فصل: بَابُ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَا هُوَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَصِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِمُبَاشَرَتِهَا أَوْ بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِآثَارٍ رُوِيَتْ فَمِنْهُ حَدِيثُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ عَقْدَ النِّكَاحِ النَّجَاشِيُّ وَمَهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ» وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ فَقَالَ: أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ لَتَمْلِكَنَّ أَمْرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَلَكَهَا فَقَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ مَعَنَا فِي الدَّارِ ابْنَتَيْهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ بَحْرِيَّةَ بِنْتِ هَانِئ قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ فَخَاصَمَ أَبِي إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَقْوَى الْحُجَّةُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّجَاشِيِّ: إنَّهُ كَانَ هُوَ الْوَلِيُّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فِي وِلَايَتِهِ، فَإِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَذَلِكَ مَا أَجَازَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا أَجَازَهُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ عَضَلَهَا فَخَاصَمَتْهُ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْوَلِيَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ السُّلْطَانُ، فَإِذَا صَنَعَتْ هِيَ بِنَفْسِهَا كَيْفَ تَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَا صَنَعَتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَهَا وَلَدٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ وَلَدَهَا مِنْهُ، أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلِيَّ هَذَا الْوَلَدُ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ أَبَاهَا وَهُوَ مَعْتُوهٌ فَزَوَّجَتْهُ أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا، فَإِذَا كَانَتْ تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ أَبَاهَا فَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمَا، وَاَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ:

(قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِلرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً، وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي فُصُولٍ.
(أَحَدُهَا:) أَنَّ الْحُرَّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمَ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ لِضَرُورَةِ خَوْفِ الزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي تَزَوُّجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ تَعْرِيضَ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الرِّقِّ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلرِّقِّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ وَلَدَهُ لِلرِّقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْتَنِعَ النِّكَاحُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْوَلَدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِبَاهِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بَدَلٌ فِي حَقِّ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَقْدُ ازْدِوَاجٍ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ فَكَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْعُدُولَ إلَى الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَمَا يَمْنَعُ التَّيَمُّمَ فَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالشِّرَاءِ تَمْنَعُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} فَإِذَا اسْتَطَابَ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، وَالْأَمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ فِي حَقِّ الْحُرِّ كَالْحُرِّ فَيَكُونُ جَوَازُ نِكَاحِهَا أَصْلًا لَا بَدَلًا وَلَا ضَرُورَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ أَنَّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَحَلًّا لَهُ، وَلَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلَّا مَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لِلْعَبْدِ أَصْلًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ أَوْسَعُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْعَبْدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَثْبُتُ لِلْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ تَحِلُّ لِلذُّكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ النَّسْلِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ثُمَّ الْحُرْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَعَانِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ مِنْ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ أَيْضًا فَأَنَّ نِكَاحَ الْعَقِيمِ وَالْعَجُوزِ يَجُوزُ، وَفِيهِ تَضْيِيعُ النَّسْلِ أَصْلًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلنَّسْلِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْأَمَةَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ، كَمَا لَا يَبْقَى حُكْمُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: حُرْمَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ».
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِنِكَاحِهَا عَنْ الْأَمَةِ، وَيَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ عَيْنُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا الِاسْتِغْنَاءُ بِنِكَاحِهَا، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَثْبُتُ لِنَسْلِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ يُبْطِلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَأَمَّا بِطَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِوَلَدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ بِالنِّكَاحِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَحَالُ مَا بَعْدَهُ وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ، وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتَغْلِبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ حَالَتَانِ حَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ وَحَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْهَا، فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ، فَأَمَّا مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ لَا يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ وُجُودِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَبِهِ نَقُولُ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْعِدَامِ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ حِلُّهَا لِأَجَلِ الضَّرُورَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَعِنْدَنَا نِكَاحُ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ مُبَاحٌ مُطْلَقًا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي عِنْدَنَا إنْ كُنَّ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ عَنْهُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّةَ تَكُونُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ عَادَةً، وَتَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِرِقِّ الْمُسْلِمِ أَهْوَنُ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِرِقِّ الْكَافِرِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مَعْنَاهُ مِنْ الْحَرَائِرِ فَلَمَّا جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً، فَإِذَا كَانَتْ أَمَةً لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ النَّصِّ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، وَلِأَنَّ كُفْرَهَا يَغْلُظُ بِبَعْضِ آثَارِهِ وَهُوَ الرِّقُّ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا أَصْلًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ مُحَلَّلَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ كَالْمُسْلِمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْمَجُوسِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ، ثُمَّ فِي حَقِّ حِلِّ الذَّبِيحَةِ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ مِنْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَتَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَرَائِرَ فَإِبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَلَكِنَّ هَذَا لِبَيَانِ الْأَوْلَى، وَاسْمُ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ لِاخْتِصَاصِهَا بِاسْمٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ.
(قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ أَجَازَ مَوْلَى الْأَمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْحِلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ الْحُرَّةُ تَحْتَهُ، فَبِهَذِهِ الْإِجَازَةِ يَحْصُلُ ضَمُّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ فَيَمْنَعُ الْإِجَازَةَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا مَوْقُوفًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا ثُمَّ إنَّ الْأُولَى أَجَازَتْ لَمْ يَجُزْ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَ أُمَّ هَذِهِ الْأَمَةِ أَوْ ابْنَتَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَ إجَازَةِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى أَكَانَ يَجُوزُ قَالَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِتْقَ إمْضَاءٌ لِلنِّكَاحِ وَإِجَازَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مُخَاطَبَةٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ عَقْدِهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى نَفَذَ الْعَقْدُ وَكَانَ نُفُوذُ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَمَا قَالَ: إنَّهُ إمْضَاءٌ وَإِجَازَةٌ تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ، فَأَمَّا نُفُوذُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ نُفُوذُ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَهْرُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا فَمَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ لَهَا، وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ كَانَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا تَوَقَّفَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُهُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ النُّفُوذِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لَهَا الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ لَمْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَوْلَى، فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْمَوْلَى أَوْ إجَازَةِ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، فَأَمَّا بِالْعِتْقِ هُنَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَتْ شَيْئًا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشِّرَاءَ انْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى فَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ عِتْقِهَا كَانَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لَهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا هُنَا النِّكَاحُ انْعَقَدَ مُوجِبَ الْحِلِّ لَهَا وَبَعْدَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا، وَلَكِنَّهُ مَاتَ فَوَرِثَهَا ابْنُهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلِابْنِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُجِيزَهُ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْمَوْقُوفِ كَمَا إذَا طَرَأَ مِلْكٌ نَافِذٌ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمَالِكِ بَطَلَ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بَعْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَالْحِلَّيْنِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةً فَنُفُوذُ أَحَدِهِمَا فِي الْمَحَلِّ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لِلِابْنِ فَأَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ النِّكَاحَ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُنَافِي وَهُوَ طَرَيَان الْحِلِّ النَّافِذِ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْأَبِ، فَلَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى أَوْ وَهَبَهَا أَوْ سَلَّمَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمَا نَفَذَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لِمَنْ مَلَكَهَا فَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَا مَلَكَهَا وَقَدْ أَجَازَ مَنْ مَلَكَهَا النِّكَاحَ أَوْ لَمْ يُجِزْ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِمَّا سَمَّى لَهَا فِي النِّكَاحِ قَبْلَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَسَقَطَ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا يَوْمَ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَمْلُوكٌ لِلثَّانِي فَكَانَ الْبَدَلُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَجَازَ النِّكَاحَ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهَا، وَذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى مَمْلُوكٌ لِلْأَوَّلِ فَكَانَ الْمَهْرُ لَهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الثَّانِي هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ حِينَ مَلَكَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْمُعْتَدَّةُ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُعْتَدِّ مِنْهُ فَهِيَ لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً لِلْمَالِكِ الثَّانِي، فَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ، فَإِذَا أَجَازَهُ كَانَ صَحِيحًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ فَاعْتِرَاضُ الْمِلْكِ الثَّانِي يُبْطِلُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ غِشْيَانِهَا، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسَ الْمَنْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ، فَهَذَا مِثْلُهُ.
(قَالَ:) وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا جَازَ النِّكَاحُ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مَهْرَانِ مَهْرٌ لِلْمَوْلَى بِالدُّخُولِ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَمَهْرٌ لَهَا لِنُفُوذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا، وَإِذَا وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهَا بِهِ مَهْرٌ آخَرُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِجَازَةَ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَحُكْمُهَا يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِذْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُ الشُّهُودِ اخْتَصَّ بِمِلْكِ الْحِلِّ كَشَرْطِ الْمَهْرِ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَكَذَا وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ مَهْرٍ آخَرَ لَهَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا، وَلَكِنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ جَعَلَ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ جَازَ عَقْدُهَا وَيُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ.
(قَالَ:) وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُكْرِهَ أُمَّتَهُ أَوْ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَهُوَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِتَزْوِيجِهَا، وَلَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَدَلَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى، وَالنَّفَقَةُ تَسْقُطُ عَنْ الْمَوْلَى فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ النِّكَاحُ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَهُوَ فِي تَزْوِيجِهِ مُتَصَرِّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ عَبْدِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا الْعَقْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَزْوِيجَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الْعَبْدِ فَيُطَلِّقُهَا مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، فَإِنَّمَا عَقَدَ الْمَوْلَى عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَمْلِكُ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَالْأَمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَمَةِ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا لِمِلْكِهِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لَا تَسْتَدْعِي مِلْكَ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، وَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلِيَّ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، فَثَبَتَ أَنَّ فِي حَقِّ الْأَمَةِ إنَّمَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا بِمِلْكِهِ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَفِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ إنَّمَا يَنْظُرُ لِلْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْإِمْهَارَ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَتَمْلِيكِ الْبُضْعِ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ، وَمَا قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فَاسِدٌ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِدُّ بِالنِّكَاحِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ، فَالْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ يَسْتَبِدُّ بِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَهُنَا الْعَبْدُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمُوجِبُ النِّكَاحِ الْحِلُّ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِشْمَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُهُ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ.
(قَالَ:) وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَذَكَرَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى عَكْسِ هَذَا أَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ صَحِيحٌ، وَعَلَى أَمَتِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا فَرْجٌ، فَلَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ شُهُودٍ.
(قَالَ:) وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى وَاجِبٌ لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِحُكْمِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَقَرَّرَ بِهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا لِسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ، كَمَا إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْمَهْرُ لِسَيِّدِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِمُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ، وَإِنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ الْأَمَةِ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ نَفْسِهَا، وَهُنَاكَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا فَهُنَا أَيْضًا لِلْمَوْلَى أَنْ يَحْبِسَهَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا، وَلَا لِلْحُرَّةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ لَا يُحْبَسُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَائِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالصَّدَاقِ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْعُمُرِ، وَفِي الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى الْمَوْلَى صَدَاقَهَا أُمِرَ الْمَوْلَى أَنْ يُدْخِلَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى، فَلَا تَقَعُ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَلَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى فِي بَيْتِهِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْلُ.
وَمَتَى مَا وَجَدَ الزَّوْجُ مِنْهَا خَلْوَةً أَوْ فَرَاغًا قَضَى حَاجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى قَتَلَهَا مَوْلَاهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ جَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ الصَّدَاقَ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ عَنْ الزَّوْجِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ بِأَجَلٍ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا غَيْرُ الْمَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ فَبِمُضِيِّ مُدَّتِهِ يَنْتَهِي الْعَقْدُ، وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ مُوجِبٌ تَقْرِيرَ الْبَدَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاكْتَسَبَتْ مَالًا ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرِثُهَا، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ أَيْضًا، وَالتَّوْرِيثُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَسُقُوطُ الْمَهْرِ مِنْ حُكْمِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْبَدَلِ اكْتَسَبَ سَبَبَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي اكْتَسَبَ سَبَبَهُ يُجْعَلُ التَّفْوِيتُ مُحَالًا بِهِ إلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ يَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ بِأَجَلٍ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ جُعِلَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَيْرُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَبِاعْتِبَارِ مَوْتِهِ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى صَاحِبِ الشَّاةِ فِيمَا صَنَعَهُ غَيْرُ مُتْلِفٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ غَيَّبَ أَمَتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِصَدَاقِهَا، فَإِذَا أَتْلَفَهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِصَدَاقِهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَّضِحُ فِيمَا إذَا بَاعَهَا فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَمَا إذَا غَيَّبَهَا مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ، أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنَقُولُ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ إتْلَافًا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ، بَلْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا هَذَا مَوْتٌ مُنْهٍ لِلنِّكَاحِ، وَلَوْ قَتَلَتْ الْحُرَّةُ الْمَنْكُوحَةُ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَهْرِ لَهَا وَقَدْ فَوَّتَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَتْلُهَا نَفْسَهَا فِي الْإِحْكَامِ كَمَوْتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَاتَتْ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا نَفْسَهَا هَدَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إنَّمَا تُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهُوَ كَمَوْتِهَا، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالضَّمَانُ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ قَتْلِهَا نَفْسَهَا الْمُهُورُ لِوَرَثَتِهَا لَا لَهَا، وَلَمْ يُوجَدُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا كَانَ تَفْوِيتًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَاتِلِ، فَأَمَّا الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ قَتْلِ الْأَمَةِ وَالتَّفْوِيتُ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا.
؟ قُلْنَا: الْوَارِثُ إذَا قَتَلَهَا صَارَ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ هُنَا، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِي إسْقَاطِ مَهْرِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ رِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَتَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ مِنْهَا فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ هُنَا لِمَوْلَاهَا، وَفِي الْأُخْرَى يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَمْلُوكِ مُضَافٌ إلَى الْمَالِكِ فِي مُوجِبِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ غَيْرَهَا كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِهَا أَوْ فِدَائِهَا، فَإِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَوْلَى قَتَلَهَا فَلِهَذَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا.
