فصل: كتاب الصوم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب الصوم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا أَيْ وَاقِفَةٌ وَمِنْهُ صَامَ النَّهَارُ إذَا وَقَفَتْ الشَّمْسُ سَاعَةَ الزَّوَالِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ إمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا طَاهِرًا مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَفِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَأَصْلُ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَفِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُوجِبًا، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَأَمَرَ بِالْأَدَاءِ نَصًّا بِقَوْلِهِ فَلْيَصُمْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّوْمَ وَقَدْ كَانَ وَقْتُ الصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَوْ يَنَامُ وَهَكَذَا كَانَ فِي شَرِيعَةٍ مَنْ قَبْلِنَا ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَجَعَلَ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ حِينِ يَطْلُعْ الْفَجْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الصُّبْحُ الصَّادِقُ وَالْخَيْطُ اللَّوْنُ وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» وَسَبَبُ هَذَا التَّخْفِيفِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْهُودًا فَقَالَ: مَا لَك أَصْبَحْت طَلْحًا أَوْ قَالَ طَلِيحًا» الْحَدِيثُ وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي النَّاسِ أَكْلَتَانِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ بِتَرْكِ الْغَدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ بِأَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْعَشَاءُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْقَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَكْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ فِي تَقْدِيمِ الْغَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّحُورِ إنَّهُ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ وَالتَّقَرُّبُ بِالصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ مُجَاهِدَةُ النَّفْسِ وَالْمُجَاهَدَةُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَنْعِ النَّفْسِ مِنْ الطَّعَامِ وَقْتَ الِاشْتِهَاءِ وَالثَّانِي بِالْقِيَامِ وَقْتَ حُبِّهَا الْمَنَامَ وَمِنْ الْمُجَاهَدَةِ حِفْظُ اللِّسَانِ وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ وَذَكَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ لَا أَدْرِي لَعَلَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي هَذَا إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَكِنْ عَظِّمُوهُ كَمَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِنْ مَذْهَبَ نَفْسِهِ، وَلَا رَوَى خَبَرًا بِخِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَالُوا: فِي بَيَانِ الْمَعْنَى إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْمَاضِ، وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالْمُحْرِقُ لِلذُّنُوبِ الْمَذْهَبُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وَقَالَ «: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» وَقَالَ «: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ رَمَضَانَ وَاثِبَاتُ الِاسْمِ لَا يَكُونُ بِالْآحَادِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشَاهِيرِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَالَ: جَاءَ الْحَكِيمُ وَالْعَالِمُ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ): رَجُلٌ تَسَحَّرَ وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمُرَادُهُ الْفَجْرُ الثَّانِي فَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّوْمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُنْتَشِرُ»، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَسَحُّرَهُ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَسَدَ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقِيسُهُ عَلَى النَّاسِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعِنْدَنَا الْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ هَذَا الْغَلَطِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ثُمَّ فَسَادُ صَوْمِهِ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ مَشْرُوعٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ»؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَيَضْمَنُهُ بِالْمِثْلِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْجَانِي قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهَرِ وَاَلَّذِي أَفْطَرَ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ فَعَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا» وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ حِينَ أَفْطَرَ مَعَ الصَّحَابَةِ يَوْمًا فَلَمَّا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ الْمِئْذَنَةَ قَالَ الشَّمْسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ وَقَضَاءَ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جُنُبًا فَصَوْمُهُ تَامٌّ إلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ».
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضِ}، وَإِذَا كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُبَاحَةً فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ضَرُورَةً وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إنِّي أَصْبَحْت جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا رُبَّمَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ: لَسْت كَأَحَدِنَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِمَا يَبْقَى».
وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَذُكِرَ قَوْلُهَا لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: هِيَ أَعْلَمُ حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَيِّتًا ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا أَهْلَهُ، وَإِنْ احْتَلَمَ نَهَارًا لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ»
(قَالَ): وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ، وَإِنْ تَقَيَّأَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ»؛ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ فَفِي تَكَلُّفِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ كُلُّ مُفْطِرٍ غَيْرُ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَلِيءِ الْفَمِ، وَمَا دُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ مَا دُونَ مَلِيءِ الْفَمِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ فَكَانَ قِيَاسَ مَا لَوْ تَجَشَّأَ وَمِلْءُ الْفَمِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِرِيقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَاقِضٌ لِطَهَارَتِهِ فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ أَعَادَهُ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَرَدَّهُ، وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَكَانَ مِلْءَ فِيهِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَادَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الصُّنْعَ فِي طَرَفِ الْإِخْرَاجِ، أَوْ الْإِدْخَالِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ الْإِمْسَاكُ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِرِيقِهِ حَتَّى إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ، وَعَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ تَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فَمِهِ فَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَاهُمَا لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِطَهَارَتِهِ وَفِي الْأُخْرَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِكَثْرَةِ صُنْعِهِ فِي الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ جَمِيعًا فَكَانَ قِيَاسَ مِلْءِ الْفَمِ (قَالَ): وَإِنْ احْتَجَمَ الصَّائِمُ لَمْ يَضُرَّهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّونَ فِيهِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «مَرَّ بِنَا أَبُو طَيْبَةَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَقُلْنَا مِنْ أَيْنَ جِئْت فَقَالَ: حَجَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ «: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ الدَّمَ فَرَخَّصَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَةِ» وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ أَذْهَبَتْ ثَوَابَ صَوْمِهِمَا الْغَيْبَةُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ثُمَّ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ وَبَقَاءُ الْعِبَادَةِ بِبَقَاءِ رُكْنِهَا (قَالَ): وَاذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهَا صَوْمُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَعَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ الْإِفْطَارُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ فِيهِ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَعَلَى هَذَا الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَرِيضُ إذَا بَرِئَ وَالْمُسَافِرُ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ عِنْدَهُ بِخِلَافِ يَوْمِ الشَّكِّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُتَسَحِّرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بَاطِنًا وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ صَارَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى صِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَشْرُوعٌ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ فَوَاتِهِ لِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ، وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهْمَةِ وَاجِبٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفْنَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ».
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إيَّاكَ وَمَا يَقَعُ عِنْدَ النَّاسِ إنْكَارُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكُرًا يُطِيقُ أَنْ يُوسِعَهُ عُذْرًا، وَإِنْ أَكَلَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَحِقَ الْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ سَائِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَالُ إحْدَانَا تَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْضِي صِيَامَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَمَا أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْأَدَاءِ وَفِي قَضَاءِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ عِشْرِينَ يَوْمًا حَرَجٌ بَيِّنٌ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا كَبِيرُ حَرَجٍ (قَالَ): وَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ وَيُبَاشِرُ إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ» وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يُصِيبُ مِنْ وَجْهِهَا، وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِأَدَبِهِ أَوْ لِإِرَبِهِ فَالْأَدَبُ الْعُضْوُ وَالْإِرْبُ الْحَاجَةُ «وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاسْتَغْفِرْ لِي قَالَ وَمَا ذَنْبُك قَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك فَقَالَ: لَا قَالَ: فَقُمْ إذَنْ» وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى بَقَاءِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَانْعِدَامِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِنَفْسِ التَّقْبِيلِ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ فَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ شَابًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَمَنَعَهُ، وَسَأَلَ شَيْخٌ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَلِمْت لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِهِ «أَنَّ الشَّابَّ قَالَ لَهُ: إنَّ دِينِي وَدِينَهُ وَاحِدٌ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ»، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ الْقُبْلَةِ إلَى غَيْرِهَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَعَلَى هَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِلصَّائِمِ وَكَذَلِكَ بِأَنْ يُعَانِقَهَا وَهُمَا مُتَجَرِّدَانِ وَيَمَسَّ ظَاهِرُ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا (قَالَ): وَإِنْ اشْتَبَهَ شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَى الْأَسِيرِ تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَطَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ كَأَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَرِّي، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرِ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا بَعْدَهُ جَازَ بِشَرْطَيْنِ إكْمَالُ الْعِدَّةِ وَتَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَفِي الْقَضَاءِ يُعْتَبَرُ هَذَانِ الشَّرْطَانِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ وَلَمْ يَنْوِ الْقَضَاءَ.
قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَوَّالَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عَنْ الْقَضَاءِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ ذِي الْحَجَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ شَهْرًا آخَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ كَامِلًا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي يَوْمًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ (قَالَ): وَإِنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ لَا يَعْلَمُ فَصَوْمُهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ شَرْطٌ لِأَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي زَمَانِ رَمَضَانَ صَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِ الْفَرْضِ فِيهِ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ فَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وَهَبَ النِّصَابَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ فَقِيرٍ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ.
(وَلَنَا) حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِعْلٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ وَالْعَزِيمَةِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ وَيَصْرِفُ إلَيْهِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَصَرْفُ مَنَافِعِهِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ وَعَزِيمَةٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ النِّصَابِ مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى الْعَزِيمَةِ حَصَلَ لِحَاجَةِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِفَقِيرٍ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَقُولُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ فِي مَعْنَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالشُّرُوعُ فِيهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا كَذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسَادَ الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا بَقِيَ وَأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْأَيَّامِ زَمَانٌ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَإِنْ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا بَقِيَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ صَلَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَسْتَدْعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِيَّةً عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ فَهُوَ صَائِمٌ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَنَوَى النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ كَانَ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَهُوَ كَنِيَّةِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ.
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ قُرْبَةٌ كَأَصْلِ الصَّوْمِ فَكَمَا لَا يَتَأَدَّى أَصْلُ الصَّوْمِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَبِانْعِدَامِ الصِّفَةِ يَنْعَدِمُ الصَّوْمُ ضَرُورَةً وَعَلَى هَذَا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَا يَجُوزُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ صَارَ مُعْرِضًا عَنْ الْفَرْضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايِرَةِ فَصَارَ كَإِعْرَاضِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقِدَ فِي الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُعْرِضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ وَكَانَا يَقُولَانِ، لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا كَانَا يَصُومَانِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ التَّبَيُّنِ يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّحَرُّزِ مِنْهُمَا مَعْنًى ثُمَّ هَذَا صَوْمُ عَيْنٍ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا وَالْمُتَعَيِّنُ فِي زَمَانٍ كَالْمُتَعَيِّنِ فِي مَكَان فَيَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجِنْسِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّوْعِ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ لِبَقَاءِ الِاخْتِيَارِ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصِّفَةِ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إبْدَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِوَصْفٍ آخَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الصِّفَةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَغْوٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ يَكُونُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْرَاضُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ حَتَّى لَوْ أَدَّى جَازَ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُقِيمَ فِي التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ حِينَ قَصَدَ صَرْفَ مَنَافِعِهِ إلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ مَصَالِحِ بَدَنِهِ وَفِي هَذِهِ النِّيَّةِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَصُومَ، أَوْ يُفْطِرَ فَصَحَّ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ أَوْ يُفْطِرَ فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ النَّفَلَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتٌ مُشْتَبَهٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ النُّجُومَ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ سَحَرًا فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَوَّزَ لَهُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِأَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ النِّيَّةُ كَالْقَائِمَةِ حُكْمًا فَأَمَّا النِّيَّةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ وَفِي الْكِتَابِ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَالثَّانِي إذَا نَوَى قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالشَّرْطُ عِنْدَنَا وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِيُقَامَ مُقَامَ الْكُلِّ، وَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الزَّوَالِ نِصْفُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ قَلْبُهُ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ لَا يُجْزِئُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَصْدَ وَالْعَزِيمَةَ عِنْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ لِيَكُونَ قُرْبَةً كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْجُزْءُ قُرْبَةً وَمَا بَقِيَ لَا يَكْفِي لِلْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى مَعَ أَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْفَرْضِ عَلَى الضِّيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى أَلَا مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى اللَّيْلِ ثُمَّ هُوَ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى سَائِرِ الصِّيَامَاتِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَوْمُ صَوْمٍ فَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلصَّوْمِ رُكْنًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِأَكْثَرِهِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ فَيُجْعَلُ كَاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِجَمِيعِهِ ثُمَّ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَاب الصَّوْمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّقْدِيمِ فَصَارَتْ حَالَةُ الشُّرُوعِ هُنَا كَحَالَةِ الْبَقَاءِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا جَازَ نِيَّتُهُ مُتَقَدِّمَةً دَفْعًا لِلْحَرَجِ جَازَ نِيَّتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حَالَةِ الشُّرُوعِ بِطَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالشُّرُوعِ هُنَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ بِالْأَدَاءِ وَمَعْنَى الْحَرَجِ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ لَا يَنْدَفِعُ بِجَوَازِ التَّقْدِيمِ فَفِي الصَّائِمِينَ صَبِيٌّ يَبْلُغُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَحَائِضٌ تَطْهُرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَلَا يَنْتَبِهُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِي أَيَّامِهِ يَوْمَ الشَّكِّ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ لَيْلًا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ.
وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ جَانِبُ الْعَدَمِ ثُمَّ الْقُرْبُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ وَقَعَ فِي تَرْكِ الْغَدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا وَوَقْتُ الْغَدَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ تَارِكًا لِلْغَدَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ، وَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْغَدَاءَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَلَا يَكُونُ صَوْمًا وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَدْ قَدِمَ مِصْرَهُ، أَوْ لَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ يَقُولُ إمْسَاكُ الْمُسَافِرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِصَوْمِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَيْهِ فِي حَقِّهِ إلَى أَوَّلِ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرَ وَقْتِ الْأَدَاءِ مُقَامَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ فَالْمُسَافِرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أُسْوَةُ الْمُقِيمِ إنَّمَا يُفَارِقُهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يَتَرَخَّصْ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي وَقْتِهَا مَعَ ضَرْبِ نُقْصَانٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَبِهَذَا فَارَقَ صَوْمَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْأَيَّامُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ نُجَوِّزْهُ مَعَ النُّقْصَانِ فَلِهَذَا اعْتَبَرَ صِفَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْهُ فَصَوْمُهُ جَائِزٌ، وَقَدْ أَسَاءَ حِينَ تَقَدَّمَ النَّاسَ وَمُرَادُهُ فِي هَذَا يَوْمُ الشَّكِّ وَمَعْنَى الشَّكِّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ وَطَرَفُ الْجَهْلِ بِالشَّيْءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ غُمَّ هِلَالُ شَعْبَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ أَنَّهُ الْيَوْمُ الثَّلَاثُونَ مِنْهُ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ، أَوْ غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، أَوْ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا خِلَافَ إنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِيهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ»؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ نَوَى الْفَرْضَ فَقَدْ اعْتَقَدَ الْفَرِيضَةَ فِيمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَذَلِكَ كَاعْتِقَادِ النَّفْلِيَّةِ فِيمَا هُوَ فَرْضٌ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَأَمَّا إذَا صَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ وَافَقَ ذَلِكَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، أَوْ صَامَ قَبْلَهُ أَيَّامًا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ» وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ كَمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالصَّوْمُ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ.
(قَالَ): إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، أَوْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ نَشِزٍ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ قَالَ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ غَيْمٌ أَظْهَرَ فَإِنَّ الْغَيْمَ مَانِعٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَعِنْدَ قِيَامِهِ أَوْلَى.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ ثُمَّ هُوَ مُخْبِرٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ كَمَنْ رَوَى حَدِيثًا، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَلَعَلَّهُ تَقَشَّعَ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَاتَّفَقَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَنْظَرِ وَحِدَةِ الْبَصَرِ وَمَوْضِعِ الْقَمَرِ فَإِذَا رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ»، وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّيَقُّنِ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ وَتَيَقُّنُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِشَكِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِيهِ عَنْ الْفَرْضِ، وَيَوْمُ الشَّكِّ يُنْهَى فِيهِ عَنْ مِثْلِهِ وَكَمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْفِطْرِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حِينَ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْجَبَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ الْفِطْرُ لَهُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يَصِيرُ شُبْهَةً وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْفِطْرِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْيَوْمُ رَمَضَانُ مِنْ وَجْهٍ شَعْبَانُ مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَا يَلْزَمُهُمْ الصَّوْمَ فِيهِ وَيَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْيَوْمُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ فِيهِ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي فِي حَقِّهِ (قَالَ): رَجُلٌ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ فَقَالَ: قَدْ أَفْطَرَا» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ حُصُولَ الْإِنْزَالِ بِهِ ثُمَّ مَعْنَى افْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قَدْ حَصَلَ بِالْإِنْزَالِ فَانْعَدَمَ رُكْنُ الصَّوْمِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا وَلَكِنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِنُقْصَانٍ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّقْبِيلَ تَبَعٌ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ أَنْزَلَتْ لِحَدِيثِ «أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْرَأَةٍ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَلْتَغْتَسِلْ» أَشَارَ إلَى أَنَّهَا تُنْزِلُ كَالرَّجُلِ، وَإِذَا أَنْزَلَتْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ (قَالَ): وَمَنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي صَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ ذَلِكَ وَالنَّفَلُ وَالْفَرْضُ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَرْضِ يَقْضِي، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْضِي أَيْ لَوْلَا رِوَايَتُهُمْ الْأَثَرَ أَوْ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَالَفَ الْأَثَرَ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ يَنْعَدِمُ بِأَكْلِهِ نَاسِيًا كَانَ، أَوْ عَامِدًا وَبِدُونِ الرُّكْنِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ فَلَا يُمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدَاءِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْطُرْ، وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَفْطَرَ قَالَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الصَّوْمِ زَمَانُ وَقْتٍ لِلْأَكْلِ عَادَةً فَيُبْتَلَى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ وَلَيْسَ بِوَقْتِ الْجِمَاعِ عَادَةً فَلَا تَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ وُرُودًا فِي الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَنْ يَقُولُ: لِغَيْرِهِ اجْعَلْ زَيْدًا وَعُمَرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا فَإِنْ تَذَكَّرَ فَنَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَكَذَا الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُخَالِطٌ لِأَهْلِهِ إذَا نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا جَمِيعًا يَقْضِي الصَّوْمَ لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْمُوَاقَعَةِ، وَإِنْ قَلَّ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَقْضِي بِخِلَافِ النَّاسِي وَالْفَرْقُ أَنَّ اقْتِرَانَ الْمُوَاقَعَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الصَّوْمِ، وَفِي النَّاسِي صَوْمُهُ كَانَ مُنْعَقِدًا وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ فَبَقِيَ صَائِمًا فَإِنْ أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ كَالْإِنْشَاءِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ ابْتِدَاءَهُ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ إذَا أَتَمَّ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ أَوَّلِهِ وَفِي الَّذِي طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ أَوَّلُ فِعْلِهِ عَمْدٌ فَكَذَلِكَ آخِرُهُ بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنْ ذُكِّرَ النَّاسِي فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَأَكَلَ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِبَقَاءِ الْمَانِعِ، وَهُوَ النِّسْيَانُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ قَدْ لَزِمَهُ حِينَ ذُكِّرَ وَعَدَمُ التَّذَكُّرِ بَعْدَ مَا ذُكِّرَ نَادِرٌ فَلَا يُعْتَبَرُ (قَالَ): وَإِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فَسَبَقَهُ الْمَاءُ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ كَمَا لَوْ شَرِبَ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ثُمَّ عُذْرُ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي فَإِنَّ النَّاسِيَ قَاصِدٌ إلَى الشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَهَذَا غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الشُّرْبِ وَلَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ ثَمَّةَ فَهُنَا أَوْلَى.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فَالنَّهْيُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي فِيهَا كَمَالُ السُّنَّةِ عِنْدَ الصَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي حَلْقِهِ مُفْسِدٌ لِصَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعَ عُذْرِ الْخَطَأِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا لَا يُتَصَوَّرُ وَهَكَذَا الْقِيَاسُ فِي النَّاسِي وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ مُمْكِنٌ ثُمَّ رُكْنُ الصَّوْمِ قَدْ انْعَدَمَ مَعْنًى فَإِنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا قَدْ انْعَدَمَ صُورَةً لَا مَعْنًى بِأَنْ يَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَسَدَ صَوْمُهُ فَإِذَا انْعَدَمَ مَعْنًى أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَبْيَنُ مِنْ مُرَاعَاةِ الصُّوَرِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: إنْ كَانَ وُضُوءُهُ فَرْضًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا فَسَدَ صَوْمُهُ لِهَذَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إنْ كَانَ فِي الثَّلَاثِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَإِنْ جَاوَزَ الثَّلَاثَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصْلَ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْعُ الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِهِ نَقُولُ (قَالَ): وَالِاكْتِحَالُ لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَقُولُ: إنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَطَّرَهُ لِوُصُولِ الْكُحْلِ إلَى بَاطِنِهِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعَا بِمُكْحُلَةِ إثْمِدٍ فِي رَمَضَانَ فَاكْتَحَلَ، وَهُوَ صَائِمٌ».
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ» وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فَرْضًا ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا ثُمَّ مَا وَجَدَ مِنْ الطَّعْمِ فِي حَلْقِهِ أَثَرُ الْكُحْلِ لَا عَيْنُهُ كَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَّةِ يَجِدُ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَهُوَ قِيَاسُ الْغُبَارِ وَالدُّخَانِ، وَإِنْ وَصَلَ عَيْنُ الْكُحْلِ إلَى بَاطِنِهِ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْمَسَامِّ لَا مِنْ قِبَلِ الْمَسَالِكِ إذْ لَيْسَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْحَلْقِ مَسْلَكٌ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّائِمِ يَشْرَعُ فِي الْمَاءِ فَيَجِدُ بُرُودَةَ الْمَاءِ فِي كَبِدِهِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ وَعَلَى هَذَا إذَا دَهَنَ الصَّائِمُ شَارِبَهُ فَأَمَّا السَّعُوطُ وَالْوَجُورُ يُفْطِرُهُ لِوُصُولِهِ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ إمَّا الدِّمَاغُ، أَوْ الْجَوْفُ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ لَا يَتِمُّ بِهِ فَإِنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ إلَّا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ.
وَالْحُقْنَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّضِيعِ إذَا احْتَقَنَ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةٌ لِرَضَاعٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانِشَازُ الْعَظْمِ، وَذَلِكَ بِمَا يَحْصُلُ إلَى أَعَالِي الْبَدَنِ لَا إلَى إلَّا سَافِلِ فَأَمَّا الْفِطْرُ يَحْصُلُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ لِانْعِدَامِ الْإِمْسَاكِ بِهِ وَالْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ كَذَلِكَ يُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالدِّمَاغُ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ فَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيُفْطِرُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا صَبَّ الدُّهْنَ فِي إحْلِيلِهِ فَوَصَلَ إلَى مَثَانَتِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ الْمَثَانَةِ إلَى الْجَوْفِ مَنْفَذٌ حَتَّى لَا تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَا فَإِنَّ أَهْلَ الطِّبِّ يَقُولُونَ: الْبَوْلُ يَخْرُجُ رَشْحًا وَمَا يَخْرُجُ رَشْحًا لَا يَعُودُ رَشْحًا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُنَاكَ مَنْفَذٌ عَلَى صُورَةِ حَرْفِ الْخَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُصَبُّ فِي الْإِحْلِيلِ فَأَمَّا الْجَائِفَةُ وَالْآمَّةُ إذَا دَاوَاهُمَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَمْ يُفْطِرْهُ، وَإِنْ دَوَاهُمَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ فَسَدَ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَفْسُدْ فِي قَوْلِهِمَا وَالْجَائِفَةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ وَالْآمَّةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الدِّمَاغِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ أَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْبَاطِنِ مِنْ مَسْلَكٍ هُوَ خِلْقَةٌ فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلصَّوْمِ مَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْإِمْسَاكُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْإِمْسَاكِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ مِنْ مَسْلَكٍ هُوَ خِلْقَةٌ دُونَ الْجِرَاحَةِ الْعَارِضَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمُفْسِدُ لِلصَّوْمِ وُصُولُ الْمُفَطِّرِ إلَى بَاطِنِهِ فَالْعِبْرَةُ لِلْوَاصِلِ لَا لِلْمَسْلَكِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْوُصُولُ هُنَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُولِ حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْيَابِسَ وَالرَّطْبَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ فَالْيَابِسُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَاحَةِ لِاسْتِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاطِنِ، وَالرَّطْبُ يَصِلُ إلَى الْبَاطِنِ عَادَةً فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْيَابِسَ يَتَرَطَّبُ بِرُطُوبَةِ الْجِرَاحَةِ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي أَهْلِهِ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَصْبَحَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ فَإِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَصُورَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تُبَحْ تُمَكِّنْ شُبْهَةً، وَكَفَّارَةُ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اعْتِبَارًا لِآخِرِ النَّهَارِ بِأَوَّلِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ يَتَعَرَّى فِطْرُهُ عَنْ الشُّبْهَةِ وَبَعْدَ السَّفَرِ يَقْتَرِنُ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِالْفِطْرِ، وَلَوْ وُجِدَ هَذَا السَّبَبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَكَانَ الْفِطْرُ يُبَاحُ لَهُ فَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِهِ يَصِيرُ شُبْهَةً (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ «أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَهَا فَضْلَ سُؤْرِهِ فَشَرِبَتْ ثُمَّ قَالَتْ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً لَكِنْ كَرِهْت أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَك فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ صَوْمُك عَنْ قَضَاءٍ فَاقْضِي يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ صَوْمُك تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْت فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْت فَلَا تَقْضِيهِ»؛ وَلِأَنَّ الْمُتَنَفِّلَ مُتَبَرِّعٌ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي آخِرِهِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَوَّلِهِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ يَنْوِي أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ بِتَبَرُّعِهِ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنَّمَا تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ عَمَّا شَرَعَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ حَتَّى لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِالْإِحْصَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ عِنْدِي، وَبِخِلَافِ النَّاذِرِ فَإِنَّهُ مُلْتَزِمٌ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَكَانَ نَظِيرُ النَّذْرِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْكَفَالَةُ وَنَظِيرُ الشُّرُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَصْبَحْت أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْتَدَرْنَا لِنَسْأَلَهُ فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةُ وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا سَبَّاقَةً إلَى الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» فَإِنْ كَانَ هَذَا بَعْدَ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ كَانَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْت فَلَا تَقْضِيهِ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ وَتَعْجِيلُهُ أَوْ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أُمَّ هَانِئٍ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنْهَا بِقَصْدِهَا التَّبَرُّكَ بِسُؤْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ الصَّوْمِ لِفَرْطِ قَصْدِهَا إلَى التَّبَرُّكِ كَمَا «أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ لَمَّا حَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ دَمَهُ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَك عَلَى النَّارِ» وَشُرْبُ الدَّمِ لَا يُوجِبُ هَذَا وَلَكِنَّهُ لِفَرْطِ الْمَحَبَّةِ غَفَلَ عَنْ الْحُرْمَةِ فَأَكْرَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرَ؛ وَلِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلَ قُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ.
وَلَا نَقُولُ: إنَّ تَبَرُّعَهُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَلَكِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمُؤَدَّى لِكَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} كَمَا أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ فَكَمَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ فِيهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الشَّفْعِ الثَّانِي إبْطَالُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ تَعَيَّنَ هَذَا الْيَوْمُ لِأَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ وَالْتَحَقَ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَيَّنِ لِلصَّوْمِ شَرْعًا، وَالْإِفْسَادُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ كَالنَّاذِرِ لَمَّا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ الْتَحَقَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ شَرْعًا حَتَّى إذَا انْعَدَمَ الْأَدَاءُ مِنْهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَنَا فَيَصِيرُ بِالْإِفْطَارِ جَانِيًا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الضِّيَافَةِ هَلْ تَكُونُ عُذْرًا؟ فَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عُذْرٌ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَامْتَنَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَكْلِ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا دَعَاك أَخُوك لِتُكْرِمَهُ فَأَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «: إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَقِيلَ، أَوْ تُشْرِكُ أُمَّتُك بَعْدَك فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ فَقِيلَ وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَقَالَ: أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرْ عَلَى طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ» وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ سَوَاءٌ حَصَلَ الْفِطْرُ بِصُنْعِهِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ حَتَّى إذَا حَاضَتْ الصَّائِمَةُ تَطَوُّعًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ أَبْصَرَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْخُرُوجُ هُنَا مَا كَانَ بِصُنْعِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ لِلْإِتْمَامِ كَالنَّذْرِ مُوجِبٌ لِلْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْإِتْمَامُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (قَالَ): رَجُلٌ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بَعْدَ الْغَدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَهُوَ مُفِيقٌ فَقَدْ صَحَّ مِنْهُ نِيَّةُ صَوْمِ الْغَدِ وَرُكْنُ الصَّوْمِ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يُنَافِيهِ فَتَأَدَّى صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرْطُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ تُوجَدْ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ يَسْتَدْعِي نِيَّةً عَلَى حِدَةٍ وَبِمُجَرَّدِ الرُّكْنِ بِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ (قَالَ): وَإِذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ فَأَنْزَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ مَا لَمْ يَمَسَّهَا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ نَظَرَ مَرَّةً فَكَذَلِكَ، وَإِنْ نَظَرَ مَرَّتَيْنِ فَسَدَ صَوْمُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا الْأُولَى لَك، وَالْأُخْرَى عَلَيْك»؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ الْأَوَّلَ يَقَعُ بَغْتَةً فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْإِمْسَاكُ فَإِذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ فَقَدْ فَوَّتَ رُكْنَ الصَّوْمِ.
(وَلَنَا) أَنَّ النَّظَرَ كَالتَّفَكُّرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرَ فِي جَمَالِ امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ فَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ التَّكْرَارَ كَالْمَسِّ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْمَأْثَمِ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَإِنْ جَامَعَهَا مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْكَفَّارَةُ إمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَقَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَيْسَ عَلَيْهِ: الْقَضَاءُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ لَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْقَضَاءِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُظَاهِرِ سِوَى الْكَفَّارَةِ».
(وَلَنَا) أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَقَدْ انْعَدَمَ الْأَدَاءُ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْذُورًا وَفَوَّتَ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْأَدَاءِ فَيَضْمَنُهُ بِمِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ بِسَبَبِ الْفِطْرِ،
وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَيْسَ بِسَبَبِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ لِلْأَعْرَابِيِّ مَا كَانَ مُشْكِلًا عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُشْكِلٍ فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ «كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» فَانْتَسَخَ بِهَذَا حُكْمُ الْكَفَّارَةِ.
(وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَحَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ حِينَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْت فَقَالَ: وَاقَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا مُتَعَمِّدًا فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ، وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: وَهَلْ أَتَيْت مَا أَتَيْت إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ بِصَدَقَاتِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ: خُذْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجَ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» فَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْتِسَاخُ الْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّهُ عَذَرَهُ فِي التَّأْخِيرِ لِلْعُسْرَةِ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثَبَتَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ لِحَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا».
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ بَيَانُ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بَيَانُ التَّخْيِيرِ ثُمَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ الْأَعْلَى قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَجَعَلَ هَذَا قِيَاسَ الْمُجَامِعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ ذِكْرُ الْبَدَنَةَ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيمَا تَتَأَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ فَكَذَا فِيمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِيهَا.
وَالصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرَيْنِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَضَاءِ وَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَكَانَ رَبِيعَةُ الرَّازِيّ يَقُولُ: الصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا قَالَ: لِأَنَّ السُّنَّةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَصَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ يَقُومُ مَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَبَعْضُ الزُّهَّادِ يَقُولُ: الصَّوْمُ مُقَدَّرٌ بِأَلْفِ يَوْمٍ فَإِنَّ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فَإِذَا فَوَّتَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ أَلْفَ يَوْمٍ لِيَقُومَ مَقَامَهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا رَوَيْنَا، وَهَذِهِ آثَارٌ تَلَقَّتْهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَالْعَمَلُ بِهَا وَإِثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ بِمِثْلِهَا جَائِزٌ، وَكَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَيْهَا إنْ طَاوَعَتْهُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ قَوْلٌ مِثْلُ هَذَا وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ دُونَهَا وَقَوْلٌ آخَرُ فَصَّلَ بَيْنَ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ فَقَالَ: عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ وَيَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهَا إذَا كَانَ مَالِيًّا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ فِي جَانِبِهِ لَا فِي جَانِبِهَا فَلَوْ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ لَبَيَّنَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ الْحَدَّ فِي جَانِبِهَا فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ ثُمَّ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ الْمُوَاقَعَةُ الْمُعْدِمَةُ لِلصَّوْمِ وَالرَّجُلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ دُونَهَا إذْ هِيَ مَحَلُّ الْمُوَاقَعَةِ وَلَيْسَتْ بِمُبَاشَرَةِ لِلْمُوَاقَعَةِ فَكَانَ فِعْلُهَا دُونَ فِعْلِ الرَّجُلِ كَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِخِلَافِ الْحَدِّ فَإِنَّ سَبَبَهُ الزِّنَا وَهِيَ مُبَاشِرَةٌ لِلزِّنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا اشْتَرَكَا فِيهِ كَالِاغْتِسَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالِيًّا تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ كَامِلَةٌ، وَهَذَا السَّبَبُ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهِ فَنُلْزِمُهَا الْكَفَّارَةَ كَمَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَمْكِينَهَا فِعْلٌ كَامِلٌ فَإِنَّ مَعَ النُّقْصَانِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَبَيَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ فِي جَانِبِهِ بَيَانٌ فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ كَفَّارَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْعَسِيفِ فَإِنَّ الْحَدَّ فِي جَانِبِهِ كَانَ هُوَ الْجَلْدُ وَفِي جَانِبِهَا الرَّجْمُ وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً، أَوْ عِبَادَةً وَبِسَبَبِ النِّكَاحِ لَا يَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مُؤَنِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْسُدُ صَوْمُهَا وَالْكَلَامُ فِي هَذَا نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي الْخَاطِئِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ الْمُوَاقَعَةُ الْمُعْدِمَةُ لِلصَّوْمِ فَلَوْ أَوْجَبَ بِالْأَكْلِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُقَاسُ دَوَاعِي الْجِمَاعِ عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَارَةً تَكُونُ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَتَارَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ ثُمَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ مَتَى كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَجِّ فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَاقَعَةِ فِيهِ، وَهُوَ فَسَادُ النُّسُكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالْجَامِعُ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لِلْكَفَّارَةِ الْعُظْمَى فِيهَا فَتَخْتَصُّ بِالْمُوَاقَعَةِ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَإِنَّمَا فَهِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُؤَالِهِ الْفِطْرَ بِمَا يَحُوجُهُ إلَيْهِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: شَرِبْتُ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ عَلِيٌّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ؛ وَلِأَنَّ فِطْرَهُ تَضَمَّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ النَّصِّ فَكَانَ كَالْفِطْرِ بِالْجِمَاعِ وَبَيَانُهُ أَنَّ نَصَّ التَّحْرِيمِ بِالشَّهْرِ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْإِبَاحَةِ بِاللَّيَالِيِ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ النَّصِّ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ ثُمَّ نَحْنُ لَا نُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا نُوجِبُهَا اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ ذَكَرَ الْمُوَاقَعَةَ وَعَيْنُهَا لَيْسَ بِجِنَايَةٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ فِي مَحَلِّ مَمْلُوكٍ وَإِنَّمَا الْجِنَايَةُ الْفِطْرِيَّةُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى النَّاسِي لِانْعِدَامِ الْفِطْرِ وَالْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ لَا بِالْآلَةِ ثُمَّ إيجَابُهُ فِي الْأَكْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أُوجِبَتْ زَاجِرَةً، وَدُعَاءُ الطَّبْعِ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ إلَى الْأَكْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى الْجِمَاعِ وَالصَّبْرُ عَنْهُ أَشَدُّ فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ أَوْلَى كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّأْفِيفِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الشَّتْمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ اسْتَوَى حُرْمَةُ الْجِمَاعِ وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بِخِلَافِ حَالِ عَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ أَغْلَظُ حَتَّى تَزِيدَ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ الْأَكْلِ وَبِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ فِيهِ أَقْوَى حَتَّى لَا يَرْتَفِعَ بِالْحَلْقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ هُنَا فَصَّلَ النَّاسِي فَقَدْ جَعَلْنَا النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الْأَكْلِ حَالَ النِّسْيَانِ كَالْوَارِدِ فِي الْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْمُوَاقَعَةِ كَالْوَارِدِ فِي الْأَكْلِ وَالدَّوَاعِي تَبَعٌ فَلَا تَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ.
