فصل: كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ وَكَالَةِ الْوَكِيلِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَوْ الْمَجْنُونَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ لِلْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْعِبَارَةَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ أَوْ مَجْنُونًا يَعْقِلُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ بِأَمْرِهِ يَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فَعُهْدَةُ التَّصَرُّفِ تَكُونُ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَقَالَ مَا صَنَعْت فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ غَيْرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ مِنْهُ عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ قَالَ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى وَكَالَتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْآمِرِ لَا وَكِيلَ الْوَكِيلِ فَإِنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي تَوْكِيلِهِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَصَارَ هُوَ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ وَرَأْيُ الْمُوَكِّلِ بَاقٍ فَلِهَذَا بَقِيَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَزَلَ وَكِيلَهُ وَجَاءَ فُضُولِيٌّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُخْبِرَ إنْ كَانَ عَدْلًا انْعَزَلَ بِخَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا وَفِي الْفُضُولِيِّ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْعَزِلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَزْلَ الْوَكِيلِ فِي هَذَا سَوَاءٌ فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي الْخَبَرِ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مُعَامَلَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مُخْبِرٌ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا فَكَذَلِكَ الْعَزْلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْ كُلُّ خَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَقَوْلُ الْفَاسِقِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَّ عَلَى التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَثَبَّتُوا وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ اللُّزُومِ بِخَبَرِهِ وَالْإِخْبَارُ بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْ التَّصَرُّفِ فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْمُوَكِّلِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُعَبِّرٌ عَنْهُ فَيَكُونُ الْمُلْزِمُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لَا قَوْلَهُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ شَيْئًا بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَصَرَّفَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَصَرَّفْ فَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ اخْتَارَ الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَمَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَازَةُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الْفَسْخِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ أَجَازَ الْوَكِيلُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ سَكَتَ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ حُصُولَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قَالَ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَالشِّرَاء بِهِ كَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ التَّوْكِيلُ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْعُمُومِ لِمَا بَيَّنَّاهُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ فَإِذَا اشْتَرَى لِغَيْرِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَبَاعَهُ فِي بَيْتٍ فِي غَيْرِ سُوقِ الْكُوفَةِ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا وَجَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ إنَّمَا هُوَ سِعْرُ الْكُوفَةِ لَا عَيْنَ السُّوقِ وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ فُضُولِيٌّ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ فَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَيَانِ جَازَ فِي النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَجَازَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ فِي النِّصْفِ نَصِيبُهُ وَيَبْقَى النِّصْفُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لِأَنَّهُ هَكَذَا يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ نَصِيبِ الْمُجِيزِ وَيَصِيرُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَأَنَّهُ بَاشَرَ بَيْعَ النِّصْفِ بِنَفْسِهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ فِي شَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً الْكَفَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أَيْ: ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» أَيْ ضَامُّ الْيَتِيمِ إلَى نَفْسِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْخَشَبَةُ الَّتِي تُجْعَلُ دِعَامَةَ الْحَائِطِ كَفِيلًا لِضَمِّهَا إلَيْهِ فَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الْعَقْدِ بِالْكَفَالَةِ أَنَّهُ يُوجِبُ ضَمَّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى وَجْهِ التَّوْثِيقِ (أَحَدُهُمَا) الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ بَلْ أَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى حَالِهِ.
وَالْكَفِيلُ يَصِيرُ مُطَالَبًا كَالْأَصِيلِ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَنْفَصِلَ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ ابْتِدَاءً حَتَّى تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَأَصْلُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَنْفَصِلَ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ فَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَأَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَكَذَلِكَ تَنْفَصِلُ الْمُطَالَبَةُ عَنْ أَصْلِ الدَّيْنِ سُقُوطًا بِالتَّأْجِيلِ فَكَذَلِكَ الْتِزَامًا بِالْكَفَالَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ مَعَ أَصْلِ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ مَعَ مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَمِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ عَنْ الْتِزَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ) أَنْ تَنْضَمَّ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إقْرَاضٌ لِلذِّمَّةِ.
وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْتِزَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ وَلَيْسَ ضَرُورَةُ ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ حَقِّ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِمَا، فَلِأَنَّ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ وَلَا يَكُونُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَهُنَا لَا يُوجِبُ مَا لَا تُوجَدُ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا مَلَكَ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ (وَالْحَوَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ) وَمِنْهُ الْحَوَالَةُ فِي الْغَرْسِ بِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَمُوجَبُهُ تَحَوُّلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ وَالْعَقْدَانِ فِي الشَّرْعِ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ) فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَمَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي شَرِيعَتِنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ وَالظَّاهِرُ هُنَا التَّقْرِيرُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَكْفُلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ قَوْلُهُ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» أَيْ فَلْيَتْبَعْ مَنْ أُحِيلَ عَلَيْهِ وَالْكَفَالَةُ مَعَ جَوَازِهَا وَحُصُولِ التَّوَثُّقِ بِهَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الزَّعَامَةُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا غَرَامَةٌ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي مُوجَبِ الْعَقْدَيْنِ فَعِنْدَنَا الْكَفَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالْحَوَالَةُ تُوجِبُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْحَوَالَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مِنْهُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ فَمَا دَامَ بَاقِيًا فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ فَرَغَ مِنْهُ سَائِرُ الْمَحَالِّ ضَرُورَةً وَإِذَا ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَرَغَ مِنْهُ الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ ضَرُورَةً لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَاغِلًا لِمَجْلِسٍ وَقَدْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّوَثُّقُ لِحَقِّ الطَّالِبِ وَذَلِكَ فِي أَنْ تُزَادَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لَا أَنْ يَسْقُطَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ وَاخْتِصَاصُ الْعَقْدِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ كَاخْتِصَاصِ الصَّرْفِ بِاسْمٍ كَانَ كَاخْتِصَاصِهِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَهُوَ صَرْفُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى يَدِ صَاحِبِهِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ (وَالسَّلَمُ) اُخْتُصَّ بِاسْمٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُوجَبٍ هُوَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَتَأْخِيرُ الْبَدَلِ الْآخَرِ بِالتَّأْجِيلِ فَكَذَلِكَ هُنَا مَعْنَى الْكَفَالَةِ الضَّمُّ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ ضَمَّ أَحَدِ الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ (وَمَعْنَى الْحَوَالَةِ) التَّحْوِيلُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ (ثُمَّ الْكَفَالَةُ نَوْعَانِ) كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ وَقَدْ بَدَأَ بِبَيَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمَالِ عَادَةً وَمُبَاشَرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ أَظْهَرُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَافْتَتَحَ بِحَدِيثِ حَبِيبٍ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُرَيْحًا حَبَسَ ابْنَهُ بِكَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ قَالَ حَتَّى طَلَبْنَا الرَّجُلَ فَوَجَدْنَاهُ فَدَفَعْنَاهُ إلَى صَاحِبِهِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ عَدْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَمِلْ إلَى ابْنِهِ بَلْ حَبَسَهُ وَلِهَذَا بَقِيَ عَلَى الْقَضَاءِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَصِحُّ وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ إلَى خَصْمِهِ وَأَنَّ تَسْلِيمَ الْغَيْرِ بِأَمْرِ الْكَفِيلِ كَتَسْلِيمِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ قَالَ طَلَبْنَا الرَّجُلَ فَأَخَذْنَاهُ فَدَفَعْنَاهُ إلَى صَاحِبِهِ.
وَجَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ هِيَ ضَعِيفَةٌ وَفِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَقُولُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ لِتَسْلِيمِهِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَا يُثْبَتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً فِي نَفْسِهِ لِتَسْلِيمِهِ كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي الْمَالَ مِنْ مَالِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَهُوَ الْحَرْفُ الثَّانِي لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ أَدَاءِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ مُلْكِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِالنَّفْسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَفَلَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» وَالتَّكْفِيلُ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَكَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُصُومَةٌ فَكَفَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنَفْسِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَفَلَ حَمْزَةُ ابْنَ عُمَرَ وَالْأَسْلَمِيَّ فِي تُهْمَةِ رَجُلٍ فَاسْتَصْوَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَنَابَ أَصْحَابَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ كَفَلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ وَنَفَاهُمْ إلَى الشَّامِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصْلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ عِنْدَ طَلَبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ مَجْلِسَهُ عِنْدَ طَلَبِ خَصْمِهِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةُ وَإِنَّمَا يُذَمُّ الِامْتِنَاعُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُلُ إلَّا بِنَفْسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ فِي التَّسْلِيمِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ بِالِانْقِيَادِ لَهُ لِتَسْلِيمِهِ إلَى خَصْمِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ كَفَلَ بِالْمَالِ- وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي يَدِ الْكَفِيلِ- فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي مَالِ الْأَصِيلِ فَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَفِي النَّفْسِ لَا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْأَصِيلِ فَيَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِحْضَارِ لِلتَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالًا لِيُحْضِرَهُ الْقَاضِي فَيُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ وَيَكُونَ هَذَا كَذِبًا وَلَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ التَّسْلِيمُ كُلُّهُ فِي إحْضَارِ الْأَصِيلِ إذَا أُتِيَ بِالطَّالِبِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَبِدَفْعِهِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ مَعَ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِالْتِزَامِ كَوْنُ الْمُلْتَزِمِ مُلْتَزِمًا مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَدَائِهِ كَالْتِزَامِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّذْرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ أَلْفَ حَجَّةٍ يَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعِيشُ هُوَ أَلْفَ سَنَةٍ لِيُؤَدِّيَ فَهُنَا أَيْضًا التَّسْلِيمُ يَتَأَتَّى فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَمَاتَ الْمَكْفُولُ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ وَتَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَى الْخَصْمِ الَّذِي سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ مُوجِبٌ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَالثَّانِي أَنَّ مَحَلَّ التَّسْلِيمِ فَاتَ بِمَوْتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ بِدُونِ الْمَحِلِّ فَكَمَا أَنَّ عَدَمَ تَأَتِّي التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْكَفَالَةِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ بَقَاءَهَا ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرَّجُلِ يَكْفُلُ بِنَفْسِ الرَّجُلِ ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَنْ يُحْبَسَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الظَّالِمِ وَلَا يَظْهَرُ ظُلْمُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْهُ أَنَّهُ لِمَاذَا يَدَّعِي حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَصْمِ مَعَهُ فَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَصْمِ فَيُسَلِّمَهُ فَإِذَا امْتَنَعَ حِينَ ذَلِكَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ حَبَسَهُ وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُولُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَبْرَأْ الْكَفِيلُ لِأَنَّ لِحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ إلَى الْخَصْمِ فَيَبْقَى الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ وَكَذَلِكَ الْإِحْضَارُ وَالتَّسْلِيمُ يَتَأَتَّى بَعْدَ رِدَّتِهِ وَعَلَيْهِ تَنْبَنِي الْكَفَالَةُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِحْضَارِهِ أَمْهَلَهُ فِي ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا يَذْهَبُ فَيَأْتِي بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَمْهَلَهُ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ وَيَحْبِسُهُ مَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهُ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا عَاجِزًا عَنْ الْأَدَاءِ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي إلَى وَقْتِ يَسَارِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذَا الْعَجْزِ عِلْمُ الْقَاضِي بِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ فِي مُدَّةِ عَجْزِهِ عَنْ الطَّالِبِ أَنْ يُلْزِمَ الْكَفِيلَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَنَا لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ كَسْبِهِ وَحَوَائِجِهِ وَعِنْدَ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَدْيُونِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي عُسْرَتُهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ وَسَنُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُبِسَ الْمَكْفُولُ بِهِ بِدِينٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِأَنْ يُعْتِقَهُ مِمَّا حُبِسَ فِيهِ إنْ كَانَ دَيْنًا قَضَاهُ عَنْهُ أَوْ حَقًّا آخَرَ أَوْفَاهُ إيَّاهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فِيهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِهِ حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْكَفَالَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ هَذَا إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ غَيْرِ هَذَا الْقَاضِي فَأَمَّا إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي فَالسَّبِيلُ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ لِلْقَاضِي هُوَ فِي يَدَيْك فَأَخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ لِأُسَلِّمَهُ إلَى خَصْمِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ حَقُّهُ ثُمَّ يَحْبِسَهُ بِحَقِّهِمَا فَالْقَاضِي يَحْبِسُهُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَحَدٍ فَيَحْبِسَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْكَفِيلِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ وَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُلُوا لَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيمَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ التَّرِكَةِ وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ الْمَكْفُولِ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَ الْكَفِيلِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ بِهَذَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْكَفَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ أَوْ وَكِيلًا فِي خُصُومَةٍ لَهُ قِبَلَ ذَلِكَ الرَّجُلِ حَقٌّ فَانْتِفَاءُ حَقِّ نَفْسِهِ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ التَّسْلِيمِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا كَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ بَقِيَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى وَمَقْصُودُ الطَّالِبِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ التَّوَثُّقُ بِحَقِّهِ فَلَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ مُلَاقَاةُ الطَّالِبِ مَعَ الْمَكْفُولِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ كَفَالَتِهِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهَا أَوْلَى وَإِذَا سَلَّمَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ مَا الْتَزَمَهُ لَهُ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ أَتَى بِهِ وَهُوَ كَالْمَطْلُوبِ إذَا أَوْفَى الطَّالِبَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَبْرَأُ بِإِيفَاءِ عَيْنِ مَا الْتَزَمَ فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْمَدْيُونِ إذَا جَاءَ بِالدَّيْنِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ وَتَضَرَّرَ مَنْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إبْقَاءً لِحَقِّ نَفْسِهِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِالْكُنَاسَةِ أَوْ فِي السُّوقِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمِصْرِ بَرِئَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا وَتَقْيِيدُ التَّسْلِيمِ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ رُبَّمَا يَهْرُبُ مِنْهُ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِ بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَمَّا فِي الْمِصْرِ فَالتَّقْيِيدُ بِمَوْضِعٍ مِنْهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ سَلَّمَهُ إلَيْهِ إمَّا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِمَّا بِمُعَاوَنَةِ النَّاسِ إيَّاهُ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا إذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ النَّاسِ يُعَيِّنُونَ الْمَطْلُوبَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحُضُورِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فَتَقْيِيدُ التَّسْلِيمِ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي مُفِيدٌ وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى أَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ كُلَّهَا كَمَكَانٍ وَاحِدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إذَا شُرِطَ التَّسْلِيمُ فِي مِصْرٍ كَذَا جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ فَإِذَا جُعِلَ الْكُلُّ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ قُلْنَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمِصْرِ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ فَيَبْرَأُ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ وَهُوَ جَائِزٌ ضَامِنٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ يَتَأَتَّى بِإِحْضَارِهِ أَوْ إخْرَاجِهِ مِنْ السِّجْنِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ يَأْبَى التَّسْلِيمَ وَإِذَا طَلَبَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ آخَرَ فَفَعَلَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُؤْخَذُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ وَلَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ أَمَّا الْكَفِيلُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ مَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمُهُ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَشُورَةُ مُلْزِمَةً إيَّاهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا اللُّزُومُ بِالْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرِئَ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْكَفِيلِ حَتَّى لَا يَضِيقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِذَا سَلَّمَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ فَقَدْ أَوْفَى مَا عَلَيْهِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ إذَا قَضَاهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ بَرِئَ وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْبَى الْقَبُولَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَكُونُ لِلْمَكْفُولِ أَنْ يَأْبَى الْقَبُولَ وَإِذَا دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّسْلِيمِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحَكَمِ لِيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إذَا كَانَ مَحْبُوسًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فِي مَفَازَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يَسْتَطِيعُ الْمَكْفُولُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الطَّالِبِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَا يَحْصُلُ لِلطَّالِبِ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُؤَجِّرِ إذَا سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَهُنَاكَ غَاصِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ مُعْتَبَرًا وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ وَفِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ قَاضٍ بَرِئَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَبْرَأُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ فِيهِ قِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِهِ بِالصِّدْقِ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْقُضَاةُ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْمَيْلِ بِالرِّشْوَةِ وَعَامِلُ كُلِّ مِصْرٍ يَنْقَادُ لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَقَعُ التَّفَارُقُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مِصْرٍ آخَرَ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَهَرَ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالْمَيْلِ مِنْ الْقُضَاةِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَقَالَا يَتَقَيَّدُ التَّسْلِيمُ بِالْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَقْصُودَ الطَّالِبِ التَّسْلِيمُ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ فِيهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ شُهُودُهُ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْكَفَالَةُ فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ آخَرَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي الْمَفَازَةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آمِنٍ وَغَابَ فَيَبْرَأُ مِمَّا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي إمَّا لِيَثْبُتَ الْحَقَّ عَلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا وَهَذَا قَدْ حَصَلَ ثُمَّ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَيَتَقَابَلُ الْمَوْهُومَاتُ وَيَبْقَى التَّسْلِيمُ مُتَحَقِّقًا مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِزَامِ فَيَبْرَأُ بِهِ وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَبَرِئَ مِنْهُ فَلَزِمَهُ الطَّالِبُ فَقَالَ الْكَفِيلُ: دَعْهُ وَإِنَّمَا عَلَى كَفَالَتِي أَوْ عَلَى مِثْلِ كَفَالَتِي أَوْ أَنَا كَفِيلٌ بِهِ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ أَتَى بِلَفْظٍ صَالِحٍ لِإِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ بِهِ أَمَّا قَوْلُهُ أَنَا عَلَى كَفَالَتِي أَيْ بِعَقْدِ إنْشَائِهِ سِوَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إلَّا هَذَا وَوَجْهُ الصِّحَّةِ مَقْصُودُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ عَاقِلٍ أَوْ مَعْنَاهُ فَسَخْنَا ذَلِكَ الْإِبْرَاءَ الْحَاصِلَ لِي بِالرَّدِّ عَلَيْك فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ كَمَا قُلْت وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَالطَّالِبُ يَدَّعِي قِبَلَهُ مَالًا عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى لِلْجَوَابِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ يَدَّعِي قِبَلَ الْمَطْلُوبِ قِصَاصًا فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا أَوْ حَدًّا فِي قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ لِلْجَوَابِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا إذَا أَعْطَى الْكَفِيلَ بِنَفْسِهِ طَوْعًا فَأَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَأْخُذُهُ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِنَفْسٍ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ أَوْ شَاهِدًا عَدْلًا وَقَالَ لِي شَاهِدٌ آخَرُ حَاضِرٌ حَبَسَهُ الْقَاضِي عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى اسْتِحْسَانًا وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ شَاهِدًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ شَاهِدًا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ إذَا ادَّعَى شُهُودًا حُضُورًا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لِيَأْتِيَ بِهِمْ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ وَمَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ الدَّرْءُ وَالْإِسْقَاطُ فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِحَبْسِهِ بَعْدَ إقَامَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ قُلْنَا الْحَبْسُ لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ وَلَكِنْ لِتُهْمَةِ الدَّعَاوَى وَالْفَسَادِ فَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ أَوْ شَهَادَةِ الْمَسْتُورَيْنِ يَصِيرُ مُتَّهَمًا بِذَلِكَ فَيُحْبَسُ تَعْزِيرًا لَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ عُقُوبَةٌ هِيَ أَقْوَى مِنْ الْحَبْسِ إذَا صَارَ مُتَّهَمًا بِهِ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ فَأَمَّا فِي الْمَالِ فَأَقْصَى الْعُقُوبَاتِ إذَا ثَبَتَ الْحَبْسُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ هَذَا فِي دَعْوَى الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بِنَفْسِهِ لَوْ كَفَلَ صَحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ فَإِذَا حَصَلَ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ؛ كَانَ بَاطِلًا.
فَأَمَّا تَسْلِيمُ النَّفْسِ فَتُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَلِهَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قِبَلَهُ.
غَيْرَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ، بِنَفْسِهِ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ عِنْدَ دَعْوَاهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَادَّعَى قِبَلَهُ شَيْئًا أَحْضَرَهُ مَجْلِسَهُ لِلْجَوَابِ وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مَا يَنْفِيه؛ فَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَكَانَ التَّسْلِيمُ مُسْتَحَقًّا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مَا يَنْفِيه فَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَكَانَ التَّسْلِيمُ مُسْتَحَقًّا بِمَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ مُنْكِرًا لِلْمَالِ وَجُعِلَ كَالثَّابِتِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِنْ خَاصَمَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ الطَّالِبَ إلَى الْقَاضِي وَقَالَ: إنَّهُ لَا حَقَّ لِهَذَا قِبَلَ الَّذِي كَفَلْتُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مَا يَنْفِيه وَمَا ادَّعَاهُ قِبَلَ الطَّالِبِ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ هُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يُسْأَلُ الْخَصْمُ عَنْهُ وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ الْمَكْفُولِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيٍّ لِمَيِّتٍ قِبَلَهُ خُصُومَةٌ وَلَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَنْفِي اسْتِحْقَاقَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْمُقِرِّ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ وَاخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَهُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ صَبِيًّا أَوْ وَكِيلًا وَهُنَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِمَا يُبْقِي اسْتِحْقَاقَهُ لِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ الطَّالِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا شَاهِدَانِ؛ بَرِئَ لِظُهُورِ مَا يَنْفِي اسْتِحْقَاقَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ عَنْ الْمَطْلُوبِ.
وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ الْعَدَالَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ ضَمِنْت وَكَفَلْت وَهُوَ عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ سَوَاءٌ، يَصِيرُ بِهِ كَفِيلًا بِالنَّفْسِ أَمَّا الضَّمَانُ: فَهُوَ مُوجَبٌ عَقْدِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا لِلتَّسْلِيمِ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ بِمُوجَبِهِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَكَذَلِكَ كَفَلْت فَإِنَّ اسْمَ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الْكَفَالَةُ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ.
وَلَفْظُ الْقَبَالَةِ كَلَفْظِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى: قَبِيلًا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِالْتِزَامِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الصَّكُّ- الَّذِي هُوَ وَثِيقَةٌ- قَبَالَةً، وَلَفْظُ الزَّعَامَةِ كَذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَقَوْلُهُ وَهُوَ عَلَيَّ أَيْ أَنَا مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِهِ لِأَنَّ مَبْلَغَ كَلِمَاتِ اللُّزُومِ عَلَيَّ وَإِلَيَّ، وَإِلَيَّ هُنَا بِمَعْنَى عَلَيَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» أَوْ قَالَ عَلَيَّ مَعْنَاهُ أَنَا مُلْتَزِمٌ لَهُ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ بَرِئَ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأُلْحِقَ بِمَحِلِّ السُّقُوطِ.
وَكَذَلِكَ قَدْ بَرِئَ إلَيَّ صَاحِبِي فَهَذَا إقْرَارٌ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ مُفْتَتِحٌ بِالْكَفِيلِ مُخْتَتِمٌ بِالطَّالِبِ وَذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ يَكُونُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْمَالِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ دَفَعَهُ إلَيَّ، أَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْكَفِيلِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ أَبْلَغُ وُجُوهِ الْبَرَاءَةِ وَإِذَا دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ وَقَالَ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْكَ مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ، وَهَذَا وَمَا لَوْ سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحُضُورِ لِيُسَلِّمَهُ إذَا طُولِبَ بِهِ فَهُوَ إنَّمَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَزِعًا فِيهِ كَالْمُحِيلِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ إنْسَانٌ مِنْ قِبَلِ الْكَفِيلِ مِنْ رَسُولٍ أَوْ وَكِيلٍ أَوْ كَفِيلٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي التَّسْلِيمِ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ.
وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِذَا كَفَلَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ؛ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ وَبِنَفْسِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ يُمَلِّكُهُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَتَسْلِيمً نَفْسِ صَاحِبِهِ بِاشْتِرَاطِ كَفَالَةِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَكَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ؛ لِإِبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ- لِإِبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ- مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ إلَى الطَّالِبِ وَأَشْهَدَ بِالْبَرَاءَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ وَصَاحِبَاهُ بَرِيئَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ صَاحِبَيْهِ هُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ كَفِيلِ الْكَفِيلِ كَتَسْلِيمِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَبْرَءُونَ جَمِيعًا عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ كَمَا لَوْ سَلَّمُوهُ جَمِيعًا.
وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَيَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ كَفِيلًا عَنْ بَعْضٍ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِصَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُمَا بِنَفْسِهِمَا وَأَيُّهُمْ دَفَعَ الْأَوَّلَ بَرِئُوا جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانُوا فِيهِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ إحْضَارُ وَاحِدٍ.
فَبِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا إحْضَارُ وَاحِدٍ وَقَدْ أَتَى بِهِ أَحَدُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِي ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ أَتَوْا جَمِيعًا بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمْ بَرِئَ هُوَ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْتَزَمَ الْإِحْضَارَ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَالْإِحْضَارُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا عَلَى صَاحِبَيْهِ وَفِي الْأَوَّلِ الْتَزَمُوا الْإِحْضَارَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ إحْضَارُ وَاحِدٍ وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا كَفَلَ بِهِ الثَّانِي بَرِئَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُعْرِضًا عَنْ كَفَالَتِهِ حِينَ اشْتَغَلَ بِأَخْذِ كَفِيلٍ آخَرَ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلُ الثَّانِيَ بِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ فَلَا يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِلْكَفِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ؛ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِحْضَارُ وَلَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ إحْضَارُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسْتَحَقًّا عَلَى شَخْصَيْنِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَكَفَلَ آخَرُ بِنَفْسِ الْكَفِيلِ ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرِئَ مِنْ الْحُضُورِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلُ الْأَوَّلُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ الثَّانِي فَيَبْرَأُ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ مَاتَ الْأَوْسَطُ بَرِئَ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْوَسَطَ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْآخِرِ وَقَدْ بَرِئَ بِمَوْتِهِ وَإِنْ مَاتَ الْأَخِيرُ فَالْأَوْسَطُ عَلَى كَفَالَتِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ عَلَى مَا هُوَ سُقُوطٌ مَحْضٌ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَوْ دَفَعَ الْأَوَّلُ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَالطَّالِبُ غَيْرُ حَاضِرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّالِبُ حَاضِرًا وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ هُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ الطَّالِبُ فِعْلَهُ جَازَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّوَقُّفُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى بَيَانِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَلَامُ الْوَاحِدِ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ كَلَامَ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَذَا التَّوَقُّفِ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامٌ مِنْ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ إلْزَامٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِالْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ كَالْإِقْرَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِالْكَفَالَةِ حَقُّ الطَّالِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْكَفَالَةُ تَبَرُّعٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِالْتِزَامِ لَهُ وَإِنْشَاءُ سَبَبِ التَّبَرُّعِ لَا يَتِمُّ بِالتَّبَرُّعِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَقِّ بِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ إيجَابِهِ قَائِمًا مَقَامَ قَبُولِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ إيجَابُهُ شَطْرَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَتِمُّ بِالْمُخْبِرِ ثُمَّ قَدْ يَتَعَدَّى ضَرَرُ هَذَا الِالْتِزَامِ إلَى الطَّالِبِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- الْكَفَالَةُ إذَا صَحَّتْ بَرِئَ الْأَصِيلُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ إلَى الطَّالِبِ وَلَعَلَّ قَاضِيًا يَرَى ذَلِكَ فَيَحْكُمُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ خَاطَبَ فُضُولِيٌّ عَنْ الطَّالِبِ عَلَى قَوْلِهِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الطَّالِبِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ جَائِزٌ قَبِلَهُ الْفُضُولِيُّ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ اضْمَنُوا عَلَيَّ دَيْنِي فَضَمِنُوا فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لِأَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ حَاضِرٍ فَلَا يَتِمُّ الضَّمَانُ إلَّا بِقَبُولِهِ وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ قَالَ هَذَا لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يَصِحَّ إذَا ضَمِنُوهُ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ بِمَرَضِهِ عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ مِنْ التَّرِكَةِ فَقَامَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْخِطَابِ لِوَرَثَتِهِ مَقَامَ الطَّالِبِ أَوْ نَائِبِهِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ النَّظَرُ لِنَفْسِهِ حَتَّى يُفَرِّغَ ذِمَّتَهُ- بِقَضَاءِ الدَّيْنِ- مِنْ تَرِكَتِهِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ، وَلَا مُطَالَبَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ قِبَلَ وَرَثَتِهِ فَلَا يَقُومُ هُوَ مَقَامَ الطَّالِبِ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ بِهَذَا الضَّمَانِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فِيمَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ فَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ دَيْنَهُ بِالْتِمَاسِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِدُونِ الِالْتِزَامِ، فَكَانَ الْمَرِيضُ فِي حَقِّهِ وَالصَّحِيحُ سَوَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَصَدَ بِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ.
وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ قَائِمًا مَقَامَ الطَّالِبِ لِضِيقِ الْحَالِ عَلَيْهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّحِيحِ فَأَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الدَّيْنَ وَلَا صَاحِبَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ لِوَرَثَتِهِ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَهُ.
وَوُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَرَثَةِ لِحَقِّ الْمُوصِي، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِرَأْسِ رَجُلٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ جَازَ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلِهَذَا صَحَّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقُ بِهِ فَهَذَا وَكَفَالَتُهُ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِرُوحِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ بِالرُّوحِ عَنْ النَّفْسِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنِصْفِهِ أَوْ بِجُزْئِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ وَاحِدَةٌ فِي الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ إحْضَارُهَا.