(قَالَ:) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا إيَّاهُ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ وَقَدْ وَلَدَتْ لَهُ ضَمِنَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرِقِّ مَائِهِ، وَلَكِنْ كَمَا يُعْتَبَرُ حَقُّهُ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ لَهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ كَانَ كَاذِبًا فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ حِينَ زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَضَمَانُ الْغَرَرِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّهَا ضَمِنَتْ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِمَا ذَكَرَتْ مِنْ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعَقْدِ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ الْعُقْرَ لِلْمَوْلَى، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَا اسْتَوْفَى مِنْهَا، وَالْمُسْتَوْفَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِاسْتِيفَائِهِ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْتَسْعَاةُ فِي بَعْضِ قِيمَتِهَا ثُمَّ أَدَّتْ السِّعَايَةَ فَعَتَقَتْ خُيِّرَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذَا أَعْتَقَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا خُيِّرَتْ.
(قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّتِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَهُمْ يَقُولُونَ: الْمُحَرَّمُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مِلْكُهُ بَاقِيًا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِكَاحٌ، فَلَا يَكُونُ مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَتَزَوَّجَ أَمَةً يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ مَا أَبَانَهَا لَمْ تَطْلُقْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَزَوِّجٍ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا أَبَانَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَنْعُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ الْحُرَّةَ صَحَّ نِكَاحُهَا، وَلَكِنَّ الْمَنْعَ مِنْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ فِي مُزَاحَمَةِ كَامِلَةِ الْحَالِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ثَبَتَ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَكُلُّ مَنْعٍ ثَبَتَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَحَقُّ الشَّيْءِ كَنَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي إبْقَاءِ الْحُرْمَةِ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَعْدَ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَبْقَى تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِبَقَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ، وَفِي هَذَا نَوْعُ ضَمٍّ فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ: هُنَاكَ الْمَنْعُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَتَّى يُقَالُ: يَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ قُلْنَا فِي الْأَيْمَانِ: الْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَفِي الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ، فَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ الْمُعْتَبَرُ الْمَعْنَى، وَمَعْنَى الْحُرْمَةِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِي هَؤُلَاءِ بَاقٍ، وَحُكْمُهُنَّ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ.
(قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ خَمْسَ حَرَائِرَ وَأَرْبَعَ إمَاءٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ لَمْ يَصِحَّ هُنَا، فَإِنَّهُنَّ خَمْسٌ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَيَلْغُو ضَمُّهُنَّ إلَى الْإِمَاءِ وَيَبْقَى الْمُعْتَبَرُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَهُنَّ أَرْبَعٌ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لِلْحُرِّ عِنْدَنَا، فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِلْحُرَّةِ زَوْجٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ بَاطِلٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا، فَضَمُّهَا إلَى الْأَمَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا يَتَحَقَّقُ ضَمُّ الْحُرَّةِ إلَى الْأَمَةِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نِكَاحُ الْحُرَّةِ أَقْوَى مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَالضَّعِيفُ لَا يَدْفَعُ الْقَوِيَّ، وَلَكِنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ، بِخِلَافِ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَمَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةُ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ، فَصَارَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ مُحَرَّمَةٍ وَمُحَلَّلَةٍ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الْمُحَلَّلَةِ دُونَ الْمُحَرَّمَةِ.
(قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ أَوْ أُمَّتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَوَّأَهَا مَعَ الزَّوْجِ بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى خِدْمَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ بِالتَّبْوِئَةِ يَصِيرُ كَالْمُعِيرِ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مَتَى شَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرَطَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ لَا غَيْرُ، فَاشْتِرَاطُهُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِجْبَارِ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ، فَإِنَّ الْإِعَارَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ.
(قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا أَمَةٌ قَدْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهَا فِي النِّكَاحِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ رَقِّهَا نَوْعُ عَيْبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْبَ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ غَيْرَ أَنَّ مَا وُلِدَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ فِيمَا مَضَى وَمَا كَانَ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ حُرٌّ لِأَجْلِ الْغُرُورِ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي يَدِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ مَا لَمْ يُخَاصِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ أَمَانَةٌ مَا لَمْ يُطَالِبْ بِالرَّدِّ، فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ، حَتَّى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَانِعًا لِلْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ هُنَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ كَأُمِّهِ لَا قِيمَةَ لِرِقِّهِ حَتَّى لَا يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَصِيرُ كَأُمِّهِ إذَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِيهِ، وَهُنَا عُلِّقَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ لَهَا، وَهِيَ إنَّمَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا فَفِي حُرِّيَّةِ وَلَدِهَا يَحْصُلُ بَعْضُ مَقْصُودِهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ كَانَ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِضَمَانِ قِيمَةِ وَلَدِ الْغُرُورِ وَقَدْ تَقَرَّرَ هُنَا، وَرُجُوعُهُ عَلَيْهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهِيَ سَتُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُفِيدًا، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مُؤَخَّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
(قَالَ:) وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِأَبِيهِ بِحُكْمِ الْإِرْثِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الطَّلَبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ، وَلَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ يَأْخُذُ الْأَبُ دِيَتَهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ كَحُكْمِ الْمُبْدَلِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ عَلَى الضَّارِب خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بَدَلُ الْجَنِينِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ عُشْرُ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحَقِّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ، فَلَا يَغْرَمُ لَهُ الْأَبُ إلَّا بَدَلَ جَنِينِ الْأَمَةِ، وَإِنْ سَلِمَ لَهُ بَدَلُ جَنِينِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ.