ثُمَّ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْفِطْرَ مَتَى حَصَلَ بِمَا يُتَغَذَّى بِهِ، أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِهِ زَجْرًا فَإِنَّ الطِّبَاعَ تَدْعُو إلَى الْغِذَاءِ وَكَذَلِكَ إلَى الدَّوَاءِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ إعَادَتِهَا فَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَ مَالًا يَتَغَدَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: حُصُولُ الْفِطْرِ بِمَا يَكُونُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: رُكْنُ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ إيصَالِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِتَنَاوُلِ الْحَصَاةِ ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ مُفْطِرٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ قَالَ: وَجِنَايَتُهُ هُنَا أَظْهَرُ إذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ سِوَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِخِلَافِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَدَمُ دُعَاءِ الطَّبْعِ إلَيْهِ يُغْنِي عَنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ زَاجِرًا كَمَا لَمْ نُوجِبْ الْحَدَّ فِي شُرْبِ الدَّمِ وَالْبَوْلِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَمَامُ الْجِنَايَةِ بِانْعِدَامِ رُكْنِ الصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى فَانْعَدَمَ مَعْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ إذَا انْعَدَمَ لَمْ تَتِمَّ الْجِنَايَةُ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ (قَالَ): وَإِنْ جَامَعَهَا ثَانِيًا فِي الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كُلُّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ قَالَ: لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصَّوْمِ، أَوْ الْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ الْكَفَّارَاتُ لَا تَتَدَاخَلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ حَتَّى يُفْتَى بِهَا وَتَتَأَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّدَاخُلُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ.
(وَلَنَا) حَرْفَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا حَتَّى أَنَّ الْفِطْرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِانْعِدَامِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَبِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الصَّوْمِ لَا تَتَجَدَّدُ حُرْمَةُ الشَّهْرِ وَمَتَى صَارَتْ الْحُرْمَةُ مُعْتَبَرَةً لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَرَّةً لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِإِيجَابِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِعَيْنِهَا (وَالثَّانِي): أَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَتَتَدَاخَلُ كَالْحُدُودِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجِنَايَاتُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْعُقُوبَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ سُقُوطُهَا بِعُذْرِ الْخَطَأِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ (قَالَ): فَإِنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ وَكَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى إلَّا فِي رِوَايَةِ زُفَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَكْفِيهِ تِلْكَ الْكَفَّارَةُ لِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي مَجْلِسٍ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَلْزَمْهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّدَاخُلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ لَا بَعْدَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ آخَرَ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِطْرٌ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ مَحَلٌّ تُغَلَّظُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَسْبَابِ دُونَ الْمَحَالِّ، فَإِنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِسَائِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ لِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخنَا يَقُولُونَ: لَا اعْتِمَادَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّدَاخُلِ (قَالَ): وَكُلُّ صَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ مُتَتَابِعًا فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ وَمَا ذَكَرَ مُتَتَابِعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ أَمَّا الْمَذْكُورُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْقَدْرِ الْمَنْصُوصِ فَكَذَا بِالْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُتَتَابِعًا فَصَوْمُ الْقَضَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَصْفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى انْهَمُوا مَا أَنْهَمَ اللَّهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قَضَاءِ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَصُومَ مُتَفَرِّقًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ فَقَضَيْت الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْك فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْقَبُولِ» وَاَلَّذِي فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ شَاذٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ): إنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا التَّتَابُعَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى كَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ (قَالَ): رَجُلٌ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَمَرِضَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَقَطَتْ عَنْهُمَا الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَسْقُطُ عَنْهَا بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ الْفِطْرُ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَالْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ الْحَيْضُ وَالْمَرَضُ لَمْ يُصَادِفُ الصَّوْمَ هُنَا فَاعْتِرَاضُهُمَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قِيَاسُ السَّفَرِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: الْحَيْضُ يُنَافِي الصَّوْمَ وَصَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَتَقَرُّرُ الْمُنَافِي فِي آخِرِهِ يُمَكِّنُ شُبْهَةَ الْمُنَافَاةِ فِي أَوَّلِهِ فَأَمَّا الْمَرَضُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالْمَرَضِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةُ الْمُنَافَاةِ فِي أَوَّلِهِ لِلصَّوْمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى مَرِضَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْفِطْرِ فِي صَوْمٍ مُسْتَحَقٍّ وَاسْتِحْقَاقُ الصَّوْمِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَتَقَرُّرُ الْمُنَافَاةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُمَكِّنُ شُبْهَةِ مُنَافَاةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالسَّفَرِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةٌ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى سَافَرَ ثُمَّ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْمُبِيحَةِ وَالصُّورَةُ الْمُبِيحَةُ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ وَلَا إسْنَادَ فِي الصُّوَرِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَعَانِي ثُمَّ السَّفَرُ فِعْلُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ فَإِنَّهُ سَمَاوِيٌّ لَا صُنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ فَإِذَا جَاءَ الْعُذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ سَقَطَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ مُكْرَهًا فَقَدْ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا تَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الصُّنْعَ لِلْعِبَادِ فِيهِ فَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَهُ بِالْمَرَضِ لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ فَبِالسَّفَرِ مُكْرَهًا كَيْفَ تَسْقُطُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ يُرِيدُ بِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالنُّصُوصِ وَالنُّصُوصُ وَرَدَتْ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَالْفِطْرُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِقَضَائِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ الْجِمَاعَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ يُوجِبُ مَا يُوجِبُ فِي الْأَدَاءِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَجِّ النَّفْلِ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ (قَالَ): مُسَافِرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مِصْرَهُ أَوْ بَعْدَمَا قَدِمَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ حِينَ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ فَهَذَا وَالْفِطْرُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ سَوَاءٌ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ أَفْطَرَ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَجَعَلَ وُجُودَ الْإِقَامَةِ فِي آخِرِهِ كَوُجُودِهَا فِي أَوَّلِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الشُّبْهَةُ تَمَكَّنَتْ بِالسَّفَرِ الْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْأَدَاءِ وَصَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهَا حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ مِنْ قَابِلٍ فَصَامَهَا مِنْهُ فَإِنَّ صِيَامَهُ عَنْ هَذَا الرَّمَضَانِ الدَّاخِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ الْمَاضِي وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ عِنْدَهُ الْقَضَاءَ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ يُسْتَدَلُّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى شَعْبَانَ، وَهَذَا مِنْهَا بَيَانُ آخِرِ مَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ فَكَمَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ وَلَنَا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ وَالتَّوْقِيتُ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ يَكُونُ زِيَادَةً ثُمَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ قَضَاؤُهَا لَا يَتَوَقَّتُ بِمَا قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ مِثْلِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَإِنَّمَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا تَخْتَارُ لِلْقَضَاءِ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ وَلَأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ مُؤَقَّتًا بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ فَالتَّأَخُّرُ عَنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ كَالتَّأَخُّرِ عَنْ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَتَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا إنَّمَا وُجُوبُ الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ لَا بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ ثُمَّ الْفِدْيَةُ تَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَبِالتَّأْخِيرِ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ الصَّوْمِ، وَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ وَكَمَا لَمْ يَتَضَاعَفْ الْقَضَاءُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْضَمُّ الْقَضَاءُ إلَى الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّضْعِيفِ (قَالَ): وَإِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ، وَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ شَاكٌّ فَصَوْمُهُ تَامٌّ أَمَّا التَّسَحُّرُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلَةِ السُّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السُّحُورِ» وَالتَّأْخِيرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَالسِّوَاكُ» إلَّا أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِي الْفَجْرِ الثَّانِي فَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَالْأَكْلُ يَرِيبُهُ فَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ شَاكٌّ فَصَوْمُهُ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَالتَّيَقُّنُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ تَسَحَّرَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ بِالسَّبَبِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الشَّكِّ وَلَكِنَّهُ يَأْكُلُ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ لَهُ الْفَجْرُ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَاطَ، وَإِنْ أَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَقُّنِ فِيمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ (قَالَ): وَإِنْ صَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَصُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَبْصَرَ الْهِلَالَ مِنْ الْغَدِ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالرَّجُلُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ وَقَدْ أَخْطَأَ أَهْلُ الْمِصْرِ حِينَ صَامُوا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» فَأَهْلُ الْمِصْرِ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا مُخْطِئِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحِسَابِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا وَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُبَيَّنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَخَنَسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَا صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَهَكَذَا عَنْ عَائِشَةَ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَأَ الرَّجُلِ فِيمَا صَنَعَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ وَاَلَّذِي رَوَى «شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ» الْمُرَادُ فِي حَقِّ الثَّوَابِ دُونَ الْعَدَدِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَفُ فِي خَبَرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِصْرِ رَأَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ فَأَحْصَوْا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا فَقَدْ أَحْسَنُوا وَعَلَى مَنْ لَمْ يَصُمْ مَعَهُمْ قَضَاءُ يَوْمٍ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَفْطَرُوا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ أَلْزَمَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فَقَالَ: هَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَأَنْتَ لَا تَرَى ذَلِكَ، وَهَذَا إلْزَامٌ ظَاهِرٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَيْ الشَّهَادَةِ وَيَثْبُتُ بِمِثْلِهِ مَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الشَّهَادَةِ كَالْمِيرَاثِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ أَبْصَرَ الْهِلَال وَحْدَهُ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَصَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَعَلَّ الْغَلَطَ وَقَعَ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي قَالَ: رَأَيْت الْهِلَالَ أَنْ يَمْسَحَ حَاجِبَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ الْهِلَالُ فَقَالَ فَقَدْتُهُ فَقَالَ: شَعْرَةٌ قَامَتْ مِنْ حَاجِبِك فَحَسِبْتَهَا