فصل: كتاب الإقرار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب الإقرار:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَكِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً بِدَلِيلٍ مَعْقُولٍ وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَفِي حَقِّ الْغَيْرِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ لَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ فَلِظُهُورِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جُعِلَ إقْرَارُهُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعًا قَوْله تَعَالَى {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} فَأَمْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ «وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْعَسْفِ «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُومُ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَلَيْهِ مَجْهُولًا فَيَصِحُّ إظْهَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَالْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاهِدِ «إذَا رَأَيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» فَمَعَ الْجَهْلِ لَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ أَدَائِهَا فَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُحْتَاجٌ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مَعْلُومًا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَجْهُولًا فَقَدْ يَعْلَمُ أَصْلَ الْوُجُوبِ وَيَجْهَلُ قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِالْمَعْلُومِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِذَا احْتَمَلَ بِالْمَجْهُولِ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَلِهَذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلِهَذَا لَا يُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ قَالَ غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا بَيَّنَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَبْيِينِ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ فَالْغَصْبُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ فَإِذَا تَبَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرِّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ، وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُقِرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّهُ أَخَذَهُ وَإِنْ ادَّعَى غَيْرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ صَارَ رَادًّا إقْرَارَهُ بِنَفْيِ دَعْوَاهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَسْتَوِي إنْ بَيَّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارَ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا إذَا بَيَّنَ الْمَغْصُوبُ زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ الصَّغِيرُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَيَانُهُ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ وَفُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخُلْعِ فَإِنَّ مَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَالْخُلْعِ مَجَازًا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَالْفُرْقَةُ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْعَادَةِ فَلَا يَكُونُ فِيمَا صَرَّحَ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ فَأَمَّا الْغَصْبُ لَا يُطْلَقُ فِي الْعَادَةِ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ شَرْعًا إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ وَالْعَصْرُ قَبْلَ التَّخَمُّرِ كَانَ مَالًا فَسَدَ تَقَوُّمُهُ بِالتَّخَمُّرِ شَرْعًا وَصَارَ الْمُسْلِمُ مَمْنُوعًا مِنْ تَمَوُّلِهِ مِنْ غَيْرِ انْعِدَامِ أَصْلِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِالتَّخَلُّلِ يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلِهَذَا صَحَّ بَيَانُهُ ثُمَّ الْخَمْرُ مَحَلٌّ لِحُكْمِ الْغَصْبِ وَلِهَذَا كَانَ غَاصِبُ الْخَمْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ ضَامِنًا لِهَذَا قَبْلَ بَيَانِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمُقَرِّ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا هُنَا ثُمَّ التَّوَسُّعُ فِي الْإِقْرَارِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فَفِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِتَعَيُّنِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَالْإِقْرَارُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ بَلْ يَكُونُ الْمُقِرُّ فِيهِ مَقْبُولًا إذَا لَمْ يُخَالِفْ مَا يَلْفِظْ بِهِ سَوَاءٌ بَيْنَ الرَّدِيءِ أَوْ الْمَعِيبِ فَاسْمُ الْعَبْدِ أَوْلَى تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ فِعْلٌ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَلَأَنْ يَسْتَدْعِيَ صِفَةَ السَّلَامَةِ فِيهِ وَمِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْغَاصِبِينَ اخْتِيَارُ الْوَسَطِ وَالتَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا يَغْصِبُ الْغَاصِبُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَهَا مُوجِبٌ شَرْعًا فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَكَذَلِكَ لِلنَّاسِ عَادَةٌ فِي إيرَادِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ دُونَ الْمَعِيبِ فَلِهَذَا يُصْرَفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بِعَيْبِهِ مَنْصُوبًا فِي يَدِهِ قَائِمًا رَدَّهُ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ عَدَمِ رَدِّ الْعَيْنِ لِيَكُونَ خُلْفًا عَنْ الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ وَسُمِّيَتْ قِيمَةٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ دَارًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِهَا سَوَاءٌ عَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَذَاكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ.
