فصل: بَابُ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ نَفَقَةِ الْعَبْدِ:

(قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ، أَوْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ قَدْ بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَهُوَ تَسْلِيمُهَا إلَى الزَّوْجِ فِي مَنْزِلِهِ وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ بِالنِّكَاحِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدُّيُونِ إذَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَعَلُّقٌ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْمَوْلَى، وَدَيْنُ النَّفَقَةِ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ النِّكَاحُ كَانَ بِرِضَاهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ يُبَاعُ فِيهِ، ثُمَّ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ فِيهِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دُيُونِ الْعَبْدِ مَا يُبَاعُ فِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَّا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ دَيْنٍ حَادِثٍ وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالسِّعَايَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَ قِيَامِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ كَمَا يُقْضَى بِسَائِرِ دُيُونِهِ فِي كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ، أَوْ الْمُدَبَّرِ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ مِلْكٌ لِمَوْلَاهَا وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهَا يَكُونُ حُرًّا وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْحُرِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ لِمَوْلَاهُ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي كَسْبِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ فِي كَسْبِهِ نَفَقَةُ وَلَدٍ حُرٍّ وَلَا نَفَقَةُ وَلَدٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةً مَعَهُ لِمَوْلًى وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ يَكُونُ لَهَا وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لَهَا، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهَا، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ تَكُونُ عَلَيْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَإِنَّ نَفَقَةَ ذَلِكَ الْوَلَدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَهُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِلْأُمِّ فَالْأُمُّ أَمَةٌ لَهُ أَيْضًا؛ فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِذَا تَبِعَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ نَفْسِهِ (قَالَ:) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ، أَوْ الْمُدَبَّرُ أَوْ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا مَهْرَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ يَكُونُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَنِكَاحُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ عَتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ نِكَاحُهُ حِينَ يَعْتِقُ لِسُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمُكَاتَبِ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَبَّرَةُ أَوْ الْأَمَةُ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ تَحْتَ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَعَهُ بَيْتًا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يُوجَدُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُقَرِّرٌ لِلْبَدَلِ وَالنَّفَقَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَقَدْ انْعَدَمَ مِنْهَا تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّفَقَةِ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّبْوِئَةِ، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ انْتَزَعَهَا مِنْهُ وَاحْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ عِنْدَ مَوْلَاهَا، وَإِنْ أَعَادَهَا إلَيْهِ وَبَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ كَالْحُرَّةِ إذَا هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ، تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْأَمَةَ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ مَوْلَاهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فِي خِدْمَتِهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الدَّيْنِ وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْهَا، فَإِذَا قَضَتْ الدَّيْنَ وَعَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ تَكُونُ عَلَى مَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكَاتَبَةً وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا، أَوْ لَمْ يُبَوِّئْهَا مِنْهُ فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَهَا النَّفَقَةُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا كَالْحُرَّةِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ هِيَ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا عَنْهُ ظَالِمَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ نَفَقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:

(قَالَ:) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُفْرَضُ عَلَى الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا يُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا كِفَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ وَسَبَبُهَا وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحٌ فَطَلَبَتْ نَفَقَتَهَا مِنْهُ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ فُرِضَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يُفْرَضُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَإِنْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ وَبِرَفْعِ أَحَدِهِمَا لِأَمْرِ الْقَاضِي يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ.
وَلَا خِلَافَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (قَالَ:) وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَامْرَأَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَبَتْ الْإِسْلَامَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ إبَاءُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عُرِضَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَا مَهْرَ لَهَا إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْمَهْرِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ بِتَفْوِيتِهَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَلَى الزَّوْجِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ فَأَمَّا سُقُوطُ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ حَبْسِهَا نَفْسَهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَهُنَاكَ إنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا ظُلْمًا كَالنَّاشِزَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا، فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاصِيَةً فِي ذَلِكَ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَهُوَ إبَاؤُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مِنْهُ تَفْوِيتُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَتَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَالْإِحْسَانُ فِي التَّسْرِيحِ أَنْ يُوفِيَهَا مَهْرَهَا وَنَفَقَةَ عِدَّتِهَا (قَالَ): وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ مُسْلِمًا ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَهُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لَهَا قَالَ: لِأَنَّ الْعِصْمَةَ انْقَطَعَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِ أَوَّلِهِمَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَلَا فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَمَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ يَقْطَعُ مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْخَارِجُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّ الزَّوْجِ فَلَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَيْهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ:

(قَالَ:) وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ وَاحِدَةٍ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ؛ فَلِأَنَّهَا فِي بَيْتِهِ مَنْكُوحَةٌ لَهُ كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَشْرَفَ النِّكَاحُ عَلَى الزَّوَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ آلَى مِنْهَا، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمُضِيِّ شَهْرٍ فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا.
