَ ثَمَنِهَا، فَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِدَانَةً عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ كَالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ، ثُمَّ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ؛ لِمَا فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ شُبْهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْجَارِيَةِ ثِيَابًا، ثُمَّ فَتَلَهَا أَوْ قَصَّرَهَا بِأَجْرٍ أَوْ صَبَغَهَا بِأَجْرٍ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي إلْحَاقِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ.
وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ، فَعُشْرُهُ لَمْ يَلْحَقْ ذَلِكَ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً فَلَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فَلَا بَيْعَ عَلَى مَا غُصِبَ مِنْهُ مُرَابَحَةً.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ الْمَالِ ثُمَّ قَصَرَهُ مِنْ مَالِهِ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَةَ تُزِيلُ الدَّرَنَ وَلَا تَزِيدُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُخَالِفًا بِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ الْمَتَاعَ خَيْرًا بِمَا صَنَعَ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَعَمَلُهُ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْمُضَارَبَةِ وَمَتَاعٍ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ سَوَاءٌ.
وَإِذَا بَاعَهُ مُسَاوَمَةً أَوْ مُرَابَحَةً كَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ فَتَلَ الثَّوْبَ أَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ مِنْ مَالِهِ فَنَقَصَهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ، وَإِنْ صَبَغَهُ مِنْ مَالِهِ صَبْغًا يَزِيدُ كَالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ.
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْهُ لِذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالصِّبْغُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْمُضَارِبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ بِالْخَلْطِ يَصِيرُ ضَامِنًا إذْ لَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ.
ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِرَأْسِ مَالِهِ وَأَعْطَى الْمُضَارِبَ مَا زَادَ عَلَى الصِّبْغ فِيهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ فِيمَا صَنَعَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ ثَوْبَ إنْسَانٍ وَصَبَغَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى بَاعَهَا الْمُضَارِبُ مُسَاوِمَةً أَوْ مُرَابَحَةً، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِبَقَاءِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي الْبَيْعِ كَالْوَكِيلِ، وَالْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ لَا تَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ مِنْ بَعْدِ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ فِي الْمُسَاوَمَةِ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ وَقِيمَةِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ، فَيَكُونُ حِصَّةُ الصِّبْغِ لِلْمُضَارِبِ، وَيَسْتَوْفِي رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ لِلْمُضَارِبِ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ كَالثَّوْبِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الْقَصَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ مُرَابَحَةً قَسَّمَ الثَّمَنَ عَلَى مَا اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ وَعَلَى أَجْرِ الصِّبْغِ يَوْمَ صَبَغَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِ.
وَفِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ صِبْغُهُ أَسْوَدَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَالْحُمْرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ فِي الثَّوْبِ نُقْصَانٌ.
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَتْلِ وَالْقَصَّارَةِ فِي أَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلِطْ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ لَهُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ الْمَتَاعَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى ضَاعَتْ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى فَيَنْقُدُهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَهُوَ فِي هَذَا كَالْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ يُوجِبُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ، وَلَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَارَ مُقْتَضِيًا مَا اسْتَوْجَبَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ مِنْ ضَمَانِهِ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ إذَا رَجَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَمَا يَقْبِضُهُ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَرُدُّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوَّلًا جَمِيعَ مَا اسْتَوْفَى ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الرِّبْحَ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَإِذَا هَلَكَ ثَانِيًا كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِلَ الثَّمَنُ إلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَبِيعُ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ.
وَمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا بَاعَ الْمَتَاعَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْمُضَارِبِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ يُرَدُّ عَلَيْهِ ثُمَّ الْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِأَلْفٍ جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى ادَّعَى الْمُضَارِبُ أَنَّهُ قَدْ نَقَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ وَحَلَفَ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى، فَيَدْفَعُهَا إلَى الْبَائِعِ وَيَأْخُذُ الْجَارِيَةَ.
فَتَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُهْدَةٌ لَحِقَتْهُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمُضَارَبَةَ، أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لِمَا ذَكَرْنَا وَالْمُضَارِبُ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِلْوَكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَوْ قَالَ: دَفَعْتُ الْأَلْفَ إلَى الْبَائِعِ.
وَجَحَدَ الْبَائِعُ، غَرِمَهَا الْوَكِيلُ مِنْ مَالِهِ فَيَدْفَعُهَا إلَى الْبَائِعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْجَارِيَةَ، فَتُسَلَّمُ إلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى دَيْنَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْآمِرِ، وَإِقْرَارُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْبَائِعِ فِي قَضَاءِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مِنْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ وَبَعْدَ مَا صَارَ مُقْتَضِيًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِشَيْءٍ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ يَكُونُ قَاضِيًا لَا مُقْتَضِيًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُقْتَضِيًا كَانَ ضَامِنًا وَرَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فِي الْقَضَاءِ بِجُحُودِ الْبَائِعِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنَ حَتَّى اشْتَرَى، ثُمَّ قَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَالْمُضَارِبُ فِي مِثْلِهِ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَانِيًا حَتَّى يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ.