وَلَوْ قَالَ هِيَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي فِي يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ يَقُولُ الدَّارُ دَارِي فَالْقَوْلُ فِي تِلْكَ الدَّارِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُقِرِّ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ كَدَعْوَاهُ أَنَّهَا لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ مَالٌ مَحَلٌّ لِلْغَصْبِ ثُمَّ لَا يَضْمَنُ الْمُقِرُّ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَعْضِهَا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ أَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضَمْنَ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ هَذِهِ الْأَمَةَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ فَادَّعَاهُمَا جَمِيعًا الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْغَاصِبِ: قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَتَخَلَّفَتْ عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْمَذْكُورَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَقَدْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ حِينَ ادَّعَاهُمَا جَمِيعًا فَيَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَيْنَهُ وَتَبْقَى دَعْوَاهُ الْآخَرَ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ إذَا زَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّ الْمَغْصُوبَ هُوَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ فِي مُنْكَرٍ؛ وَلِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُقَرِّ لَهُ مُعَيَّنٌ، وَالْمُعَيَّنُ عِنْدَ الْمُنْكِرِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إقْرَارُهُ هَذَا الْمَحَلَّ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ثُمَّ هُوَ بِالتَّعْيِينِ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْبَيَانِ الثَّابِتِ لِلْمُقِرِّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبْهَمُ وَمَنْ أَبْهَمَ شَيْئًا فَإِلَيْهِ بَيَانُهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُقِرُّ الْآخَرُ صَحَّ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِهِ بِنَفْيِ دَعْوَى الْمُقَرِّ لَهُ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ جَاحِدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ هَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَخْذِهِ؛ أَخَذَهُ وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اُسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا؟ نَقُولُ: فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ هُنَاكَ يُقَالُ لَهُ قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ عَلَى الْآخَرِ وَهُنَا لَا يُقَالُ لَهُ قِرَّ لِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ مُلْزِمٌ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَعْلُومٌ إنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَيُمْكِنُ إجْبَارُهُ عَلَى الْبَيَانِ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ وَهُنَا إقْرَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ لِلْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ الْغَصْبِ قَدْ بَيَّنَهُ حَالُهُ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَلَكِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لِلْمَجْهُولِ حُجَّةً تَامَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى الْبَيَانِ وَلَكِنَّهُمَا إنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ جَهَالَةٌ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ وَقَدْ يُزَالُ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَكَمَا يُؤْمَرُ الْغَاصِبُ بِالرَّدِّ عَلَى نَائِبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُقِرًّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لَا يَعْدُوهُمَا وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي الْتِزَامِ التَّسْلِيمِ إلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ بِإِقْرَارِهِ فَإِذَا اصْطَلَحَا فَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مِنْهُمَا يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اسْتَحْلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْحَقَّ لِنَفْسِهِ عَيْنًا وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِمُنْكَرٍ مِنْهُمَا وَالْمُنْكَرُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالْمَعْدُومِ وَلِلْقَاضِي الْخِيَارُ فِي الْبِدَايَةِ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَيِّهِمَا شَاءَ وَقِيلَ هَذَا بِالِاسْتِحْلَافِ لِمَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمَا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُحَلِّفْهُ الْآخَرُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فَأَمَّا النُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ لِكُلِّ قَسَمٍ وَمِنْ حُجَّةِ الْآخَرِ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي إنَّمَا نَكَلَ لَهُ؛ لِأَنَّكَ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لَهُ وَلَوْ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لِي لَكَانَ يَنْكُلُ لِي وَفِي الْإِقْرَارِ لَا يُمْكِنُ الْآخَرُ أَنْ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ مِنْهُ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلَّذِي يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ حَلَفَ لَهُ وَقَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَنُكُولُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَبِقِيمَتِهِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بِنُكُولِهِ صَارَ عَقْرًا لَهُ وَغَصَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهُ وَمَا لَوْ قَدَرَ إلَّا عَلَى النِّصْفِ يَرُدُّهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَلَوْ حَلَفَ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْحُجَّةَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَلِحَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَهُمَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ عِنْدَ الِاصْطِلَاحِ ثَبَتَ لَهُمَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ اصْطَلَحَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ فَإِنَّ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ وَالْحَقُّ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَبْطُلُ بِالْيَمِينِ وَالْمَعْنَى الَّذِي فَاتَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالِاسْتِحْلَافِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ هُوَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالِاسْتِحْلَافَ كَانَ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَالْقَاضِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ أَوْ كَاذِبٌ وَلَا تَأْخِيرَ لِلْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ يَمِينَ الْمُقِرِّ يُبْطِلُ حَقَّ مَنْ حَلَفَ لَهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ وَمُزَاحَمَتَهُ ثُمَّ التَّفَقُّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ وَقَعَ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ وَالْمُسْتَحِقُّ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فَاسِدًا وَلَكِنْ أَرَادَ: مَنْعُهُ الْعِبَادَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ بِالِاصْطِلَاحِ مُمْكِنٌ فَإِنْ أَزَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْفَسَادِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا وَإِنْ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعٍ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِخِيَارٍ مَجْهُولٍ أَوْ بِعَمَلٍ مَجْهُولٍ إذَا تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْفَسَادِ بِالْقَضَاءِ وَهُنَا لَمَّا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا.
