فصل: كتاب الشرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الشروطِ الفاسدةِ التي تبطلُ الْمُزَارَعَةَ:

[قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ]: وَإِذَا شَرَطَ الْمُزَارِعُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ- فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ عَلَيْهِ تَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ، وَبِاشْتِرَاطِ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهِ يَجْتَمِعُ الْإِجَارَةُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ.
فَإِنْ قَالَ: أُبْطِلَ الشَّرْطُ لِتَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَبْطُلْ بِإِبْطَالِهِ، لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ تَمَكَّنَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَمِنْ مُوجَبَاتِهِ، فَبِإِسْقَاطِهِ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ مَعَ الْأَلْفِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْحَصَادَ أَوْ الدِّيَاسَ أَوْ التَّنْقِيَةَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ الْعَقْدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ وَمَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا إذَا أَسْقَطَهُ مَنْ شُرِطَ لَهُ.
وَلَوْ اشْتَرَطَا لِأَحَدِهِمَا خِيَارًا مَعْلُومًا فِي الْمُزَارَعَةِ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ خِيَارًا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ أَوْ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ- فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ وَأَجَازَ الْمُزَارَعَةَ جَازَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ زَائِدٌ عَلَى مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِيمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ، وَالْمُعَامَلَةُ قِيَاسُ الْمُزَارَعَةِ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّ مَا صَارَ لَهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَمْ يَهَبْهُ- فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَيْسَ لَهُ مُطَالِبٌ فَيَلْغُو وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ لِأَحَدِهِمَا، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا.
قَالَ: لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فِيهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةً، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُطَالِبُ بِهِ الْمُنْتَفِعُ، وَالشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ أَحَدٍ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الشَّرْطِ شَرْطَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ تَجُزْ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُبْطَلُ الشَّرْطُ بِإِبْطَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى إبْطَالِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الْعَقْدُ.
وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ نَصِيبَهُ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِلْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَبْطَلَهُ صَاحِبُهُ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ خَاصَّةً فَتَسْقُطُ، وَهُوَ شَرْطٌ وَرَاءَ مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ، فَإِذَا سَقَطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كتاب الشرب:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الشِّرْبَ هُوَ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ لِلْأَرَاضِيِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} وَقِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَائِزَةٌ.
بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَهُوَ قِسْمَةٌ تَجْرِي بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ إذْ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، وَالْقِسْمَةُ تَجْرِي تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَالْمُشْتَرَى وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ كَقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» وَالْمُرَادُ الْحَفْرُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْحَفْرَ فَقَطْ وَمِثْلُ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُثْبِتُ نَفْسَ الْحَفْرِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ إلَّا بِزِيَادَةٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، فَلَا يَقْوَى الِاسْتِدْلَال بِهَا ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ لَهَا حَرِيمٌ مُسْتَحَقٌّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ إلَّا بِمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ يَسْقِي الْمَاءَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْمَعُ فِيهِ الْمَاءَ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى مَوْضِعٍ تَنَامُ فِيهِ مَوَاشِيهِ بَعْدَ الشُّرْبِ فَاسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ لِذَلِكَ.
وَقَدَّرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ النَّصُّ دُونَ الرَّأْيِ إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ التَّقْدِيرُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ إلَيْهَا مَا بِبِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ رُبَّمَا لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُتَيَقَّنُ بِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَيَسْتَوِي فِي مِقْدَارِ الْحَرِيمِ بِئْرُ الْعَطَنِ وَبِئْرُ النَّاضِحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَاسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا»؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْبِئْرِ النَّاضِحِ إلَى الْحَرِيمِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يَسِيرُ فِيهِ النَّاضِحُ لِيَسْتَقِيَ فِيهِ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ بِذَلِكَ، وَفِي بِئْرِ الْعَطَنِ إنَّمَا يَسْتَقِي بِيَدِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْحَرِيمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعَيْنِ يَفِيضُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى اتِّخَاذِ الْمَزَارِعِ حَوْلَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَفِيضُ مِنْ الْمَاءِ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ غَدِيرًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ زِيَادَةَ الْحَرِيمِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَالَ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَلَيْسَ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بِئْرِ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِهَذَا رَجَّحَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَعَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَرَجَّحَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» عَلَى خَبَرِ الْعَرَايَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ.
، وَعَمَلُهُ فِي مَوْضِعِ الْبِئْرِ خَاصَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْحَرِيمِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ فَبِقَدْرِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّكِّ هَذَا أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسَائِلِ الْحَرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي لِفَرَسِهِ إلَّا سَهْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَأَمَّا حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ.
وَلَكِنْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْخَمْسُمِائَةِ فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي هَذَا مُفَسَّرًا فِي بِئْرِ النَّاضِحِ قَالَ: يَتَقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِسِتِّينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّشَا أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ التَّقْدِيرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الذُّرْعَانِ، ثُمَّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ بِمَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ.
أَمَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا حَتَّى لَوْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا، فَجَاءَ آخَرُ وَحَفَرَ عَلَى مُنْتَهَى حَدِّ حَرِيمِهِ بِئْرًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ حَرِيمُ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأُخَرِ فِيمَا لَا حَقَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مِنَّا مُبَاحٌ مَنْ سَبَقَ» فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَيُشَارِكَهُ فِيهِ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَسْفَلُ النَّهْرِ آمِرٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا النَّهْرَ وَيَحْبِسُوا الْمَاءَ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ جَمِيعًا ثَابِتٌ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ وَيَخْتَصَّ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ حَيْثُ لَا يَجْرِي فِي أَرْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِالسَّكْرِ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا لِيَرْتَفِعَ الْمَاءُ إلَى أَرَاضِيِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ آمِرًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ تَلْزَمُك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك.
بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ»؛ لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِانْتِظَارِهِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ، وَفِيهِ حِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ رَكِبَ مَعَ الْخَلِيفَةِ يَوْمًا فَتَقَدَّمَهُ الْخَلِيفَةُ لِجَوْدَةِ دَابَّتِهِ فَنَادَاهُ أَيُّهَا الْقَاضِي الْحَقْ بِي فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ دَابَّتَك إذَا حُرِّكَتْ طَارَتْ، وَإِنَّ دَابَّتِي إذَا حُرِّكَتْ قَطَفَتْ، وَإِذَا تُرِكَتْ وَقَفَتْ فَانْتَظِرْنِي فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ» فَأَمَرَ بِأَنْ يُحْمَلَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَنَبَةٍ لَهُ وَقَالَ: أَحْمِلُ إيَّاكَ عَلَى هَذَا أَهْوَنُ مِنْ تَأْمِيرِك عَلَيَّ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ الْأَسْفَلِ»، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْوَادِي وَالْوَادِي اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْجَبَلِ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ، وَيَجْرِي إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فَقَوْلُهُ: إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِالْكَعْبَيْنِ بَلْ الْإِشَارَةُ إلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ الْوَادِي سَعَةً، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ فِيهِ هَذَا الْمِقْدَارَ فَهُوَ كَثِيرٌ يَتَوَصَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ عَادَةً فَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ فَكَانُوا مُتَعَنِّتِينَ فِي ذَلِكَ لَا مُنْتَفِعِينَ بِالْمَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِ الْأَعْلَى فَهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْحَبْسِ، وَالْمَاءُ الَّذِي يَنْحَدِرُ مِنْ الْجَبَلِ إلَى الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَمَنْ يَسْبِقْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، بِمَنْزِلَةِ النُّزُولِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُبَاحِ.
كُلُّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ، وَيَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فِي مَنْعِهِ عَمَّا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَعِنْدَ قِلَّةِ الْمَاءِ بَدَا أَهْلُ الْأَعْلَى أَسْبَقَ إلَى الْمَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ.
بِهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ مَعْرُوفَةٍ»، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْمَاءِ يَتِمُّ انْتِفَاعُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ بِحَبْسِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ.
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» وَفِي الرِّوَايَاتِ: النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَوْدِيَةِ، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ، وَفُرَاتٍ، وَدِجْلَةٍ، وَنِيلٍ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ، وَالْهَوَاءِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّطَرُّقُ فِيهَا.
، وَمُرَادُهُمْ مِنْ لَفْظَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَيَانُ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَالْمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ.
فَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ فَفِيهِ نَوْعُ شَرِكَةٍ لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ حَقُّ السَّعَةِ مِنْ حَيْثُ الشِّرْبُ، وَسَقْيُ الدَّوَابِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ أَخَصُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَسْقُوا نَخِيلَهُمْ، وَزُرُوعَهُمْ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فِيهِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبِئْرِ شَرِكَةٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَهُوَ السَّعَةُ، وَكَذَلِكَ الْحَوْضُ فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَاءَ فِي حَوْضِهِ، وَكَرْمِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ بِذَلِكَ الْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّ السَّقْيِ فِيهِ لِلنَّاسِ، حَتَّى إذَا أَخَذَ إنْسَانٌ مِنْ حَوْضِهِ مَاءً لِلشُّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِذَا أَتَى إلَى بَابِ كَرْمِهِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ مِنْ حَوْضِهِ لِلشُّرْبِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ كَرْمَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ خَاصٌّ لَهُ.
وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَخُذْ حَاجَتَك مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إلَيْهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَأْخُذَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ السَّعَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي حَوْضِهِ عَنَدَ الْحَاجَةِ.