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» إلَّا أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامًا؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَ فَاطِمَةَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ إذَا سَمِعَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ رَمَاهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَتَنَتْ الْعَالَمَ، أَيْ بِرِوَايَتِهَا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ.
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَتَأْوِيلُهُ إنْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ وَوَكَّلَ أَخَاهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ فَأَبَتْ هِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهَا كَانَتْ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي أَحْمَاءَ زَوْجِهَا حَتَّى أَخْرَجُوهَا.
فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا: النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا بِالنِّكَاحِ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَكَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَقِّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَبِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ مِلْكِ الْيَدِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَكَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ نَفَقَةَ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ لِمَالِهِ فِيهِ مِنْ مِلْكِ الْيَدِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ مِلْكِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ يَدَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ.
وَعِنْدَنَا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ النَّصِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا يَبْقَى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا حَتَّى لَوْ أَزَالَهُ مِنْ مِلْكِهِ الْيَوْمَ فَمَضَى الْغَدُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ يَعْتِقُ وَلَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى الْغَدِ يَعْتِقُ أَيْضًا كَيْفَ وَقَدْ قَالَ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ.
وَقِرَاءَتُهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَسْمُوعَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} لِإِزَالَةِ إشْكَالٍ كَانَ عَسَى أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَطُولُ عَادَةً فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهَا هَلْ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَإِنْ طَالَتْ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ثُمَّ النَّفَقَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَجِبُ لَهَا لَا لِلْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي مَالِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَلَدِ وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى مَوْلَاهُ كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ إذَا حَبِلَتْ لَا تَتَضَاعَفُ نَفَقَتُهَا وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لَتَضَاعَفَتْ نَفَقَةُ الْمَنْكُوحَةِ إذَا حَبِلَتْ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا فَقُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ سِوَى الْعِدَّةِ وَالْحَامِلُ وَالْحَائِلُ فِي هَذَا السَّبَبِ سَوَاءٌ.
وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} قَالَ إبْرَاهِيمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا فَاحِشَةٌ.
وَلِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ؛ لَا حَاجَةَ لَهَا إلَى الْخُرُوجِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ؛ فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا.
وَالْبَائِنَةُ بِالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَمُجَامَعَةِ أُمِّهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ كُلَّهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحَقُّ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ أَنْ لَا سُكْنَى فِي الْعِدَّةِ وَلَا نَفَقَةَ فَعَلَيْهِ السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِهَا مَعْصِيَةٌ وَاشْتِرَاطُ الْمَعْصِيَةِ فِي الْخُلْعِ بَاطِلٌ؛ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا وَإِسْقَاطُهَا حَقَّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ فَأَمَّا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَإِسْقَاطُ مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ بَاطِلٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ إسْقَاطَهَا لِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى وَرَضِيَتْ أَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ تَلْتَزِمَ مُؤْنَةَ السُّكْنَى مِنْ مَالِهَا كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا (قَالَ:) وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا وَهِيَ أَمَةٌ وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَيْهِ لِخِدْمَتِهِ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ، فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ وَتَرَكَ اسْتِخْدَامَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّلَاقِ فِي بَيْتِ الْمَوْلَى يَسْتَخْدِمُهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَ اسْتِخْدَامُهُ إيَّاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِعَارِضٍ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً هَارِبَةً مِنْ الزَّوْجِ حِينَ طَلَّقَهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ يَبْقَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ ابْتِدَاءٌ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ مُطْلَقًا فَأَمَّا ثُبُوتُ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ اعْتَرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطٌ، ثُمَّ زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ فَلَوْ جَعَلْنَا لَهَا النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ النَّفَقَةِ لَهَا ابْتِدَاءً فِي الْعِدَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّبْوِئَةِ أَنْ تَتَفَرَّغَ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ وَذَلِكَ فِي قِيَامِ النِّكَاحِ فَإِذَا بَوَّأَهَا بَيْتًا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّبْوِئَةِ فِي الْعِدَّةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ، وَالْقِيَاسُ فِي النَّاشِزَةِ هَكَذَا وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحِقَّةٌ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَالْعَارِضُ الْمُسْقِطُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ وَبَعْدَهَا فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ إذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَمَةِ.
وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْصِيَةِ كَالرِّدَّةِ وَمُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إنْ أَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ رَجَعَتْ وَتَابَتْ مِنْ الرِّدَّةِ، أَمَّا السُّكْنَى فَوَاجِبَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَعْصِيَتِهَا، أَمَّا النَّفَقَةُ فَوَاجِبَةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِمَجِيءِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا بِالْمَعْصِيَةِ.