هِلَالًا، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ احْتِيَاطًا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَحْكُمَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ لَا يُفْطِرَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ (قَالَ): وَإِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَرْجِ فَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْغُسْلُ أَمَّا الْغُسْلُ فَلِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِفِعْلِهِ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِحُصُولِ الْفِطْرِ عَلَى وَجْهٍ تَتِمُّ الْجِنَايَةُ بِهِ قِيلَ تَمَامُ الْجِنَايَةِ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ إنْزَالٍ (قُلْنَا) اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي الْمَحَلِّ يَتِمُّ بِالْإِيلَاجِ فَأَمَّا الْإِنْزَالُ تَبَعٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْجِنَايَةِ فَلَوْ جَامَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِمَا الْغُسْلُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا شَكَّ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَامِلًا فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحَدِّ وَفِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ ظَاهِرٌ فَلَيْسَ لَهَا فِيهِ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ الْفِطْرُ بِجِنَايَةٍ مُتَكَامِلَةٍ إنَّمَا يَدَّعِي أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ وَلَا مُعْتَبَرٌ بِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ (قَالَ): فَإِنْ جَامَعَ بَهِيمَةً، أَوْ مَيْتَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ عِنْدَنَا خِلَافًا للِشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصَّوْمِ وَقَدْ وُجِدَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجِنَايَةُ لَا تَتَكَامَلُ إلَّا بِاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا الْمَحَلُّ غَيْرُ مُشْتَهًى عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَإِنْ حَصَلَ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ، أَوْ لِفَرْطِ السَّفَهِ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَكَلَّفُ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ بِيَدِهِ لَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ): فَإِنْ جَامَعَ أَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَبِهُ فَإِنَّ الْأَكْلَ مَعَ النِّسْيَانِ يُفَوِّتُ رُكْنَ الصَّوْمِ حَقِيقَةً وَلَا بَقَاءَ لِلْعِبَادَةِ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهَا فَيَكُونُ ظَنُّهُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ فَصَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ خَبَرُ النَّاسِي فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ «تِمَّ عَلَى صَوْمِك» فَلَا تَبْقَى شُبْهَةٌ وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالرَّاوِي فَلَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ فَطَّرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِنَّ انْعِدَامَ رُكْنِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَفْتَاهُ مُفْتِي الْعَامَّةِ بِأَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ فَحِينَئِذٍ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي فَتَصِيرُ الْفَتْوَى شُبْهَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» فَاعْتَمَدَ ظَاهِرَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا كَمَا لَوْ اعْتَمَدَ الْفَتْوَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا سَمِعَ حَدِيثًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِظَاهِرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا، وَإِنْ دَهَنَ شَارِبَهُ أَوْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ فَطَّرَهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ اعْتَمَدَ حَدِيثًا، أَوْ فَتْوَى؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ وَالْفَتْوَى بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ (قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ لَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَنَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَلَكِنَّهُ يُمْسِكُ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ وَالْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ مِنْ الشَّهْرِ وَجَعَلُوا إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الشَّهْرِ كَمَا أَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْوَقْتِ، وَالتَّفْرِيطُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْذَرُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ حِينَ قَدِمُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمُوا فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَهُمْ بِصَوْمِ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَاءِ مَا مَضَى» وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى خِطَابِ الشَّرْعِ بِالْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِثَوَابِهَا فَلَا يَثْبُتُ خِطَابُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِمِيعَادِهَا، وَهُوَ الزَّمَانُ فَلَا تَصَوُّرَ لِلصَّوْمِ مِنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِأَوْقَاتِهَا وَالْوَقْتُ ظَرْفٌ لَهَا فَجَعَلَ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ ثُمَّ الْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ (قَالَ): وَلَا تُصَلِّي الْحَائِضُ وَلَا تَصُومُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَيَانِ نُقْصَانِ دَيْنِ الْمَرْأَةِ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» يَعْنِي زَمَانَ الْحَيْضِ فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتْ أَيَّامَ الصَّوْمِ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(قَالَ): وَكُلُّ وَقْتٍ جَعَلْتُهَا فِيهِ نُفَسَاءَ، أَوْ حَائِضًا فَإِنَّهَا تُعِيدُ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تُعِيدُ صَلَاتَهُ وَكُلُّ وَقْتٍ عَدَدْتُهَا فِيهِ مُسْتَحَاضَةً فَإِنَّهَا تُعِيدُ صَلَاتَهُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَلَّتْهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَّتْ وَصَامَتْ فَقَدْ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادَاتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمُسْتَحَاضَةِ «تَوَضَّئِي وَصَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَقَالَ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» ثُمَّ طَوَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ فَذَكَرَ فِي بَابِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَسَائِلَ مِنْهَا أَنْ يَنْقُصَ الدَّمُ عَنْ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ، أَوْ يَزِيدَ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، أَوْ أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ يَسْبِقُ رُؤْيَةُ الدَّمِ أَوَانَهُ فَالِاسْتِحَاضَةُ تَكُونُ بِدَمٍ فَاسِدٍ وَيُسْتَدَلُّ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى أَوَانِهِ عَلَى فَسَادِهِ وَتَمَامُ شَرْحِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ (قَالَ): وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ أَنْ يَصُومَهُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، أَوْ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ أَبُو رَافِعٍ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُنَادِي فِي أَيَّامِ مِنًى أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إذَا كَانَ يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ عَنْ الْوُقُوفِ وَالذِّكْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ فَاسِدًا وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فِي الْقَدِيمِ يَتَأَدَّى صَوْمُ الْمُتْعَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (قَالَ): وَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّجُلِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ فِطْرٍ أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ فَصَامَهَا وَأَفْطَرَ فِيهَا يَوْمًا لِمَرَضٍ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصِّيَامِ لِانْعِدَامِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِالْفِطْرِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَأَفْطَرَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِلْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا اسْتِقْبَالُهُ.
وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ لِاعْتِبَارِ الْعُذْرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ لِانْعِدَامِ التَّتَابُعِ بِالْفِطْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ تَجِدُ الْمَرْأَةُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ مِنْ الْحَيْض إذَا حَبِلَتْ، أَوْ أَيِسَتْ وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجُل يَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْمَرَضِ فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ حَرَجٍ وَالْمَرْأَةُ لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْحَيْضِ عَادَةً فَلَعَلَّهَا لَا تَحْبَلُ وَلَا تَعِيشُ إلَى أَنْ تَيْأَسَ فَفِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِقْبَالِ حَرَجٌ بَيِّنٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ حَتَّى لَوْ تَكَلَّفَ وَصَامَ جَازَ فَانْقِطَاعُ التَّتَابُعِ كَانَ بِفِعْلِهِ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ اسْتَقْبَلَ فَأَمَّا الْحَيْضُ يُنَافِي أَدَاءَ الصَّوْمِ مِنْهَا فَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِفِعْلِهَا إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِصَوْمِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّتَابُعِ فِي وُسْعِهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ.
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ إذَا صَامَتْ شَهْرًا فَأَفْطَرَتْ فِيهِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَعَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ قَبْلَ تَمَامِ الْمَقْصُودِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَوْ حَبِلَتْ بَعْدَ مَا صَامَتْ شَهْرًا فَأَفْطَرَتْ فِيهِ لِعُذْرِ الْحَيْضِ بَنَتْ عَلَى صَوْمِهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْحَبَلِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِصَوْمِهَا اسْتَقْبَلَتْ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ التَّتَابُعَ الَّذِي فِي وُسْعِهَا (قَالَ): وَإِنْ صَامَ عَنْ ظِهَارٍ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا رَمَضَانُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا نَوَاهُ وَكَانَ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا يَتَأَدَّى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ الْوَقْتُ لَا مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُهُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ فَصَامَهُ عَنْ الظِّهَارِ جَازَ عَمَّا نَوَى؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَجَبَ كَانَ مَشْرُوعًا لَهُ، وَكَانَ صَالِحًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ بِهِ قَبْلَ النَّذْرِ، وَهُوَ بِالنَّذْرِ مُوجِبٌ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا تَبْقَى صَلَاحِيَّةٌ لِغَيْرِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَأَمَّا الشَّرْعُ لَمَّا عَيَّنَ صَوْمَ رَمَضَانَ لِلْفَرْضِ نَفَى صَلَاحِيَّتَهُ لِغَيْرِهِ وَلِلشَّرْعِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى صَوْمُ الظِّهَارِ مِنْ الْمُقِيمِ فِي رَمَضَانَ.
وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَفِيهِ قَوْلٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ مُتَتَابِعًا وَكَذَلِكَ صَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} وَاَلَّذِي رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ فِي الْحَجِّ شَاذٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا يَنْوِي قَضَاءَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ فَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطَرَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ التَّبَيُّنِ وَالْيَسَارِ هُوَ فِي نَفْلٍ صَحِيحٍ حَتَّى لَوْ أَتَمَّهُ كَانَ نَفْلًا فَيَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إبْطَالِهِ وَالْقَضَاءُ إنْ أَبْطَلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ شُرُوعُهُ بَنِيَّةِ النَّفْلِ وَكَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مَظْنُونٍ وَكَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ.
(وَلَنَا) أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ أَمَّا فِي حَقِّ الْمُكَفِّرِ فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ حِينَ شَرَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَظْنُونِ فَإِنَّ الْمَرْءَ يُخَاطَبُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْفَرْضُ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ شَرْعًا فَمَا بَقِيَ مِنْ النَّفْلِ إنَّمَا بَقِيَ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُ لَا إيجَابًا عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُتِمَّهُ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ لَمْ يُتِمَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ إبْطَالِ عَمَلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَبْطُلْ عَمَلُهُ بِالْفِطْرِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ كَانَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّفْلِ الْمَشْرُوعِ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْأَوْلَى لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ ثُمَّ الشُّرُوعُ فِي كَوْنِهِ مُلْزَمًا لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ النَّذْرِ وَإِضَافَةُ النَّذْرِ إلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ لَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ فَالشُّرُوعُ أَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ مَا أَدَّى مِنْ الْفَرْضِ قَدْ سَقَطَ بِالتَّبَيُّنِ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ فَالْإِحْرَامُ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا خُرُوجَ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ، فَإِنْ أَحُصِرَ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ فَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ خُرُوجُهُ مِنْ الْأَحْرَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ فِي الْأَصْلِ لَازِمٌ وَالتَّحَلُّلَ بِالْإِحْصَارِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَبْقَى صِفَةُ اللُّزُومِ مُعْتَبَرَةٌ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى الْفَقِيرِ فَوِزَانُهُ مَا لَوْ أَتَمَّ الصَّوْمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا لَا يُمْكِنُهُ إبْطَالُهُ (قَالَ): امْرَأَةٌ أَصْبَحَتْ صَائِمَةً مُتَطَوِّعَةً ثُمَّ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ الْمَوْجُودَ فِي آخِرِ النَّهَارِ فِي مُنَافَاةِ الصَّوْمِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهَا وَالشُّرُوعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّوْمِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا كَالشُّرُوعِ لَيْلًا.