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي.
أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِرِبْحِ الدِّرْهَمِ دِرْهَمٌ.
فَالثَّمَنُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا رِبْحًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ فِيهِ إذْ لَا مَعْهُودَ لَهُ فِيهِ لَيُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ يَرْبَحُ كُلُّ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا سَوَاءً.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِرِبْحِ كُلِّ دِرْهَمٍ اثْنَيْنِ، فَالثَّمَنُ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَلَوْ قَالَ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةٌ أَوْ بِرِبْحِ الدِّرْهَمِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ نِصْفَ دِرْهَمٍ رِبْحًا، أَوْ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةً رِبْحًا.
وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ.
فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا رِبْحًا، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَده يازده سُود فروحب.
وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ الْخَمْسَةَ رِبْحٌ وَالْعَشَرَةَ رَأْسُ مَالٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ.
أَوْ قَالَ: يَده يازده، فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَمَا يَتَفَاهَمُونَهُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ وَنِصْفٌ.
فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، أَوْ قَالَ: أَحَدَ عَشَرَ وَدَانِقٌ.
فَالرِّبْحُ دِرْهَمٌ وَدَانِقٌ، وَلَوْ قَالَ: بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ عَشَرَةٌ وَخَمْسَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ وَعَشَرَةٌ.
فَالثَّمَنُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي تَسْمِيَةِ الرِّبْحِ وَضَمَّ الْعَدَدَ إلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَ التُّجَّارِ عَادَةً فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَكُونُ رِبْحُهُ الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ انْتَقَصَ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ بَاعَهُ بِوَضِيعَةِ الدِّرْهَمُ دِرْهَمٌ.
كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَضِيعَةِ كَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ التَّضْعِيفُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْوَضِيعَةِ يُوجِبُ التَّنْصِيفَ.
وَلَوْ كَانَ بِوَضِيعَةِ الدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ ضِعْفَ رَأْسِ الْمَالِ، فَفِي بَيْعِ الْوَضِيعَةِ نِصْفُ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ مِنْ الْعَشَرَةِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِثْلَ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ.
فَفِي الْوَضِيعَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مِثْلَ نِصْفِ الْبَاقِي فِي ذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَالنُّقْصَانُ ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ اعْتِبَارًا لِلْوَضِيعَةِ بِالْمُرَابَحَةِ.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ بِجَارِيَةٍ وَقَبَضَهَا وَدَفَعَ الْعَبْدَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَارِيَةَ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَلَا تَوْلِيَةً إلَّا مِنْ الَّذِي يَمْلِكُ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَزِيَادَةُ رِبْحٍ مُسَمًّى فِي عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْعَبْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَوْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً أَوَتَوْلِيَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ، لَكَانَ هَذَا بَيْعًا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْحَزْرِ وَالظَّنِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَأَمَّا مِمَّنْ يَمْلِكُ الْعَبْدَ، إنَّمَا يَبِيعُهَا عَلَى الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنْ بَاعَهَا تَوْلِيَةً جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ، وَيَأْخُذُ الْعَبْدُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
وَإِنْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسُ الْمَالِ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ لِيَضُمَّ إلَيْهِ مِقْدَارَ الرِّبْحِ مِنْ جِنْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ اشْتَرَاهَا بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً مِمَّنْ شَاءَ فَسَوَاءٌ سَمَّى مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ قَالَ: بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ وَالْمُشْتَرِي بِالنَّقْدِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَبْدَ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً، كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ فِي هَذَا الشِّرَاءِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْغُلَامِ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْغُلَامِ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَأَجَازَ رَبُّ الْعَبْدِ الْبَيْعَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَازَةِ رَبِّ الْعَبْدِ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّ بِمِلْكِهِ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِإِجَازَةِ رَبِّ الْعَبْدِ وَالْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ عَجْزُهُ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ، ثُمَّ الْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْمُضَارِبِ، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ الْغُلَامَ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرَى مِنْهُ الْجَارِيَةَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَيَرْجِعُ مَوْلَى الْغُلَامِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي شِرَائِهَا، فَنَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى إجَازَةِ رَبِّ الْغُلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْغُلَامَ لِيَدْفَعَهُ فِي ثَمَنِهَا، وَهُوَ بِالْإِجَازَةِ صَارَ مُقْرِضًا مِنْهُ وَاسْتِقْرَاضُ الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْغُلَامِ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُسْتَقْرِضِ وَصَيْرُورَتِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ جَارِيَةٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهَا بِغُلَامٍ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْجَارِيَةِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهَا.
