فصل: كتاب الصلح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كتاب الصلح:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ نِهَايَةٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا «هَلْ لَكَ إلَى الشَّطْرِ هَلْ لَكَ إلَى الثُّلُثَيْنِ فَدَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ وَمَا كَانَ يَدْعُوهُمَا إلَّا إلَى عَقْدٍ جَائِزٍ» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» وَهَكَذَا كَتَبَ عَلِيٌّ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَوَّلِ لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَشْعَرِيِّ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا كَانَ أَخْذُ الْمَالِ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ كَانَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَهُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ بِالصُّلْحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَا وَالصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَالصُّلْحُ الَّذِي أَحَلَّ حَرَامًا هُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصُّلْحِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ (ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ) أَنَّهُ أَتَى فِي شَيْءٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَجَوْرٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْتُهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَجَوْرٌ أَيْ هُوَ مَائِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ أَوْ عَمَّا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ اجْتِهَادِي مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْجَوْرُ هُوَ الْمَيْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أَيْ مَائِلٌ وَفِيهِ قَالَ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُكْمِ جَائِزٌ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا وَبِالتَّرَاضِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِنَقْلِ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلِيٌّ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ عَلَى ثَمَنِهَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَتِلْكَ الرِّيبَةُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الرُّبْيَةُ وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ الشَّكُّ يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَذَلِكَ يُوقِعُهَا فِي الشَّكِّ لَعَلَّ نَصِيبَهَا أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَقَوْلُهُ الرُّبْيَةُ تَصْغِيرُ الرِّبَا يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ شُبْهَةُ الرِّبَا بِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَخَذَتْ مِنْ النَّقْدِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ أَوْ فَوْقَهُ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُصَالِحُوا بَعْضَهُمْ عَلَى شَيْءٍ يُخْرِجُوهُ بِذَلِكَ مِنْ مُزَاحَمَتِهِمْ.
وَإِنَّ جَهَالَةَ مَا يُصَالِحُ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ مَعَهَا وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ.
ثُمَّ إذَا صُولِحَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُ تَرِكَةِ الزَّوْجِ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ فَصَالَحُوهَا عَنْ الْكُلِّ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُمَلَّكَةً نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُمَا يَقُولَانِ: حِصَّةُ الْعَيْنِ هُنَا مِنْ الْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ صَالَحُوهَا مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحُوهَا عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَمَّا الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ فَهُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ مَالِ الرِّبَا بِحِصَّتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ كَانَ الْفَضْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ رِبًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُهَا ثَمَنُ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ فَنَصِيبُهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ.
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ النَّقْدَيْنِ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَتَصْحِيحُ الْعُقُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ وَالصُّلْحُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَإِنْ صَالَحُوهَا عَلَى عَرَضٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِنَفْسِ مَالِ الرِّبَا فَسَوَاءٌ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الرِّبَا فِي حَالِ التَّصَادُقِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا حَالُ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَعِنْدَ الْإِنْكَارِ الْمُعْطِي يُؤَدِّي الْمَالَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ وَيَفْدِي بِهِ يَمِينَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ لِيَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَالْفَصْلُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى بَقَاءِ الْمَوَدَّةِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ النُّفْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ وَجْهُ الْقَضَاءِ.
فَأَمَّا بَعْدَ مَا اسْتَبَانَ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَا فِي الْإِطَالَةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِمَنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَهِيَ تُمَاضِرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ، ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَحَظُّهَا رُبْعُ الثُّمُنِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَلَمْ يُشِرْ لِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَهَذَا دَلِيلُ ثَرْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيَسَارِهِ وَكَانَ قَدْ قَسَمَ لِلَّهِ تَعَالَى مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي حَيَاتِهِ تَصَدَّقَ فِي كُلٍّ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِجَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْغَنِيِّ مِنْ حِلِّهِ فَابْنُ عَوْفٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تَرْكُ الْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ «مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكَ آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَأَقُولُ أَيْنَ كُنْت فَيَقُولُ مَنَعَنِي عَنْكَ الْمَالُ كُنْت مَحْبُوسًا مَا تَخَلَّصْتُ إلَيْكَ حَتَّى الْآنَ» وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَتَخَارَجُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ يَعْنِي يُخْرِجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَيْسِيرِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا بِقِسْمَةِ الْكُلِّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَدِقُّ الْحِسَابُ أَوْ تَتَعَذَّرُ الْقِسْمَةُ فِي الْبَعْضِ كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ وَنَحْوِهَا.
فَإِذَا أَخْرَجُوا الْبَعْضَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ تَيَسَّرَ عَلَى الْبَاقِينَ قِسْمَةُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ فَجَازَ الصُّلْحُ لِذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْت شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا امْرَأَةً اسْتَوْدَعَتْ وَدِيعَةً فَاحْتَرَقَ بَيْتُهَا فَنَاوَلَتْهَا جَارَةً لَهَا فَضَاعَتْ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْحُجَّةِ الَّتِي يَفْصِلُ الْحُكْمُ بِهَا وَمَا كَانَ يُبَاشِرُ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا حُبِسَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَلِأَجْلِهِ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَلِلصُّلْحِ غَيْرُ الْقَاضِي فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا تُعُيِّنَ لَهُ وَيَدَعَ الصُّلْحَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَجْلِ الِاشْتِبَاهِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِهِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ جَارًا لَهُ كَانَ ضَامِنًا فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى الْغَيْرِ فَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ فَلِاشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَالٍ وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ إنْ شِئْتِ عَدَدْتُهَا لِأَهْلِكَ عِدَّةً وَاحِدَةً وَأَعْتَقْتُكِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَاشْتَرَتْهَا وَأَعْتَقَتْهَا وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شُرُوطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَالْوَلَاءُ لِي وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تُؤَدَّى «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَهْمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغُرُورِ وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِالْغُرُورِ وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ فَإِنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً وَقَدْ اشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرِضَاهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَازَ شِرَاؤُهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الصُّلْحِ مَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي الصُّلْحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْحُكْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بَغْلٍ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةِ رِجَالٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ أَنْتَجَهُ وَجَاءَ الْآخَرُ بِشَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ أَنْتَجَهُ فَقَالَ: عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا اقْضِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِذَلِكَ أَمَّا الصُّلْحُ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ فَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَلِهَذَا سَهْمَيْنِ فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ وَغَلَّظْتُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ أَنْ يَسْتَشِيرَ جُلَسَاءَهُ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا لِنَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْخَمْسَةِ أَكْثَرُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى الْمَثْنَى وَرَدَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِفِقْهٍ خَفِيٍّ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعَدَالَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ.
وَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ يَكُونُ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَفِي حَقِّ مَنْ أَقَامَ خَمْسَةً زِيَادَةُ عَدَدٍ فِي الْعِلَّةِ فَشَهَادَةُ كُلِّ شَاهِدَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا وَالتَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً الِاسْتِحْقَاقُ لَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ أَكْثَرَهُمَا شُهُودًا، ثُمَّ قَالَ فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ وَأَنَّ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَعَ الْإِنْكَارِ جَائِزٌ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الصُّلْحِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ وَلِلْآخَرِ سُبْعَاهُ وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ هَذَا الظَّاهِرَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْقَوْمُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ سَمَّاهُ صُلْحًا وَأَمَّا الْقَضَاءُ لِأَحَدِهِمَا بِأَخْذِ الْبَغْلِ فَهَذَا مَذْهَبٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَكَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ يَمِينَ أَحَدِهِمَا مُرَجِّحَةً لِجَانِبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَا كَقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ فَإِنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ لَا تَثْبُتُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ابْتِدَاءً فَتَقْوَى بِهَا عَلَيْهِ الْعُصُوبَةُ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا لِهَذَا بِخَمْسَةٍ وَلِهَذَا بِسَهْمَيْنِ وَهُوَ عَوْدٌ مِنْهُ إلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُجَجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَفِيهِ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفَصْلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَحُكْمُ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا أَنْ يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَرَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعِي مَعَ الْحُجَّةِ وَالْأُمَّةُ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بابُ الصُّلْحِ في الْعقَارِ:

(قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ صُلْحٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَصُلْحٌ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَصُلْحٌ مَعَ السُّكُوتِ بِأَنْ لَمْ يُجِبْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ وَلَا بِالْإِنْكَارِ وَيَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالسُّكُوتِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَعْمَلْ الشَّيْطَانُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ امْتِدَادِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَمَنْ أَبْطَلَ ذَلِكَ إنَّمَا أَبْطَلَهُ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ وَلِلرِّشْوَةِ وَالْأَعْمَالِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنَّمَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ فَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى وَبِدَعْوَاهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَانَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ وَبِالصُّلْحِ لَا يَحِلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ وَقَاسَ بِصُلْحِ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَالٍ يَأْخُذُهُ لِيُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ أَوْ يُصْلِحَ الْقَائِلُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ الْوَلِيُّ بِمَالٍ يُعْطِيهِ وَيُصْلِحُ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مَعَ مُدَّعِي الرِّقِّ عَلَى مَالٍ لِيَسْتَرِقَّهُ.
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ أَوْ عَنْ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ أَوْ عَنْ الْيَمِينِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ.
.
الْحَدِيثَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ لَا يَرْجِعُ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى وَلَكِنْ يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعَى لَكِنْ يَعُودُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ دَارًا لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعِي وَالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى أَخْذُ الْمَالِ الْمُدَّعَى فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ أَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ هَلَاكَهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ صَالَحَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى مَا كَانَ بَاطِلًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَبْذُلُ الْمَالَ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَى الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ الْمَالَ لِيَكُفَّ عَنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَخُصُومَتُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظُلْمٌ مِنْهُ شَرْعًا وَأَخْذُ الْمَالِ لِيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ رِشْوَةٌ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ» وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ» وَبِنَحْوِ هَذَا يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَصِيرُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي مَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنَازِعْهُ فِي ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَلَكِنْ الصِّدْقُ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا عَارَضَهُ بِإِنْكَارِهِ فَإِنْكَارُهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ تَخْرُجُ دَعْوَاهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَظْهَرْ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَاكِتًا فَالْمُعَارِضُ لَمْ يُوجَدْ فَتَبْقَى دَعْوَى الْمُدَّعِي مُعْتَبَرَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ لَمْ يَبْقَ لِلدَّعْوَى سَبَبٌ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ رِشْوَةً وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فَالتَّقْيِيدُ بِحَالِ الْإِقْرَارِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ الْمُغَيَّا فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُدَّعِي بِمَالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ جَازَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ وَخَبَرُهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ، ثُمَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ إنَّ الْعَيْنَ لِي وَإِنِّي أَمْلِكُهُ مِنْ الْمُدَّعِي بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُودِعَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمُودَعِ وَالْمُدَّعِي قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ مِثْلَ مَا وُجِدَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ صُلْحًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَالَ عِوَضٌ مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُهُ فَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَمَا يُعْطَى مِنْ الثَّمَنِ بَدَلُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَهَذَا فِدَاءٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَعْتِقَ الْعَبْدَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَلَوْ أَبْرَأَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ صَحَّ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ صَالَحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ الْمَالِ الْمُدَّعَى دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ثُمَّ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إبْرَائِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْإِبْرَاءُ صَحِيحًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى مُرَاعَاتِ الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي التَّمَلُّكَاتِ فَأَمَّا فِي الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبُولِ الْمَدْيُونِ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَكِنْ ذَاكَ تَبَعٌ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِسْقَاطُ فَشَرْطُ صِحَّتِهِ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْقِطِ وَذَاكَ ثَابِتٌ بِخَبَرِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ الدَّعْوَى سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ ثُمَّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَالْحُضُورَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «لَكَ يَمِينُهُ» فَعَرَفْنَا أَنَّ جَانِبَ الصِّدْقِ تَرَجَّحَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ وَبَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَإِنَّمَا لَا يُعْطَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى الْمَالَ الْمُدَّعَى لِمَا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» الحديث فَإِذَا تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ ثَبَتَ الْحَقُّ فِي جَانِبِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِسْقَاطِ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَمَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا فَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِي جَانِبِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّوْجَ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَهُ أَوْ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى مَالِ ضَمِنَهُ يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُعْطِي الْمَالَ لَا يَتَمَلَّكُ بِهِ شَيْئًا وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَقَرَّ مَعِي سِرًّا وَأَنْتَ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاكَ فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ فَصَالَحَهُ صَحَّ الصُّلْحُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهُ عَلَى مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ (يُقَرِّرُهُ) أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا، ثُمَّ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ فَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا فَهُوَ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنْ بَدَلَ الصُّلْحِ كَالْمُقَرِّ بِهِ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصُّلْحِ كَالْمُقِرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ أَلْجَأَتْكَ إلَى الصُّلْحِ وَكَانَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيَّ لِأَمْنَعَ ظُلْمَهُ عَنْكَ فَلَمَّا اخْتَرْتَ الصُّلْحَ صِرْتَ كَالْمُقِرِّ لِمَا ادَّعَى وَلَكِنْ هَذَا إقْرَارٌ ثَبَتَ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ فَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَبْطُلُ مَا كَانَ فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ لِمَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلْبَيْعِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فَلِهَذَا يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَقْدِ الصُّلْحِ وَاسْتِحْقَاقُ الدَّعْوَى بِالشُّفْعَةِ حُكْمٌ وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مَعَ فُضُولِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا فِي حَقِّهِ عَنْ الْمُدَّعِي فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ الْتَمَسَهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَهُ مُسْتَحِقُّ الْهَلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الدَّعْوَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ فِدَاءُ الْمَالِ بِالْيَمِينِ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ وَلَوْ فَدَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَجُوزُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ وَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عَشَرَةٌ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عِشْرُونَ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ ثَلَاثُونَ فَأَبَى فَقَالَ: لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ أَرْبَعُونَ فَأَبَى فَحَلَفَ وَمِنْ هَذَا وَقَعَ فِي لِسَانِ الْعَوَامّ أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ يُشْتَرَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَمَّا الْمُودَعُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ الصُّلْحِ هُنَاكَ أَيْضًا فِدَاءً لِلْيَمِينِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ رَدَدْتُ وَهُوَ تَسَلَّطَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَ بَرِيئًا وَهُنَا الْيَمِينُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ عَلَى مَا قَدْ قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ هُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بَذْلٌ مُقَيَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهِمَا وَفِي الْحَقِيقَةِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَغْلِبُ فِي الصُّلْحِ فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ جَائِزٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إلَى بَنِي جَذِيمَةَ دَاعِيًا لَا مُقَاتِلًا وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ خَالِدٌ أَعْطَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا وَقَالَ: ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَدِّهِمْ كُلَّ نَفْسٍ ذَا مَالٍ فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَدَّاهُمْ حَتَّى مِيلَغَةَ الْكَلْبِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ «اذْهَبَا تَحَرَّيَا وَأَقْرِعَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَهَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَفِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَكَيْف يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَجْوَزُ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَنْفَذُ وَأَلْزَمُ فَالصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَفْسُدُ بِأَسْبَابٍ لَا يَفْسُدُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ فَلَا حَاجَة إلَى الصُّلْحِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى بَعْضِ حَقِّهِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّ ثَمَرَةَ الصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا تَمْتَدُّ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَقْدُ الَّذِي يُفِيدُ ثَمَرَتَهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُفِيدًا ثَمَرَتُهُ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ بَيْعًا وَهَذَا الْعَقْدُ اخْتَصَّ بِاسْمٍ فَلَا بُدَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِحُكْمٍ وَذَلِكَ الْحُكْمُ لَا يَكُونُ إلَّا جَوَازَهُ مَعَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ الْمُدَّعَى بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الصُّلْحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ يُحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الثِّيَابُ فِيهِ دَيْنًا إلَّا مَوْصُوفًا مُؤَجَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِي الْعَيْنِ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَقْدٌ هُوَ فَرْعٌ فَيُعْتَبَرُ بِنَظَائِرِهِ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ حَتَّى إذَا كَانَ عَلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دَيْنٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَإِذَا كَانَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالصُّلْحِ وَمَا لَا فَلَا حَتَّى إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى ثَبَتَ بِعَيْنِهِ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَجُوزُ، وَإِنْ قَالَ: أَبَدًا أَوْ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهُ أَرْضًا بِعَيْنِهَا سِنِينَ مُسَمَّاةً يَجُوزُ وَبِدُونِ بَيَانِ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةٌ أَوْ كَتِفُ شَارِعٍ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ فِيهِ وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَيُخَاصِمُهُ فِي طَرْحِهِ مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ النَّافِذَ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ شَيْئًا فَصَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ بِهَذَا الصُّلْحِ حَقَّ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي طَرْحِهِ وَاَلَّذِي خَاصَمَهُ كَانَ مُحْتَسِبًا فِي ذَلِكَ فَارْتَشَى لِتَرْكِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ وَضَعَ الظُّلَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يُطَالِبَ الرَّفْعَ بَعْدَ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقُّ الْمَنْعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الظُّلَّةِ غَيْرُ دَافِعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ كَمَا لَا يَرْفَعُ بَعْدَ الْوَضْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ الْخَاصِّ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ هُنَاكَ الضَّرَرُ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْمَنْعِ وَالرَّفْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ أَصْحَابِ الطَّرِيقِ شَرِكَةُ مِلْكٍ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةَ فَهَذَا الْمَصَالِحُ مَلَكَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِ الظُّلَّةِ وَتُمْلِيك مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ فَإِنْ قِيلَ صَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُخَاصِمُوهُ فِي الطَّرِيقِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْ حَيْثُ إنَّ سَائِرَ الشُّرَكَاءِ لَوْ صَالَحُوهُ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الطَّرِيقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَهُ فَيَصِيرُ كَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي وَضْعِ الظُّلَّةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ حَتَّى إذَا رَضِيَ شُرَكَاؤُهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ حَقُّ قَرَارِ الظُّلَّةِ وَبَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الظُّلَّةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَى الطَّرِيقِ فَالْمَصَالِحُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ وَضْعِ أَصْلِ الْبِنَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ وَتَمْلِيكُ الْأَهْوَاءِ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ كَمَا يَصِحُّ إسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ الظُّلَّةَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَكَانَ الْمُفِيدُ لِلْمَالِ صَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ لِيُوَصِّلَ الْمَنْفَعَةَ إلَيْهِمْ بِإِزَالَةِ الشَّاغِلِ عَنْ هَوَاءِ طَرِيقِهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الظُّلَّةَ كَانَتْ عَلَى بِنَاءٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الظُّلَّةِ يَدَّعِي مِلْكَ ذَلِكَ الْوَضْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَدَّعِي حَقَّ قَرَارِ الظُّلَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَسَقَطَ حَقُّهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ كَصُلْحِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ مَعْلُومٌ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدِمَهُ بَطَلَ الصُّلْحُ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا عَلَى عِوَضٍ فَيَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا خَدَمَهُ نِصْفَ الشَّهْرِ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَاشْتَرَى لَهُ بِالْقِيمَةِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُسْتَأْجَرَ بَطَلَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُصَالَحِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ بَدَلُ الْعَيْنِ لَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا إلَى عِوَضٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَوْتِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُدَّعِي مُمْكِنٌ بِالْإِعَادَةِ إلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى أَنْ نُقِيمَ بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ هَذَا الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِإِعَادَةِ عِوَضِهِ إلَيْهِ فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَقَمْنَا بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ مُوصًى بِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمُصَالَحُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ فَإِذَا هَلَكَتْ الْعَيْنُ وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَ الْمُوصَى لَهُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ هُنَاكَ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ فِيهِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَدَلٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْمُصَالَحُ هُنَاكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ وَفِي الْوَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ قُلْنَا إنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعِوَضٍ فَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِذَا تَمَلَّكَ الْمَنْفَعَةَ بِهِ مَلَكَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ الْبَدَلِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْخُلْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ تَوْضِيحُهُ إنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَهُوَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُمْلَكُ بِعِوَضٍ وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ عِوَضٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلِشَبَهِهِ بِالْوَصِيَّةِ قُلْنَا لَا يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ وَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا أُثْبِتَ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي لِحُصُولِ التَّغَيُّرِ لَا فِي ضَمَانِهِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَجِبُ الْقِيمَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْعَبْدِ فَالْمُصَالَحُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْوَارِثَ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْعَبْدَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الرَّقَبَةِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْقِيمَةِ بِالْقَتْلِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُصَالَحِ فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَثْبُتُ كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ وَإِلَّا وُجِّهَ أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ هُنَا وَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْتَقِيمٌ فَقَدْ قَالَ: إذَا جَنَى الْبَائِعُ عَلَى الْمَبِيعِ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ دَابَّتَهُ هَذِهِ إلَى بَغْدَادَ فَإِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ فِي دَعْوَاهُ بِقَدْرِهِ وَهَذَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْقَيْنَا الصُّلْحَ أَدَّى إلَى تَوْرِيثِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْإِرْثُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الصُّلْحُ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْعَيْنُ صَارَتْ لِوَارِثِهِ وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَفِي سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ فَأَمَّا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَهَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ مَحْفُوظٌ فِي الْأَمَالِي وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ غَيْرِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا أَوْ ادَّعَى بَيْتًا، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهُ شَهْرًا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِمِلْكِهِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ بِعِوَضٍ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَفِي إبْطَالِ هَذَا الصُّلْحِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إعَادَةُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَلِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَبْقَى الصُّلْحُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَارِثُهُ يَنْتَفِعُ بِإِيفَاءِ هَذَا الصُّلْحِ مِثْلَ مَا كَانَ الْمُوَرِّثُ انْتَفَعَ بِهِ وَهُوَ سُقُوطُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ رُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَوَارِثُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الْبَيْتِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِعَقْدِهِ فَأَبْطَلْنَا الصُّلْحَ فَأَمَّا فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَارِثِ فِيهِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ فَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ وَيُشْبِهُ هَذَا بِالْمَنْفَعَةِ إذَا جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ عَنْهَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ أَوْ بَدَلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى حَسَبِ مَا تَكَلَّمُوا فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَانْهَدَمَ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَاقٍ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى مُمْكِنٌ إلَّا أَنَّ تَمَامَ الْمَنْفَعَةِ بِالْبِنَاءِ فَإِذَا رَضِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ بِمَالِهِ فِيهِ لِيَسْكُنَهُ بَقِيَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ لِلتَّغْيِيرِ، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَالْجَوَابُ فِي إجَارَةِ الْبَيْتِ هَكَذَا وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى كَذَا كَذَا ذِرَاعًا مُسَمَّاةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّبَرُّعِ فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى عَيْنٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى كَذَا كَذَا جَرِيبًا مِنْ الْأَرْضِ وَلَوْ ادَّعَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً فِي الدَّارِ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ، ثُمَّ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ حَقًّا، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا إقْرَارٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضٌ لِمَا شُرِطَ لَهُ بِالصُّلْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْجَهَالَةُ إنَّمَا تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي أَرْضَ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ مُجَازَفَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمُعَيَّنَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا بِغَيْرِ ذِكْرِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَيَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ أَيْضًا وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ لَوْ كَانَتْ دَارًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَرُدَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فَكَمَا أَنَّ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ الدَّعْوَى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِيمَا بَقِيَ لِعَيْبِ التَّبْعِيضِ فَإِنْ رَدَّ مَا بَقِيَ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فَإِنْ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ مِنْهُ كَانَ عَلَى نِصْفِ دَعْوَاهُ اعْتِبَارًا لِاسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارٍ لِرَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَنْهُ آخَرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِإِنْكَارٍ أَوْ إقْرَارٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ لِلْمُصَالِحِ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمُصَالِحِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ الَّذِي صَالَحَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَالٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَصْمِ إلَّا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ ضَمِنَ الْمَالَ فَهُوَ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِإِزَاءِ مَا اُلْتُزِمَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْقَطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ لِلْمُصَالَحِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْمُدَّعِي لَمْ يَرْضَ سُقُوطَ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ يَجِبُ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعُرْفُ الظَّاهِرُ وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُوَ إقْرَارٌ لَكَانَ هَذَا كَائِنًا لِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا عَادَ فِي دَعْوَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَالْتِزَامُ الْمَصَالِحِ كَانَ بِالْعَقْدِ فَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ عَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ خُصُومَةُ الْمُدَّعِي مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا لَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ وَجَدَ مِنْهَا زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي صَالَحَهُ دُونَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ الْتَزَمَ بِالْمَالِ بِالْعَقْدِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حِينَ ضَمِنَهُ وَبِالرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَا أَصْلُ الْعَقْدِ فَيَعُودُ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ وَضَمِنَهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا أُؤَدِّيهَا أَجْبَرْتُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالضَّمَانِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَشَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ لَازِمٌ خُصُوصًا إذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الصُّلْحَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَإِنْ رَدَّ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَرَاهِمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ الدَّارِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَدَلِ كَالْمَبِيعِ إذَا اُسْتُحِقَّ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَعْطَى الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَنَّ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْهُ غَيْرَهُ وَضَمِنَ الْمَالَ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِدَرَاهِمِهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ أَدَاءِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ أَدَّى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُهَا أَوْ ثَبَتَ مَعْلُومٌ فِيهَا أَوْ جَمِيعهَا إلَّا مَوْضِعَ ذِرَاعٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَالَحِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ دَعْوَاهُ فِيمَا بَقِيَ دُونَ مَا اسْتَحَقَّ وَهَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا كَانَ حَقِّي مَا بَقِيَ وَقَدْ صَالَحْتُكَ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ جَمِيعُ الدَّارِ وَإِنْ ادَّعَى فِي بَيْتٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحِهِ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَبِيتَ آخَرُ بِعَيْنِهِ سَنَةً وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَالَ:.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ جَازَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى السَّطْحِ الْمُحْجَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّكْنَى عَادَةً فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ لِمَنْفَعَةِ السُّكْنَى قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مَسْكَنٌ كَالْأَرْضِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعْلُومَةً مِنْ الْأَرْضِ لِيَنْزِلَ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ فَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى عَلَيْهِ بِنَصْبِ خَيْمَةٍ فِيهِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَوْ ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ وَأَقَرَّ بِأَنَّ نِصْفَهَا لِذِي الْيَدِ فَصَالَحَهُ ذُو الْيَدِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ وَالْمُسْتَحَقُّ نِصْفٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي لَمْ يُقِرَّ لِذِي الْيَدِ بِحَقٍّ فِيهَا أَوْ قَالَ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ وَقَالَ الْمُدَّعِي كَذَبْتَ بَلْ نِصْفُهَا لِي وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ أَوْ قَالَ: كُلُّهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَقَعَ الصُّلْحِ عَنْهُ بِزَعْمِ الْمُدَّعِي فَهُوَ يَقُولُ: إنَّمَا صَالَحْتُ عَنْ النِّصْفِ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَصَالَحَ الْمُدَّعِي مَنْ دَعْوَاهُ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مُودِعٌ فِيهَا لِتَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ مِنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ لَمْ يُعَايِنْهَا الشُّهُودُ وَلَا عَرَفُوا الْحُدُودَ أَوْ صَالَحَهُ مَنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي دَارٍ وَزَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي صَالَحَهُ عَنْهَا وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هِيَ تِلْكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الصُّلْحَ وَعَادَا فِي الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ وَلَوْ أَنَّ دَارًا فِي يَدَيْ وَرَثَةٍ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا حَقًّا وَبَعْضُهُمْ غَائِبٌ فَصَالَحَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ الْمُدَّعِيَ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّةِ شُرَكَائِهِ مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صُلْحَ الْمُتَبَرِّعِ جَائِزٌ إذَا الْتَزَمَ الْعِوَضَ وَالدَّارُ الْمَوْرُوثَةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ غَيْرُ مُتَمَلِّكٍ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِوَضَ فَلَا يَرْجِعُ هَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْوَرَثَةِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَمْلِكُ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الَّذِي يُصَالِحُهُ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْعِوَضِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَجُوزُ ثُمَّ يَقُومُ هَذَا الْمُصَالِحُ مَقَامَ الْمُدَّعِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِ عَلَى حُجَّةِ الْمُدَّعِي فَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ مِلْكَ شَيْءٍ مَعْلُومٍ بِالْحُجَّةِ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِحِصَّةِ شُرَكَائِهِ الَّتِي لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيهِ وَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ، ثُمَّ خَاصَمَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِالْعَبْدِ أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَلَكَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِمَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَقَالَا وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا وَجَحَدَهُمَا الرَّجُلُ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَهُمَا فِي الدَّارِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ثَمَنِهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ أَحَدَهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مَعَ إنْكَارِ ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الدَّارِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ بِقَبُولِهِ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِحَقِّ الْمُصَالِحِ فِيمَا صَالَحَهُ عَنْهُ فَكَيْف يَصِيرُ مُقِرًّا بِحَقِّ غَيْرِهِ فِيمَا لَمْ يَقَعْ الصُّلْحُ عَنْهُ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: يُشَارِكُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُشَارِكُهُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُصَالِحَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِجِهَةِ الْمِيرَاثِ عَنْ أَبِيهِ وَلِهَذَا كَانَ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِ الْأَبِ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبِ فَلِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ جَمِيعِ دَعْوَاهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَ لَهُ تَسْلِيمَ أَخِيهِ فَإِنْ سَلَّمَ الْأَخُ ذَلِكَ لَهُ جَازَ وَأَخَذَ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَاشَرَا الصُّلْحَ فَالْبَدَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ وَرَدَّ الْمُصَالِحُ عَلَى الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ بَطَلَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ بِرَدِّهِ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ: هِيَ لِي وَلِإِخْوَتِي فَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِذَلِكَ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِإِخْوَتِهِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصُّلْحِ فَيَقُولُ: هُنَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ أَوْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ فَالْقَوْلُ بِقَطْعِ الشَّرِكَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَاصْطَلَحَا فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا ذُو الْيَدِ سَنَةً، ثُمَّ يَدْفَعَهَا إلَى الْمُدَّعِي فَهَذَا جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْمُدَّعِي سَنَةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا لِذِي الْيَدِ وَهَذَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَتِهَا وَيَبْقَى مِلْكُهُ فِي مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَسْتَوْفِيهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى سَنَةً وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ بَعْضُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ سَنَةٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا الْإِضَافَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يُعِيرُهَا مِنْ ذِي الْيَدِ سَنَةً، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُمَلَّكًا رَقَبَتَهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ مُبْقِيًا مَنْفَعَتَهَا سَنَةً عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَوْفِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ صَارَتْ الدَّارُ لِوَرَثَتِهِ وَبَقِيَتْ السُّكْنَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوصِي يَسْتَوْفِيهَا الْمُوصَى لَهُ بِإِخْلَائِهَا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ الْمُؤَجَّرَةَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَتَبْقَى مَنْفَعَتُهَا عَلَى حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَمْتَلِكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْبَائِعِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى حُجَّتِهِمْ فِي إثْبَاتِ أَنْصِبَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شُرَكَاءِ الْمُدَّعِي لِتَمَلُّكِ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ فِي أَرْضِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ذُو الْيَدِ خَمْسَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ رَقَبَتَهَا لِلْمُدَّعِي فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَاِتَّخَذَهَا مَسْجِدًا، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا دَعْوَى فَصَالَحَهُ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ وَاَلَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْمَسْجِدُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الصُّلْحِ وَلَوْ صَالَحَهُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ كَالْفُضُولِيِّ وَالْتَزَمَ الْمَالَ كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا فَإِذَا صَالَحَهُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ أَوْ وَهَبَهَا لِابْنٍ صَغِيرٍ أَوْ جَعَلَهَا مَقْبَرَةً أَوْ غَيَّرَهَا عَنْ حَالِهَا، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهَا الْمُدَّعِيَ فَهُوَ فِيمَا يَلْتَزِمُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ لَا يَكُونُ دُونَ فُضُولِيٍّ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ ثُمَّ صَالَحَهُ جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَنْكَرَ فِي الِابْتِدَاءِ وَصَالَحَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ فَالصُّلْحُ مَاضٍ وَهُوَ آثِمٌ بِالْجُحُودِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِيهِ ظَالِمًا وَلَكِنْ الصُّلْحُ مِنْ الْمُدَّعِي إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ بِعِوَضٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَ الْخَصْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ مِنْ الْمُسْقِطِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الطَّالِبَ لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ وَهُوَ جَاحِدٌ لِلدَّيْنِ كَانَ إبْرَاؤُهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ جُحُودُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْقِطِ فِي حَقِّهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ الزَّوْجِ بِعِوَضٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ إنْكَارُ الْقَاتِلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَفْوِ مِنْ الْوَلِيِّ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً، ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَاحِبُهُ جَازَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ صَارَتْ خِدْمَتُهُ لِلْمُدَّعِي وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَصِيبِهِ نَافِذٌ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ نَفَذَ وَكَانَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ عَلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي بَقَاءَهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُدَّعِي لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْخِدْمَةِ وَنُفُوذُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ مِنْ رَقَبَتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فِيهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْآجِرِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُؤَجَّرَ أَوْ الْوَارِثِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَوْ الرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِلْخِدْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ خِدْمَتَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ (قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ أَهْلَ الْمُدَّعِي إذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ كَانَ هُوَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ وَالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِهِ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَسْتَخْدِمُ الْعَبْدَ فِي أَهْلِهِ وَتَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْآجِرِ عِنْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ وَتَكْلِيفِهِ خِدْمَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْهَا فِي الْحَضَرِ (قَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ) وَاَلَّذِي يَتَرَاءَى لِي مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقِرُّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِالْعَبْدِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُؤَاجِرَ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ فَأَمَّا هُنَا فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْخِدْمَةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ دُونَ الْوَارِثِ فَالْمُدَّعِي هُنَا بِإِخْرَاجِهِ إلَى أَهْلِهِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَ يُخْرِجُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مَوْضِعَ جُذُوعٍ أَوْ ادَّعَى فِي دَارِهِ طَرِيقًا أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ فَجَحَدَهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَجَهَالَةُ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَإِنَّ تَسَلَّمْهُ بِالصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُسْتَحِقًّا وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارِهِ أَوْ عَلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَلَى الْحَائِطِ مِنْ دَارِهِ جِذْعًا فَالصُّلْحُ عَلَى الطَّرِيقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الطَّرِيقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَقَعُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ يَجُوزُ وَبَيْعُ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْمِيزَابِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَكَثْرَتِهِ وَالضَّرَرُ بِحَسَبِهِ يَخْتَلِفُ، وَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْوُضُوءِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ أَيْضًا بِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَتِهَا فَكَذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعِ الْجِذْعِ مِنْ الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ فَاسْتِئْجَارُ الْحَائِطِ لِوَضْعِ الْجِذْعِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شِرْبِ نَهْرٍ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ وَجَرَيَانُ أَصْلِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ عَلَى خَطَرٍ وَمِقْدَارُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسِيلَ مَاءٌ فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ ذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى عُشْرِ نَهْرٍ بِأَرْضِهِ أَوْ عَلَى عُشْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ فَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ هُنَا جُزْءٌ مَعْلُومٌ رُقْبَةُ النَّهْرِ وَاسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ فَهَذَا إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ رَجَعَ فِي نِصْفِ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي الْكُلِّ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ أَخَذَ مِنْ الْمُدَّعِي ثَوْبًا رَجَعَ الْمُدَّعِي فِي نِصْفِ الدَّعْوَى وَنِصْفِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي شَيْئَيْنِ الْمُدَّعَى وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّوْبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَعْلُومُ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَجْهُولِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الِانْقِسَامِ سِوَى الْمُنَاصَفَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَدَلُ الْمِائَةِ وَالْعَبْدِ فَكَانَ بِإِزَاءِ الْعَبْدِ نِصْفَ الثَّوْبِ؛ وَنِصْفُ الْمُدَّعَى بِإِزَاءِ الْمِائَةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِمَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ نِصْفُ الدَّعْوَى وَنِصْفُ الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ رَجَعَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ بِحِصَّةِ الثَّوْبِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ ادَّعَى مِنْ الدَّارِ فَيَعُودُ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا وَيُقَوَّمُ الثَّوْبُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً رَجَعَ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالْمُدَّعَى مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا الْمِائَةُ وَالْعَبْدُ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ كَانَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ فِي الدَّارِ فَقَالَ الطَّالِبُ كَانَ لِي نِصْفُ الدَّارِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ لَكَ عُشْرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي الدَّارُ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَأَصْلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الدَّارُ وَالصُّلْحُ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ الزِّيَادَةِ (أَلَا تَرَى)
أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا وَقَبَضَ الطَّعَامَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ كَانَ طَعَامِي الَّذِي بِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الرَّجُلُ كَانَ نِصْفَ كُرٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا فِي دَارٍ بِعَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ فَقَالَ الَّذِي قَبَضَ الشِّقْصَ كَانَ الْمَبِيعُ ثُلُثَ الدَّارِ وَكَانَ لِلْآجِرِ نِصْفُ الدَّارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَابِضٌ لِلْمُشْتَرَى بِالْعَقْدِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي أَيْدِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ مِنْهَا وَسَاحَتُهَا عَلَى حَالِهَا وَاخْتَصَمُوا فِيهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ وَحَقُّهُمْ فِي السَّاحَةِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَعْمِلٌ لِلسَّاحَةِ فِي حَوَائِجِهِ وَلِلِاسْتِعْمَالِ يَدٌ فَلِهَذَا قُضِيَ بِالسَّاحَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ لِفُلَانٍ نِصْفَ السَّاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ رُبْعُهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَنْ تَرَاضٍ فِيمَا لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا فَيَجُوزُ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ مَنْزِلِهِ مِنْهُ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَلَّ الْعِوَضُ أَوْ كَثُرَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهَا مَنْزِلٌ وَفِي يَدِ آخَرَ مَنْزِلٌ وَقَالَ أَحَدُهُمَا الدَّارُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَانِ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هِيَ كُلُّهَا لِي فَلِلَّذِي ادَّعَى جَمِيعَهَا مَا فِي يَدِهِ وَنِصْفُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي النِّصْفَ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ شَائِعًا فَيَكُونُ مُدَّعِيًا نِصْفَ كُلِّ جُزْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ وَالْقَوْلُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا فَهُوَ يَدَّعِي نِصْفَ ذَلِكَ وَلَا مُدَّعِيَ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ سِوَى مَنْ يَدَّعِي جَمِيعَهَا وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ كَذَلِكَ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ شَائِعًا فَمُدَّعِي النِّصْفِ مُدَّعٍ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ السَّاحَةِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلِهَذَا كَانَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي الْجَمِيعِ صَاحِبُهُ يَدَّعِي نِصْفَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَد الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ بِعِوَضٍ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَازِلًا فِي مَنْزِلٍ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ فِي عُلُوِّ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ كَالسُّفْلِ فَهُمَا كَبَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْتَيْنِ وَالْمَنْزِلَيْنِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِثُبُوتِ يَدِهِمَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُقَالُ السَّاحَةُ أَرْضٌ مِنْ جِنْسِ حَقِّ صَاحِبِ السُّفْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوْلَى بِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْيَد لَا تَكُونُ بِالْمُجَانَسَةِ بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ وَصَاحِبُ الْعُلْوِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا كَصَاحِبِ السُّفْلِ فَإِنْ اصْطَلَحَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ الْعُلْوَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ السُّفْلَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ جَازَ لِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ بِالتَّرَاضِي وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ دَارَيْ رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَجُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ جُذُوعِ الْآخَرِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَائِطِ وَأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِوَضْعِ حِمْلٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْحَائِطَ تُبْنَى لِوَضْعِ ثَلَاثَةِ جُذُوعٍ عَلَيْهِ كَمَا يُبْنَى لِوَضْعِ عَشَرَةٍ مِنْ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ عَلَيْهِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ لَا يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلِلْمُسَاوَاةِ هُنَا طَرِيقَانِ إمَّا رَفْعُ فَضْلِ جُذُوعِ صَاحِبِهِ أَوْ بِأَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ وَالرَّفْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ فَالْوَضْعُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَدْمِ الْحَائِطِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ وَيَفْتَحَ فِيهِ كُوَّةً وَجَمْعُهُ كُوًى وَلَا بَابًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يَكُونُ رَفْعًا لِبَعْضِ الْحَائِطِ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِ الْبَعْضِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِّ وَلَا كَذَلِكَ بِنَاءُ الْحَائِطِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَضْعُ حِمْلٍ زَائِدٍ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْحَائِطِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي حَائِطِ سَاحَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بِأَصْلِهِ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ وَعَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا مُسَمًّى مَعْرُوفًا يَحْمِلُ عَلَيْهِ جُذُوعَ عُلُوٍّ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ مَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَإِذَا اخْتَصَمَا فِي حَائِطٍ وَكَانَ مَخُوفًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَهْدِمَاهُ أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَاهُ عَلَى أَنْ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَيْهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَحْمِلَا عَلَيْهِ مِنْ الْجُذُوعِ قَدْرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي نَصِيبِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ فِي يَدِ رَجُلٍ لَهُ سَطْحٌ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لِأَحَدِهِمَا وَيَكُونُ سَطْحُهُ لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ إذْ سَطْحُهُ لَا بِنَاءَ عَلَيْهِ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحٍ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ فَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ الْجَوَابَ عَلَى سَطْحٍ مُحْجَرٍ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ السَّطْحُ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْهَوَاء وَهُوَ لَا يُمْلَكُ بِالصُّلْحِ كَمَا لَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ حَجَزَة فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عُلُوُّهُ وَلِلْآخَرِ سُفْلُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ قَوْمٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا فَاخْتَصَمُوا فِي دَرَجٍ فِيهَا مَعْقُودٌ بَازِجٌ سُفْلُهَا وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَظَهَرَ الدَّرَجُ طَرِيقٌ لِلْآخَرِ إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدَّرَجِ كُلِّهَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّهَا فِي يَدِهِ غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ طَرِيقًا عَلَيْهَا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ بِالظَّاهِرِ يَدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقَ وَلَا يَسْتَحِقُّ ابْتِدَاءً وَقَدْ عَرَفْنَا طَرِيقَ صَاحِبِ الْعُلْوِ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ طَرِيقَهُ بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ كَانَ لِإِنْسَانٍ حَائِطٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ وَضْعٍ فَاخْتَلَفَا فِيهِ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَكِنْ تُتْرَكُ جُذُوعُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَسْتَحِقُّ رَفْعَ جُذُوعِ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ رَوْشَنٌ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَوْشَنِي وَهُوَ عَلَى مَنْزِلِ صَاحِبِ السُّفْلِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَعُرِفَ ذَلِكَ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ فَالرَّوْشَنُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ لَا السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَقْفِ مَنْزِلِهِ فَيَكُونُ فِي يَدِهِ وَلَكِنْ صَاحِبُ الْعُلْوِ الْمُحْجَرِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ الْمَمَرَّ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا لَهُ وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ سُفْلٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَبَيْتٌ عُلْوٌ عَلَيْهِ فِي يَدِ آخَرَ فَسَقْفُ السُّفْلِ وَهَوَادِيهِ وَجُذُوعُهُ وَبِوَارِيهِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْتًا بِسَقْفٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَبْنِي الْبَيْتَ يَجْعَلُهُ مُسَقَّفًا وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ سُكْنَاهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ مَا كَانَ مَعْلُومًا بِالسُّكْنَى فَكَذَلِكَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ لِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ بَيْتًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ فِي يَدِ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقِرٌّ لِصَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ فَوَهِيَ الْبُنْيَانَانِ جَمِيعًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَنْقُضَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا اصْطَلَحَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إصْلَاحَ مِلْكِهِ شَرْعًا وَيُؤْمَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ هَدَمَ بِنَاءَ السُّفْلِ وَلَوْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فَإِذَا كَانَ عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ بِنَاءُ السُّفْلِ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا وَلَكِنْ يَبْنِي صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ عُلْوَهُ وَلَا يَسْكُنُهُ صَاحِبُ السُّفْلِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَ سَعَفُهَا إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ الْآخَرُ قَطْعَ سَعَفِهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لِهَوَاءِ مِلْكِهِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالتَّفْرِيغِ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ مِنْ أَنْ يَجُوزَ إلَى هَوَاءِ مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَفْرِيغُ هَوَاءِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ لِصَاحِبِ النَّخْلَةِ فِي قَطْعِ سَعَفِهَا فَإِنْ صَالَحَهُ رَبُّ النَّخْلَةِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّعَفَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ هَوَاءِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالصُّلْحِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ جُزْءٍ مِنْ الْهَوَاءِ بِعِوَضٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ إذْ أَنَّ السَّعَفَ يَطُولُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ.