(قَالَ:) وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ وَبَقِيَ الْوَلَدُ أَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فِي حِصَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَبِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَضَاءُ دَيْنِ الْأَبِ لَا يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ فِي حِصَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ الْأَبُ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ الْوَلَدُ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِسَائِرِ دُيُونِ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ كَانَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ عَمَّا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْغُلَامِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ بَلْ بِالْغُرُورِ، فَإِنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَالْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَمِّ فِيهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَمُّ فِيهِ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا سَوَاءً.
(قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَعُقْرَهَا وَالْجَوَابُ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ غَيْرَ الْأَمَةِ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ حُرٌّ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَالْحُرُّ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ فِيهَا عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ التِّجَارَةِ فِي الْحَالِ لَا بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى عِتْقِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى أَمَرَ الْعَبْدَ أَوْ الْمُدَبَّرَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ الْمَغْرُورُ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا بِأَنْ تَزَوَّجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-، نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلَدُ حُرٌّ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ إذَا عَتَقَ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرِّيَّةِ الْغُرُورُ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا عِنْدَ النِّكَاحِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحُرِّ، وَكَمَا يَحْتَاجُ الْحُرُّ إلَى حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فَالْمَمْلُوكُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ بَلْ حَاجَتُهُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِرِقِّ الزَّوْجِ وَحُرِّيَّتِهِ فِي رَقِّ الْوَلَدِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْأُمِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهَا كَانَ وَلَدُهُ رَقِيقًا، فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ رِقَّ الْأُمِّ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ رِقِّهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا؛ لِأَنَّ مَا شُرِطَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: هَذَا الْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا يَتَفَرَّعُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلَانِ رَقِيقَيْنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِلْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقَدْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ هُنَاكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَاكَ؛ لِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ هُنَاكَ بِصِفَتِهِ حُرٌّ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِاتِّصَالِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَتَأْثِيرُ الْغُرُورِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِي مَائِهِ بِالِاتِّصَالِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ، وَهُنَا مَاءُ الْعَبْدِ رَقِيقٌ كَنَفْسِهِ، فَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِمَائِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مَا لَمْ يَكُنْ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ مَائِهِ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ مَائِهَا يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ فَجَعَلْنَا الْغُرُورَ دَلِيلًا مُرَجِّحًا، وَهُنَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ التَّرْجِيحِ، وَمَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا يَصْلُحُ مُوجِبًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ هُنَاكَ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَالِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهِ عَنْهُ، وَهُنَا لَوْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ فَكَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّد فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَكُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يَغُرَّهُ فِيهَا أَحَدٌ فَأَوْلَادُهُ أَرِقَّاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنْهُ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الْغُرُورُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ هُنَا، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَدَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ الْمُزَوِّجَ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهَا، وَمِلْكُ نِصْفِ الْأَمَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، فَلَمْ يَنْفُذْ عَقْدُهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَنَاوَلَ عَقْدُهُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الزَّوْجِ لِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ فِي نَصِيبِ الْمُزَوِّجِ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى، وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْمُسَمَّى وَرِضَاهُ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَجِبُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ إبْطَالُ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ خَلَا بِهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَخْلُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَلَا تُعْتَبَرُ الْخَلْوَةُ فِيهِ.
(قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا زَوَّجَ أَمَةَ الْيَتِيمِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضُ إذَا زَوَّجَ أَمَةً مِنْ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَيَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ يَمْلِكُونَ الِاكْتِسَابَ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْأَبُ وَالْوَصِيُّ، فَإِنَّهُمَا أُمِرَا بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ، وَعَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ النَّظَرِ، وَأَمَّا الْمُفَاوَضُ فَإِنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إنَّمَا عَقَدَا الْمُفَاوَضَةَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ، وَلَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اكْتِسَابُ الْمَالِ بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَشَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
(قَالَ:) وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَمَةَ الصَّبِيِّ مِنْ عَبْدِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَأْذُونِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ النَّسْلِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ كَإِنْزَاءِ الْفَحْلِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى أَتَانِهِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي هَذَا تَعْيِيبًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ جَمِيعًا، وَمَنْفَعَةُ النَّسْلِ مَوْهُوبَةٌ وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْهُوبَةُ لَا تَكُونُ جَائِزَةً لِلضَّرَرِ الْمُتَحَقِّقِ، فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمُضَارِبُ أَوْ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ إذَا زَوَّجَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْأَمَةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُونَ التَّزْوِيجَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: الْمَأْذُونُ إنَّمَا كَانَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ التُّجَّارَ لَا يَعْتَادُونَ اكْتِسَابَ الْمَالِ بِتَزْوِيجِ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ بِعَبْدٍ وَنَوَتْ التِّجَارَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَصَارَ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ مَتَى اقْتَرَنَتْ بِعَمَلِ التِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ، فَلَا يَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ كَالْكِتَابَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى التِّجَارَةِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ لَا يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَا يُزَوِّجُونَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ، وَلَا مِنْ التِّجَارَةِ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةَ ابْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَعَلَى الِابْنِ أَنْ يُعِفَّ أَبَاهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ صَحَّ النِّكَاحُ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ حَتَّى لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَالْمَوْلَى إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ أَظْهَرُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِيلَادَهُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ صَحِيحٌ، وَاسْتِيلَادُ الْمَوْلَى أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَصِحُّ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» فَجَارِيَةُ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبِهِ، فَلَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ كَأَمَةِ عَبْدِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَيْسَ لَهُ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ مِلْكٌ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَأَمَةِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَ لِأَبِيهِ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ لِمَا كَانَ لِلْمَوْلَى فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ، فَلَيْسَ لِقِيَامِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ، وَلَكِنْ لِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَهَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ فِي إيجَابِ مِلْكٍ أَوْ حَقِّ مِلْكٍ لَهُ فِيهَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَا حَقَّ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ كَسْبًا لَهُ فَهُوَ كَسْبُ حُرٍّ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُعْتَقِ لَا حَقَّ لِلْمُعْتِقِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ كَسْبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ حُرٍّ، فَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا بَلْ بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَقَرُّرِ حَاجَتِهِ إلَى صِيَانَةِ مَائِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسْلُهُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ فَمَوْلَى الْجَارِيَةِ هُنَا مَلَكَ أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ عِنْدَنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِفُجُورٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَهُنَاكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ، فَإِنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِدُونِ التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، فَإِذَا تَمَلَّكَهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ كَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَمَلُّكِهَا لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بَلْ النِّكَاحُ أَوْ شُبْهَةُ النِّكَاحِ يَكْفِي؛ لِذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَمَلِّكًا لَهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
(قَالَ:) وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ الْأَبِ إيَّاهَا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَلَّكَ الِابْنَ أَمَتَهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الظَّنِّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَبِهُ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ أَمْرُهَا فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَبُ فِي أَنَّهُ وَطِئَهَا وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عَتَقَ الْوَلَدُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ مِنْ الزِّنَا عَتَقَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ مِنْ الزِّنَا، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ جَارِيَةِ الِابْنِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَوْلِدًا لَهَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِابْنِهِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْأَبُ فِيهِ.
(قَالَ:) وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ فَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ كَمِلْكِ الطَّلَاقِ وَمِلْكِ الدَّمِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُقُودِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ مَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ وَعَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحِلِّ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلنِّكَاحِ، وَذَلِكَ الْحِلُّ يَتَّسِعُ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ وَيَتَضَيَّقُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ.
أَلَا تَرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِإِبَاحَةِ تِسْعِ نِسْوَةٍ» لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا، فَكَانَ الْحِلُّ فِي حَقِّهِ مُتَّسِعًا لِتِسْعِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَكَذَلِكَ يَتَّسِعُ الْحِلُّ لِفَضِيلَةِ الْحُرِّيَّةِ فَيَتَزَوَّجُ الْحُرُّ أَرْبَعًا، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّقَّ يُنَصِّفُ الْحِلَّ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ يَتَنَصَّفُ حِلُّهَا بِالرِّقِّ، حَتَّى أَنَّ مَا يَنْبَنِي عَلَى الْحِلِّ وَهُوَ الْقَسْمُ يَكُونُ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي لِهَذَا الْحِلِّ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَهُوَ الْحِلُّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ بِالزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَعَلَى الْحُرِّ مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِلَّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ فَقُلْنَا: حَالُ الْعَبْدِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرِّ فَيَتَزَوَّجُ ثِنْتَانِ الْحُرَّتَانِ وَالْأَمَتَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا لَا يُخَالِفُنَا؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ نِكَاحَ الْأَمَةِ أَصْلٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيضُ شَيْءٍ لِلرِّقِّ، فَإِنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، فَلِهَذَا جُوِّزَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ، وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْعَبْدِ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَصِّفَ لِلْحِلِّ فِيهِمْ قَائِمٌ.
(قَالَ:) وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ فَيَسْتَبِدُّ الْعَبْدُ بِهِ كَالطَّلَاقِ، وَأَصْحَابُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- اسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وَالنِّكَاحُ شَيْءٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي النِّكَاحِ تَعْيِيبَهُ، وَفِيهِ شَغْلُ مَالِيَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَمَالِيَّتُهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ، فَلَا يَمْلِكُ شَغْلَ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ رَقَبَتَهُ أَوْ رَهَنَهُ بِمَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي عَقْدِهِ لِلْمَوْلَى أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَتَزَوَّجُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُوجِبَ لِلْحَجْرِ فِيهِمْ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ تَزْوِيجَهُمْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فَبَاشَرَهُ الْمُكَاتَبُ يَجُوزُ أَيْضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى وَتَزْوِيجُهَا مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ، فَأَمَّا تَزْوِيجُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ وَرَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ زَوَّجَتْ أَمَتَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهَا.
(قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَجَازَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ ثَلَاثًا بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا صَحَّ كَانَ الْعَبْدُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَالْحُرِّ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى النِّكَاحَ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ، وَلَكِنْ يَكُونُ هَذَا مُتَارَكَةً لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَخْتَصُّ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَنِكَاحُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحَلِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إذَا كَانَ صَحِيحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ نِكَاحًا صَحِيحًا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِوُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يَقَعْ هُنَا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ كَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» وَلَوْ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي حَالِ تَوَقُّفِ الْعَقْدِ وَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِمَا أَوْقَعَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ لَوْ أَوْقَعَهُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَقْدُ بِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ هَذَا كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى الْمَحَلِّ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى لِلْعَقْدِ بَاطِلٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْعَقْدَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَتِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ، وَإِجَازَةُ الْعُقُودِ يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، فَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ نُفُوذَ الطَّلَاقِ وَحُرْمَةَ الْمَحَلِّ فَجَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِيقَةِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أُعْتِقَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، لَكِنَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ بِوُجُودِ صُورَةِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى نَفَذَ نِكَاحُهُ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُوجِبُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ حَقِّ الْمَوْلَى يَمْنَعُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ تَثْبُتُ صِفَةُ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا؛
لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ نِكَاحِهِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْمَوْلَى حَقَّهُ بِالْعِتْقِ فَيَنْفُذُ النِّكَاحُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ رَقَبَتَهُ فَكَذَلِكَ فِي إجَازَةِ عَقْدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا طَرَأَ بِالْبَيْعِ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي فَلِهَذَا كَانَتْ إجَازَتُهُ كَإِجَازَةِ الْبَائِعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
(قَالَ:) وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَيَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ، فَهُوَ كَالْحُرِّ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَلَا يُزَوِّجَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا النِّكَاحُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَجُوزُ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ عِنْدَهُ يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى: عَنَيْتُ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: نَوَيْتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْبَيَانِ.
(قَالَ:) وَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يُؤْخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الْعِفَّةِ بِهِ لِلْعَبْدِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، وَاسْتِدْلَالًا بِمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ يَنْصَرِفَ يَمِينُهُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إذْنُ الْمَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْفَسَادُ وَالصِّحَّةُ صِفَةُ الْعَقْدِ وَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، كَالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْوَكِيلِ أَوْ لِلْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالصَّحِيحَ جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ نَحْوَ النَّسَبِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ مَا تَزَوَّجَ فِي الْمَاضِي وَقَدْ كَانَ تَزَوَّجَ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ، فَأَمَّا هُنَا اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا دَخَلَ بِهَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ، فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا بَعْدَ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى مَا انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ مُبَاشِرًا الْعَقْدَ الثَّانِي بِإِذْنِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَاجُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ لَهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا مَهْرَانِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ وَالْمُسَمَّى بِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي جَانِبِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى حَتَّى نَفَذَ الْعَقْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الْمُدَبَّرُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا السَّيِّدُ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهَا حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَالْمَهْرُ عِنْدَ الدُّخُولِ إنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ مَتْنًا، وَلَا لِذَلِكَ الْعَقْدِ يَتَأَخَّرُ الْمَالُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ فِي كَسْبِهِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَنْ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَهْرِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِدُونِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ، وَلِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِهَذَا الدُّخُولِ فَلِهَذَا يَتَأَخَّرُ الْوَاجِبُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ.
(قَالَ:) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أُمَّتَهُ بِشُهُودٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ كَانَ لِلْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَمَالِيَّتُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي وُجُوبِهِ أَصْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَجِبُ ابْتِدَاءً لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَةِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ نَصْرَانِيًّا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ شَاهِدَيْنِ مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ جَاحِدٌ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْعَبْدُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا النِّكَاحِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ مُسْلِمٌ، قُلْنَا: أَصْلُ الْعَقْدِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ دِينَ الْعَبْدِ، وَقُلْنَا: لَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَافِرًا وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ.
