فصل: بَابُ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) امْرَأَةٌ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلِّقْنِي فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ مَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْإِطْلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ أَطْلِقْنِي عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْبَدَلَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْبَدَلُ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَنْهَا بِالْخُلْعِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ طَلَّقْتَنِي أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَنْتِ مِنِّي مُظَاهِرٌ أَوْ مُولٍ فَإِنَّ شَيْئًا مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِقْرَارُهَا بِهِ تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِالنِّكَاحِ.
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ اخْتَلِعِي مِنِّي بِمَالٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي، فَقَالَ لَهَا اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكَ بِيَدِكَ فِي الطَّلَاقِ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ الطَّلَاقَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ لَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيُ مُوجِبِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَنَفْيُ مُوجِبِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَقْدِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنَةٌ أَوْ بَتَّةٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ وَمُوجَبُ النِّكَاحِ ضِدُّهُ، وَهُوَ الْحِلُّ فَوَصْفُهَا بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنْ تَقُولَ لَهُ طَلِّقْنِي فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ أَنَّ مُذَاكَرَةَ الطَّلَاقِ مُعَيِّنَةً لِلطَّلَاقِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْبَيِّنَةِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُولٍ مِنْكَ أَوْ مُظَاهِرٌ كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ ضِدُّ مُوجَبِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ قَالَ أَلَمْ أُطَلِّقْكِ أَمْسِ أَوْ أَمَا طَلَّقْتُكِ أَمْسِ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أَيْ قَدْ أَتَاكُمْ وَتَقْرِيرُ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْرَارًا بِهِمَا.
وَلَوْ قَالَ هَلْ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ.
وَلَوْ قَالَتْ هَذَا ابْنِي مِنْكَ، فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً أَنَّهَا حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالشَّرْعُ إنَّمَا يُرِيدُ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ وَلَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا بِالنِّكَاحِ فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى النَّسَبِ اتِّفَاقًا عَلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِحُرٍّ أَوْ لِعَبْدٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ، فَإِنْ عَجَزَ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَصَارَ الْمَوْلَى مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ.
وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْحُدُودِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَهْرٍ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا هُوَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ افْتَضَّ امْرَأَةً بِأُصْبُعِهِ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ صَبِيَّةً فَهَذَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ التَّاجِرَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ.
وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْجِنَايَةِ صَحِيحٌ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِيهِ وَكَسْبُهُ حَقُّهُ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَطَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا عَجَزَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ قُلْنَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يَبْطُلُ إقْرَارُهُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ هُنَا الْجَوَابُ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأِ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى كَسْبِهِ بِالْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَدَفَعَ بِهِ، فَأَمَّا جِنَايَتُهُ بِالِافْتِضَاضِ بِالْأُصْبُعِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ مُطَالَبًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ إقْرَارَهُ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِأَرْشِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَدَّى بَعْضَهُ، ثُمَّ عَجَزَ بَطَلَ فِيهِ مَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِهِ إنَّمَا يُطَالَبُ بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ تَاجِرٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ وَأَرَادَ مَوْلَاهُ أَخْذَهُ مِنْ الْمُقِرِّ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا حَتَّى لَا يَتِمَّ كَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ فَأَخْذُ الْمَوْلَى لِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بِوَدِيعَةٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا جَازَ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي يَدِ الْمُودَعِ.