(وَلَنَا) أَنَّ شُرُوعَهَا فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ عِنْدَ الشُّرُوعِ ثُمَّ بِالْإِفْسَادِ وَجَبَ الْقَضَاءُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَالْحَيْضُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الصَّوْمِ دَيْنًا وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَيْضُ مُؤَثِّرًا إذَا صَادَفَ الصَّوْمَ وَهُنَا الْحَيْضُ لَمْ يُصَادِفْ فَاعْتِرَاضُهُ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الشُّرُوعَ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ ثُمَّ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ كَانَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَتْ فَإِنْ لَمْ تُفْطِرْ حَتَّى حَاضَتْ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهَا الْقَضَاءَ أَيْضًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ صَادَفَ الصَّوْمَ وَالْمُنَافَاةُ لَمْ تَكُنْ بِفِعْلِهَا فَلَا تَكُونُ جَانِيَةً مُلْزَمَةً لِلْقَضَاءِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ شُرُوعَهَا قَدْ صَحَّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَذْرِهَا، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ فَحَاضَتْ فِيهِ كَانَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَذُّرُ الْإِتْمَامِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا شَرَعَ فِي النَّفْلِ ثُمَّ أَبْصَرَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (قَالَ): الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ عَنْ ظِهَارٍ إذَا جَامَعَ بِالنَّهَارِ عَامِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ سَوَاءٌ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ غَيْرَهَا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ بِفِعْلِهِ، فَإِنْ جَامَعَ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا، أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا نُظِرَ فَإِنْ جَامَعَ غَيْرَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صَوْمِهِ فَلَمْ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ، وَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي وَالْجِمَاعَ بِاللَّيْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجِمَاعِ غَيْرِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ صَارَ مُؤَدِّيًا صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَلَوْ بَنَى صَارَ مُؤَدِّيًا أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْآخَرَ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الِامْتِثَالِ.
وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا ثُمَّ جَامَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْإِطْعَامِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إخْلَاءُ الشَّهْرَيْنِ عَنْ الْمَسِيسِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذَا فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَمِنْ ضَرُورَةِ الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَسِيسِ الْأَمْرُ بِإِخْلَائِهِمَا عَنْهُ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالْمَنْصُوصِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الشَّهْرَيْنِ عَلَى الْمَسِيسِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ إخْلَاؤُهُمَا عَنْ الْمَسِيسِ فَيَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِقْبَالِ بِخِلَافِ جِمَاعِ غَيْرِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِتَقْدِيمِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ عَلَى جِمَاعِهَا فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِإِخْلَائِهَا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ جِمَاعُهُ فِي الصَّوْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ إذَا انْعَدَمَ بِهِ الشَّرْطُ الْمَنْصُوصُ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي خِلَالِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ يَسَارَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ وَتَبْطُلُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ فِي حَقِّ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِدَوَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي مِثْلِهِ النِّسْيَانُ وَالْعَمْدُ سَوَاءٌ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَالْأَمْرُ بِإِخْلَائِهِ عَنْ الْمَسِيسِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ، وَعِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ (قُلْنَا) مَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ «أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ رَآهَا فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ وَعَلَيْهَا خَلْخَالٌ فَأَعْجَبَتْهُ فَوَاقَعَهَا ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ اسْتَغْفِرْ اللَّهِ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرْ» فَبِهَذَا النَّصِّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالِاطِّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ (قَالَ): وَتَجُوزُ نِيَّةُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِفِطْرِهِ وَالصَّوْمُ وَالْفِطْرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي فَهُوَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ بِأَكْلِهِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُتَطَوِّعُ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ تَزُلْ الشَّمْسُ» يَعْنِي الْمَرِيدَ لِلصَّوْمِ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ فَإِنْ قُلْنَ لَا قَالَ: إنِّي صَائِمٌ» وَفِي حَدِيثِ عَاشُورَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» فَإِنْ كَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ نَفْلًا فَهُوَ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَجَوَازُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ جِهَةَ الْفِطْرِ قَدْ تَعَيَّنَتْ بِتَرْكِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَلَكِنْ بَقِيَ الْأَمْرُ مُرَاعًى مَا بَقِيَ وَقْتُ الْغَدَاءِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ إلَّا تَرْكَ الْغَدَاءِ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ، وَفَوَاتُ وَقْتِ الْغَدَاءِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَإِذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدْ تَرَكَ الْغَدَاءَ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ صَوْمًا (قَالَ): وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ صَائِمًا إذَا نَوَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ فِي يَوْمِهِ شَيْئًا قَالَ: لِأَنَّ النَّفَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى نَشَاطِهِ فَرُبَّمَا يَنْشَطُ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ وَقْتُ الْأَدَاءِ كَمَا قَبْلَهُ وَشَبَّهَهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ يَجُوزُ رَاكِبًا وَقَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى نَشَاطِهِ.
(وَلَنَا) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ تَرْكُ الْغَدَاءِ فِي وَقْتِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَإِنَّ الْعَشَاءَ بَاقٍ فِي حَقِّ الصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ جَمِيعًا، وَوَقْتُ الْغَدَاءِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ دُونَ مَا بَعْدَهُ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْغَدَاءَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَلَا يَكُونُ صَوْمًا، وَأَمَّا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَكُلِّ صَوْمٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ فَسَوَاءٌ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَدَائِهِ يَوْمٌ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَإِمْسَاكُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ إلَيْهِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي وَقْتِهِ فَيَتَوَقَّفُ إمْسَاكُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ النِّيَّةِ ثُمَّ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَذَلِكَ فِيمَا يُفَوِّتُهُ دُونَ مَا لَا يُفَوِّتُهُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ يُفَوِّتُهُ عَنْ وَقْتِهِ وَالنَّفَلُ لَا يُفَوِّتُهُ أَصْلًا فَأَمَّا مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَفُوتُ فَلَا تُقَامُ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْوَقْتِ فِي حَقَّةِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهِ (قَالَ): وَلَا يَكُونُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ، وَإِنْ اجْتَنَبَ الْمُفْطِرَاتِ إلَى آخِرِ يَوْمِهِ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إنَّهُ يَتَأَدَّى مِنْهُ الصَّوْمُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا مَا لَمْ يَنْوِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَعِنْدَنَا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ قُرْبَةً فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْقُرْبَةَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَفِي هَذَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ إنَّمَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ فِي التَّرْخِيصِ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصْ صَحَّتْ مِنْهُ النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ (قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ فَظَنَّ أَنَّ نِيَّتَهُ هَذِهِ قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِ صَوْمَهُ وَأُفْتِيَ بِذَلِكَ فَأَكَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ، وَهُمَا فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إذَا أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى الْفِطْرَ لَا يَبْطُلُ بِهِ صَوْمُهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْطُلُ فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى نِيَّةِ الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَا يَسْتَدْعِي فِعْلًا سِوَى النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدْ أَبْدَلَهُ بِضِدِّهِ وَبِدُونِ الشَّرْطِ لَا تَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ.
(وَلَنَا) الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ» وَبِنِيَّتِهِ مَا وَصَلَ شَيْءٌ إلَى بَاطِنِهِ ثُمَّ هَذَا حَدِيثُ النَّفْسِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا» وَكَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ مِنْ الصَّوْمِ وَبِالِاتِّفَاقِ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالَةِ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ فَفِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا أُفْتِيَ بِأَنَّ صَوْمَهُ لَا يَجُوزُ فَأَفْطَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَائِمًا بِنِيَّتِهِ فَصَارَ بِأَكْلِهِ جَانِيًا مُفَوِّتًا لِلصَّوْمِ فَأَمَّا بَعْدَ الزَّوَالِ إمْسَاكُهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَكْلِهِ جَانِيًا عَلَى الصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْكَفَّارَةُ تَسْتَدْعِي كَمَالَ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَتَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ تَجَرَّدَ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ بِأَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هُوَ صَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ (قَالَ): فَإِنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَكَلَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ بِالْفِطْرِ كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى بِاللَّيْلِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يَنْفِي كَوْنَهُ صَائِمًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ يَبْقَى شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَكَلَ قَبْلَ النِّيَّةِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي آخِرِهِ كَالسَّفَرِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعُذْرُهُ مَا بَيَّنَّا (قَالَ): الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ، وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُبْتُلِيَ بِالْإِغْمَاءِ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ مَعْصُومًا عَمَّا يُزِيلُ الْعَقْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} فَإِذَا كَانَ مَجْنُونًا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْجُنُونُ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِ الصَّوْمِ كَالْإِغْمَاءِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِأَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ الْجُنُونُ يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ شُهُودُ الشَّهْرِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلصَّوْمِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَلَا يُزِيلُهُ فَلِذَلِكَ جُعِلَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ حُكْمًا، وَهُوَ كَابْنِ السَّبِيلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ هَلَكَ مَالُهُ.