فَأَمَّا إذَا أَحْرَزَ الْمَاءَ فِي جُبٍّ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ قِرْبَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِسَرِقَتِهِ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِي الْكَلَإِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
فَأَمَّا مَا نَبَتَ مِنْ الْكَلَإِ فِي أَرْضِهِ مِمَّا لَمْ يُنْبِتْهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ أَيْضًا حَتَّى إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ لِيَأْخُذَ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَأْمُرُهُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ إلَيْهِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ فَيَأْخُذَ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ.
فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَنْ سَقَى أَرْضَهُ، وَكَرَبَهَا لِنَبْتِ الْحَشِيشِ فِيهَا لِدَوَابِّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبِهِ، وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا لَمْ يُنْبِتْهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ دُونَ الْأَشْجَارِ، فَأَمَّا فِي الْأَشْجَارِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَشْجَارِ النَّابِتَةِ فِي أَرْضِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ تُحْرَزُ عَادَةً، وَقَدْ صَارَ مُحْرِزًا لَهُ مِنْ يَدِهِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَرْضِهِ، فَأَمَّا الْحَشِيشُ فَلَا يُحْرَزُ عَادَةً.
وَتَفْسِيرُ الْحَشِيشِ مَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَالشَّجَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} وَالنَّجْمُ مَا يَنْجُمُ فَتَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ.
وَبَيَانُ الشَّرِكَةِ فِي النَّارِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي صَخْرٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاءُ بِهَا، وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ، وَالْعَمَلُ بِضَوْئِهَا، فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا مَنَعَهُ صَاحِبُ النَّارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَطَبٌ أَوْ فَحْمٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ، وَإِنَّمَا الشَّرِكَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ، وَالنَّارُ جَوْهَرُ الْحَرِّ دُونَ الْحَطَبِ، وَالْفَحْمِ فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَا لَهُ قِيمَةٌ إذَا جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ.
وَلَهُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَمْنَعُونَ هَذَا الْقَدْرَ عَادَةً، وَالْمَانِعُ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا لَا مُنْتَفِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَعَنِّتَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّعَنُّتِ شَرْعًا.
، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ بُقَعِ الْمَاءِ» يَعْنِي الْمُسْتَنْقَعَ فِي الْحَوْضِ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَيَسْتَدْعِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا، وَالْمَاءُ فِي الْحَوْضِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلشُّرَكَاءِ، وَالْبَيْعُ لَا يَسْبِقُ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَاءِ مِنْ حَيْثُ سَقْيُ النَّخِيلِ، وَالزَّرْعِ، وَلِصَاحِبِ الْمُسْتَنْقَعِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ الْهَيْثَمِ أَنَّ قَوْمًا، وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ أَعْنَاقَنَا، وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تُقْطَعُ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ فَهَلَّا، وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا مَنَعُوهُمْ لِيَسْتَقُوا الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ فَإِذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى ظُهُورِهِمْ مِنْ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمْ فِي الْبِئْرِ حَقُّ السَّعَةِ، فَإِذَا مَنَعُوا حَقَّهُمْ، وَقَصَدُوا إتْلَافَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَعَنْ ظُهُورِهِمْ كَمَا لَوْ قَصَدُوا قَتْلَهُمْ بِالسِّلَاحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَاءُ مُحْرَزًا فِي إنَاءٍ فَلَيْسَ لِلَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ أَنْ يُقَاتِلَ صَاحِبَ الْمَاءِ بِالسِّلَاحِ عَلَى الْمَنْعِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيُقَاتِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْرَزٌ لِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْآخِذُ ضَامِنًا لَهُ فَإِذَا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ لِحَاجَتِهِ فَالْمَانِعُ يَكُونُ دَافِعًا عَنْ مَالِهِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» فَكَيْفَ يُقَاتِلُ مَنْ إذَا قَتَلَهُ كَانَ شَهِيدًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْبِئْرُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي الْمَنْعِ دَافِعًا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُقَاتِلَ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَاء مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةَ عَنْهُ فَهُوَ فِي الْمَنْعِ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَحِلُّ فَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَلَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُقَاتَلَةَ بِالسِّلَاحِ عَلَى مَنْعِ الدَّلْوِ فَإِنَّ الدَّلْوَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَهَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ أَيْ رَهَنْتُمْ عِنْدَهُمْ مَا مَعَكُمْ مِنْ السِّلَاحِ لِيَطْمَئِنُّوا إلَيْكُمْ فَيُعْطُونَكُمْ الدَّلْوَ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ.
، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ مِنْ الْأَرَاضِي يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.
وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمَوَاتِ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ فِي طَرَفِ الْعُمْرَانِ فَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَإِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي صَوْتُهُ، يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّ سُكَّانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ لِرَعْيِ الْمَوَاشِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاتِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، وَمَلَّكَهَا مِمَّنْ أَحْيَاهَا أَوْ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا فَكُلُّ مَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهَا، وَتَمَّ إحْرَازُهُ لَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا كَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا، أَوْ حَطَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ وَجَدَ مَعْدِنًا، أَوْ رِكَازًا فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ»، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمِنْ أَصْلِهِ: أَنَّ الْعَامَ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إلَّا أَنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ هِيَ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنْ بَعْدُ» فَمَا كَانَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَسْتَبِدُّ أَحَدٌ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَشَارَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ صَارَتْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ فَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ.
وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ هُوَ الْإِحْيَاءُ، وَلَكِنَّ إذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَنْفِي هَذَا الشَّرْطَ بَلْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» إشَارَةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْإِنْسَانُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَالْأَخْذُ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ فِي مَعْنَى عِرْقٍ ظَالِمٍ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرَسَ أَشْجَارًا فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَتْ عُرُوقُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ، أَوْ خَرَجَتْ أَغْصَانُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَرْضِ جَارِهِ بِتِلْكَ الْأَغْصَانِ وَالْعُرُوقِ الظَّالِمَةِ فَالظُّلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِعِرْقٍ ظَالِمٍ أَنْ يَتَعَدَّى فِي الْإِحْيَاءِ مَا وَرَاءَ أَحَدِ الْمَوَاتِ فَيَدْخُلَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ وَالْمُرَادُ بِالْمُحَجَّرِ الْمُعَلَّمُ بِعَلَامَةٍ فِي مَوْضِعٍ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْحَجْرِ، وَهُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّ مَنْ أَعْلَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ عَلَامَةً فَكَأَنَّهُ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ تَحْجِيرًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَرَّ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ فَقَصَدَ إحْيَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَوَضَعَ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَحْجَارًا أَوْ حَصَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ، وَالشَّوْكِ، وَجَعَلَهَا حَوْلَ ذَلِكَ فَمَنَعَ الدَّاخِلَ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا فَهَذَا تَحْجِيرٌ، وَلَا يَكُونُ إحْيَاءً إنَّمَا الْإِحْيَاءُ أَنْ يَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ كَرَبَهَا أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ أَوْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا ثُمَّ بَعْدَ التَّحْجِيرِ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ، وَيُهَيِّئَ أَسْبَابَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُحْيِيَهُ فَيُجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ لِلرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ سَنَةً، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِ فِي وَطَنِهِ سَنَةً، وَالرُّجُوعِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَنَةً فَإِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ إحْيَاؤُهَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الدِّيَانَةِ فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إذَا أَحْيَاهَا إنْسَانٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْأَوَّلِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْإِحْيَاءُ دُونَ التَّحْجِيرِ، وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»، وَالْمُرَادُ الْمَوَاتُ مِنْ الْأَرَاضِي سَمَّاهُ عَادِيًّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَا خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ عَادٍ، وَفِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ مَا يُوصَفُ بِطُولِ مُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهِ يُنْسَبُ إلَى عَادٍ فَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي مُعَسِّرٍ عَنْ أَشْيَاخِهِ رَفَعُوهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَضَى فِي السِّرَاجِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَنْ لَا يَحْبِسَهُ إلَّا عَلَى جَارِهِ» قَالَ أَبُو مُعَسِّرٍ السِّرَاجُ: السَّوَاقِي، وَهِيَ الْجَدَاوِلُ الَّتِي عِنْدَ سَفْحِ الْجَبَلِ يَجْتَمِعُ مَاءُ السَّيْلِ فِيهَا ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْوَادِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِبَارَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ تَطَوَّقَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَضَعُ عَلَيْهِ الْقَدَمَ بِمَنْزِلَةِ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ نَقَصَ مِنْ الْمُسَنَّاةِ فِي جَانِبِ أَرْضِهِ بِأَنْ حَوَّلَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَذَلِكَ قَدْرُ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ أَوْ كَانَ أَرْضُهُ بِجَنْبِ الطَّرِيقِ فَجَعَلَ الْمُسَنَّاةَ عَلَى الطَّرِيقِ لِتَتَّسِعَ بِهِ أَرْضُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الطَّرِيقِ.
يَعْنِي الْعَلَامَةَ بَيْنَ الْأَرَضِينَ.
وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّبْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقَ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عِظَمِ الْمَاءِ ثُمَّ فِي غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْأَرَاضِي فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ جَزَاءَ الْآخِذِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ ثَابِتًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَمَسُّ ثُمَّ جَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْوَعِيدِ جَمِيعَ جَزَائِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَعْدُ جَمِيعَ جَزَائِهِ وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَمْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِي الْقِيَامَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ مَا فَعَلَهُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ تُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ».
وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لَا حَقِيقَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ}، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الْمَاءَ مَخَافَةَ الْكَلَإِ» يُرِيدُ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ إذَا كَانَ لَهُ مَرْعًى حَوْلَ بِئْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِظُهُورِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَ ظَهْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَإِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي حَقِّ الشُّقَّةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَمْنَعُهُ حَقَّهُ، وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَانِبَ أَرْضِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَإِ حَتَّى لَا يُدْخِلَ دَابَّةَ الْمُسْتَقِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَخْرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، وَحَاجَةَ ظَهْرِهِ، وَعَنْ نَافِعٍ رَفَعَ حَدِيثَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا مَاءً وَلَا كَلَأً وَلَا نَارًا فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِلْمُقْوِينَ وَقُوَّةٌ لِلْمُسْتَعِينِينَ»، وَالْمُقْوِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ زَادُهُ، وَالْمُسْتَعِينُ هُوَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَثْبَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِكَةً عَامَّةً بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَقًّا لَهُ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا فَيَشْرَبَ، وَيَسْقِيَ دَابَّتَهُ، وَبَعِيرَهُ، وَشِيَاهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّقَّةِ، وَالشُّقَّةُ عِنْدَنَا الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمَاءَ مِنْ وَطَنِهِ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَخْذِ الْمَاءِ مِنْ الْآبَارِ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَعْجِزُ عَنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، وَغَسْلِ الثِّيَابِ، وَأَحَدٌ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ جَدْوَلٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ، وَبِجَنْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَاحِبُ مَاشِيَةٍ إذَا شَرِبَتْ الْمَاشِيَةُ مِنْهَا انْقَطَعَ الْمَاءُ لِكَثْرَةِ الْمَوَاشِي، وَقِلَّةِ مَاءِ الْجَدْوَلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مِنْ الشُّقَّةِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْجَدْوَلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الشُّقَّةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهِ، وَيَقْطَعُ حَقَّهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَالنَّخِيلِ وَالشَّجَرِ، وَالزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ، وَزَرْعِهِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ أَوْ بِئْرِهِ أَوْ عَيْنِهِ.
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَالنَّهْرُ وَالْقَنَاةُ إنَّمَا يُشَقُّ لِهَذَا الْمَقْصُودِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِالْمُسْتَحِقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الشُّقَّةِ، فَذَلِكَ بَيْعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ، وَالْقَنَاةَ لَا يُشَقُّ فِي الْعَادَةِ لِأَجْلِهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ إلَى أَرْضِهِ فَيَكْسِرَ بِهِ ضِفَّةَ النَّهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسِر ضِفَّة نَهْر الْغَيْر، وَكَذَلِكَ فِي الْبِئْر يَحْتَاج إلَى أَنْ يَشُقّ نَهْرًا مِنْ رَأْس الْبِئْر إلَى أَرْضه، وَمَا حَوْل الْبِئْر حَقُّ صَاحِب الْبِئْر حَرِيمًا لَهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنه، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَجْرِي مَاؤُهُ فِي هَذَا النَّهْر مَعَ صَاحِب النَّهْر لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضه؛ لِأَنَّ النَّهْر مِلْك خَاصّ لِأَهْلِ النَّهْر فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَنْتَفِع بِمُلْكِ الْغَيْر إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّخَذَ شَجَره أَوْ خَضِرَة فِي دَاره فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِي ذَلِكَ الْمَوْضِع بِحَمْلِ الْمَاء إلَيْهِ بِالْجَرَّةِ فَقَدْ اسْتَقْضَى فِيهِ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّة بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالُوا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِب النَّهْر، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَا يَمْنَع مِنْ هَذَا الْمِقْدَار؛ لِأَنَّ النَّاس يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ، وَالْمَنْع مِنْهُ يُعَدُّ مِنْ الدَّنَاءَة قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّ اللَّه يُحِبّ مَعَالِي الْأُمُور، وَيُبْغِض سَفْسَافهَا» فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِب النَّهْر فِي سُقِيَ أَرْضه أَوْ عَادَة ذَلِكَ الْمَوْضِع فَلَا بَأْس بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْع كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقّه فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِع.
وَإِنْ بَاعَهُ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إنَّمَا هُوَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي مِقْدَارَ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ غَرَرٌ فَلَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي النَّهْرِ أَوْ لَا يَجْرِي، وَإِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ تَمَكُّنُ إجْرَائِهِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْ تَسْلِيمَ مَا لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْجَارِ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ، وَالِاسْتِئْجَارُ الْمَقْصُودُ لِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِئْجَارِ الْمَرْعَى لِلرَّاعِي، وَاسْتِئْجَارِ الْبَقَرَةِ لِمَنْفَعَةِ اللَّبَنِ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَإِنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ عُضْوٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ فَمَنْفَعَةُ الثَّدْيِ اللَّبَنُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْفَعَةِ التَّرْبِيَةِ، وَاللَّبَنُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى غَسْلِ الثِّيَابِ فَالْحَرَضُ وَالصَّابُونُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّ الصُّنْعَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا هُنَا لَا مَقْصُودَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ سِوَى الْمَاءِ، وَهُوَ عَيْنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي إجَارَتِهِ أَوْ شَرَابِهِ شُرْبَ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا الشَّجَرِ، وَهَذَا الزَّرْعِ أَوْ قَالَ حَتَّى يَكْتَفِيَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ، وَالْغَرَرِ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِرْبَ مَاءٍ، وَمَعَهُ أَرْضٌ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فَالْعَقْدُ يَرِدُ عَلَيْهَا، وَالشِّرْبُ يَسْتَحِقُّ بَيْعًا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْأَطْرَافِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْعًا فِي بَيْعِ الْأَصْلِ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَفْتَى أَنْ يَبِيعَ الشِّرْبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْضٌ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِنَسَفَ قَالُوا الْمَأْجُورُ الِاسْتِصْنَاعُ لِلتَّعَامُلِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَاهُ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعَ شِرْبِهَا جَازَ كَمَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ الزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالشِّرْبِ فَذِكْرَ الشِّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَحْقِيقِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبُهَا، وَلَا مَسْكُ مَا بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ عَيْنَ الْأَرْضِ بِذِكْرِ حُدُودِهَا فَمَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ حُدُودِهَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ خَارِجٌ مِنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ اشْتَرَطَ شِرْبَهَا فَلَهُ الشِّرْبُ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَسِيلُ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ غَيْرُ الْمَسِيلِ فَالْمَسِيلُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالشِّرْبُ الْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ فِي الْمَسِيلِ فَبِاشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ خَاصَّةً، وَيُجْعَلُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا.
وَلَوْ اشْتَرَطَ مَسِيلَ الْمَاءِ مَعَ الشِّرْبِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ الْمَسِيلُ، وَالشِّرْبُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِهَا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَرَاضِيِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِالْمَسِيلِ، وَالشِّرْبِ فَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِهَا كَالطَّرِيقِ لِلدَّارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ مَرَافِقَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ مَا يُتَرَفَّقُ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَأَتَّى التَّرَفُّقُ بِالْأَرْضِ بِالشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ كُلَّ قَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا كَانَ لَهُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْهَا أَيْ مِنْ حُقُوقِهَا، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ عُرْفُ أَهْلِ اللِّسَانِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَيْسَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ، وَلَا شِرْبٌ فِي الْقِيَاسِ إذَا أَطْلَقَ الْعَقْدَ كَمَا فِي الشِّرَاءِ فَالْمُسْتَأْجِرُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ كَالْمُشْتَرِي فَكَمَا أَنَّ الشِّرْبَ، وَالْمَسِيلَ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَسِيلَ الْمَاءِ، وَالشِّرْبِ هُنَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ كَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ، وَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَالْمُتَعَاقِدَانِ قَصَدَا تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فَكَانَ هُنَا ذِكْرُ الشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَمُوجَبُهُ مِلْكُ الْعَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شِرَاءَ مَا لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ جَائِزٌ نَحْوَ الْأَرْضِ السَّبْخَةِ، وَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ مَا وَرَاءَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِ الْحُدُودِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ حَرْفًا آخَرَ فَقَالَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا يَعْنِي أَنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَوْ أَدْخَلْنَا الشِّرْبَ، وَالْمَسِيلَ لَمْ يَتَضَرَّرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا، وَفِي إدْخَالِهِمَا تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَأَمَّا الْبَيْعُ يُزِيلُ مِلْكَ الْعَيْنِ عَنْ الْبَائِعِ فَفِي إدْخَالِ الشِّرْبِ، وَالْمَسِيلِ فِي الْبَيْعِ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَمَّا لَمْ يُظْهِرْ رِضَاهُ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثِّمَارَ، وَالزَّرْعَ يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الْأَشْجَارِ، وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْهِبَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِدُونِ الشَّرْطِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ فِي الْأَشْجَارِ فَمَعَ الشَّرْطِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مَرَافِقَهَا أَوْ كُلَّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا فَعِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ، وَالْمَسِيلُ فِي الشِّرَاءِ فَفِي الْإِجَارَةِ أَوْلَى.
وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْف كَانَ أَصْلُهُ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ فَإِنَّ الشِّرْبَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشِّرْبِ سَقْيُ الْأَرَاضِي، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْأَرَاضِي، وَكَثْرَتِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الشِّرْبِ بِقَدْرِ أَرْضِهِ، وَقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ فِي النَّهْرِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَالْيَدُ لَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ لِأَحَدٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْتِفَاعَ مَنْ لَهُ عَشَرُ قِطَاعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ الْمَاءُ لَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا إحْرَازُهُ بِسَقْيِ الْأَرَاضِي فَإِنَّمَا ثَبَتَ الْيَدُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَصَمَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي مِلْكِ رُقْبَةِ الطَّرِيقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَعَةُ الدَّارِ، وَضِيقُهَا؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ عَيْنٌ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّطَرُّقُ فِيهِ، وَالتَّطَرُّقُ فِيهِ إلَى الدَّارِ الْوَاسِعَةِ، وَإِلَى الدَّارِ الضَّيِّقَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الشِّرْبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ عَلَى الْأَسْفَلِ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي نَصِيبِ شُرَكَائِهِ يُوضِحُهُ أَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَرَقَبَةُ النَّهْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا شَيْئًا بِدُونِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ، وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ النَّهْرُ بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا عِنْدَ السَّكْرِ فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ الْأَعْلَى يَسْكُرُ النَّهْرَ حَتَّى تُشْرَبَ حِصَّتُهُ أَجَزْت ذَلِكَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُمْ، وَقَدْ انْعَدَمَ بِتَرَاضِيهِمْ فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ أَجَزْته أَيْضًا فَإِنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ تَكُونُ بِالْأَجْرِ تَارَةً، وَبِالْأَيَّامِ أُخْرَى فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ بِالْأَيَّامِ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَقِلُّ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّكْرِ، وَلَكِنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِالطِّينِ وَالتُّرَابِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَنْكَسِرُ النَّهْرُ عَادَةً، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالشُّرَكَاءِ إلَّا أَنْ يُظْهِرُوا التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ نَهْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَرِي النَّهْرِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَدْرِ فُوَّهَةِ النَّهْرِ الَّذِي يُكْرِيه، وَفِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ أَصْحَابِهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ إحْدَاثَ بَابٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضًا مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُنْصَبُ مِنْ الرَّحَا إنَّمَا يَضَعُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَحًا لَا تَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَلَا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ عَنْ سُنَّتِهِ.
وَلَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْمَاءِ بِسَبَبِ الرَّحَا بَلْ يَجْرِي كَمَا كَانَ يَجْرِي قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَضَعُ الرَّحَا فِي مِلْكٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَبْنِيَةِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَبِسَبَبِ الرَّحَا لَا يَنْتَقِصُ الْمَاءُ بَلْ يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الرَّحَا بِالْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ فَمَنْ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ لَا دَافِعًا الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَعَنُّتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهَا دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً، وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَلَا بِالشِّرْبِ، وَكَانَ بِنَاءُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَنْ يُكْرُوا هَذَا النَّهْرَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ عَلَيْهِمْ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْكِرَاءُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ، وَالْأَرَاضِي، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا كَانُوا عَشَرَةً فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضَ أَحَدِهِمْ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى الْبَاقِينَ اتِّسَاعًا إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضًا أُخْرَى ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْبَاقِينَ أَثْمَانٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى آخِرِ النَّهْرِ وَعِنْدَهُمَا الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ اعْتِبَارًا مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ فَإِذَا سَدَّ ذَلِكَ فَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِهِ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْرِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَعْلَى، وَأَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْغُنْمِ يَسْتَوُونَ فِي الْغُرْمِ أَيْضًا، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ بِسَقْيِ الْأَرْضِ مِنْهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الشُّقَّةِ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ شَيْءٌ، وَإِذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي كِرَاءِ مَا بَقِيَ مَنْفَعَةُ سَقْيِ الْأَرْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ مِنْ حَيْثُ إجْرَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْمَسِيلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ سَطْحِ جَارِهِ بِهَذَا الْحَقِّ ثُمَّ هُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ كَرِي أَسْفَلِ النَّهْرِ بِأَنْ يَسُدَّ فُوَّهَةَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ الْحَاجَةُ إلَى سَقْيِ الْأَرْضِ.
فَرَّعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْكِرَاءَ إذَا انْتَهَى إلَى فُوَّهَةِ أَرْضِهِ مِنْ النَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ الْكِرَاءِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّ أَرْضِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّحَادِ فُوَّهَةِ الْأَرْضِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَأَسْفَلِهَا فَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِالْكِرَاءِ مَنْفَعَةَ سَقْيِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَرْضَهُ، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَسَقَطَ عَنْهُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ هَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِ.
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ قَدْ انْتَهَى فِي حَقِّهِ حِينَ سَقَطَتْ مُؤْنَته، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ مِنْ الْكَرِي كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ عَلَى شُرَكَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْذُونِ شُرَكَاؤُهُ، وَلِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ جَرَى الرَّسْمُ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْكِرَاءِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ أَوْ يَتْرُكَ بَعْضَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَسْفَلِهِ قَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشُّقَّةِ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ لَا تُسْتَحَقُّ عَلَى قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الْأَتْبَاعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَصْحَابِ الْحِطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ، وَالسُّكَّانِ.
قَالَ: وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا شُرَكَاءُ فِي الْفُرَاتِ، وَفِي كُلِّ نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ وَادٍ يَسْتَقُونَ مِنْهُ، وَيَسْقُونَ مِنْهُ الشُّقَّةَ، وَالْخُفَّ، وَالْحَافِرَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَنْهَارِ كَالِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ فَكَمَا لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ التَّطَرُّقِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا النَّهْرِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَهْرِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ شِرْبُ أَرْضِهِمْ، وَنَخْلِهِمْ، وَشَجَرِهِمْ، لَا يُحْبَسُ عَنْ أَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا فِي أَرْضِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَرُّقِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ رُبَّمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ ضَرَرًا عَامًّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاءَ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» فِي الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إنْ احْتَاجَ إلَى الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَالَ الْمُسْلِمِينَ أُعِدَّ لِلصَّرْفِ إلَى مَصَالِحِهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَالَ الْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَالرِّبَاطَاتِ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَكَذَلِكَ إصْلَاحُ مَسَنَّاتِهِ إنْ خَافَ مِنْهُ غَرَقًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحْرِجَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعَامَّةِ فَفِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ، وَالْإِمَامُ نُصِّبَ نَاظِرًا فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فِيمَا كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ عَامًّا؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ قَلَّ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا النَّهْرَ خَاصٌّ لِقَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ نَهْرِهِمْ أَرْضَهُ، وَشَجَرَهُ، وَزَرْعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةُ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فِي الْوَادِي، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَإِنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ ثُمَّ فِي الشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ التَّدْبِيرُ فِي الْكِرَاءِ إلَيْهِمْ، وَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَيْهِمْ فِي مَالِهِمْ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الْبَاقِينَ عَلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَأَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكِرَاءِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهمْ، وَدُورِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشُّقَّةِ فِي النَّهْرِ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ يَصِيدُ فِيهِ السَّمَكَ أَوْ اسْتَأْجَرَ جِهَةً يَصِيدُ فِيهَا السَّمَكَ قَالَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَا هُوَ عَيْنٌ، وَهُوَ السَّمَكُ؛ وَلِأَنَّ السَّمَكَ فِي النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ بِهِ لِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَالْبَيْعِ ثُمَّ اسْتِئْجَارُ النَّهْرِ لِصَيْدِ السَّمَكِ كَاسْتِئْجَارِ الْمَقَابِضِ لِلِاصْطِيَادِ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ.
وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ عُشْرَ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ بِأَرْضِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلَهَا مَمْلُوكَةٌ فَقَدْ اشْتَرَى جُزْءًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مِنْ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عُشْرَ الطَّرِيقِ يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ حَقَّ التَّطَرُّقِ فِيهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أَوْ بِرْكَةً أَوْ بِئْرًا يَسْتَقِي مِنْهُ الْمَاءَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ بِالْإِجَارَةِ.
