فصل: بابُ الشَّهَادَةِ في الصُّلْحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الشَّهَادَةِ في الصُّلْحِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِ رَجُلٍ دَعْوَى فَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ فَرَضِيَ بِهِ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ وَحُكْمُ الصُّلْحِ يَنْتَهِي فِي الْمَقْبُوضِ بِالْقَبْضِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ كَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُسَمِّ الْآخَرُ شَيْئًا وَشَهِدَا جَمِيعًا أَنَّهُ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ جَحَدَ صَاحِبُ الدَّارِ وَادَّعَى الطَّالِبُ الصُّلْحَ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مُسَمًّى أَوْ تَرَكَا جَمِيعًا تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ مَعَ الْجَهَالَةِ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِهَا وَشَاهِدٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ قَضَيْتُ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ فِي الْحَاصِلِ دَعْوَى الدَّيْنِ فَالْإِسْقَاطُ قَدْ حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْمِائَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْأَقَلَّ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ تَرَكَ بَيِّنَةَ الصُّلْحِ فَالْمُدَّعِي عَلَى حُجَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِسُقُوطِ حَقِّهِ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ الْعِوَضَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ وَحُجَّتِهِ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى صُلْحٍ بِمُعَايَنَةٍ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هُوَ إقْرَارٌ مَعْنَاهُ أَنَّ صِفَةَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الصُّلْحِ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.بابُ الصُّلْحِ في الدَّيْنِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْعَبْدُ لِلطَّالِبِ يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُهُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ عِتْقُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الصُّلْحِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ دُونَ إعْتَاقِ الْبَائِعِ إيَّاهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الطَّالِبُ كَانَ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَطَلَ لِفَوَاتِ قَبْضِ الْمُبْدَلِ بِمَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُهُ افْتِرَاقُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى إنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ صَرْفًا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْأَلْفِ بِالْمِائَةِ لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ مُسْقِطًا بَعْضَ الْحَقِّ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ تَرْكِ الْقَبْضِ فِيمَا بَقِيَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ كُرِّ حِنْطَةٍ قَرْضٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ خَمْسَةً، ثُمَّ افْتَرَقَا بَقِيَ الصُّلْحُ فِي نِصْفِ الْكُرِّ بِحِسَابِ مَا قَبَضَ وَبَطَلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَجَدَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ ابْتَاعَ رَجُلٌ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِكُرٍّ مِنْ شَعِيرٍ بِعَيْنِهِ وَقَبَضَ الْحِنْطَةَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ الشَّعِيرَ حَتَّى افْتَرَقَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ عَيْنًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاَلَّذِي لَمْ يُقْبَضْ عَيْنٌ وَالتَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ كَانَ الشَّعِيرُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ تَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ بِالْقَبْضِ كَبَيْعِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي مُبَادَلَةِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ عَفْوًا، فَإِنَّ الْكَيْلَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ كَيْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَيْنًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَرَكَ الْقَبْضَ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ حَتَّى افْتَرَقَا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَيْنًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَالصُّلْحِ جَمِيعًا.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ حَطٌّ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ، فَإِنَّ الطَّالِبَ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَأَجَّلَهُ فِي الْبَاقِي فَالْإِحْسَانُ مِنْ جِهَتِهِ خَاصَّةً فِي الْحَطِّ وَالتَّأْجِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَبَعْضَ حَقِّهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِضَّةً تِبْرًا بَيْضَاءَ حَالًّا أَوْ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَصِحَّةُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ دُونَ الْمُبَادَلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُهُ سُودًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ غَلَّةً حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ كُلَّهُ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ أَيْضًا، فَلَا تَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا سُودًا حَالَّةً أَوْ إلَى أَجَلٍ فَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَهُوَ صَرْفٌ وَالتَّأْجِيلُ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أَجَّلَهُ فِي الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَقْصُودَهُ فِي الصَّرْفِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّأْجِيلُ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَّةً وَقَبَضَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ قَبَضَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ افْتَرَقَا؛ لِأَنَّ الْمُصَارَفَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْمَقْبُوضَ مِمَّا كَانَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الصَّرْفِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَنْقُدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يَنْقُدْهُ الْخَمْسِينَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْعَشَرَةِ مَعَ الدَّنَانِيرِ صَرْفٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ التَّأْجِيلَ فِي بَعْضِ الْمِائَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَاشْتِرَاطُهُ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ يُفْسِدُ الصَّرْفَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقُولُ إنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ حَالٌّ مَقْبُوضٌ فِي الْمَجْلِسِ وَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي سِتِّينَ مِنْ الْمِائَةِ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَفْسُدُ عَقْدُ الصَّرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَالَ: سِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَى سِتِّينَ إلَى أَجَلٍ، وَمَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ الْمُبْتَدَأِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمُوزَنَاتِ.
وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ بَعْدَ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَنِصْفِ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ فَالصُّلْحُ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الشَّعِيرِ الْعَقْدَ مُبَادَلَةُ نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ بِنِصْفِ كُرِّ شَعِيرٍ وَالْقَدْرُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَجَلِ فِي الْحِنْطَةِ إنَّمَا كَانَ بِنَاءً عَلَى حُصُولِ مَقْصُودِهِمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الشَّعِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ، وَلَوْ لَمْ يَضْرِبْ لِذَلِكَ أَجَلًا أَوْ كَانَ الشَّعِيرُ مَعِيبًا وَالْحِنْطَةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ جَائِزًا، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ الَّتِي هِيَ دَيْنٌ بِالشَّعِيرِ بِعَيْنِهِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّعِيرُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحِنْطَةِ مُؤَجَّلَةً أَوْ حَالَّةً قَبَضَهَا؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمُعَيَّنِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُؤَجَّلَةً فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَجَّلَهُ فِي الْحِنْطَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي مُبَادَلَةِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ التَّأْجِيلَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ صِفَةَ الدَّيْنِيَّةِ وَالتَّأْجِيلِ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّعِيرَ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي حِصَّةِ الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، فَلَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ قِيلَ حِصَّةُ الشَّعِيرِ مِنْ الْحِنْطَةِ صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ لِمَنْ عَلَيْهِ حِينَ سَقَطَ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ قُلْنَا صَارَ مَقْبُوضًا دَيْنًا وَالدَّيْنُ بِالسُّقُوطِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ الْمُتْلَفِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِضَّةً تِبْرًا بَيْضَاءَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فِضَّةً تِبْرًا سَوْدَاءَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ حَطٌّ لَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَقِّ مُبْرِئًا عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ مِنْ الْأَلْفِ وَمُتَجَوِّزًا بِدُونِ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَضْرُوبَةٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَضْرُوبَ أَجْوَدُ مِنْ التِّبْرِ فَتُمْكِنُ بَيْنَهُمَا مُعَاوَضَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَا بَقِيَ وَالْجَوْدَةُ الَّتِي شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ فِيمَا بَقِيَ وَمُبَادَلَةُ الْجَوْدَةِ فِي الْأَجَلِ وَالْقَدْرِ رِبًا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ حَالَّةٍ، فَإِنْ قَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْبَخِّيَّةِ بِالْغَلَّةِ صَرْفٌ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ، وَإِنْ جَعَلَا لَهَا أَجَلًا بَطَلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بَخِّيَّةٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى، وَقَدْ بَرِئَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذَا إبْرَاءً مِنْ الطَّالِبِ لِلْمَطْلُوبِ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَإِحْسَانًا مِنْ الْمَطْلُوبِ فِي قَضَاءِ مَا بَقِيَ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى مُبَادَلَةِ بَعْضِ الْقَدْرِ بِالْجَوْدَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ صَحَّ وَمَقْصُودُهُمَا تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ يَتَعَيَّنُ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُهُمَا، وَإِذَا فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ دَرَاهِمِهِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ وَعَدَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا بَقِيَ أَجْوَدَ وَالْإِنْسَانُ مَنْدُوبٌ إلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَّتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ حِينَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَالَ الصُّلْحُ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُمَا بَادَلَا صِفَةَ الْجَوْدَةِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ بِبَعْضِ الْقَدْرِ وَهِيَ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي أَبْرَأَهُ عَنْهَا وَذَلِكَ رِبًا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ إذَا لَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا مَعَ الذَّكَرِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءِ الْمُبْتَدَأِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ لَا يَعْرِفَانِ وَزْنَهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِلثَّوْبِ وَجَهَالَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ فَفِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ أَوْلَى، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْوَزْنِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِ قَدْرًا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ حَقِّهِ فَلَفْظَةُ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى دُونَ حَقِّهِ فَصَحَّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ لَهَا أَجَلًا؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْقَدْرِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ وَالتَّبَرُّعُ كُلُّهُ مِنْ الطَّالِبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَخْذٌ وَعَطَاءٌ وَبُيُوعٌ وَقَرْضٌ وَشَرِكَةٌ فَتَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ كَمْ هُوَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَبَرَّعَ بِالتَّأْجِيلِ فِيمَا بَقِيَ.
وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ وَدِيعَةً دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ الطَّالِبُ عَلَى دَرَاهِمَ دُونَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ بِالْجُحُودِ صَارَتْ دَيْنًا أَوْ صَارَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبَةِ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْمِائَةُ مِنْ يَدَيْ الطَّالِبِ رَجَعَ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ مُسْتَوْفِيًا لِلْمِائَةِ فَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَنْتَقِضُ قَبْضُهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِيمَا أَسْقَطَ سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ نَبَهْرَجَةً رَدَّهَا وَرَجَعَ بِمِائَةٍ جَازَ لِانْتِقَاضِ قَبْضِهِ بِالرَّدِّ فِي الْمُسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَقَبَضَهَا فَوَجَدَهَا بَخِّيَّةً نَبَهْرَجَةً أَوْ وَجَدَهَا سَوْدَاءَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِبَخِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَمْسِينَ مُسْتَوْفٍ، فَإِذَا كَانَ دُونَ حَقِّهِ رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِمِثْلِ حَقِّهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِي الْخَمْسِينَ الْأُخْرَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا فَوَجَدَهَا حَدِيدًا لَا يُنْفَقُ أَوْ مُقَطَّعَةً لَا تُنْفَقُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِجِيَادِ مِثْلِ حَقِّهِ وَالْبَرَاءَةُ تَامَّةٌ فِي الْخَمْسَةِ الْأُخْرَى.
وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى دَرَاهِمَ وَقَبَضَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا صَرْفٌ، فَإِذَا انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَرَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَرَاهِمَ لَهُ عَلَيْهِ عَلَى فُلُوسٍ وَقَبَضَهَا فَتَفَرَّقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ انْتَقَضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَصْلِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ.
وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا مِنْ ضَرْبٍ لَا يُنْفَقُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَعِيرٍ وَقَبَضَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ رَجَعَ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ فِي الْمَرْدُودِ فَظَهَرَ أَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ وَسَطٍ وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا رَجَعَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ انْتَقَضَ بِمِثْلِهِ فِي الْمُسْتَحَقِّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى الْآنَ وَصِفَةُ الدَّيْنِيَّةِ فِي الْمَجْلِسِ لَا تَضُرُّ فَلِهَذَا رَجَعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّعِيرِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ كُرُّ حِنْطَةٍ قَرْضًا أَوْ غَصْبًا فَصَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً بَعْدَمَا افْتَرَقَا فَرَدَّهَا بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمُسْتَحَقِّ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً فَرَدَّهَا كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَسْتَبْدِلُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسِهِمَا الثَّانِي، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا إذَا وَجَدَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلَ الْقَرْضِ زُيُوفًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَرَدَّهَا وَقَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَكُرَّا حِنْطَةٍ قَرْضًا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ دِرْهَمًا وَأَخَذَ حِصَّةَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَبَعْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ تَبْقَى عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَالطَّعَامُ عَلَى حَالِهِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ إلَى أَجَلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأَجَلِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ وَالطَّالِبُ بِمُقَابَلَتِهِ أَسْقَطَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِالدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، ثُمَّ نَهَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَجَلَاهُمْ قَالُوا إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا» وَكُنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ حُرْمَةِ الرِّبَا، ثُمَّ انْتَسَخَ بِنُزُولِ حُكْمِ الرِّبَا، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْأَجَلِ بِالْمَالِ رِبًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا شُبْهَةَ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْأَجَلِ فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رِبًا حَرَامًا أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٌ ثَمَنُ خَادِمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِدْهَا أَوْ انْتَقَدَهَا إلَّا دِرْهَمًا مِنْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِعَيْبٍ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إذَا عَادَ إلَيْهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِهَا أَوْ أَنْكَرَهَا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَعْطَاهَا إلَى شَهْرٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا بَقِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا إلَى شَهْرٍ فَمِائَتَا دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ حِينَ لَمْ يُقَاطِعْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْأَجَلِ بِبَعْضِ الْمِقْدَارِ أَيْضًا فَيَكُونُ رِبًا حَرَامًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أُصَالِحُكَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ، فَإِنْ عَجَّلْتَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ فَهِيَ مِائَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ سَمَّاهُمَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهِمَا، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ لِتَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مِنْ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الشَّكِّ أَوْ مَعَ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الشَّكِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ يَخْدِمَ الرَّجُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَبِيعٌ، وَقَدْ شَرَطَا التَّأْجِيلَ فِي تَسْلِيمِهِ شَهْرًا أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَارِ وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا شَهْرًا أَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا وَيَخِيطَهُ أَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ عَلَى أَنْ يَطْبُخَهُ لَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنْفَعَةً لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ فِي الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْبُيُوعِ وَاَللَّهُ- تَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.