(قَالَ): فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مُنِعَ الْقَضَاءُ فِي الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ فِي بَعْضِهِ يُمْنَعُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَقِيَاسًا عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ بَعِيدٌ عَنْ الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّغِيرِ عَنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ فَإِذَا كَانَ الصِّغَرُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَالْجُنُونُ أَوْلَى اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَصَارَ بِهَذَا النَّصِّ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ الْجُنُونُ عَارِضٌ أَعْجَزَهُ عَنْ صَوْمِ بَعْضِ الشَّهْرِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَجَّ ثُمَّ جُنَّ بَقِيَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَلَّى الْفَرْضَ ثُمَّ جُنَّ، وَبَقَاءُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا دَلِيلُ بَقَاءِ أَثَرِ الْخِطَابِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا الْقَضَاءَ لَا لِانْعِدَامِ أَثَرِ الْخِطَابِ بَلْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْحَرَجُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ كَالْحَيْضِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِسَبَبِ الصِّبَا وَلَا بِسَبَبِ الْجُنُونِ وَلَا بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ إلَّا أَنَّ الصِّبَا يَطُولُ عَادَةً فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَالْإِغْمَاءُ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ وَالْجُنُونُ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَإِذَا طَالَ الْتَحَقَ بِمَا يَطُولُ عَادَةً، وَإِذَا قَصُرَ الْتَحَقَ بِمَا يَقْصُرُ عَادَةً ثُمَّ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِتَدْخُلَ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ بِالنَّهَارِ جَازَ صَوْمُهُ عَنْ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَلَا صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَرُكْنُ الصَّوْمِ بَعْدَ النِّيَّةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِيهِ (قَالَ): وَإِنْ جُنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ سِنِينَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَقَضَاءُ الشَّهْرِ الْآخَرِ لِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشُّهُورِ الَّتِي فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْهَا فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ فَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَالْمَحْفُوظُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ حِينَ يَبْلُغُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ فِي الْقِيَاسِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْجُنُونَ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى (قَالَ): مَرِيضٌ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَلَأَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَإِنْ بَرِئَ وَعَاشَ شَهْرًا فَلَمْ يَقْضِ الصَّوْمَ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَصَارَ الْقَضَاءُ دَيْنًا عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ كَانَ مَرِيضًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصَّوْمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» يَعْنِي بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ صَامَ عَنْهُ وَارِثُهُ قَالَ أَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ: وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» ثُمَّ الصَّوْمُ عِبَادَةٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهُ شَاقًّا عَلَى بَدَنِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا أَوْصَى وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُوصِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي دَيْنِ الزَّكَاةِ ثُمَّ الْإِطْعَامُ عِنْدَنَا يُقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَعِنْدَهُ يُقَدَّرُ بِالْمُدِّ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْنُ نَقِيسُهُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ كِفَايَةً لِلْمِسْكِينِ فِي يَوْمِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ صَلَوَاتٌ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ أَوَّلًا: يُطْعِمُ عَنْهُ لِصَلَوَاتِ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالصَّاعُ قَفِيزٌ بِالْحَجَّاجِيِّ، وَهُوَ رُبْعُ الْهَاشِمِيِّ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ كُلُّ رِطْلٍ عِشْرُونَ إسْتَارًا فَذَلِكَ مِائَة وَسِتُّونَ إسْتَارًا وَخَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْحَجَّاجِيِّ كُلُّ رِطْلٍ ثَلَاثُونَ اسْتَارَا فَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ نَصَّ كِتَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ حِينَ حَجَّ مَعَ الرَّشِيدِ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ صَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ سَبْعُونَ شَيْخًا مِنْهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْمِلُ صَاعًا تَحْتَ ثَوْبِهِ فَقَالَ: وَرِثْت هَذَا عَنْ أَبِي عَنْ آبَائِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَتَوَارُثُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقِيهُهُمْ: صَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَحَرِّي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى صَاعِ رَسُولِ اللَّه.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى التَّحَرِّي فَتَحَرِّي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ، وَالْقَفِيزُ الْحَجَّاجِيِّ صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ يَمُنُّ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَيَقُولُ: أَلَمْ أُخْرِجْ لَكُمْ صَاعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
(قَالَ): إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ صَاعُ عُمَرَ حَجَّاجِيًّا ثُمَّ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْهَا لِلنَّفَقَاتِ وَمِنْهَا لِلصَّدَقَاتِ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ مَحْمُولٌ عَلَى صَاعِ النَّفَقَاتِ.
(قَالَ): وَإِنْ صَحَّ بَعْدَ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي صَحَّ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِهَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ، وَهَذَا وَهَمٌّ مِنْ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي النَّذْرِ إذَا نَذَرَ الْمَرِيضُ صَوْمَ شَهْرٍ ثُمَّ بَرَأَ يَوْمًا وَلَمْ يَصُمْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَأَمَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ النَّذْرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرِيضِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ أَدَاءِ الصَّوْمِ حَتَّى يَبْرَأَ فَعِنْدَ الْبُرْءِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ وَالصَّحِيحُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ وَهُنَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَدَاءِ إدْرَاكُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَالْمُسَافِرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ (قَالَ): مُسَافِرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ فَأُفْتِيَ بِأَنَّ صِيَامَهُ لَا يُجْزِئُهُ وَأَنَّهُ عَاصٍ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ».
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَهَذَا يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ ثُمَّ قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ لِبَيَانِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَيَنْتَفِي بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرِو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَفَأَصُومُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُمْ إنْ شِئْت» وَفِي حَدِيثِ «أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا رَوَى «أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مَغْشِيٍّ عَلَيْهِ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَقِيلَ إنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يُعْنَى لِمَنْ هَذَا حَالُهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسَافَرَةَ فِي رَمَضَانَ لَا بَأْسَ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ يَسْتَدِيمُ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُنْشِئُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ لِلَّيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى أَتَى قَدِيدًا فَشَكَا النَّاسُ إلَيْهِ فَأَفْطَرَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ» فَإِنْ سَافَرْتَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ صُمْت فَقَدْ صَامَ، وَإِنْ أَفْطَرْت فَقَدْ أَفْطَرَ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَالثَّالِثُ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالْفِطْرِ وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ ذَلِكَ لِمَنْ أَهَلَّ الْهِلَالُ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا حُجَّةً فَقَدْ أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ لَمَّا أَهَلَّ الْهِلَالُ، وَهُوَ مُقِيمٌ فَقَدْ لَزِمَهُ أَدَاءُ صَوْمِ الشَّهْرِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بِسَفَرٍ يُنْشِئُهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْيَوْمِ الَّذِي يُسَافِرُ فِيهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: صَوْمُ الشَّهْرِ عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ مُقِيمًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ مُسَافِرًا فِي جَمِيعِهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْفِطْرِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفِطْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ تُرِكَ هَذَا الظَّاهِرُ فِي حَقِّ الْجَوَازِ بَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ وَقَاسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يُؤَثِّرُ فِيهِمَا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ».
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «فِي الْمُسَافِرِ يَتَرَخَّصُ بِالْفِطْرِ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّوْمِ حَتَّى شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ أَفْطَرَ» فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ ثُمَّ الْفِطْرُ رُخْصَةٌ، وَأَدَاءُ الصَّوْمِ عَزِيمَةٌ وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَرَجُ فِي حَقِّهِ فِي الْفِطْرِ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ وَحْدَهُ، وَالصَّوْمُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فِي السَّفَرِ يَكُونُ أَخَفُّ مِنْ الْفِطْرِ، وَالْقَضَاءُ وَحْدَهُ فِي يَوْمٍ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهِ مُفْطِرُونَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَإِنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّهِ كَالْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَدِمَ الْمِصْرَ فَأُفْتِيَ أَنَّ صَوْمَهُ لَا يُجْزِيهِ تَصِيرُ هَذِهِ الْفَتْوَى شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا كَوْنُهُ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي آخِرِهِ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُرِيدُ بِهِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ» وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ قِيَاسُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَصَوْمِ شَعْبَانَ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَجُوزُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ» وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَادُ صَوْمَ هَذِهِ الْأَيَّامِ تَطَوُّعًا إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ عَادَتَهُ وَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَالَ: وَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ النِّيَّةَ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَصَارَ بُلُوغُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ كَبُلُوغِهِ لَيْلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ مَا كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَصَوْمُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَإِمْسَاكُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا تَوَقَّفَ عَلَى صَوْمِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْكَافِرِ يُسْلِمُ، وَلَوْ بَلَغَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ فَنَوَى الصَّوْمَ تَطَوُّعًا أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ اشْتِبَاهٌ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَبِيٍّ بَلَغَ وَكَافِرٍ يُسْلِمُ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ صَحِيحٌ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ نِيَّةُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إمْسَاكُهُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ (قَالَ): وَإِذَا ذَاقَ الصَّائِمُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَى جَوْفِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَالْفَمُ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ يَتَمَضْمَضُ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ حَلْقَهُ بَعْدَ مَا أَدْخَلَهُ فَمَه فَيَحُومَ حَوْلَ الْحِمَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»
(قَالَ): وَإِنْ دَخَلَ ذُبَابٌ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُغَذٍّ وَأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ نَظِيرُ التُّرَابِ يُهَالُ فِي حَلْقِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضُرُّهُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتَحَ فَمَهُ فَيَتَحَدَّثَ مَعَ النَّاسِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَغَذَّى بِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ، وَهُوَ نَظِيرُ الدُّخَانِ وَالْغُبَارِ يَدْخُلُ حَلْقَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بِصِفَةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الذُّبَابُ فِي حَلْقِهِ ثُمَّ طَارَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ لَكَانَ بِوُصُولِهِ إلَى بَاطِنِهِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ نَزَلَ فِي حَلْقِهِ ثَلْجٌ أَوْ مَطَرٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ السَّقْفِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَدَخَلَ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنْ تَسَحَّرَ بِالسَّوِيقِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَإِذَا أَصْبَحَ يَدْخُلُ فِي حَلْقِهِ مَعَ رِيقِهِ ثُمَّ مَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ تَبَعٌ لِرِيقِهِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَمْ يَضُرَّ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ تَبَعٌ، وَهَذَا إذَا كَانَ صَغِيرًا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي فَمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ مُمْكِنٌ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِالْحِمَّصَةِ فَإِنْ كَانَ دُونَهَا لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الصَّوْمُ وَقَدْرُ الْحِمَّصَةِ إذَا أَدْخَلَهُ فِي حَلْقِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ فَهُوَ كَالْمُفْطِرِ بِاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَالطِّبَاعُ تَعَافُهُ فَهُوَ نَظِيرُ التُّرَابِ ثُمَّ لِلْفَمِ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ وَجْهٍ وَحُكْمُ الظَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ وَالْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلِهَذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْكَفَّارَةَ (قَالَ): رَجُلٌ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَلَهُ أَنْ يَصُومَهُ مُتَفَرِّقًا أَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ بِنَذْرِهِ؛ فَلِأَنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ}، وَذَمَّ مَنْ تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ بِقَوْلِهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الْآيَةَ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَوْنَ الْمُنْذِرِ قُرْبَةً ثُمَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ فَرْعٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَتَعْيِينُ وَقْتِ الْأَدَاءِ إلَى الْعَبْدِ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ مُتَفَرِّقًا أَوْ مُتَتَابِعًا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْأَيَّامِ وَقْتٌ لَا يَقْبَلُ الصَّوْمَ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَوْ يَنْوِيَهُ فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ جُعِلَ كَالْمَلْفُوظِ.
(قَالَ): فَإِنْ سَمَّى شَهْرًا بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَذَلِكَ إنْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَالَ: مُتَتَابِعًا، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ وَأَيَّامَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ مُتَجَاوِزَةٌ لَا مُتَتَابِعَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ صِفَةُ التَّتَابُعِ فِيهِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ، أَوْ نَوَاهُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى شَهْرًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُعْتَبَرٌ ثُمَّ فِي الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَصُمْهُ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ.