(قَالَ:)، وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِطَرِيقَيْنِ إمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ أَوْ التَّسَرِّي، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَمْلُوكَةٍ إلَّا لِمَنْ إذَا أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ جَازَ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ وَلَا هِبَتُهُ، فَلَا يَحِلُّ الْفَرْجُ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ لِمَا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مِنْ الْمُنَافَاةِ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ الْمَالِ قَبْلَ إذْنِ الْمَوْلَى، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِذْنِ فِي جَعْلِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَهْلًا، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ إذْنِ الْمَوْلَى فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مُنَافَاةٌ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ حَاجَتِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِبْقَاءِ النَّسْلِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، فَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى أَنْ نَجْعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ،
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمُكَاتَبِ.
(قَالَ:) وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِمَا يُسَمَّى عَبْدًا.
(قَالَ:) وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَوْلَاتَهُ وَلَا امْرَأَةً لَهَا فِي رَقَبَتِهِ شِقْصٌ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّتَهُ أَوْ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِقْصٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَبِقَوْلِهِ: {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ بِمَوْلَاتِهِ فَهِيَ تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَمُوتَانِ جُوعًا، وَفِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَتَهُ، فَهَذَا الْعَقْدُ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ، وَمَحَلُّ الْحِلِّ ثَابِتٌ لَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ مِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا حَاجَةَ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا أَصْلًا، ثُمَّ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي شِقْصٍ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي جَمِيعِهَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ فِي حِلِّ الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ وَطْئِهَا بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَهِيَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَمَكَاسِبِهَا، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهَا كَانَ الْأَرْشُ لَهَا فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاطِئَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَوْلَى كَانَ الْمَهْرُ لَهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ هَذَا النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا، فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ مَوْلَاتَهُ وَدَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ، وَإِنْ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ بِنْتَ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا فِي رَقَبَتِهِ، وَلَا حَقَّ مِلْكٍ مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَسَدَ نِكَاحُ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ رَقَبَةَ زَوْجِهَا إرْثًا، وَمِلْكُهَا رَقَبَةَ الزَّوْجِ لَوْ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَنَعَ صِحَّةَ النِّكَاحِ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يَرْفَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُنَافِي يُؤَثِّرُ سَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَوْ مُقَارِنًا، فَأَمَّا نِكَاحُ الْمُكَاتَبِ لَا يَفْسُدُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَفْسُدُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تُورَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُورَثُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشْغُولَ بِحَاجَةِ الْمُورِثِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَارِثُ عِنْدَنَا كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ، وَالْمُكَاتَبُ أَيْضًا مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِوَارِثِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، فَكَذَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَارِثَ خِلَافَةٌ، وَرَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ وَعَجْزُهُ لَيْسَ بِمُوجِبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْلَكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ كَالْمُدَبَّرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَنْ يُعْتَقُ عَلَى مِلْكِهِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ عَامِلًا فِي إيجَابِ الْمِلْكِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ أَنْ تَتَمَلَّكَ رَقَبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِمَالٍ لِابْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى حَالِهَا، وَلَوْ كَفَلَ لَهُ بِمَالٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ، وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ الْعِدَّةُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ، وَالْإِبَاقُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ، فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كَثِيرٌ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ النِّكَاحِ قُلْنَا: إنْ أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْهَا، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ يُقَرِّرُ الْمُنَافِي، وَذَلِكَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَبْطَلَ النِّكَاحَ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ فِي رَقَبَتِهِ يَبْطُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ بَعْضَ رَقَبَتِهِ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا.
(قَالَ:) رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْضَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَلَكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِتَقَرُّرِ الْمُنَافِي وَهُوَ مِلْكُهُ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا، وَقَدْ انْتَقَضَ النِّكَاحُ لِمِلْكِهِ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا وَإِنْ أَتَى الْعَبْدُ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ حُرٌّ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ قَدْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهَا، وَلِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ أَنْ يَسْتَفْرِشَهَا مَمْلُوكٌ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نَسَبَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ نَسَبَهُ الْمَكْتُومَ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْحُرِّيَّةَ وَتَبَيَّنَ الرِّقُّ لَأَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا.
(قَالَ:) عَبْدٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَلَمْ يُخْبِرْهَا أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ، ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَإِنْ كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ زَوَّجُوهَا مِنْهُ بِرِضَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهُمْ وَلَا لَهَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَقْدَ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُمْ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ، وَالزَّوْجُ مَا شَرَطَ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَاتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ إنَّمَا ظَنَّتْ أَنَّهُ حُرٌّ وَظَنُّهَا لَا يُلْزِمَ الزَّوْجَ شَيْئًا، فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَعَلَتْهُ بِدُونِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ، وَالْمَرْأَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.