(الثَّانِي) أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا طَلَبَ يَمِينَهُ فَقَدَ عَامِلَةَ الْمُنْكِرِينَ فَصَارَ رَادُّ الْإِقْرَارِ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الِاصْطِلَاحُ أَوْ الِاسْتِحْلَافُ فَكَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاصْطِلَاحِ كَانَا قَابِلَيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاسْتِحْلَافِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاسْتِحْلَافِ كَانَا رَادَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ الِاسْتِحْلَافُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ لِإِقْرَارِهِ قُلْنَا مَحَلُّ الْإِقْرَارِ لَا يَعْدُوهُمَا فَإِذَا وُجِدَ الِاسْتِحْلَافُ مِنْهُمَا فَقَدْ تَيَقَّنَ بِوُجُودِهِ مِمَّنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْإِقْرَارِ.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا لَا بَلْ مِنْ هَذَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلِلْآخَرِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِلِاسْتِدْرَاكِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ إثْبَاتٌ وَالرُّجُوعُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَإِثْبَاتُ مَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ فِي حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِبَعْضِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ حِينَ سَلَّمَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي قِيمَتُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ مَوْضُوعَةٌ لِمَا قُلْنَا مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِمَجِيءِ زَيْدٍ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الثَّانِي إنَّمَا شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا صَارَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَالشَّاهِدُ بِالْمِلْكِ إذَا أَرَدْتَ شَهَادَتَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَهُنَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا أَقَرَّ بِغَصْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ تَاجِرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إنْ كَانَ فَائِتًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ إلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ صَغِيرًا كَانَ الْمُغْتَصَبُ مِنْهُ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ يُفْسَخُ مِنْ الْغَاصِبِ لِفِعْلِهِ فِيهِ وَحَقِيقَةُ انْفِسَاخِ فِعْلِهِ بِرَدِّهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ بِإِزَالَةِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ لِلْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ فِي نَفْسِهِ فَإِذَا أَعَادَهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ بِهِ مُعِيدًا لِمَا أَخَذَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ خَصْمٌ لَهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ فَيَبْرَأُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ انْتَزَعَ خَاتَمًا مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ بَرِئَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ كَمَا كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَبَهَ ثُمَّ نَامَ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَبَهَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْمُنْتَبِهِ فَلَا يَبْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِعَادَتِهِ إلَى أُصْبُعِ النَّائِمِ.
كَمَا لَوْ غَصَبَهُ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ ثُمَّ جَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ قَالَ: خَلَا الْوَلَدِ الصَّغِيرُ مَعَ أَبِيهِ الْغَنِيِّ فَلِأَنَّ الْأَبَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى حَاجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِحِفْظِهِ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَا يَكُونُ جَانِبًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الصَّغِيرِ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ ثَابِتَةٌ وَإِنْ غَصَبَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ يَرُدُّهُ أَوْ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ أَمَّا كَسْبُ الْمُكَاتَبِ صَارَ أَحَقَّ بِهِ وَصَارَ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ فَإِذَا أَبَقَ بِهِ عَلَيْهِ صَارَ ضَامِنًا وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ فَكَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ غَاصِبًا وَكَذَلِكَ يُغْصَبُ مِنْ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْمَوْلَى وَلَهُ ذِمَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا غَصْبَهُ مِنْهُ وَالْعَبْدُ فِيمَا يَغْصِبُ مِنْ مَوْلَاهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الدَّيْنِ فِيهَا لِلْمَوْلَى فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ مَوْلَاهُ.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا كَلَامٌ هُوَ عَزِيمَةٌ لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ يُعْمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» وَلَنَا نَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فَكَانَ مُغَيِّرًا لِمُوجَبِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ وَالتَّعْبِيرُ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا مَفْصُولًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ مِنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا أَمَّا هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ لَغْوٌ وَعَزِيمَةٌ فَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ مُتَبَيَّنٌ أَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لَمْ يَكُنْ إيقَاعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيقَاعِ فَصَحَّ ذَلِكَ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ}.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إلَّا نِصْفَهُ صُدِّقَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا قُيِّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى لَا أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} مَعْنَاهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْغَلَطِ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ حَتَّى تَدَارَكَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ؛ لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِغَصْبِ مَا سُمِّيَ عَبْدًا وَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا فَلَمَّا كَانَ تَعْبِيرًا صَحَّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إلَّا مَلْبَسِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْقَرَّارِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نُجَوِّزُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}؛ وَلِأَنَّ طَرِيقَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ لَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّتُهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِطَرِيقِهِمْ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَكَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَالَ إلَّا الْعَبْدَ كُلَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ جُعِلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَكَانَ هَذَا رُجُوعًا لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعُمَرُ فَيَكُونُ إخْبَارًا بِمَجِيئِهِمَا.
