فصل: بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ) إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَالُوا: إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فَيَقُولُ: إنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَلَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التِّجَارَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِدَيْنٍ أَوْ بِعَيْنٍ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الصِّحَّةِ فَيَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِيَفُكَّ رَقَبَتَهُ، وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ اسْتِيلَادُهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَاعْتُبِرَ الْجِهَازُ وَالْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ أَوْ يَقُولُ صِحَّةُ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قِيَاسِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ آنِسًا لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَمَتَى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا قَالَ: كُنْتُ بِعْتُ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ رَاجِعٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْمَوْلَى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا قَالَ فِئْتُ إلَيْهَا كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُوَ مَالِكٌ لِإِيجَابِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِجَمِيعِ الْمَالِ.
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ تَجْمَعُهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ حَالُ الْمَرَضِ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِمَوْتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ إذَا انْفَرَدَ اسْتَنَدَ إلَى سَبَبِهِ فَهُنَا تَعَلَّقَ الدَّيْنَانِ جَمِيعًا بِمَالِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَرَضُ فَاسْتَوَيَا فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا يَصِيرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي يَصِيرُ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ الثَّانِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوَّلًا، ثُمَّ وَهَبَ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ أَوَّلًا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْآخِرِ فَيَتَحَاصَّانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، ثُمَّ بِوَدِيعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ تَرِكَتُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي إبْطَالِ مَا كَانَ بِفَرْضِ الثُّبُوتِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِخَرَابِ الذِّمَّةِ وَسَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ الْخَرَابِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَذِهِ الْعَيْنِ حِينَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ صَارَ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهَا وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدِينَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالدَّيْنِ فَالْوَدِيعَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ ثَابِتٌ وَلَا كَانَ يُعْرَضُ الثُّبُوتُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ مُطْلَقًا وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَرِكَتِهِ، ثُمَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ شَاغِلًا لِتَرِكَتِهِ لَا لِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ مِلْكِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ عَيْنًا وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ، وَإِنْ نَفَّذَهَا فِي مَرَضِهِ صَارَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَا يَتَبَيَّنُ بِالْهِبَةِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَرِيمِ الْمُقَرِّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
فَأَمَّا إقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَصِرْ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ.
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ وَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَبِسَبَبِ الْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ لَا عَنْ التِّجَارَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ فِي مَرَضِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ فِي صِحَّتِهِ.
وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إظْهَارٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَالْإِقْرَارُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ.
وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ تَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْكَذِبِ بَلْ يَزْدَادُ مَعْنَى رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلِأَنَّ فِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِالْكَذِبِ وَبِالْمَرَضِ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَلَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى صَرْفِ الْمَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قِيلَ إنَّ الْمَرَضَ حَالَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ وَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْإِقْرَارَيْنِ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَالْآخَرَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَيُقَدَّمُ مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ عَلَى مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْحَجْرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ لِيَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَبَرُّعُهُ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطًا وَبِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَلْحَقُهُ عَنْ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ حَقَّ الْغُرَمَاءِ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ وَكَمَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِالتَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّهُمْ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ مَعَهُمْ فَكَانَ مَجْحُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَحَقِّهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ التِّجَارَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِالْمَالِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ لَا سِيَّمَا الْمَالُ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمُحَابَاةٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ بِمَالِهِ يَسْتَنِدُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أَخْبَرَ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْمِلْكِ إلَى أَوَّلِ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمُشْتَرِي الزَّوَائِدَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِأَوَّلِ الْمَرَضِ وَصَارَ مَالُهُ كَالْمَرْهُونِ فِي حَقِّهِمْ فَبَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْغَيْرِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمُعَايَنِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ فَيَظْهَرُ السَّبَبُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْمَرَضَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي إقْرَارِهِ قُلْنَا هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَرَجَّحَ أَمْرُ دَيْنِهِ عَلَى هَوَاهُ عَلَى أَمْرِ دَيْنِهِ فَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْمُبَادَرَةِ إلَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ مَا كَانَ قَدِمَ بِعَيْنِهِ فِيهَا فَلَمَّا آيِسَ مِنْ نَفْسِهِ آثَرَ مَنْ يَهْوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِمَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْتَادًا كَنَدْرِ تَمْيِيزِ إحْدَى الْحَالَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَجَعَلْنَا الدَّلِيلَ مَعْنًى شَرْعِيًّا، وَهُوَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَفِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ، فَأَمَّا إذَا مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مَا لِإِنْسَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَبَرُّعِهِ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ.
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ مَالًا أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَعَايَنَ الشُّهُودُ قَبْضَهُ ذَلِكَ فَهَذَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيمَا يَثْبُتُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ بَلْ فِيهِ تَحْوِيلُ حَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَانَ صَاحِبُهُ مُزَاحِمًا لَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّرِكَةُ إلَّا عَيْنَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ قَرْضًا أَوْ بَيْعًا فَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَمَّ مِلْكُهُ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَالْبَائِعُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ، فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الِاخْتِصَاصِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا رَدَّ الرَّهْنَ كَانَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ وَلَمَّا الْتَحَقَ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ الْمُعَايِنِ فِي الْمَرَضِ بِالْوَاجِبِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ حَتَّى اسْتَوَى بِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُعَايِنَ أَوْ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَالْحُقُوقُ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّيْنِ فِي التَّرِكَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ، ثُمَّ الدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ هَذَا الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ كَانَ جَائِزًا، وَهُوَ لَهُ دُونَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَضَاءِ لَفْظًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ أَرَأَيْتَ لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؟
لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ بَدَلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبَدَّلِ.