وَلَوْ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ بِوَضِيعَةِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَيُعْطِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجَارِيَةِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْوَضِيعَةِ نُقْصَانُ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ بَاعَ الْغُلَامَ مِنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْجَارِيَةِ.
وَلَوْ قَالَ أَبِيعُك هَذَا الْغُلَامَ بِرِبْحِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ جَائِزًا، وَيَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ مَا سَمَّاهُ رِبْحًا وَضَمَّهُ إلَى الْجَارِيَةِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً، وَلَوْ قَالَ أَبِيعُك بِوَضِيعَةٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ لَفْظِ الْوَضِيعَةِ النُّقْصَانَ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ مِقْدَارُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ.
وَالْبَيْعُ بِالْوَضِيعَةِ كَالْبَيْعِ مُرَابَحَةً فِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْجَارِيَةُ إلَى التَّقْوِيمِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْغُلَامَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ إلَّا مِقْدَارَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا، ثُمَّ بَاعَهُ بِالْكُوفَةِ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفُ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ غَلَّةُ نَقْدِ الْكُوفَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الثَّمَنُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ بَخِّيَّةً؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ ثَمَنِ الْأَوَّلِ بِصِفَتِهِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ الثَّانِي، وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، كَمَا سُمِّيَ فِيهِ وَتَسْمِيَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى غَلَّةِ الْكُوفَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَبِيعُكَ بِرِبْحِ دِينَارٍ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِخِيَّةٍ وَدِينَارًا مِنْ نَقْدِ الْكُوفَةِ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِوَضِيعَةٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ بِوَضِيعَةٍ عَشَرَةً أَحَدَ عَشَرَ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ مِنْ الْبَخِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ لَا تَكُونُ أَبَدًا إلَّا مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ طَرَحَ بَعْضَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِأَيِّ لَفْظٍ ذَكَرَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَطْرُوحُ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالرِّبْحُ لَيْسَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا.
وَإِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَبَاعَهَا بِغُلَامٍ وَتَقَابَضَا فَزَادَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ وَلَدَتْ ثُمَّ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْغُلَامَ مِنْ رَبّ الْجَارِيَةِ بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْبَدَنِ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بِالْجَارِيَةِ عَيْبًا رَدَّهَا مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَكَانَ وُجُودُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَعَدَمِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ فَإِنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَاعَ الْغُلَامَ بِالْجَارِيَةِ، وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا عِنْدَ هَذَا الْعَقْدِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْ الْجَارِيَةَ فَلَا إشْكَالَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا مَعِيبَةً وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ بِعَيْبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُلْفِ فِيهَا نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ فَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْوِلَادَةَ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا بِخِلَافِ رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ثَمَّةَ، وَالتَّوْلِيَةُ فِي هَذَا كَالْمُرَابَحَةِ، وَمَقْصُودُ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ جَازَ بَقِيَ الْوَلَدُ رِبْحًا لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ فَأَمَّا التَّوْلِيَةُ، أَوْ الْمُرَابَحَةُ فَلَا تُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ فِي الْجَارِيَةِ مَعَ سَلَامَةِ الْوَلَدِ لِلْمُشْتَرِي.
وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَبَاعَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ بَاعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَّ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ إلَى الْآخَرِ، وَاعْتِبَارَ الْحَاصِلِ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ضَمَانِهِ فَإِنَّ مَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ هُنَا.
وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ، أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى حَاصِلِ مَا بَقِيَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَجَعَ إلَيْهِ أَلْفٌ وَكُرُّ حِنْطَةٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرْحِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ، وَطَرْحُ الْحِنْطَةِ وَالدِّينَارِ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْحَزْرُ وَالظَّنُّ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الصُّورَةِ جِنْسَانِ وَفِي الْمَعْنَى كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَعَلَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ لِلِاحْتِيَاطِ وَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرْحِ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ غَرِمَهَا فِي ثَمَنِهَا مَرَّتَيْنِ، وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عِنْدَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْجَارِيَةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، أَوْ بِعَرَضٍ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ مَا عَادَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا غَرِمَ فِيهَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَضُمَّ بَعْضُ الْعُقُودِ إلَى الْبَعْضِ، كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ النُّقُودِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ هِبَةً، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيمَا غَرِمَ فِيهِ وَفِيمَا عَادَ إلَيْهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِمَّا بَاعَهُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ جَائِزًا بِخِلَافِ النُّقُودِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): قَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّبْ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بُنِيَ الْبَابُ.
