فصل: بَابُ إقْرَارِ الْكُفَّارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَعْتِقْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَكِنَّ دِينَ الْمُقِرِّ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ قَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْمُقِرِّ فِيهِ عِتْقٌ كَانَ خَبَرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا وَالْكَذِبُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّينَ بِهِ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَقُلْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَعْتِقْ لِمَا سَبَقَ أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ كَعَمَلِ الشَّرْطِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْعِتْقِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مَوْصُولًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ الْيَوْمَ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْعِتْقِ فِيهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُكَ قَبْلَ أَنْ اشْتَرَيْتُكَ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا لَا بَلْ هَذَا عِتْقًا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِعِتْقِهِ صَحِيحَةٌ فَلِهَذَا عَتَقَا.
وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ الْعَبْدُ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ مَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَادَّعَى وُجُوبَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْزِلُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِقَبُولِهِ فَلِهَذَا عَتَقَ الْعَبْدُ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْلِفَ الْعَبْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ.
وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ أَمْرَك بِيَدِكَ فِي الْعِتْقِ أَمْسِ فَلَمْ تُعْتِقْ نَفْسَكَ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ أَعْتَقْتُ نَفْسِي لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ فِي يَدِهِ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مَا لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَالْعَبْدُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ وَلَا قَوْلَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالِ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُ أَوْ قَالَ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ إعْتَاقَهُ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَوْ أَقَرَّ بِتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْعَبْدِ فِي إيجَادِ الشَّرْطِ وَلَا فِي إنْكَارِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَاخْتَارِي، فَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ عَلَى إعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ، وَلَمْ يُسَمِّ مَالًا، وَقَالَ الْعَبْدُ لَا بَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُصَدَّقَ الْعَبْدُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَيَتَحَالَفَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَيُحْتَمَلُ الْفَسْخُ كَالْبَيْعِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَّتْ بِالْعِتْقِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالطَّلَاقُ بِمَالٍ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي الزِّيَادَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى قِيَاسِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْعِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُدَّعِيًا لِلْكِتَابَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَالًا، ثُمَّ نَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ الْمَوْلَى لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْكَارِ أَصْلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَى مَالًا خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا إذَا ادَّعَى الْمَوْلَى خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ وَتَحَالَفَا فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَلَوْ قَالَ: كَاتَبْتُكَ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ الْكِتَابَةَ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي هَذَا قِيَاسُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَيَلْزَمُ الْإِيجَابُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَوْلُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ فُلَانٌ: قَبِلْتُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْإِيجَابُ فِيهِ لَازِمٌ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِفِعْلِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ هَذَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا بَلْ هَذَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكِتَابَةَ جَازَ ذَلِكَ لَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ مَوْصُولًا فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَفِي الْأَوَّلِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرُّجُوعِ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَهُ، وَهُوَ صَبِيٌّ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ بَلْ كَاتَبْتَنِي وَأَنْتَ رَجُلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْكِتَابَةَ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ أَوْ أَنَّهُ كَاتَبَهُ أَمْسِ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي أَصْلَ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى: اشْتَرَطْتُ الْخِيَارَ لَانْتَفَى أَصْلُ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْخِيَارِ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ وَجَعْلِ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ لَا أَنْ يَصِيرَ أَصْلُ السَّبَبِ مُتَعَلِّقًا فَلَمْ يَكُنِ الْمَوْلَى بِدَعْوَى الْخِيَارِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْبَيْعِ فِي هَذَا قِيَاسُ الْكِتَابَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ إقْرَارِ الْكُفَّارِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أَقَرَّ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَيْنٍ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِلْمُسْلِمِ بِالْمُعَامَلَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهُ، وَهُوَ سَبَبٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ دُخُولِ دَارِنَا بِأَمَانٍ، فَإِنْ قَالَ أَدَانَنِي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ أَوْ مَفْصُولًا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي دَعْوَى التَّارِيخِ، وَإِنْ وَصَلَ كَلَامُهُ، وَلِأَنَّ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ فَإِنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمْ أَوْ يَصِرْ ذِمِّيًّا فَيَصِيرُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْأَجَلِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ أَوْ لِذِمِّيٍّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لَهُ.