نَهْرٌ جَارٍ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُسَنَّاةَ، وَلَا يُعْرَفُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ لِرَبِّ الْأَرْضِ يَغْرِسُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمُلْقَى طِينِهِ، وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ حَتَّى إذَا كَانَ قَدَّرَ عَرْضَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فَلَهُ مِنْ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي اخْتِيَارِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذِرَاعٌ، وَنِصْفٌ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا فَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ، وَالْعَيْنِ، وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا تَعَدَّى الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفَرْعِ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ النَّهْرِ إلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيْ النَّهْرِ لِيُجْرِيَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا احْتَبَسَ بِشَيْءٍ وَقَعَ فِي النَّهْرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يُلْقِي فِيهِ الطِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْكِرَاءِ لِمَا فِي النَّقْلِ إلَى أَسْفَلِهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ، وَجْهٍ، وَالنَّهْرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبِئْرِ، وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ هُنَاكَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْحَالِ، وَهُنَا الْحَاجَةُ مَوْهُومَةٌ بِاعْتِبَارِ الْكِرَاءِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ ثُمَّ هُنَاكَ الِانْتِفَاعُ لَا يَتَأَتَّى بِالْبِئْرِ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَهُنَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي أَنْ يُلْحِقَهُ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَرَجِ فِي نَقْلِ الطِّينِ أَوْ الْمَشْيِ فِي، وَسَطِ النَّهْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ بَنَى قَصْرًا فِي مَغَارَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ لِذَلِكَ حَرِيمًا، وَإِنْ كَانَ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لَا يَكُونُ بِدُونِ التَّقْدِيرِ فِيهِ، وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ قُلْنَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمَا يَقُولَانِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لِحَرِيمِ النَّهْرِ لِاسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وَإِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدْفَعُهَا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ اخْتَصَمَا فِي ثَوْبٍ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْحَرِيمُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ صَالِحٌ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَرْضُ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهْرِ، وَمِنْ حَيْثُ الِانْتِفَاعِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَمْسِكُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ فِي نَهْرِهِ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ يَدْفَعُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ عَنْ أَرْضِهِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَرِيمِ، وَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهُ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَقُّ اسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي نَهْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ بِهَدْمِهِ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ لِرَجُلٍ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ صَاحِبِ الْجُذُوعِ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ اسْقِنِي يَوْمًا مِنْ نَهَرِك عَلَى أَنْ أَسْقِيك يَوْمًا مِنْ نَهْرِي الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا لِجَهَالَةِ الشِّرْبِ وَمَعْنَى الْغَرَرِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزُ مُعَاوَضَةُ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ، وَمَعْنَى الْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ اسْقِنِي يَوْمًا نَخْدُمُك عَبْدِي هَذَا شَهْرًا أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُكُوبِ دَابَّتِي هَذِهِ شَهْرًا أَوْ بِرُكُوبِهَا كَذَا كَذَا يَوْمًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ، وَعَلَى الَّذِي أَخَذَ الْعَبْدَ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ خِدْمَتَهُ شَهْرًا، وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ، وَرَقَبَتَهُ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ، وَلَيْسَ لَهُ بِمَا أَخَذَ الْآخَرُ مِنْ شِرْبِهِ قِيمَةٌ، وَلَا عِوَضٌ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَا جَائِزًا، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ فَهُوَ كَالْإِذْنِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ سَقَى أَرْضَهُ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ عِوَضِ الْمَاضِي فَكَذَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ فِيهِ لَا يَتَقَوَّمُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ، وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ قَرِيبٌ مِنْ الْفُرَاتِ إذَا دَخَلَ مَرْوَ كَانَ مَاؤُهُ قِسْمَةً بَيْنَ أَهْلِهِ بِالْحِصَصِ لِكُلِّ قَوْمٍ كُوًى مَعْرُوفَةٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ ثُمَّ كَرَى لَهَا نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ قَالَ إنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَضُرُّ بِأَهْلِ مَرْوَ ضِرَارًا بَيِّنًا فِي مَائِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَمْنَعُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَقَاسِمِ لَا يَصِيرُ الْحَقُّ فِيهِ خَالِصًا لِلشُّرَكَاءِ، وَلِهَذَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَرَى نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَبِصَرْفِهِ لَا يَمَسُّ حُقُوقَهُمْ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِمْ فَلَا يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَكُلُّ أَحَدٍ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْعَامَّةِ، وَالسُّلْطَانُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي النَّظَرِ لَهُمْ فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ إلَى تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ أَقْرَبُ فَأَمَّا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالضَّرَرُ يُتَوَهَّمُ مِنْ، وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ كَسْرِ ضِفَّةِ الْوَادِي، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ، وَرُبَّمَا يَتَحَوَّلُ أَكْثَرَ الْمَاءِ إلَى هَذَا الْمَاءِ لِيَضُرَّ بِأَهْلِ مَرْوَ، وَقِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ كُوًى مَعْرُوفَةٌ أَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا قَالَ إنْ كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَزَادَ فِي مِلْكِهِ كُوَّةً أَوْ كُوَّتَيْنِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَقَعْ فِي الْمُقَاسِمِ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَرْوَ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ أَوْ كُوَّتَيْنِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَبْقِ نَهْرٍ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فَهَذَا مِثْلُهُ.
فَإِنْ كَانَ نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ فَأَخَذَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي هَذَا النَّهْرِ كُوًى مُسَمَّاةً لِشِرْبِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ قَدْ، وَقَعَ فِي الْمُقَاسَمَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي هَذَا النَّهْرِ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ حَتَّى يَسْتَحِقَّ فِيهَا الشُّفْعَةُ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا يَسْتَوْفِي عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ فِي فُوَّهَةِ أَرْضِهِ يَكُونُ لِيَزْدَادَ فِيهِ دُخُولُ الْمَاءِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ، وَهُوَ كَالشُّرَكَاءِ فِي الطَّرِيقِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ طَرِيقًا لِدَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَرِيقًا فِي هَذِهِ السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ بِفَتْحِ بَابٍ حَادِثٍ فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ الْكُوَّةِ فِي لَوْحٍ، وَهُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْكُوَى مِنْهُمْ سَبَبٌ لِبَيَانِ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ زِيَادَةَ حَقٍّ، وَاسْتَدَلَّ بِالْكُوَى إنْ كَانَ الْمَاءُ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى فِي الْحَالِ فَسَبَبُ الْمَنْعِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهِ فِي النَّهْرِ.
وَكَانَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَأَلَ عَنْهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ، وَأَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوِيَّانِ أَبَا يُوسُفَ أَوْ ابْنَ الْمُبَارَكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ فَرَّعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فَسَأَلَتْهُ هَلْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ رَحَا مَاءٍ يُكْرِي لَهَا نَهْرًا مِنْهُ فِي أَرْضِهِ يَسِيلُ فِيهِ مَاءُ النَّهْرِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ الشِّرْبِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ حَدَثًا، وَلَا يَتَّخِذُ عَلَيْهِ جِسْرًا، وَلَا قَنْطَرَةً إلَّا بِرِضَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ، وَيُرْفَعُ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْخَشَبِ، وَالْأَلْوَاحِ.
وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْآجُرِّ، وَالْحَجَرِ، وَيَكُونُ مَوْضُوعًا، وَلَا يُرْفَعُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ مَنْ يَتَّخِذُهُ إذَا كَرَى لَهُ نَهْرًا مِنْهُ فَفِيهِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَتَغْيِيرُ الْمَاءِ عَنْ سُنَنِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِصَ الْمَاءُ مِنْهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَجْرِي عَلَى سُنَنِهِ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ، وَإِذَا انْفَرَجَ يَتَبَيَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ أَوْ الْبِرْكَةُ يَكُونُ بَيْنَ قَوْمٍ فَالشَّرِكَةُ فِيهِمَا خَاصَّةٌ كَمَا بَيَّنَّا.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ خَمْسُ كُوًى مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى هَذَا النَّهْرِ، وَالْآخَرُ أَرْضُهُ فِي أَسْفَلِ هَذَا النَّهْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشَدَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكُوَى؛ لِأَنَّ مَاءَ النَّهْرِ يَكْثُرُ فَيُفِيضُ فِي أَرْضِي، وَأَتَأَذَّى مِنْهُ، وَلَا يَبْلُغُك حَتَّى يَقِلَّ فَيَأْتِيك مِنْهُ مَا يَنْفَعُهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِشَرِيكِهِ ثُمَّ ضَرَرُ النُّزَلَاءِ يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَعْلَى بِفِعْلِ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ بَلْ تَكُونُ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى النَّهْرِ، وَبِمُقَابَلَةِ هَذَا الضَّرَرِ مَنْفَعَةٌ إذَا قَلَّ الْمَاءُ.
وَلَوْ سَدَّ بَعْضَ الْكُوَى يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ ضَرَرٌ لِنُقْصَانِ صَاحِبِ الْأَعْلَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُرَ النَّهْرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اجْعَلْ لِي نِصْفَ هَذَا النَّهْرِ، وَلَك نِصْفُهُ فَإِذَا كَانَ فِي حِصَّةٍ سَدَدْت مِنْهَا مَا بَدَا لِي، وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك تَفْتَحُهَا كُلُّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ بَيْنَهُمَا مَرَّةً بِالْكُوَى فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى، وَفِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَدَامٌ، وَفِيمَا يُطَالَبُ هَذَا بِهِ يَكُونُ انْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَاءِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَا عَلَى هَذَا التَّرَاضِي زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الشِّرْبِ فِي نَوْبَتِهِ مِنْ الشَّهْرِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ، وَكَذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مُبَادَلَةً فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ، وَإِجَارَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلٌ.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ أَرْبَعُ كُوًى فَأَضَافَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ كُوَّتَيْنِ فِي نَهْرِهِمَا بِرِضَاهُمَا حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى أَسْفَلِ النَّهْرِ كَرَى مِنْهُ نَهْرًا إلَى أَرْضِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَدَا لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقْضُهُ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَعَارُوا الْأَجْنَبِيَّ النَّهْرَ لِيُجْرِيَ مَاءَهُ فِيهِ إلَى نَهْرِهِ خَاصَّةً فَلَهُمْ أَنْ يَسْتَرِدُّوا الْعَارِيَّةَ مَتَى شَاءُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ أَيْضًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رِضَا بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ شَرِكَةً خَاصَّةً فَيَرْضَى بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ التَّرَاضِي عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَصِيبِ الْمَانِعِ إلَّا بِرِضَاهُ.
، وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ قَوْمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُوَّتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثَلَاثٌ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِكُمْ؛ لِأَنَّ دَفْقَةَ الْمَاءِ، وَكَثْرَتَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ، وَكَثْرَتَهُ مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ فَدَخَلَ فِي كُوَاكُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَلَا مَاءَ هُنَا إلَّا، وَهُوَ قَلِيلٌ غَائِرٌ فَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَنْقُصَكُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَنَجْعَلُ لَكُمْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، وَنَسُدُّ فِيهَا كُوَانَا، وَلَنَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً تَسُدُّونَ فِيهَا كُوَاكُمْ قَالَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ مَرَّةً فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى ثُمَّ الْأَصْلُ إنَّ مَا وُجِدَ قَدِيمًا فَإِنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ الْوَكَالَةِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ أَرَأَيْت هَذَا الضَّفِيرَ أَكَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلَوْ كَانَ جَوْرُ الْمَاءِ تَرَكَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَهْلُ الْأَسْفَلِ نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُوَسِّعَ رَأْسَ النَّهْرِ، وَنُزِيدُ فِي كُوَاهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْأَعْلَى إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كَثُرَ الْمَاءُ حَتَّى يَفِيضَ فِي أَرْضِنَا، وَيَنِزُّ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَسْفَلِ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ عَلَى، وَجْهٍ يَضُرُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كُوَّةً لَهُ فِيهِ كُلُّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أُجْرَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمِلْكٍ، وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ بَاطِلٌ.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ إذَا خَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الدُّخُولِ مَعَهُمْ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَجْبَرْتُهُمْ جَمِيعًا عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجْبَارِ هُنَا تَهْيِيجُ الْفِتْنَةِ، وَتَسْكِينُ الْفِتْنَةِ لَازِمٌ شَرْعًا فَلِأَجْلِ التَّسْكِينِ يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَوْ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَرْت كُلَّ إنْسَانٍ أَنْ يُحَصِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ يَعْنِي بِطَرِيقِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمِلْكِ يَكُونُ إلَى الْمَالِكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْجِيلِ، وَالتَّأْجِيلِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي كُلِّ، وَقْتٍ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَرْيِ فَإِنَّ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْكَرْيِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ قَدْ الْتَزَمُوهُ عَادَةً فَحَاجَةُ النَّهْرِ إلَى الْكَرْيِ فِي كُلِّ، وَقْتٍ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ فَاَلَّذِي يَأْبَى الْكَرْيَ يُرِيدُ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَشُرَكَائِهِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْبَثْقُ فَمَوْهُومٌ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ لِشَرِيكِهِ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ اتَّخَذَ فِي أَرْضٍ لَهُ رَحَا مَاءٍ عَلَى هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لِلْعَامَّةِ مِفْتَحُهُ فِي أَرْضِهِ، وَمَصَبُّهُ فِي أَرْضِهِ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَأَرَادَ بَعْضُ جِيرَانِهِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَشَقُّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِمَنْفَعَةِ الرَّحَا كَشِقِّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا أَحْيَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ الْمَاءَ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ فَهَذَا مِثْلُهُ.
قَالَ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ خَدَّهَا الْمَاءُ فَنَقَصَ الْمَاءُ، وَجَرَزَ عَنْ أَرْضٍ فَاِتَّخَذَهَا هَذَا الرَّجُلُ، وَجَرَّهَا إلَى أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ جَرَزَ عَنْهَا الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ حَقُّ الْعَامَّةِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى هَذَا الْجَانِبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي جَرَزَ، وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ}.
وَسَأَلَتْهُ فَقُلْت بَلَغَنِي أَنَّ الْفُرَاتَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ يَجْرُزُ عَنْ أَرْضٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ مَزْرَعَةً، وَهِيَ فِي حَدِّ أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ قَالَ، وَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ أَحْيَاهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِلزِّرَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ زِرَاعَتِهَا لِأَجْلِ الْمَاءِ فَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْهُ فَقَدْ أَحْيَاهَا فَأَمَّا سَائِرُ الْأَرَاضِي فَبِمُجَرَّدِ التَّحْصِينِ لَا يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ بَلْ ذَلِكَ تَحَجُّرٌ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ إذَا أَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فِيهَا، وَبَقِيَ الْحَشِيشُ مِنْهَا، وَكَرَبَهَا فَبِذَلِكَ يَتِمُّ إحْيَاؤُهَا.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ قَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَهُ فِيهِ كُوًى مُسَمَّاةٌ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسُدَّ كُوَّةً لَهُ، وَيَفْتَحُ كُوَّةً أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي أَعْلَى النَّهْرِ مِنْ كُوَّةٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ دُخُولِهِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْكَوَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ فَمَنْ يَكُونُ طَرِيقُهُ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السِّكَّةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَزِيدُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ كَانَ بَابُ دَارِهِ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ أَوْ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي حَائِطٍ هُوَ مِلْكُهُ بِفَتْحِ بَابٍ فِي أَسْفَلِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْكُوَى فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً أُخْرَى مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذِهِ الْكُوَى لَوْ أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُكْرِيَهَا فَيُسْفِلَهَا عَنْ مَوْضِعِهَا لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِأَخْذِهَا مِنْ الْمَاءِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَرْيِ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ جَمِيعَ النَّهْرِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ هَذَا الْمَوْضِعَ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ كَانَتْ مُسَفَّلَةً فَارْتَفَعَتْ بِانْكِبَاسِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بِالْكَرْيِ يُعِيدُهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ حَقُّهُ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُسَفِّلَهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ الْكُوَى، وَكَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لِيَكُونَ أَقَلَّ لِلْمَاءِ فِي أَرْضِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى مَا قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا إذَا كَانَ هُوَ بِالرَّفْعِ يُعِيدُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ.
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ)، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍّ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ، وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ السُّفْلِ، وَالتَّرَفُّعُ هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ أَهْلِ مَرْوَ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ مَنْ يُوَسِّعُ الْكُوَّةَ، وَيُضَيِّقُهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُسْفِلَهَا أَوْ يَرْفَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ مَا، وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَيْهِ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ فِيهِ، وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَنْطَرًا أَوْ مُسْتَوْثِقًا مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي أَخْذِ الْمَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ بِنَاءً هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي أَخْذِهِ الْمَاءَ مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ يَرْفَعُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَزِيدُ عَلَى هَذَا مِقْدَارَ حِصَّةٍ فِي أَصْلِ الْمَاءِ أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى فَغَيْرُ مُشْكِلٍ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى إذَا، وَسَّعَ فَمَ النَّهْرِ، وَاحْتَبَسَ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا لَمْ يُوَسِّعْ فَمَ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْكُوَى عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَجَعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ فَمِ النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُحْتَبَسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي فَمِ النَّهْرِ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ مِمَّنْ لَهُ هَذَا الشِّرْبُ قَالَ الشِّرْبُ مِيرَاثٌ بَيْنَ، وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَحُقُوقِهِ، وَقَدْ تَمَلَّكَ بِالْمِيرَاثِ مَا لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْقِصَاصِ، وَالدَّيْنِ، وَالْخَمْرِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ الشِّرْبُ، وَإِنْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ثُمَّ مَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالصَّدَقَةُ فِي الشِّرْبِ لِلْغُرُورِ، وَالْجَهَالَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَالْوَصِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَبْطُلُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامُّ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ.
، وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ إذَا جَعَلَ لِرَجُلٍ شِرْبًا فِي هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ، وَذَلِكَ الشِّرْبُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى أَوْ كَانَ لَهُ شِرْبُ كُوَّتَيْنِ فَزَادَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَقْطَعَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَ مُفَتَّحَةً فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا الرَّجُلُ أَوْ فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا قَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ النَّظَرِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ فَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ مِنْهُ نَظَرًا لِمَنْ أَقَطَعَهُ إيَّاهُ، وَفِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ يُوضِحُهُ أَنَّ فِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْنَعَ فَالْإِمَامُ فِي الْإِقْطَاعِ يَكُونُ مُبْطِلًا حَقَّهُ، وَلَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْعَامَّةِ لَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ، وَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِمْ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إقْطَاعٍ مِنْ الْإِمَامِ فَبَعْدُ الْإِقْطَاعِ أَوْلَى، وَإِذَا أَصْفَى أَمِيرُ خُرَاسَانَ شِرْبَ رَجُلٍ، وَأَرْضُهُ، وَأَقْطَعَهَا لِرَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ، وَيَرُدُّ إلَى صَاحِبِهَا الْأَوَّلِ، وَإِلَى، وَرَثَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِصْفَاءِ الْغَصْبُ، وَلَكِنْ حَفِظَ لِسَانَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي أَفْعَالِ السَّلَاطِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوَحْشَةِ، وَاخْتَارَ لَفْظُ الْإِصْفَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى تَوْقِيرِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُوَقِّرًا لِسُلْطَانِهِ ثُمَّ فِي هَذَا الْفِعْلِ السُّلْطَانُ كَغَيْرِهِ شَرْعًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَتُمْلِيك مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ لَغْوًا فَيَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَعَلَى، وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَكَذَا فِيمَا حَازَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَمْلَاك النَّاسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَمَرَ بِرَدِّ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا أَخَذُوهَا ظُلْمًا.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ بِدُونِ الْأَرْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِعَقْدٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً فَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ كَانَ بَاطِلًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الَّذِي أَخَذَتْ؛ لِأَنَّهَا أَطْمَعَتْ الزَّوْجَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَتَكُونُ غَارَّةً لَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَالْغُرُورُ فِي الْخُلْعِ يُلْزِمُهَا رَدَّ مَا قَبَضَتْ كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِذَا لَيْسَ فِي بَيْتِهَا شَيْءٌ، وَالصُّلْحُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الشِّرْبِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، وَصَاحِبُ الدَّعْوَى عَلَى دَعْوَاهُ، وَحَقِّهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرِبَ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ أَصْلًا فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ كَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَجَازَ الْعَفْوُ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ، وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْقَوَدِ عَلَى شِرْبٍ نَظِيرَ الْخُلْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ، وَإِنْ تَفَاحَشَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْخُلْعُ، وَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطٌ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْقَوَدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسَمَّى، وَتُمْكِنُ فِي التَّسْمِيَةِ مَعْنَى الْغُرُورِ يَجِبُ رَدُّ الدِّيَةِ، وَفِي الْخُلْعِ يَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَتَقَوَّمُ بِالدِّيَةِ، وَالْبِضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ فَيَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ.