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالٌ فَأَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ صَحَّ إنْ كَانَ مَأْذُونًا، وَلَمْ يَصِحَّ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ دُونَ الْآخَرِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَجَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِشَيْءٍ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا اخْتِصَاصُ الْإِذْنِ يُعَلِّقُ دَيْنَ الْعَبْدِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لَا بِصِحَّةِ الِاكْتِسَابِ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا يُسَلَّمُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ شَيْءٌ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْعَبْدُ دَيْنَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَلَامَةَ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَاكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ ذَلِكَ الْكَسْبُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ وَلَوْ أَقَرَّ هَذَا الْعَبْدُ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ وَنَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَأَجْعَلُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبٍ يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ التِّجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مِنْ الرَّقَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الَّذِي لَا يَعْتَمِدُ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْإِذْنِ كَالْمَوْهُوبِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَا اكْتَسَبَهُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ سَبَبَ حُصُولِ ذَلِكَ الْكَسْبِ تِجَارَةٌ وَالْإِقْرَارُ مِنْ التِّجَارَةِ وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِسَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ يَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ، وَإِذَا ظَهَرَ فِيهِ لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْإِقْرَارَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ حُقُوقَهُ عَنْ فُلَانٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مِنْ الْمُقِرِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جَمِيعُ مَا فِي يَدِي لِفُلَانٍ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِبَيَانِ الْمُقِرِّ وَلَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ فِي يَدِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِهِ هُنَاكَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كُلُّ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَكُلُّ كَفَالَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ حَدٍّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ فَكُلُّ هَذَا حَقٌّ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ، وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْأَمَانَةُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كَالْوَدِيعَةِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصٌّ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانَةُ إذْ لَا وُجُوبَ فِي ذِمَّةِ الْأَمِينِ.
وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عِنْدَهُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْأَمَانَةُ خَاصَّةً، فَأَمَّا الْغُصُوبُ وَالْوَدَائِعُ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا فَقَدْ صَارَ ضَمَانُهَا مُسْتَحَقًّا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الدُّيُونِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ.
وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي قِبَلَهُ بَرِئَ مِنْ الْأَمَانَةِ وَالْغُصُوبِ جَمِيعًا، وَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْهَدَ شُهُودُهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ أَوْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّعْوَى إلَّا أَنْ يَعْلَمَ خُرُوجَ مَا ادَّعَاهُ الْعَامَّةُ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ قِبَلَهُ، ثُمَّ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَيَّ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِنْسِ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي قِبَلَهُ أَوْ مِمَّا لِي قِبَلَهُ أَوْ مِنْ دَيْنِي عَلَيْهِ أَوْ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحُقُوقِ الْكَفَالَةُ وَالْجِنَايَةُ الَّتِي فِيهَا قَوَدٌ أَوْ أَرْشٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى قِبَلَهُ حَدَّ قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ وَدَعْوَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ إنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ قَذْفِهِ إيَّايَ، ثُمَّ طَلَبَهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مُوجِبِ قَذْفِهِ إيَّايَ فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ عَيْنِ الْقَذْفِ لَا تَتَحَقَّقُ وَمُوجَبُ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نَفَى حَقَّهُ مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلسَّبَبِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَا مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ: مَا قَذَفَنِي لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الْقَذْفِ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ.
وَلَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ السَّرِقَةِ الَّتِي ادَّعَيْتُهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَلَا قَطْعٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُ وَبِدُونِ خُصُومَتِهِ لَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ.
وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالٍ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَرَّضَ فِي كَلَامِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِنَفْسِهِ وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ نَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَرَاءَةً مِنْ حَقٍّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبَلَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْحَقُّ مَذْكُورًا بِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفْسِ الْغَيْرِ تَكُونُ إظْهَارًا لِلْعَدَاوَةِ مَعَهُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ إظْهَارٌ لِلْمَحَبَّةِ.
وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّارِ عَلَى الْعُمُومِ وَاتِّصَالُهُ بِالدَّارِ مِنْ حَيْثُ مِلْكُهُ أَوْ حَقٌّ لَهُ فِيهِ فَإِخْرَاجُهُ نَفْسَهُ مِنْهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا وَلَا مِلْكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ اتِّصَالَهُ مِنْ فُلَانٍ مِنْ حَيْثُ الْمَحَبَّةُ وَالتَّنَاصُرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا مَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَنَاصُرَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ تَبَرُّؤَهُ عَنْ الْعَيْنِ يَكُونُ إقْرَارًا بِانْقِطَاعِ سَبَبِ اتِّصَالِهِ بِهِ، وَذَلِكَ بِالْمَلْكِ أَوْ الْحَقِّ.
وَلَوْ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفِعْلِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الدَّارِ وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا انْتِفَاءَ حَقِّهِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ خَرَجْتُ مِنْهَا.
وَإِنْ قَالَ: قَدْ خَرَجْتُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضْتُهَا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ إخْبَارًا بِعَيْنِ الْفِعْلِ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ أَوْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضُ وَالدَّيْنُ، فَإِنْ أَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ، وَقَالَ هُوَ لِي، وَقَدْ أَخَذْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ غَصْبًا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِأَخْذِ الْمِائَةِ مِنْهُ وَادَّعَى لِأَخْذِهِ شَيْئًا، وَهُوَ الصُّلْحُ، فَإِذَا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّبَبَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَرِدُّ الْمِائَةَ إذَا حَلَفَ وَيَكُونُ الْمُقِرُّ عَلَى خُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الصُّلْحِ قَدْ بَطَلَ بِإِنْكَارِ صَاحِبِهِ وَاسْتِرْدَادِهِ بَدَلَ الصُّلْحِ.
وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ: قَدْ بَرِئْتُ مِنْ دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ كَانَتْ هَذِهِ بَرَاءَةً لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا لَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَهَبْتُ الَّذِي لِي عَلَيْهِ لَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ قَابِلٍ لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودٍ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَتَصِيرُ الْهِبَةُ فِيهِ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا يَكُونُ طَلَاقًا وَهِبَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ اعْتَاقَا وَهِبَةُ الْقِصَاصِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَفْوًا، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فَلَمْ يَقْبَلْ الْهِبَةَ أَوْ كَانَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ، فَقَالَ لَا أَقْبَلُ فَالْمَالُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ إبْرَاءَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَيُسْقِطَ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ احْتَمَلَ الِارْتِدَادَ بِرَدِّهِ وَلِكَوْنِهِ إسْقَاطًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ بَرِيءٌ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ لَهُ بِنَفْسِ الْإِسْقَاطِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَعُودَ بِرَدِّهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ تَمَّ الْإِسْقَاطُ بِمَوْتِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْرَاءِ عُرْفًا فَهُوَ وَقَوْلُهُ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ، وَكَانَ بَرَاءَةً مِنْ كُلِّ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلضَّمِّ وَكَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ.
وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ إلَيْهِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ مُتَّصِلٍ بِالطَّالِبِ حِينَ وَصَلَهُ بِنَفْسِهِ بِحَرْفِ إلَى، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَتَمَامَهُ مِنْ الطَّالِبِ بِقَبْضِهِ.
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ وَالْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ اسْمٌ خَاصٌّ لِعُقُوبَةٍ هِيَ عِوَضُ حَقِّ الْعِبَادِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْحَدُّ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْخَطَأِ وَالْحَدِّ مَالٌ وَمُعْظَمُ الْحَقِّ فِي الْحَدِّ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ خَطَأً قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَمْدَ إنْ كَانَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ لَا لِمُوجَبِهِ وَالْعَمْدُ ضِدُّهُ فَلَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِصِفَةٍ نَفْيًا مِنْهُ فِعْلًا بِضِدِّ تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَصْفِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ جِرَاحَةً عَمْدًا وَلَا خَطَأً؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ إذْ الْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ وَنَفْيُ الْفِعْلِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ ضَرُورَةً وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الدَّمَ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ، وَفِيمَا دُونَهَا أَمَانَةٌ لِجُزْءٍ مَا هُوَ دُونَهَا فِي الْجُرْحِ وَلَا مُغَايِرَةَ أَبَيْنَ مِنْ مُغَايِرَةِ مَحَلِّ الْفِعْلِ.
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَادَّعَى سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَى حَدًّا هُوَ حَقُّهُ وَحَدُّ السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَعْمَلَ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَلَا يُعْتَبَرُ خُصُومَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْقَطْعِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي دَعْوَى الْمَالِ، وَهُوَ مَا نَفَى ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ.
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دَمًا خَطَأً وَلَا عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ نَفَى بِإِقْرَارِهِ الدَّمَ مُطْلَقًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مُوجَبُ الدَّمِ كَالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا دُونَ الدَّمِ، وَالدَّمُ فِي عَرْفِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ النَّفْسِ نَفْيُ مَا دُونَهَا.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دِيَةً خَطَأً وَلَا صُلْحًا عَنْ دَمِ عَمْدٍ وَلَا عَنْ كَفَالَةٍ بِدِيَةِ نَفْسٍ وَلَا عَنْ قِبَلِ شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْشِ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ بِالصُّلْحِ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ عَلَى الْكَفِيلِ بِكَفَالَتِهِ بِهِ فَإِقْرَارُهُ بِنَفْيِ الْأَرْشِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.