قَالَ: إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهَا حَتَّى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَائِعُ لَهَا، وَالْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ فِي حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ بَاعَهَا لَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِمَّا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ اشْتَرَاهَا الْمُضَارِبُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ يَبِيعُهَا لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ مَا بَاعَهُ وَلَا بِيعَ لَهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: حَقُّ الْمُضَارِبِ تَبَعٌ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَبَيْعُهُ فِي جَمِيعِهَا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ حُكْمًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْفًا مِنْ الثَّمَنِ وَتَوَى عَلَيْهِ أَلْفٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي جَمِيعِهَا وَقَعَ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ، أَوْ اشْتَرَاهَا رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ ثَبَتَ لِعَدَمِ قَبْضِ الثَّمَنِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ كَحَقِّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا بِدَنَانِيرَ، قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا ابْنُ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَبُوهُ، أَوْ عَبْدُهُ، أَوْ مُكَاتَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِهِمَا شِرَاءُ هَؤُلَاءِ جَائِزٌ إلَّا الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ.
وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ ابْنَهُ بِشِرَائِهَا أَوْ ابْنَ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْوَكِيلِ، وَلِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ فَلَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِغَيْرِهِ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ فِي الْخَمْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ أَجْنَبِيًّا، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ شِرَاؤُهَا لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ الْفَرْقَ بَيْنَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لِلْبَائِعِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ ابْنِ الْآمِرِ لِنَفْسِهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَلَوْ وَكَّلَ الْمُضَارِبُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ، أَوْ وَكَّلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ.
وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ الْهَرَوِيِّ خَاصَّةً، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَمَا يَشْتَرِي بِهَا مِنْ النَّاشِئِ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَمَا يَشْتُ رِيّ بِهَا مِنْ الزُّطِّيِّ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْعَمَلِ إمَّا الْعَمَلُ عَلَى طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبِضَاعَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ الْعَمَلَ، وَالْجَهَالَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَيَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى الْهَرَوِيَّ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا اشْتَرَطَا.
وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا النَّسَائِيَّ فَهُوَ بِضَاعَةٌ فِي يَدِهِ وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِهَا الزُّطِّيَّةَ فَالْمَالُ قَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالرِّبْحُ لَهُ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ جَارِيَتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ لَقِيَهُ الْمُضَارِبُ وَقَالَ: زِدْنِي فِي ثَمَنِهَا فَزَادَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا رَدَّهَا بِثَمَنِهَا وَنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أُضِيفَتْ إلَيْهِمَا، وَالْتَزَمَهَا الْمُشْتَرِي بِمُقَابِلِهَا فَيَتَوَزَّعُ عَلَى قِيمَتِهِمَا كَأَصْلِ الثَّمَنِ إذَا سُمِّيَ بِمُقَابِلِهِمَا جُمْلَةً وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي طَعَنَ فِيهِمَا بِعَيْبٍ فَصَالَحَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ بِاَلَّذِي اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَيْبًا رَدَّهَا بِأَلْفٍ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثٍ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ الْمِائَةَ مِنْ الثَّمَنَيْنِ فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنَيْنِ ثُلُثَاهُ مِنْ ثَمَنِ الَّتِي بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَثُلُثُهُ مِنْ ثَمَنِ الَّتِي بَاعَهَا بِأَلْفٍ، وَثُلُثُ الْمِائَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ فَلِهَذَا يُنْتَقَصُ مِنْ ثَمَنِهَا وَهُوَ أَلْفٌ هَذَا الْمِقْدَارُ.
وَهَذَا لِمَا قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَطَّ مِنْ الثَّمَنِ، وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هِيَ مَالٌ الْتَزَمَهُ الْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ الْجَارِيَتَيْنِ فَهُوَ كَالْمَالِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْجَارِيَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْجَارِيَتَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا بَاعَهُمَا بِهِ، ثُمَّ وَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا رَدَّهَا بِثَمَنِهَا، وَحِصَّتُهَا مِنْ الرِّبْحِ إذَا قُسِمَتْ عَلَى الثَّمَنَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَصْلُهُ وَرِبْحُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَا غَرِمَ فِي ثَمَنِهِمَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِهَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ.
فَإِنْ زَادَ فِي ثَمَنِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً بَاعَهُمَا جَمِيعًا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِمِقْدَارِ مَا غَرِمَ فِي ثَمَنِهِمَا، فَيَبِيعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُرَابَحَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ إحْدَاهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ الزَّائِدَةَ إنَّمَا تُقَسَّمُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَطَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ إحْدَاهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى حِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.