وَلَوْ مَاتَ صَاحِبُ الشِّرْبِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لَمْ يَبِعْ فِي دَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيُبَاعُ مَعَ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّ الْإِمَامَ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَذَا الشِّرْبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا، وَيَجْمَعُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي كُلِّ يَوْمِهِ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْحَوْضِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ- فَيَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ.
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَنْظُرُ صَاحِبَ أَرْضٍ لَيْسَ لَهُ شِرْبٌ فَيَضُمُّ ذَلِكَ الشِّرْبَ إلَى أَرْضِهِ، وَيَبِيعُهَا بِرِضَاهُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ، وَمَعَ الشِّرْبِ فَيَجْعَلُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مَصْرُوفًا إلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَمَا، وَرَاءَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ثُمَّ ضَمَّ هَذَا الشِّرْبَ إلَيْهَا، وَبَاعَهَا فَيَصْرِفُ الثَّمَنَ إلَى قَضَاءِ ثَمَنِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ، وَمَا يَفْضُلُ مِنْ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ يُوهَبَ لَهُ أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجْرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ يُرِيدُ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ أَوْ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ.
قَالَ: وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ فُلَانٍ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مِنْ شِرْبِهِ أَجَزْت ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالشِّرْبِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ الْمَجْهُولَةِ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ، وَصِيَّتُهُ فِي الشِّرْبِ قَالَ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخِدْمَةِ يَعْنِي إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ كَالْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَالْخِدْمَةُ تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشِّرْبِ بِالْوَصِيَّةِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْمُوصَى لَهُ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ فَيَبْطُلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِيمَا كَانَ مِلْكًا أَوْ حَقًّا مُتَأَكِّدًا لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الشِّرْبِ كَمَا فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشِرْبِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَسَاكِينِ إلَى الطَّعَامِ دُونَ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الشِّرْبِ مَنْ لَهُ أَرْضٌ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ ذَلِكَ، وَلَا بَدَلَ لِلشِّرْبِ حَتَّى يَصْرِفَ بَدَلَهُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَالْإِجَارَةَ فَكَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: هُوَ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَفَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِتَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي عَيْنِ الشِّرْبِ، وَلَا فِي بَدَلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ، وَصِيَّتُهُ، وَنَذْرُهُ فَتَنْعَقِدُ- يَمِينُهُ فَإِذَا حَنِثَ يَجِبُ تَنْفِيذُهُ فِي التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَسْقِيَ مِسْكِينًا بِعَيْنِهِ فِي حَيَاتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ- بِعَيْنٍ بِخِلَافِ مَا أَوْصَى بِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَتَصْحِيحُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إلَى سَدِّ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ.
وَلَوْ بَاعَ الشِّرْبَ بِعَبْدٍ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ، وَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْعَبْدِ فَاسِدٌ فَإِنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ يَكُونُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الشِّرْبِ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَعَقْرُهَا، وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْدَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ قَالَ فِي الْبُيُوعِ فِي الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرٌ فِي، وَطْئِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ، وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهُ بِعَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْقَبْضِ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.
وَلَوْ ادَّعَى شِرْبًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةِ، وَالشِّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَلِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالشِّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى، وَالْخُصُومَةَ.
كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يُقْبَلُ بِبَيِّنَةٍ، وَيَقْضِي لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَمُنْتَفَعٌ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَرْضِ بِالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَبْقَى لَهُ الشِّرْبُ، وَحْدَهُ فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يُمَلِّكُهُ بِالْقَضَاءِ شَيْئًا ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِقَضَاءِ حَقِّهِ أَوْ مِلْكِهِ، وَالشِّرْبُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ابْتِدَاءً.
وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا نَهْرٌ يَجْرِي فَأَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرِيَ النَّهْرَ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا سَأَلْتُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ قَضَيْت بِهِ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ، وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ حَتَّى يَسْقِيَهَا مِنْهُ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ الْمَجْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ هَذَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْمَسِيلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْمَجْرَى هُنَا، وَكَذَلِكَ الْمَصَبُّ إذَا كَانَ نَهَرُهُ ذَلِكَ يَصُبُّ فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ السُّفْلَى الْمَجْرَى، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ أَنَّهُ لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ مَصَبًّا أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصَبَّ كَالْمَسِيلِ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةً فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَلَوْ سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ شَجَرَهَا أَوْ مَلَأَهَا مَاءً فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي أَرْضِهِ فَوَقَعَ الْحَرِيقُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ.
وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْمَاءِ سَمَكٌ فَصَادَهُ رَجُلٌ كَانَ لِلصَّيَّادِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ»، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اصْطَادَ مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ ظَبْيًا فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ.
وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ فِيهَا مَرَاعِي فَأَجَّرَ مَرَاعِيهَا أَوْ بَاعَهَا كُلُّ سَنَةٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَرْعَى فِيهَا غَنَمٌ مُسَمَّاةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَلَأُ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِ شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ لِصَاحِبِ الْمَرْعَى بِهِ ثُمَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ الْمَقْصُودُ بِهِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ، وَشِرَاءُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ، وَإِجَارَتِهِ.
وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَأَحْرَزَهُ ثُمَّ بَاعَهُ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي أَحْرَزَهُ فِي الْأَوَانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِالْإِحْرَازِ فِيهِ قَدْ تَمَّ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ.
وَلَوْ كَانَ زَرَعَ رَجُلٌ قَصِيلًا فِي أَرْضِهِ ثُمَّ أَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ يَرْعَى فِيهِ غَنَمَهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْقَصِيلُ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةُ مَا رَعَتْ غَنَمُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مُسْتَهْلِكًا لَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمَرَاعِي فَقَدْ نَبَتَ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ إنْبَاتِ أَحَدٍ فَكَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا مِمَّا اسْتَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهُ لِمَا قُلْنَا، وَلِمَعْنَى الْغَرَرِ فِيهِ فَإِذَا أَتْلَفَ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَرْعًى لِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَرَعَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ يَضْمَنْ مَا رَعَى، وَيَأْخُذُ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ فَاسِدًا فَيَسْتَرِدُّ عَبْدَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَاجِرُ قَدْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَحَلٌّ لِلْمِلْكِ فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشِرْبٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالرِّبْحِ فَهُنَاكَ، وَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا يُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَبْدِ بِحَالٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا فَبِتَسْمِيَتِهِ يَخْرُجُ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ مَالٍ بِمَالٍ فَأَمَّا الشِّرْبُ، وَالْكَلَأُ فَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِحْرَازُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَبْلَ الْإِحْرَازِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِتَسْمِيَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا فِي أَرْضِهِ سَنَةً كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بِذِكْرِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ، وَالْكَلَأُ، وَالشِّرْبُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي النِّكَاحِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِكَلَأٍ فِي أَرْضَهُ سِنِينَ أَوْ، وَهَبَهُ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الشِّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْقًى عَلَى شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ.
وَلَوْ أَحْرَقَ كَلَأً أَوْ حَصَائِدَ فِي أَرْضَهُ فَذَهَبَتْ النَّارُ يَمِينًا، وَشِمَالًا، وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ فِي مِلْكِ نَفْسه مُطْلَقًا، وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً حِينَ أَوْقَدَ النَّارَ فَأَمَّا إذَا أَوْقَدَ النَّارَ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَلَى، وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِالنَّارِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ صَبَّ فِي مِيزَابٍ مَائِعًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا تَحْتَ الْمِيزَابِ إنْسَانٌ جَالِسٌ فَأَفْسَدَ ذَلِكَ الْمَائِعُ ثِيَابَهُ كَانَ الَّذِي صَبَّهُ ضَامِنًا، وَإِنْ كَانَ صَبَّهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى طَائِفَةً مِنْ الْبَطِيحَةِ مِمَّا لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ مِمَّا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْمُسَنَّاةَ، وَاسْتَخْرَجَهُ، وَأَحْيَاهُ، وَقَطَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصَبِ رَأَيْتهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَكَذَلِكَ مَا عَالَجَ مِنْ أَجَمَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ فِي بَحْرٍ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْمَوَاتِ فَأَعَادَ ذَلِكَ هُنَا، وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ مِنْ السَّوَادِ، وَالْجِبَالِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا مِلْكٌ فَهُوَ كُلُّهُ مِنْ الْمَوَاتِ، وَمُرَادُهُ مَا كَانَ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ السُّكَّانِ فِي الْعُمْرَانِ، وَلَوْ أَحْيَاهُ، وَكَانَ لَهُ مَالِكٌ قَبْلَ ذَلِكَ رَدَدْته إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أَجْعَلْ لِلثَّانِي فِيهِ حَقًّا، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ مُحْتَرَمٌ لِحُرْمَةِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ بِالْأَحْيَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَكِنَّهُ أَتْلَفَ مَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا، وَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ زَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا.