(قَالَ:) وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ قَدْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَعَتَقَتْ وَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا كَانَ سَبَبَ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا (قَالَ:) وَإِذَا لَمْ تُخَاصِمْ الْمُعْتَقَةُ فِي نَفَقَتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ نَفَقَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفَقَةَ النِّكَاحِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ خَرَاجُ رَأْسِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا مِثْلُهُ (قَالَ:) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذَا وَنَفَقَةُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ اسْتِدَانَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، صَحِيحٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّمَا اسْتَدَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ.
(قَالَ:) وَإِذَا تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ بِالْمَرْأَةِ فَالنَّفَقَةُ لَهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ، أَوْ بِالشُّهُورِ عِنْدَ الْإِيَاسِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَائِمٌ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بِبَقَاءِ السَّبَبِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُسَوَّى بَيْنَ أَنْ تَطُولَ مُدَّةُ الْحَيْضِ، أَوْ تَقْصُرَ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلْقَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرَّثَهُ مِنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ مِيرَاثَهَا عَلَيْك.
(قَالَ:) وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي رَحِمِهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَتَكُونُ أَمِينَةً فِيهِ مَقْبُولَةَ الْقَوْلِ، هَكَذَا قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَمَّنَ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا فِي رَحِمِهَا وَلِأَنَّهَا مُتَمَسِّكَةٌ بِالْأَصْلِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ، وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهَا فَيَبْقَى مَا لَمْ يَظْهَرْ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَبِقَوْلِ الزَّوْجِ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَرِئَ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهَا بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ.
(قَالَ:) وَإِذَا جَامَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا مُطَاوِعَةً فِي عِدَّتِهَا لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ نَفَقَتُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: النَّفَقَةُ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَمَا أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَا تَأْثِيرَ لِفِعْلِهَا هُنَا فِي الْفُرْقَةِ؛ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قَدْ وَقَعَتْ قَبْلَ فِعْلِهَا وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةً لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَتْ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ بِفِعْلِهَا وَهِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ وَلَكِنْ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ فَلَا تَكُونُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْمَحْبُوسَةُ بِحَقٍّ عَلَيْهَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَابَتْ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ لِزَوَالِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْحَبْسُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا فَإِنَّ هُنَاكَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ تَابَتْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَوْ لَحِقْت بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا جَاءَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ تَائِبَةً أَوْ سُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ، أَوْ لَمْ تُعْتَقْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ.
(قَالَ:) وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً وَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ شَبَهَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا يَقُولُ: النَّفَقَةُ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَهَا يَبْقَى الْعِدَّةُ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا لِذِمِّيٍّ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ حَرْبِيَّانِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُتَمَكِّنَانِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمَنْزِلَةِ الصِّلَةِ وَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ لِإِبْقَائِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ بِهِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْقَتْلِ غَيْرُ مُسْتَوْجِبٍ لِلْإِبْقَاءِ، وَكَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(قَالَ:) وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمِ أَبٌ ذِمِّيٌّ مُعْسِرٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعٌ، فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبُوا النَّفَقَةَ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فِي حَقِّ الْأَبِ الذِّمِّيِّ وَالْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَبِاخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُرْمَةِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ.
(قَالَ:) رَجُلٌ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْعِتْقُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ نَظِيرُ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ (قَالَ:) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا الْمُسَمَّى مِنْ الْمَهْرِ وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ فِي حَقِّهَا وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا فَيُجْعَلُ هَذَا فِي حَقِّهَا كَالطَّلَاقِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ (قَالَ:) وَاَلَّتِي زَوَّجَهَا عَمُّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْفُرْقَةُ إذَا جَاءَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَا تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا (قَالَ:) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةَ فَأَعْطَاهَا فَسُرِقَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى مَا لَمْ يَمْضِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوْفَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فَدَخَلَ الْمُسْتَوْفِي فِي ضَمَانِهَا كَمَا إذَا اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ وَيَكُونُ الْهَلَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ وَلَوْ أَرْسَلَ بِهَا إلَيْهَا رَسُولًا فَقَالَ الرَّسُولُ قَدْ أَعْطَيْتهَا إيَّاهَا وَجَحَدَتْ هِيَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ الزَّوْجِ نَائِبُهُ فَدَعْوَاهُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا كَدَعْوَى الزَّوْجِ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَعْطَيْتهَا نَفَقَتَهَا وَأَنْكَرَتْ هِيَ الِاسْتِيفَاءَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرَّسُولُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِاسْتِيفَاءِ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَفِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِرْدَادِ مِنْ التَّرِكَةِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ بِعَيْنِهِ قَائِمًا، أَوْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.