فَإِذَا قَالَ غَصَبْتُهُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً كَانَ إقْرَارًا بِغَصْبِهَا؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمَذْكُورِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلثَّانِي خَبَرٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ فَكَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ خَبَرًا لَهُ وَكَذَا خَبَرُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةً مَعَ سَرْجِهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ بِفِعْلِ الْغَصْبِ فِيهِمَا إذْ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَارَنَةُ مِنْهُ إلَّا فِي هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا بِكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ فَرَسًا بِلِجَامِهِ أَوْ عَبْدًا بِمِنْدِيلِهِ فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَصِيرُ هُوَ مُلْصِقًا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْغَصْبِ وَيَكُونُ مَبْنِيًّا أَنَّ عِنْدَ غَصْبِهِ كَانَ اللِّجَامُ مُلْصَقًا بِالدَّابَّةِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا فَكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُ عَبْدًا فَجَارِيَةً فَإِنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَفِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْقِيبِ وَلَنْ تَتَحَقَّقَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا وَعَلَيْهِ كَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجُهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَغْصُوبَ مَحَلًّا لِمَا ذَكَرَهُ آخِرًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا.
وَإِنْ قَالَ كَذَا مِنْ كَذَا بِأَنْ قَالَ غَصَبْتُ مِنْدِيلًا مِنْ غُلَامِهِ أَوْ سَرْجًا مِنْ دَابَّتِهِ كَانَ إقْرَارًا بِالْغَصْبِ فِي الْأَوَّلِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ فَعَلَى أَنَّهُ انْتَزَعَ مَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا مِنْ مِلْكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَقُولُ مِنْدِيلًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ بَدَنِهِ فَلَا يُفْهَمُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا عَلَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ إكَافًا عَلَى حِمَارِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْإِكَافِ خَاصَّةً، وَالْحِمَارُ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْمَغْصُوبِ حِينَ أَخَذَهُ وَغَصْبُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا غَصْبَ الْمَحَلِّ وَلَوْ قَالَ كَذَا فِي كَذَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ كَالْمَاءِ نَحْوَ ثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ طَعَامٍ فِي سَفِينَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي حَقِيقَةً لِلظَّرْفِ فَهُوَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ الثَّانِيَ كَانَ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ مَعَ غَصْبِهِ وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ غَصْبُهُ لَهُمَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ فِي جَوَالِقَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ غَصَبْتُكَ دِرْهَمَيْنِ فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا فَلُغِيَ آخِرُ كَلَامِهِ فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ حَرْفَ فِي بِمَعْنَى حَرْفِ مَعَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْمُولٌ بِمَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (قُلْنَا) إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْمَجَازِ فَكَمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى مَعَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى عَلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ الثَّانِي وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مَعَ لَزِمَهُ وَالذِّمَّةُ فِي الْأَصْلِ بَرِيئَةٌ فَلَا يَجُوزُ شَغْلُهَا بِالشَّكِّ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ الْأَوَّلُ وَسَطَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُكَ ثَوْبًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ قَدْ تَكُونُ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الثَّوْبَ النَّفِيسَ قَدْ يُلَفُّ عَادَةً فِي الثِّيَابِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ حِنْطَةٌ فِي جُوَالِقٍ أَوْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي ثَوْبٍ وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وِعَاءً لِلْعَشَرَةِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا صَرَّحَ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَعُلِّلَ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَوَابِ وَقَالَ: إنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ وِعَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ الْوِعَاءَ غَيْرُ الْمُوعَى وَالثَّوْبُ إذَا لُفَّ فِي ثِيَابٍ فَكُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ مُوعًى فِي حَقِّ مَا وَرَاءَهُ فَلَا يَكُونُ وِعَاءً إلَّا الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ ثَوْبٌ ظَاهِرٌ فَإِذَا كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَحَمْلُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْمُحْتَمَلِ وَبِتَأْوِيلٍ هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْكِرْبَاسُ وَعَشَرَةُ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكَرَابِيسِ عَادَةً.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ طَعَامًا فِي بَيْتٍ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْبَيْتِ وَالطَّعَامِ إلَّا أَنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُحَوِّلْ الطَّعَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ تَامٍّ وَفِي الطَّعَامِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَنْقُلْهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلطَّعَامِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ لِلْبَيْتِ أَيْضًا وَمَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ مَعْرُوفَةٌ.
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ يَوْمًا وَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَى بَيَانِ صَدْرِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ دَعْوَى مُبْتَدِئٍ أَيْ أَوْفَيْتُهُ مَا لَزِمَنِي مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا دَعْوَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلرَّدِّ كَالْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ إذَا ادَّعَى الْإِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ كَلَامًا مَوْصُولًا وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ عَيْنِهِ أَوْ تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ أَوْ طَعَامًا مِنْ بَيْتٍ أَوْ ظَهْرَ دَابَّةٍ ضَمِنَ التَّمْرَ وَالثَّوْبَ وَالطَّعَامَ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ انْتِزَاعَ الْمَغْصُوبِ كَانَ بَيْنَ هَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ يَدِهِ يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْغَصْبِ فِي الثَّوْبِ دُونَ يَدِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.