فصل: بَابُ صَرْفِ الْقَاضِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الرَّهْنِ فِي الصَّرْفِ:

قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ وَأَخَذَ بِالْعَشَرَةِ رَهْنًا يُسَاوِيهَا فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَهُوَ بِمَا فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ حُكْمَ الرَّهْنِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَبَدَلُ الصَّرْفِ فِيهِ مِثْلُهُ ثُمَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ تَثْبُتُ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَيَصِيرُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مُسْتَبْدِلًا؛ فَلِهَذَا بَقِيَ عَقْدُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِدَنَانِيرَ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ السَّيْفَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، فِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَوْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَخَذَ رَهْنًا بِالسَّيْفِ، وَفِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٌ فَيَبْقَى السَّيْفُ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ السَّيْفِ وَمِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ الشَّيْءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ السَّيْفِ مِنْطَقَةٌ أَوْ سَرْجٌ مُفَضَّضٌ أَوْ إنَاءٌ مَصُوغٌ أَوْ فِضَّةُ تِبْرٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالسَّيْفِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَالِافْتِرَاقُ قَبْلَهُ مُبْطِلٌ لِعَقْدِ الصَّرْفِ وَلَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ ضَامِنُ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْمُثَمَّنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ بَاقٍ بَعْدَ مَا بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ فَعِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ فِيمَا انْعَقَدَ ضَمَانُهُ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الْمُوجِبُ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الصَّرْفِ فِي الْمَعَادِنِ وَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ:

قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا هَلَكَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا جَرَحَتْهُ دَابَّةٌ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَعْدِنٌ جَعَلُوهُ عَقْلَهُ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قَالُوا: وَمَا الرِّكَازُ قَالَ: الذَّهَبَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ- تَعَالَى- فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَهَا» وَالْمُرَادُ بِالْعَجْمَاءِ الدَّابَّةُ لِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تَنْطِقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ يُسَمَّى أَعْجَمِيًّا، وَالْجُبَارُ الْهَدَرُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ بِأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَا ذِمَّةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: وَالرِّجْلُ جُبَارُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا رَمَحَتْ بِرِجْلِهَا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَدَمَتْ الدَّابَّةُ أَوْ ضَرَبَتْ بِالْيَدِ حَيْثُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الرَّاكِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّ لِجَامَهُ.
وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالْمَعْدِنُ فَجُبَارٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِعَمَلِ مَنْ يُعَالِجُهُ فَيَكُونُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ.
فَقَدْ أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ ثُمَّ فَسَّرَ الرِّكَازَ بِالْمَعْدِنِ، وَهُوَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوقُ فِي الْأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ؛ فَإِنَّ الْكَنْزَ مَوْضُوعٌ لِلْعِبَادِ.
وَاسْمُ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّكْزَ هُوَ الْإِثْبَاتُ يُقَالُ: رَكَّزَ رُمْحَهُ فِي الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثَبَّتٌ فِي الْأَرْضِ خِلْقَةً أَوْ وَضْعًا.
وَعَنْ عَامِرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَقْضِي فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا، إنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا قَوْمٌ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْك، وَإِنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا أَحَدٌ فَخُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَقِيَّتُهَا لَكَ، وَسَنُتِمُّهَا لَك فَجَعَلَ الْكُلَّ لَهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- عَلَى أَنَّ وَاجِدَ الْكَنْزِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَكِنْ يَرُدُّهَا عَلَى صَاحِبِ الْخُطَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَالِكٍ كَانَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا اُفْتُتِحَتْ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي الْوَاجِدِ إذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: إنْ كَانَتْ قَرْيَةً خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ فَارِسَ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَادِيَةً خَرِبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ فَأَدْخَلَ خُمُسَهُ بَيْتَ الْمَالِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ بَقِيَّتَهُ وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ كَنْزًا بِالْمَدَائِنِ فَدَفَعَهُ إلَى عَامِلِهِ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: بِفِيهِ الْكَثْكَثُ- يَعْنِي التُّرَابَ- فَهَلَّا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ خُمُسَهُ.
وَهَذَا مَثَلٌ فِي الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ لِلْجَانِبِ الْمُخْطِئِ فِي عَمَلِهِ، وَهُوَ مُرَادُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا قَالَتْ- يَعْنِي أَنَّهُ خَابَ وَخَسِرَ لِخَطَئِهِ فِيمَا صَنَعَ فِي دَفْعِهِ الْكُلَّ إلَى الْعَامِلِ فَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْفِيَ مِقْدَارَ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ الْأَقْدَرِ الْخُمُسَ.
وَعَنْ جَبَلَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَرَجَ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إلَى دَيْرٍ خَرِبَةٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ ثُلْمَةٌ فَإِذَا سَتُّوقَةٌ أَوْ جَرَّةٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ قَالَ: فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَكَ، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي مِنْهُ اقْسِمْهُ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الْخُمُسِ فِي قَرَابَةِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ فِي مَعْنَى خَمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَوَضْعُ ذَلِكَ فِي قَرَابَةِ الْغَانِمِينَ جَائِزٌ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ.
وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَزْدِيِّ قَالَ: وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ أَبِي بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ فَلَامَتْهُ أُمِّي، وَقَالَتْ: اشْتَرَيْتَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ أَنْفُسُهَا مِائَةٌ، وَأَوْلَادُهَا مِائَةٌ وَكِفَايَتُهَا مِائَةٌ فَنَدِمَ الرَّجُلُ فَاسْتَقَالَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ فَقَالَ: لَك عَشْرُ شِيَاهٍ فَأَبَى فَقَالَ: لَكَ عَشَرَةٌ أُخْرَى فَأَبَى فَعَالَجَ الرِّكَازَ فَخَرَجَ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ فَأَتَاهُ الْآخَرُ فَقَالَ خُذْ غَنَمَك وَأَعْطِنِي مَالِي فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ: لَأَضُرَّنَّكَ فَأَتَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْت لِلَّذِي وَجَدَ الرِّكَازَ، فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا أَخَذَ ثَمَنَ غَنَمِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدِنِ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ أَيْ: كُلُّ شَاةٍ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ حَامِلٌ بِأُخْرَى، وَهَذَا مَعْنَى مَلَامِهَا إيَّاهُ حَيْثُ قَالَتْ: اشْتَرَيْتَهَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا: وَكِفَايَتُهَا: حَمْلُهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَبَنُهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْنِيَ تَصَرُّفَهُ عَلَى رَأْيِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ نَدِمَ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهَا ثُمَّ خَرَجَ لَهُ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ عَلَى الْوَاجِدِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ قَبْلَ أَدَاءِ الْخُمُسِ جَائِزٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ كَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ مَنْ حَفَرَ مَهْوَاةً وَقَعَ فِيهَا وَيُقَالُ: الْمُحْسِنُ يُجْزَى بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ سَتُلْقِيهِ مَسَاوِيهِ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي بَيْعِ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ وَهُوَ غَرَرٌ مِثْلُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَالْمَقْصُودُ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا عَيْنُ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ وَمَا فِيهِ لَيْسَ بِمَعْلُومِ الْوُجُودِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْغَرَرِ.
«وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَلَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ عُلِمَ وُجُودُ ذَلِكَ فَبَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ مُعَيَّنٍ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ فِي اللُّقْطَةِ.
وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ وَيَقُولُ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادَهُ فَاصْرِفْهَا إلَى حَاجَتِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَهُ مُحْتَاجًا.
وَعِنْدَنَا لِلْفَقِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ.
قَالَ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي الْخَرِبِ الْعَادِيَّ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَالْمُرَادُ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْكَنْزِ، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَنْ احْتَفَرَ مِنْ الْمَعْدِنِ، فَعَلَيْهِ خُمُسُ مَا وَجَدَ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ تَتَقَاسَمُونَهُ التُّرَابَ، وَلَا أُجِيزُهُ، وَإِنْ فَعَلُوا حَتَّى تَخَلَّصَ، تَقَاسَمُوهُ عَلَى مَا يَخْلُصُ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ، وَحَقُّهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَعِنْدَ قِسْمَةِ التُّرَابِ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ مَا يَصِلُ مِنْ الْمَقْصُودِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُمْ فِي مَعْنَى قِسْمَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ مُجَازَفَةً بِجِنْسِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَى مَعْدِنَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ مَا فِي تُرَابِ الْمَعْدِنِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْفِضَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الرِّبَا وَاجِبٌ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَدْعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ»، وَقَالَ: فِي الرِّبَا «مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فَلَعَلَّ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ الذَّهَبُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فَالتُّرَابُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ جَازَ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ إذَا خَلَصَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَرَأَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَشَفَ لَهُ الْحَالَ الْآنَ، وَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ.
وَكَذَلِكَ تُرَابُ مَعْدِنٍ مِنْ الذَّهَبِ إذَا اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ.