(قَالَ): وَإِنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ سَوَاءٌ أَفْطَرَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ، أَوْ فِي يَوْمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ الْحَالِفَ يُعَاهِدُ اللَّهَ تَعَالَى كَالنَّاذِرِ ثُمَّ شَرْطُ حِنْثِهِ أَنْ لَا يَصُومَ جَمِيعَ الشَّهْرِ فَسَوَاءٌ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ كَلَامُهُ نَذْرًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْعَادَةِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا نَذْرًا بِظَاهِرِهِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا جَمِيعًا كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهُ إنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا كَانَ نَذْرًا وَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْيَمِينِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنْ نَوَاهُمَا وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي اجْتِمَاعِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجَازِ هُنَاكَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي لَفْظِهِ كَلِمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَمِينٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَخَلَ آدَم الْجَنَّة فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ وَالْبَاءَ يَتَعَاقَبَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنْتُمْ لَهُ} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِهِ وَقَوْلُهُ عَلَيَّ نَذْرٌ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنَى النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُمَا فَقَدْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ فَيَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ مَا يُقَالُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجْتَمِعُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي كَلِمَتَيْنِ (قَالَ): وَإِنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا أَفْطَرَ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذَا الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَإِلَى الْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ بِنَذْرِهِ لَا رَفْعُ الْمَنْهِيِّ ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْأَيَّامِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا وَغَدًا يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا آخَرَ فَإِنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ مِنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ، وَإِنْ قَالَ: غَدًا وَغَدًا يَوْمَ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ شَرْعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَالصَّوْمِ لَيْلًا وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ هَذَا الزَّمَانَ لِلْأَكْلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَتَعَيُّنِهِ لِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَنْفِي الضِّدَّ الْآخَرَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً فَلَا يَكُونُ صَوْمًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ» وَمُوجِبُ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يَتَحَقَّقُ؛ وَلِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ اخْتِيَارٌ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الِارْتِكَابِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَبْقَ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا فِيهِ وَمُوجِبُ النَّهْيِ غَيْرُ مُوجِبِ النَّسْخِ فَإِذَا كَانَ مُوجِبُ النَّسْخِ رَفْعَ الْمَشْرُوعِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُوجِبُ النَّهْيِ رَفْعَ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَوْنُ الْإِمْسَاكِ فِيهَا بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَظْهَرُ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِالْفِطْرِ فِيهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُفْطِرًا فِيهِ بِخِلَافِ اللَّيْلِ فَقَدْ جَعَلَهُ مُفْطِرًا بِدُخُولِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَالنَّهْيُ يَجْعَلُ الْأَدَاءَ مِنْ الْعَبْدِ فَاسِدًا وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهِ وَلَكِنَّ صِفَةَ الْفَسَادِ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ أَصْلِهِ شَرْعًا كَمَنْ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ نَفْيُ عَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ شَرْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ حَصَلَ نَذْرُهُ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ وَلَيْسَ فِي النَّذْرِ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ إنَّمَا ذَلِكَ فِي أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَلِهَذَا أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا آخَرَ كَيْ لَا يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ أَدَّى كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهِيَ عَمْيَاءُ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ بِإِعْتَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَقَدْ أَدَّى بِإِعْتَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَدَّى شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهَا، وَكَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَإِذَا صَلَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا نَصَّ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي نَذْرِهِ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا قَالَ: غَدًا لَمْ يُصَرِّحْ فِي نَذْرِهِ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَصَحَّ نَذْرُهُ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ حَيْضِي لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهَا، وَلَوْ قَالَتْ: غَدًا وَغَدًا يَوْمُ حَيْضِهَا صَحَّ نَذْرُهَا.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ إذَا أَفْطَرَ فِيهَا يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ الْتَزَمَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ عَنْ الْمَنْذُورِ، وَلَوْ قَالَ: سَنَةً مُتَتَابِعَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ هَذَا الْقَضَاءَ بِالْأَدَاءِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يُفْطِرُ فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّتَابُعِ فِي وُسْعِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ نَذَرَتْ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا قَضَتْ أَيَّامَ الْحَيْضِ لِمَا بَيَّنَّا (قَالَ): رَجُلٌ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ خَمِيسٍ يَأْتِي عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ خَمِيسًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ إنْ أَرَادَ يَمِينًا فَإِنْ أَفْطَرَ خَمِيسًا آخَرَ قَضَاهُ أَيْضًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَنِثَ فِيهَا مَرَّةً لَا يَحْنَثُ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِحُكْمِ النَّذْرِ لَزِمَهُ صَوْمُ كُلِّ خَمِيسٍ فَكُلُّ مَا أَفْطَرَ فِي خَمِيسٍ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ خَمِيسٍ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ النَّذْرِ بِخِلَافِ إيجَابِ الْكَفَّارَتَيْنِ (قَالَ): وَإِنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ حَقِيقَةٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يُقَالُ الْيَوْمُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْوَقْتِ، وَلَكِنْ إذَا قَرَنَ بِهِ مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، وَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُ الْوَقْتَ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَلَا يَقْضِي هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ قَالَ: لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النَّذْرُ وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فِيهِ فَعِنْدَ وُجُودِهِ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى نَذْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَأَكَلَ الْغَدَ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى وَقْتِ قُدُومِ فُلَانٍ فَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدُومِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالْمُنَجَّزِ، وَمَنْ أَكَلَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ أَبَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِالْتِزَامِ الصَّوْمِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِالْتِزَامِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْأَكْلِ فَهُوَ وَقْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ فِيهِ صَامَهُ لِبَقَاءِ وَقْتِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَصَارَ كَالْمُنَجِّزِ لِلنَّذْرِ فِي الْحَال (قَالَ): رَجُلٌ أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْصِيَةً وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِيَ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ؛ وَلِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى كَانَ فَاسِدًا لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ وَالْقَضَاءِ لِحِفْظِ الْمُؤَدَّى بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ بِنَذْرِهِ صَارَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، وَفِي الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِالشُّرُوعِ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ التَّكْبِيرِ لَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فَكَبَّرَ لَا يَحْنَثُ فَلِهَذَا صَحَّ الشُّرُوعُ، وَهُنَا بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ صَارَ صَائِمًا مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ لَا بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ فَلِهَذَا لَزِمَهُ، وَهُنَا بِهَذَا الشُّرُوعِ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِدُونِ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ (قَالَ): امْرَأَةٌ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ حَيْضِي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَدَاءَ الصَّوْمِ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُنَافِي لَا يَصِحُّ الِالْتِزَامُ كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي أَكَلْت فِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ مُتَحَقِّقٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهَا تَصْرِيحٌ بِالْمُنَافِي فَصَحَّ الِالْتِزَامُ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْحَيْضِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ (قَالَ): وَإِذَا دَخَلَ الْغُبَارُ، أَوْ الدُّخَانُ حَلْقَ الصَّائِمِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَالتَّنَفُّسُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلصَّائِمِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلَوْ طَعَنَ بِرُمْحٍ حَتَّى وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرُّمْحِ بِيَدِ الطَّاعِنِ يَمْنَعُ وُصُولُهُ إلَى بَاطِنِهِ حُكْمًا فَإِنْ بَقِيَ الزَّجُّ فِي جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغِيبًا حَقِيقَةً فَكَانَ وَاصِلًا إلَى بَاطِنِهِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ ابْتَلَعَ خَيْطًا فَإِنْ بَقِيَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِيَدِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَسَدَ صَوْمُهُ (قَالَ): وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ صَبَّ فِي حَلْقِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ وَاعْتُبِرَ صُنْعُهُ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ وُصُولَ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ مَعَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِفِعْلِهِ وَبِفِعْلِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ انَّائِمُ إنْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَاءً فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي إذَا لَا صُنْعَ لَهُ أَصْلًا وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّاسِي مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا صُنْعَ فِيهِ لِلْعِبَادِ فَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ مَنَعَ فَسَادَ صَوْمِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك» وَهُنَا إنَّمَا جَاءَ الْعُذْرُ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الْعِبَادِ، وَهُوَ النَّوْمُ مِنْهُ وَالصَّبُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ فَسَادِ الصَّوْمِ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى بَاطِنِهِ (قَالَ): وَلِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلصَّائِمِ السِّوَاكَ آخِرَ النَّهَارِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَالسِّوَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ وَمَا هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ كَدَمِ الشَّهِيدِ (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» ثُمَّ هُوَ تَطْهِيرٌ لِلْفَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالسِّوَاكُ لَا يُزِيلُ الْخُلُوفَ بَلْ يَزِيدُ فِيهِ إنَّمَا يُزِيلُ النَّكْهَةَ الْكَرِيهَةَ وَمُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ دَرَجَةِ الصَّائِمِ لَا عَيْنُ الْخُلُوفِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُ الرَّوَائِحُ، وَدَمُ الشَّهِيدِ يَبْقَى عَلَيْهِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنِ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّاهِدِ، وَالسِّوَاكِ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالسِّوَاكِ الْأَخْضَرِ وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَبُلَّهُ بِالْمَاءِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا فَهُوَ نَظِيرُ الذَّوْقِ، وَإِدْخَالِ الْمَاءِ فِي فَمِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
(وَلَنَا) حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، وَهُوَ صَائِمٌ»
(قَالَ): وَإِذَا خَافَتْ الْحَامِلُ، أَوْ الْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا أَفْطَرَتْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ»؛ وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهَا الْحَرَجُ فِي نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْحَرَجُ عُذْرٌ فِي الْفِطْرِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَانِيَةٍ فِي الْفِطْرِ وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْفِدْيَةُ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: الْفِطْرُ مَنْفَعَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ الصَّوْمِ خِلْقَةً لَا عِلَّةَ فَيُوجِبُ الْفِدْيَةُ كَفِطْرِ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَنْفَعَةُ شَخْصَيْنِ مَنْفَعَتُهَا وَمَنْفَعَةُ وَلَدِهَا فَبِاعْتِبَارِ مَنْفَعَتِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَبِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ وَلَدِهَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا مُفْطِرٌ يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَشْرُوعَةٌ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ لَا يَكُونُ، وَهُوَ خَلَفٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِاعْتِبَارِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا صَوْمَ عَلَى الْوَلَدِ فَكَيْفَ يَجِبُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ لَوَجَبَ فِي مَالِهِ كَنَفَقَتِهِ وَلَتَضَاعَفَ بِتَعَدُّدِ الْوَلَدِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَاَلَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْهُ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ خَلَفُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ مَشْرُوعٌ لِيَقُومَ مَقَامَ الْأَصْلِ وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ قَدْ لَزِمَهُ لِشُهُودِ الشَّهْرِ حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَصَامَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ لِأَجْلِ الْحَرَجِ، وَعُذْرُهُ لَيْسَ بِعَرَضِ الزَّوَالِ حَتَّى يُصَارَ إلَى الْقَضَاءِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّوْمَ لَزِمَهُ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ خَلَفِهِ كَالْكَفَّارَةِ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَالِ بَلْ بِاعْتِبَارِ خَلَفِهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ وَقِيلَ حَرْفُ لَا مُضْمَرٌ فِيهِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ.
(قَالَ): وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ الطِّينَ، أَوْ الْجَصَّ، أَوْ الْحَصَاةَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَمُرَادُهُ طِينُ الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا أَكَلَ الطِّينَ الْأَرْمَنِيَّ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ رَوَاهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ فَإِنَّهُ وَالْغَارِيقُونَ سَوَاءٌ.
(قَالَ) ابْنُ رُسْتُمَ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِنْ أَكَلَ مِنْ هَذَا الطِّينِ الَّذِي يُقْلَى وَيُؤْكَلُ، قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا وَيُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي فَقَدْ يَنْفَعُ الْمَرْطُوبَ.
(قَالَ): وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ مَضْغُ الْعِلْكِ وَلَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ مَضْغَ الْعِلْكِ، يَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَلَمْ يَأْنِ لَهُ فَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَيَتَّهِمُهُ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ شَيْئًا مِنْهُ حَلْقَهُ فَيَكُونُ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْعِلْكِ لَا تَصِلُ إلَى حَلْقِهِ إنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ طَعْمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْعِلْكُ مُصْلَحًا مُلْتَئِمًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا فَمَضَغَهُ حَتَّى صَارَ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَتَفَتَّتْ أَجْزَاؤُهُ فَيُدْخِلُ حَلْقَهُ مَعَ رِيقِهِ (قَالَ): وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَمْضُغَ الْمَرْأَةُ لِصَبِيِّهَا طَعَامًا إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ، وَيَجُوزُ لَهَا الْفِطْرُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ فَلَأَنْ يَجُوزَ مَضْغُ الطَّعَامِ كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ مِنْهُ حَلْقَهَا فَكَانَتْ مُعَرِّضَةً صَوْمَهَا لِلْفَسَادِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.