وَإِقْرَارُ الْمُسْتَأْمَنِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَلَدِ وَالْجِرَاحَاتِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا كُلِّهِ حَقُّ الْعِبَادِ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِذَلِكَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا حَتَّى إذَا بَاشَرَ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِحَدِّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنْ ثَبَتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الذِّمِّيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدَّ وَحَدِّ الْقَذْفِ مَعْرُوفٌ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ إذَا أَقَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَلَوْ أَقَرَّ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فِي يَدِهِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لِلْمُسْلِمِ مَمْلُوكَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيُؤْمَرُ الذِّمِّيُّ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَيُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُخَلِّلَهَا.
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِجِلْدِ شَاةٍ مَيِّتَةٍ يُؤْمَرُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِذِمِّيٍّ يَعْنِي بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَأَقَرَّ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَهُ خِنْزِيرًا بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: اسْتَهْلَكْتُهُ قَبْلَ إسْلَامِي فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ.
إذَا قَالَ لِحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ أَتْلَفْتُ مَالَكَ أَوْ قَطَعْتُ يَدَكَ حِينَ كُنْتَ حَرْبِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَقَرَّ بِخَمْرٍ، وَقَالَ اسْتَهْلَكْتُهَا وَأَنَا حَرْبِيٌّ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا مِنْ قَبْلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا.
وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدِّ بِالْحُقُوقِ جَائِزٌ إنْ أَسْلَمَ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي كَسْبِ إسْلَامِهِ وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدَّةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُمَا جَائِزٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الصَّحِيحِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَهَذَا نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ السِّيَرِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِمُكَاتَبَةِ عَبْدٍ لَهُ أَوْ بِعِتْقِهِ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ.
وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمُرْتَدَّةُ أَوْ الْمُرْتَدُّ بِحَدٍّ فِي قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ جِرَاحَةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ، وَلِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعُقُوبَاتِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَالَ فَإِقْرَارُهُ بِهَا يُوقَفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَكُونُ نَافِذًا عِنْدَهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدًا أَتَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى يَدِهِ مُعَلَّقَةً فِي عُنُقِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجَبَةِ لِلْعُقُوبَةِ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الْحَدِيثِ أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ فَقَطَعَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ إقْرَارَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَذُكِرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَتَى عَبْدٌ قَدْ رَأَيْتُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ قَنْبَرًا، وَقَالَ اضْرِبْهُ، فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ فَلَمَّا وَفَّاهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً قَالَ لَهُ الْعَبْدُ اُتْرُكْنِي فَتَرَكَهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلِقَوْلِهِ فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلِمَ فِقْهَ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ لَهُ اُتْرُكْنِي إلَّا بَعْدَ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ اُتْرُكْنِي بَعْدَ خَمْسِينَ جَلْدَةً.
وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِدَمِ عَمْدٍ وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ مَالٌ فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ يَكُونُ مُوجَبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَكَوْنُ دَمِهِ خَالِصَ حَقِّهِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مَالًا بَطَلَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ مَوْلَاهُ، وَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ لَا يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقَطْعُ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ وَمَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقٌّ لِمَوْلَاهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْمَالِ بِهَذَا السَّبَبِ صَحِيحٌ كَإِقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ.
وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمْ.
وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الصَّاحِي بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ يَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَوْ بِالْحَدِّ أَوْ بِمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ أَوْ بِمَا لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ غَلَبَةِ السُّرُورِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ شَيْئًا فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا يَنْفُذُ مِمَّنْ هُوَ صَاحٍ.
وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ فَهَذِهِ الْآفَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ وَلَا فِي لِسَانِهِ فَهُوَ فِي أَقَارِيرِهِ كَالصَّاحِي.
وَإِقْرَارُ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ يَكْتُبُ وَيَعْقِلُ جَائِزٌ فِي الْقِصَاصِ وَحُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ لَهُ إشَارَةً مَفْهُومَةً تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ مَا خَلَا الْحُدُودَ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يَسْتَدْعِي التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَبِإِشَارَتِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَعَلَّ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِهَا بِإِشَارَتِهِ إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ كُلِّ شَيْءٍ بِإِشَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا لِأَنَّا لَوْ أَقَمْنَاهَا كَانَ إقَامَةً لِلْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ.
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ الْمَعْتُوهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالٍ أَوْ جِنَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ لَهُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ): وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ قَوْمٍ أَوْ كَتَبَ وَصِيَّةً، ثُمَّ قَالَ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ، وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ الصَّكَّ، وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ إذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِيَدِهِ أَوْ أَمْلَاهُ عَلَى إنْسَانٍ فَكَتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، وَهُوَ بِقَوْلِهِ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ صَارَ مُقِرًّا بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ مُشْهِدًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إظْهَارَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا فَالْإِقْرَارُ بَيَانٌ بِاللِّسَانِ، وَذَلِكَ بِالْإِمْلَاءِ حَاصِلٌ، وَلَكِنْ لَا يُؤْمَنُ النِّسْيَانُ فَالْكِتَاب يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا كِتَابَتَهُ وَلَا إمْلَاءَهُ لَمْ تَجُزْ شَاهِدَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِمَا فِي الْكِتَابِ حِينَ لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَإِنْ كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إلَى رَجُلٍ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لَكَ عَلَيَّ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ إذَا كَتَبَ مَا يَكْتُبُ النَّاسُ فِي الرَّسَائِلِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِتَجْرِبَةِ الْخَطِّ وَالْقِرْطَاسِ، وَقَدْ يَكُونُ لِيُعَلَّمَ كَتْبَ الرِّسَالَةِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حَجَّةً، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَكْتُبُونَ كِتَابَ الرَّسَائِلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْلَامِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ، فَإِذَا تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ مُحْتَمِلٍ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مَعْنًى بِدَلِيلِ الْعُرْفِ، وَإِنْ جَحَدَ وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ أَوْ أَمْلَاهُ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ فَإِنِّي آخُذُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَاتٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَاحْتِمَالُ جِهَاتٍ أُخْرَى سِوَى مَا تَرَجَّحَ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ حُجَّةً فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْخُصُومَةِ حَقِيقَةً فِي الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ بِهَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
وَإِنْ كَتَبَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي صَحِيفَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَبْقَى مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَكْتُوبِ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرَّسَائِلِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أُجِيزُ كِتَابَ الْقَاضِي حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَأَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الْكِتَابَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ وَشَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أُجِيزُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَفِي تَكْلِيفِ إعْلَامِهِمْ مَا فِي الْكِتَابِ نَوْعُ حَرَجٍ وَبِالْخَتْمِ يَقَعُ الْأَمْنُ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَبُولَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا كِتَابُ الْخُصُومَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى التَّبْدِيلِ لِذَلِكَ كِتَابٌ آخَرُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشُّهُودِ مَا فِي الْكِتَابِ.
وَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ صَكَّا، فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالَ نَعَمْ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ اشْهَدْ عَلَى جَمِيعِ مَا قُرِئَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ جَمِيعًا وَهَذَا مِنْ الْمُجِيبِ إقْرَارٌ تَامٌّ فَلِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَشْهَدَ الرَّجُلُ قَوْمًا عَلَى شَهَادَةٍ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُونَ فَشَهِدُوا فَهِيَ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ.
وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ حُضُورٌ، ثُمَّ قَالَ اخْتِمُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتِمُوا مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا تَظْهَرُوهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيَّ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَإِنَّ الشَّيْءَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مَحْفُوظًا تَارَةً وَلِيَكُونَ مَكْتُومًا أُخْرَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا أَنَشْهَدُ عَلَيْكَ، فَقَالَ اخْتِمُوهُ وَلَوْ قَالُوا نَخْتِمُ هَذَا الصَّكَّ، فَقَالَ اشْهَدُوا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلِاسْتِئْمَانِ بِالْحَقِّ وَالْأَمْنِ مِنْ الْجُحُودِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ خَاصٌّ شَرْعًا لِإِظْهَارِ الْحُقُوقِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَوْ أَبْدَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي مِنْهُ شَهَادَتَهُ فَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى الْكِتَابِ إذَا أَبْدَلَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ مُحْتَمِلٌ لَا يَكُونُ إظْهَارًا لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إلَيَّ أَنِّي ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ أَضْمَنْ لَكَ أَلْفًا وَإِنَّمَا ضَمِنْتُ لَكَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ شَهِدَا كِتَابَتَهُ، ثُمَّ مَجِيءُ كِتَابِهِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا اشْهَدَا وَلَا اخْتِمَا فَلِلِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لَا تُكْتَبُ الرِّسَالَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، ثُمَّ مَحْوُهُ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّكِّ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ وَهَذَا فَرْقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ أَيْضًا فَإِنَّ الصُّكُوكَ تَوْثِيقُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا وَكُتُبِ الرَّسَائِلِ تَخْلُو عَنْ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الْكِتَابَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُلْزِمًا إيَّاهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا.
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَكُلُّ حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
وَلَوْ كَتَبَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ قُدَّامَ رَجُلَيْنِ أُمِّيَّيْنِ لَا يَقْرَآنِ وَلَا يَكْتُبَانِ فَأَمْسَكَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدَا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَتَبَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَ الْقَاضِي مَا فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَا مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ يَقْرَآنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي مُفَسَّرًا وَأَصْلُهُ فِيمَا ذُكِرَ كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا وَجَدَ فِي خَرِيطَتِهِ سِجِلًّا فِيهِ حُكْمُهُ وَخَتْمُهُ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تِلْكَ فَيَقُولُ أَصْلُ الْحَادِثَةِ هُنَاكَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ، ثُمَّ نَسِيَهُ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ التَّبْدِيلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ تَحْتَ خَاتِمِهِ وَهُنَا أَصْلُ الْحَادِثَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَعْرِفُ الْكَاتِبَ، وَلَمْ يَسْمَعْ الْكَاتِبَ يُخْبِرْ فَلَمْ يُسْنَدْ عِلْمُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَصْلًا.
وَلَوْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّا قُدَّامَ أُمِّيَّيْنِ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيْهِ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِلشَّاهِدِ بَاطِلٌ فَذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ الْإِشْهَادُ عَلَى كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا وَالْإِشْهَادُ عَلَى الصَّكِّ شَرْطٌ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا.
وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً فِي تُرَابٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ انْعِدَامِ الْفَرْقِ الْمُرَجِّحِ فِي هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِهَذَا فَحِينَئِذٍ هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ فِي التُّرَابِ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ، فَإِذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَعْلُومٍ صَارَ كَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ بَيْنَ أَيْدِيهمْ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَهُ فِي خِرْقَةٍ أَوْ صَحِيفَةٍ أَوْ لَوْحٍ بِمِدَادٍ أَوْ بِغَيْرِ مِدَادٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْخَطَّ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ كَالصَّوْتِ الَّذِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْحُرُوفُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَالْكِتَابَةُ الَّتِي يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ لَا تُوجِبُ إعْلَامَ شَيْءٍ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابِ الْحِفْظُ عَنْ النِّسْيَانِ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَلَوْ كَتَبَ فِي صَحِيفَةِ حِسَابِهِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ حَضَرَا ذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ هُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ فِي صَحِيفَةِ الْحِسَابِ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِيَارَ أَئِمَّةِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ.
وَلَوْ كَتَبَ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِخَطِّهِ قُدَّامَ شَاهِدَيْنِ وَبِمَحْضَرٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْمَالُ، وَهُوَ كَانَ يَعْرِفُ مَا يَكْتُبُ، ثُمَّ قَالَ لِلشَّاهِدَيْنِ اشْهَدَا، فَقَالَ فُلَانٌ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ نَعَمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُمَا فِي سَعَةٍ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ وَأَشْهَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ صَارَ مَعْلُومًا كَمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا كِتَابَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَتَمَامُ الصَّكِّ بِالْإِشْهَادِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَعَمْ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَقُولُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا فَيَقُولُ مَنْ عَلَيْهِ بَلَى وَبَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.