وَلَوْ قَضَى بَعْضُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ دَيْنَهُ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَقْبُوضَ الْقَابِضُ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ السَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ سَعْيٌ مِنْهُ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَإِنَّهُ قَضَى دَيْنَ مَنْ كَانَ حَاجَتُهُ أَظْهَرَ وَمَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ يُخَاصِمُهُ فِي الْآخَرِ وَتَصَرُّفُهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ صَحِيحًا لَا يُرَدُّ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِالْمَرَضِ فَهُوَ بِقَضَاءِ دَيْنِ بَعْضِهِمْ مُبْطِلٌ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَمَّا دَفَعَهُ إلَى هَذَا، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَاءِ الثَّمَنِ وَبَدَلَ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ كَمَا قَدَّرْنَا.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا إيثَارٌ مِنْهُ لِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِمَالِهِ فَهُوَ نَظِيرُ إيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَلَوْ قَرَضَ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ مَاتَ قُسِّمَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِثَلَاثَةِ دُيُونٍ فِي مَرَضِهِ فَيُقَسَّمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَيِّتِ أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِي كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مُزَاحِمَةَ الثَّالِثِ قَدْ زَالَتْ فَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ بِمَا قَالَ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ أَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ صَحِيحًا مُلْزِمًا مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَذَلِكَ كَانَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ مَعَهُ، فَإِذَا رَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ الْأَوَّلُ وَرَدُّهُ عَامِلٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ هَذَا الرَّدِّ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ.
رَجُلٌ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ وَجَحَدَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرِضَ الْمُقِرُّ وَمَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ، وَعَلَى الْمُقِرِّ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا وَرِثَهَا عَنْ الْجَاحِدِ.
(قَالَ) غُرَمَاءُ الْمُقِرِّ فِي صِحَّتِهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَلْفِ مِنْ غُرَمَاءِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمُقِرِّ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِكَوْنِهِ حَاصِلًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا مَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ الْآنَ صَحَّ إقْرَارُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَرِكَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُقِرِّ إرْثًا وَيُجْعَلُ هُوَ كَالْمَحْدُودِ لِإِقْرَارِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَرِيضٌ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى مُوَرِّثِهِ لَمَّا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالْعَيْنِ.
وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ كَالْمُحَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوَرِّثُ حَتَّى نَفَذَ إقْرَارُهُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَرِيضِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ آنِسًا لِلْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ الْإِقْرَارُ فَلَا يُزَاحِمُ الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ.
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِثُلُثِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ الْوَرَثَةُ فَهِيَ مِيرَاثٌ كُلُّهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِمَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يُوجَدْ تَمَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِاللُّقَطَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا أَنْ بَيَّنَّا حِفْظًا عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اتِّصَالُ عَيْنِهَا إلَيْهِ يُوصَلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ شَرْعًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَثْبُتَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِاللُّقَطَةِ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مِلْكَهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ، وَالْإِرْثُ عَنْهُ مُنْتَفٍ لِقُرْبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَوَجَبَ تَقْيِيدُ تِلْكَ الْقُرْبَةِ عِنْدَ إقْرَارِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ لِلْمَسَاكِينِ بِزَكَاةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عُشْرٍ أَوْ نَذْرٍ وَجَبَ تَقَيُّدُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اتِّصَالِهَا إلَى مَالِكِهَا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالٍ فِي يَدِهِ لِغَائِبٍ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ وِلَايَةً فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فِي الْمُلْتَقَطِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا لَزِمَهُ عَنْ عُهْدَةِ الْحِفْظِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَعْمُولٌ بِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَةِ خُرُوجِهِ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ بِهَا فَصَارَ إقْرَارُهُ كَالْأَمْرِ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ دَلَالَةً وَمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ أَوْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ يُقَرِّرُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَفِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ الْمَرِيضُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ تَصَرُّفَهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَوَتْ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَيْنِهَا بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْأَصْلِ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ وَبِمَرَضِهِ تَزْدَادُ حَاجَتُهُ إلَى مَا يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ كَاسْتِئْجَارِ الْأَطِبَّاءِ وَشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ، ثُمَّ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ شَرْعًا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ فَلَا يَكُونُ الْمَرِيضُ بِالتَّسْمِيَةِ قَاصِدًا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَتْ مُزَاحِمَةُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمَةً عَلَى مَا أَقَرَّ مَا بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لِقُوَّةِ سَبَبِ حَقِّهَا، وَلَوْ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَهْرَ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ إبْطَالًا لَحَقِّهِمْ بِإِيثَارِهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا بِخِلَافِ بَدَلِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْ الْمُسْتَقْرَضِ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.