وَإِنْ احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي مَفَازَةٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، وَاحْتَفَرَ فِي حَرِيمِهَا الْمَذْكُورَةِ بِئْرًا كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَسُدَّ مَا احْتَفَرَهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ صَارَ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْبِئْرِ إذَا حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا التَّصَرُّفِ شَيْئًا؛ وَلِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِسَدِّ مَا احْتَفَرَ، وَهُوَ عِرْقٌ ظَالِمٌ وَلَا حَقَّ لَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى أَوْ زَرَعَ أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمِلْكِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الثَّانِي فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ.
وَلَوْ أَنَّ الثَّانِيَ حَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ، وَعَرَفَ أَنَّ ذَهَابَ ذَلِكَ مِنْ حَفْرِ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ بَلْ هُوَ مُحِقٌّ فِي الْحَفْرِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ، وَالْمَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي تَحْوِيلِ مَاءِ بِئْرِهِ إلَى بِئْرِ الثَّانِي كَالتَّاجِرِ إذَا كَانَ لَهُ حَانُوتٌ فَاِتَّخَذَ آخَرُ بِجَنْبِهِ حَانُوتًا لِمِثْلِ تِلْكَ التِّجَارَةِ فَكَسَدَتْ تِجَارَةُ الْأَوَّلِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ.
وَلَوْ احْتَفَرَ قَنَاةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَفَازَةٍ ثُمَّ سَاقَ الْمَاءَ حَتَّى أَتَى بِهِ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِقَنَاتِهِ، وَمَخْرَجِ مَائِهِ حَرِيمًا عَلَى قَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْمَاءُ فِيهِ عَلَى، وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَ عَيْنًا إلَّا أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ بَيَانِ الْمِقْدَارِ فِيهِ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْقَنَاةِ نَصًّا بِعَيْنِهِ فَقَالَ: حَرِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ مَاؤُهُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْقَنَاةِ فَبِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ إلَّا أَنَّهُ يَجْرِي تَحْتَ الْأَرْضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْحَرِيمِ لِلنَّهْرِ فَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَنَاةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اسْتَحْيَا أَحَدُهُمَا أَرْضًا أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَهْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَيُثْبِتُ لِهَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى شِرْبًا مِنْ هَذِهِ الْقَنَاةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ.
وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرَضُونَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْضٌ مَعْلُومَةٌ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ فِيمَا مَضَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ غَيْرَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ يَسْقِي أَرْضَهُ الَّتِي لَهَا شِرْبٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ الْأَوَّلَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِلْأَرْضِ شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّهْرِ الْمُعَدِّ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ شِرْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي فَوْقَ حَقِّهِ فَالْأَرْضُ تَنْشُفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ بَيْنَ قَوْمٍ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ طَرِيقًا فِي دَارٍ أُخْرَى، وَسَاكِنُ تِلْكَ الدَّارِ غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا، وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ نَخِيلًا فِي أَرْضٍ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي هَذَا النَّهْرِ شِرْبٌ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ زَرْعًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَصْحَابُ النَّهْرِ رَجُلًا يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ الشِّرْبَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَيَقُومُ عَلَى نَهْرِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَالْبَدَلُ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهَا مَعْلُومٌ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ بِشِرْبٍ مِنْ النَّهْرِ مَكَانَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَهِيَ كَالْمَبِيعِ، وَالشِّرْبُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا مَقْصُودًا، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَلَوْ أَعْطَوْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ تَسْلِيمِ الشِّرْبِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَإِذَا احْتَفَرَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ نَهْرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى مِسَاحَةِ أَرَاضِيِهِمْ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ غَلَطًا رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِمْ رَدُّهُ، وَلَوْ، وَضَعُوا عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهِ- رَجَعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَوْفَاهُمْ بَعْضَ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ.
وَإِذَا كَانَ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شِرْبًا مُسَمًّى، وَفِيهِمْ الْغَائِبُ، وَالشَّاهِدُ فَقَدِمَ الْغَائِبُ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَتِهِ، وَلَا بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِي تَمْيِيزِ نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَإِنْ كَانُوا أَوْفَوْهُ حَقَّهُ، وَحَازُوهُ، وَقَسَّمُوهُ، وَأَبَانُوهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَانَ فِي النَّقْضِ مُتَعَنِّتًا.
، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِثَمَنِ الشِّرْبِ، وَلَا بِالْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا يَصْلُحُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ نَقَدَ الْكَفِيلُ الثَّمَنَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي نَقَدَهُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُؤَدِّي بِالضَّمَانِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا، وَكَّلَ رَجُلٌ، وَكِيلًا بِشِرْبِهِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الِانْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ تَتَعَيَّنُ، وَقَدْ أَنَابَ الْوَكِيلَ فِيهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ لِتَمَكُّنِ الْوَكِيلِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا تَكُونُ الْجِهَةُ مُتَعَيِّنَةً فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شِرْبَ أَرْضِهِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الشِّرْبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ، وَبِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِمَالِهِ مَلَكَ الْحِفْظَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُونَ التَّبَرُّعِ.
وَإِذَا اتَّخَذَ الرَّجُلُ مَشْرَعَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا السَّقَّاءُونَ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَجْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَعْهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يُؤَاجِرْهُمْ أَرْضًا، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ فِي أَوَانِيهِمْ، وَالْمَاءُ فِي الْفُرَاتِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْمَشْرَعَةِ ثُمَّ الْمَوْضِعُ الَّذِي اتَّخَذَ فِيهِ الْمَشْرَعَةَ مِنْ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ لَمْ يُؤَاجِرْهُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ، وَشَرْطُ إجَارَةِ الْأَرْضِ تَسْلِيمُهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَاءِ فَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْمَاءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ تَقَبَّلَ هَذِهِ الْمَشْرَعَةَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَقُومُ فِيهِ الدَّوَابُّ أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِنَّ إيقَافَ الدَّوَابِّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ انْتِفَاعٌ بِهَا، وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهَا، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ قِطْعَةً مِنْهَا يَوْمَ يُقِيمُ فِيهَا بِغَيْرِ آلَةٍ جَازَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ السَّقَّائِينَ مَا اسْتَأْجَرُوا مَوْضِعًا مَعْلُومًا، وَلَا بَيَّنُوا لِوُقُوفِهِمْ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَبَطَلَتْ الْإِجَارَةُ هُنَاكَ لِلْغَرَرِ، وَالْجَهَالَةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشْرَعَةُ لَا يَمْلِكُهَا الَّذِي اتَّخَذَهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا، وَلَا يَصِحُّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا فِي الطَّرِيقِ لِيُؤَاجِرَهُ مِنْ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْمَشْرَعَةِ مِنْ شَطِّ الْفُرَاتِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ حَقِّهِمْ بِاِتِّخَاذِ الْمُشَرَّعَةِ فِيهِ لِيُؤَاجِرَهُ فَيَكْتَسِبُ لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَاِتَّخَذَ مَشْرَعَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ فِيهِ مَشْرَعَةٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ حَوَائِجِهِمْ، وَإِنَّمَا أُرَخِّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لَهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ خُصُوصًا فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَمُرُّوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لِيَسْقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَمَنَعَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَلَكِنَّهُمْ يَمُرُّونَ فِي أَرْضِهِ، وَمَشْرَعَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ، وَالضَّرُورَةِ فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْعَالَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا آخَرَ كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُتَعَيَّنًا لِوُصُولِهِمْ مِنْهُ إلَى حَاجَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقٌ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى التَّطَرُّقِ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا فِي التَّنَاوُلِ مِنْ إتْلَافِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُنَا لَيْسَ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ أَرْضِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ لِيُعَالِجَ مِنْ النَّهْرِ شَيْئًا فَمَنَعَهُ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ فِي بَطْنِ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ، وَالْبِئْرُ، وَالْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَرْضِهِ، وَلَا نَفْعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّطَرُّقِ فِي أَرْضِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي أَرْضِ النَّهْرِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ خَاصٌّ، وَفِي الْأَوَّلِ ضَرَرٌ عَامٌّ، وَقَدْ يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ مَا لَا يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ فَإِنْ كَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِهِ إلَى النَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالْقَنَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ.
وَإِذَا اصْطَلَحَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَا نَفَقَةً يَحْفِرَانِ بِهَا بِئْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْحَرِيمُ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا قَصْدًا التَّفَرُّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا، وَهُوَ الْبِئْرُ، وَالْحَرِيمُ ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِتَمَكُّنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّرْطِ مَقْصُودًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْبِئْرِ ثُمَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَرِيمٍ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلضَّرَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَهُمَا مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَّفِقَةً، وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْحَرِيمُ، وَالْبِئْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُنْفِقُ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَشَرْطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي الْمِلْكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ شَرْعًا فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنْ فَعَلَا كَذَلِكَ رَجَعَ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ بِنِصْفِ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ.
وَإِذَا كَانَتْ بِئْرٌ فِي أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبِئْرِ بِطَرِيقِهِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ طَرِيقًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ آخَرَ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ طَرِيقًا فِيهَا إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ.
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْبِئْرِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْبِئْرِ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا أَنْ بِتَسْمِيَةِ الدَّارِ، وَالْبَيْتِ فِي الْبَيْعِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ، وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَرْضِ مَعَ الْبِئْرِ، وَنَصِيبُهُ نِصْفُ الْأَرْضِ جَازَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْلُومٌ، وَالْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.