وَلَوْ أَنَّ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى كَرْيِهِ أَوْ بِوَضْعِ مَمْشَاةٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَصْطَلِحُوا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَإِنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ وَاجِبٌ فَإِذَا اصْطَلَحُوا كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا فَفِي الْقَنْطَرَةِ وَالْمَمْشَاةِ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْمُلَّاكِ وَإِنَّمَا يُجْبَرُونَ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْكَرْيُ فَإِنِّي أُجْبِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ ضَرَرًا عَامًّا فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي النَّهْرِ حَقَّ السَّقْيِ فَيَتَضَرَّرُونَ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِمْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِالْكَرْيِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الشُّرَكَاءَ فِيهِ عَلَى الْكَرْيِ وَتَمَامُ هَذَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ.
وَلَوْ ادَّعَى زَرْعًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ بِمُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِإِنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِفْرَاكِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا وَلِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ مِنْ شَرِيكِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ جَائِزٌ وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ لِرَجُلَيْنِ فِيهَا زَرْعٌ لَهُمَا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَجَحَدَاهُ، ثُمَّ صَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَ الزَّرْعِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِعِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نِصْفَ الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدَيْهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الصُّلْحَ صَارَ نِصْفُ الزَّرْعِ لِلْمُصَالَحِ فَيُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ وَتَفْرِيغِ أَرْضِ الْآخَرِ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِقَلْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْآخَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبِنَاءِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ سَقْفًا فِي دَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعْلُومٍ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنْ أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْقَاقُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِالصُّلْحِ كَاسْتِحْقَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ وَلِهَذَا قَالَ: يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا أَجَّرَ الْمُؤَجَّرَ مِنْ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْقَاقُهُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَكَمَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ مَعَ غَيْرِ الَّذِي صَالَحَهُ بِالْإِجَارَةِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ مَعَ الَّذِي صَالَحَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ فَكَانَ عِنْدَهُ حَتَّى مَضَى الْأَجَلُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ قَالَ وَلَوْ بَاعَ هَذَا السُّكْنَى بَيْعًا مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ السُّكْنَى وَهَذَا فَصْلٌ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الْبَيْعِ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ الْبَيْعَ فِي السُّكْنَى وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِتَرْكِ بَيَانِ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ (قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِ السُّكْنَى لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ فَالْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فِي الْحَالِ وَإِيجَادُهَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْمَوْجُودَ وَهُوَ الدَّارُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ إضَافَةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إلَيْهَا فَأَمَّا لَفْظُ الْبَيْعِ إنْ أُضِيفَ إلَى الدَّارِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا، وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمَنْفَعَةِ فَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْحُرُّ لِرَجُلٍ بِعْتُكَ نَفْسِي شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلٍ فَهَذِهِ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ قَالَ: فَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ الَّذِي كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ مِنْ هَذِهِ السُّكْنَى عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى مَعْلُومَةٍ، ثُمَّ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ بِدَرَاهِمَ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الصُّلْحُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِذَا كَانَ يَتَمَلَّكُ هُوَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقْدًا فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ لَكِنْ بِشَرْطِ قَبْضِ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ قَبَضَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَفَرَّقَا جَازَ بِمِقْدَارِ مَا قَبَضَ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ قَالَ وَالْإِقْرَارُ مِنْ الْمُدَّعِي لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ الشَّيْءُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّعْوَى إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ وَمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ عِنْدَ الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي يُوجِبُ رَدَّهُ عَلَيْهِ إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مَقْصُودٌ وَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ تَمَامِ الصُّلْحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بُطْلَانِ الصُّلْحِ قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ عُذْرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِنْ مَلَكَهُ لَا يَبْطُلُ بِالْهَلَاكِ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى دَعْوَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَفِي الْعَقَارِ الْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدَيْنِ فَدَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَالْمُدَّعِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ الَّذِي قَبَضَهُ وَعَادَ فِي دَعْوَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَرَجَعَ فِي حِصَّةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّمَامِ فَإِنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ كَانَ ادَّعَى فِي أَرْضٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَرْضٍ أُخْرَى بِإِقْرَارٍ فَغَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا فَإِنْ شَاءَ الْمُدَّعِي رَضِيَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا إنْ كَانَ قَدْ نَقَصَهَا الْغَرَقُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَ ادَّعَى فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا الْمَصَالِحُ وَنَقَصَهَا الْغَرَقُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِقْرَارِ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُشْتَرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَاصِبٌ بِجُحُودِهِ وَإِنَّهُ بِالصُّلْحِ كَالْمُشْتَرِي فَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَإِنَّمَا تَعَيَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ ادَّعَى سُكْنَى فِي دَارِ وَصِيَّةً مِنْ رَبِّ الدَّارِ فَجَحَدَهُ أَوْ أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى لَا يُؤَاجَرُ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ مُمْكِنٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ صَحِيحٌ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ إنْ أَمْكَنَ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَصَحَّحَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السُّكْنَى لَا تَجُوزُ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى أَنْ يَزِيدَ الْآخَرُ كُرَّ حِنْطَةٍ لِمُدَّةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَبِيعٌ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ قَالَ: (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرَطَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ طَعَامًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ طَرِيقًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارٍ أُخْرَى كَانَ جَائِزًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّرِيقَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي غُرْفَةٍ أَوْ كُوَّةٍ وَآذَاهُ جَارُهُ وَخَاصَمَهُ فَافْتَدَى مِنْ خُصُومَتِهِ بِدَرَاهِمَ وَصَالَحَهُ عَلَيْهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ بَابَهُ وَكُوَّتَهُ عَلَى حَالِهِمَا قَالَ: لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبَابَ وَالْكُوَّةَ يَكُونُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَلَوْ رَفَعَهُ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ بَعْضَهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَارَ ظَالِمٌ لَهُ مُدَّعٍ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لِيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ فَلِهَذَا لَزِمَهُ رَدُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.