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِفِضَّةٍ، أَوْ عَرَضٍ جَازَ لِانْعِدَامِ الرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَإِذَا احْتَفَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَعْدِنِ، ثُمَّ بَاعَ تِلْكَ الْحُفْرَةَ، فَإِنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحُفْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا بِمُجَرَّدِ الْحَفْر؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَهُوَ لَمْ يُحْرِزْهُ، فَإِنَّ إحْرَازَهُ فِيمَا رَفَعَ مِنْ التُّرَابِ، دُونَ الْبَاقِي فِي مَكَانِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهَا، وَيُخْرِجَهَا، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَحْرَزَ بَعْضَهَا، فَبَاعَ ذَلِكَ الْمُحْرَزَ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبَاعَ لَهُ الْبَاقِي، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْتَ مِنْ الرِّكَازِ، يَعْنِي مَا أَحْرَزْتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهَا رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْهَا عِوَضًا، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا لَا يَمْلِكُ، وَاشْتَرَطَ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فِي إخْرَاجِ الْمُبَاحِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَجَعَ فِي عِوَضِهِ وَمَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ مِنْ الْحُفْرَةِ فَأَحْرَزَهُ، فَهُوَ لَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَعَلَيْهِ الْخُمُسُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الْأَجِيرَ يَعْمَلُ مَعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ جَائِزُ؛ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ مِقْدَارِهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَمَّا كَانَ التُّرَابُ مُعَيَّنًا مَعْرُوفًا، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَأَى مَا فِيهِ، كَمَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ مُسَمًّى بِغَيْرِ عَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ وَزْنِ التُّرَابِ فَقَدْ يَكْثُر ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ، وَيَقِلُّ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَيَنْعَدِمُ فِي الْبَعْضِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى عَرَضًا بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَأَعْطَاهُ بِهِ تُرَابًا بِعَيْنِهِ يَدًا بِيَدٍ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ فِضَّةً، فَأَعْطَاهُ تُرَابَ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِيمَا أَعْطَاهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ تُرَابَ ذَهَبٍ، جَازَ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ وَإِذَا اسْتَقْرَضَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ تُرَابَ ذَهَبٍ أَوْ تُرَابَ فِضَّةٍ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِوَزْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ، وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُقْرِضُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْرَاضُ التُّرَابِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ تُرَابًا مِثْلَهُ لَمْ يَجُزْ، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ زِيَادَةً، أَوْ نُقْصَانًا فِيمَا اسْتَقْرَضَهُ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقَرْضِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَاسْتَهْلَكَ التُّرَابَ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَنَاوَلُ عَيْنَ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ فِضَّةٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ، أَوْ تُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ ذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ تَسَاوِيًا، أَوْ تَفَاضُلًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي التُّرَابِ وَبِالْمُسَاوَاةِ فِي وَزْنِ التُّرَابِ لَا تَحْصُل الْمُمَاثَلَةُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ ذَهَبٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ جَازَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ الْآنَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ صَرْفِ الْقَاضِي:

قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الصَّرْفِ، وَحُكْمُ وَكِيلِهِ وَأَمِينِهِ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ الْعُقُودِ لَيْسَ بِقَاضٍ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا فَمُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، تَسْتَدْعِي مِنْ الشَّرَائِطِ مَا تَسْتَدْعِيهِ مُبَاشَرَتُهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ دَرَاهِمُ فَصَرْفَهَا الْوَصِيُّ بِدَنَانِيرَ مِنْ نَفْسِهِ بِسِعْرِ السُّوقِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصَّرْفِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْيَتِيمِ، وَهُوَ شَرْطُ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَانِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ فَصَرَفَهَا الْوَصِيُّ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَضَرَّ بِالْآخَرِ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ نَظَرْتُ فِيهِ فَإِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ أَمْضَيْتُ الْبَيْعَ فِيهِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لِلْأَثَرِ الَّذِي رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، أَمَّا أَبُو الصَّبِيِّ، أَوْ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ النَّظَرَ لَهُ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ الصَّوَّاغِينَ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ خَاصَّةً مِثْلَ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَيَكُونُ النَّوْعُ الْآخَرُ رِبًا، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ جَازَ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، وَعَلِمَ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْآنَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَاشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، يَجُوزُ عَلَى أَنْ يُصْرَفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي بَيْعِ الْجِنْسَيْنِ بِجِنْسَيْنِ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلًّى، أَوْ مِنْطَقَةٍ مُفَضَّضَةٍ، أَوْ قِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ، وَلُؤْلُؤٌ، وَجَوْهَرٌ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مَا فِي التُّرَابِ مِثْلُ الْحِلْيَةِ فَيَبْقَى السَّيْفُ رِبًا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ بِفِضَّةٍ، وَجَوْهَرٍ أَوْ بِذَهَبٍ، وَعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ هُنَا مُمْكِنٌ، بِأَنْ يُصْرَفَ الْمِثْلُ إلَى الْمِثْلِ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْعُرُوضِ، وَالْحُكْمُ فِي تُرَابِ مَعْدِنِ فِضَّةٍ، وَمَعْدِنِ ذَهَبٍ يَشْتَرِيهِمَا رَجُلٌ جَمِيعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ؛ لِاشْتِمَالِ التُّرَابِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمِيعًا، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَا فِي التُّرَابِ لَوْ اشْتَرَى ذَهَبًا، وَفِضَّةً لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا بِفِضَّةٍ، وَذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا جَازَ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، فَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، وَالَعْطَاءُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَكُلٌّ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُ، فَلَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَبَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ زِيدَ فِي عَطَائِهِ، فَبَاعَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِالْعُرُوضِ، أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يُجَوِّزُ بِيعَ زِيَادَةِ الْعَطَاءِ بِالْعُرُوضِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَطَاءِ كَأَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ دَيْنًا، وَبَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِيمَا هُوَ دَيْنٌ حَقِيقَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَطَاءِ، وَلَكِنْ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّهُمَا كَانَا يُجَوِّزَانِ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زُفَرَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.