وَإِحْضَارُ بَعْضِ النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَذِكْرُ جُزْءِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ وَلَوْ كَفَلَ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِهِ فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ أَوْ إلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ؛ فَهُوَ كَفِيلٌ لِأَنَّ الْمُوَافَاة بِهِ إحْضَارُهُ لِلتَّسْلِيمِ وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَقَدْ الْتَزَمَهُ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَكْفُلَكَ بِهِ يَعْنِي: عَلَيَّ أَنْ أُحْضِرَهُ وَأُسَلِّمَهُ إلَيْك إذَا الْتَقَيْنَا وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ عَلَيَّ حَتَّى تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمَا وَذَلِكَ مُوجَبُ الْكَفَالَةِ وَالتَّصْرِيحُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ وَإِنْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ التَّسْلِيمِ وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَ الْمَعْرِفَةَ فَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا ضَامِنٌ لَأَنْ أُدْخِلَكَ عَلَيْهِ أَوْ أُوقِفَكَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ بِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّفْسِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك أَنْ تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا أَوْ مُلَاقَاتَهُمَا فِعْلُهُمَا وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ ضَامِنًا لِفِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: هُوَ عَلَيَّ حَتَّى تَجْتَمِعَا أَوْ تَلْتَقِيَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ عَلَيَّ إشَارَةٌ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَذَلِكَ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِفِعْلِهِ دُونَ فِعْلِ الْغَيْرِ.
وَإِذَا كَفَلَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ غَرِيمًا لِلْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ مِنْ رَجُلٍ فَدَفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَوْ غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إلَى الْوَصِيِّ وَبِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُوفِيًا مَا الْتَزَمَهُ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْغُرَمَاءِ وَهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا الْوَصِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَائِهِ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ بِالنَّفْسِ فِيمَا بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ وَفِيمَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ كَجَوَازِهَا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ.
وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْجَذَاذِ أَوْ إلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إلَى النَّيْرُوزِ جَائِزَةٌ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي سُمِّيَ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ جَهَالَةٍ فَهِيَ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ مُتَقَارِبَةٌ فَإِنَّ الدِّيَاسَ وَالْحَصَادَ يَتَقَدَّمَانِ الْحَرَّ وَتَأَخُّرُهُمَا بِامْتِدَادِ الْبَرْدِ فَتَكُونُ مُتَقَارِبَةً.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ- وَهُوَ الْأَجَلُ- أَوْلَى وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُنَاكَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذْنُ شَرْطٍ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّهُ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ إلَى الْحَصَادِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ مِنْ الْعَقْدِ وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى هَذِهِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا يَقُولُونَ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ إلَى هَذَا الْأَجَلِ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ الْمُتَقَارِبَةَ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْآجَالِ فِيهِ؟ قُلْنَا: جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكُتُبِ وَبَيْنَ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ تَثْبُتُ هَذِهِ الْآجَالُ فِي الصَّدَاقِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اشْتِرَاطَ هَذِهِ الْآجَالِ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَيَبْقَى هَذَا أَجَلًا فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَقْدِ وَالْمَهْرِ تُحْتَمَلُ جَهَالَةُ الصِّفَةِ فَجَهَالَةُ الْأَجَلِ أَوْلَى وَمَنْ يَقُولُ لَا يَثْبُتُ تَحَوُّلُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ الْمَرْأَةُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْكَفَالَةُ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى الرِّزْقِ أَوْ إلَى صَوْمِ النَّصَارَى أَوْ فِطْرِهِمْ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ بِأَجَلٍ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَلَوْ قَالَ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْمَكْفُولُ بِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّ قُدُومَ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ سَفَرِهِ مُنْتَشِرٌ لِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى خَصْمِهِ وَالتَّأْجِيلُ إلَى أَنْ يَنْتَشِرَ التَّسْلِيمُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ غَيْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْتَشِرٍ لِتَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَهُ؛ فَيَكُونَ تَعْلِيقًا لِلْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ كَلَامِ زَيْدٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا بَاطِلٌ أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَصَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَفَلَ بِهِ إلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ أَوْ إلَى أَنْ يَمَسَّ السَّمَاءَ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ وَالْأَجَلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْ الْآجَالِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ بِذِكْرِ الزَّمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ هُبُوبُ الرِّيحِ وَإِمْطَارُ السَّمَاءِ بِالْكَفَالَةِ فَيَبْقَى شَرْطًا فَاسِدًا فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْكَفَالَةُ فَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ فَذِكْرُ زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا بِالْعِلْمِ إذْ زَمَانُ الدِّيَاسِ لَيْسَ زَمَانَ الْحَصَادِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْجِيلِ وَلَوْ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ هَذَا إلَى قُدُومِ فُلَانٍ وَذَلِكَ مَعَهُ فِي الدَّيْنِ عَلَيْهِمَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هَذَا الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قُدُومِهِ لِيَنْتَشِرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ يُمَكِّنُ الطَّالِبَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ شَرَطَ قُدُومَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ سَوَاءً وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِقَوْمٍ: اشْهَدُوا أَنِّي كَفِيلٌ لِفُلَانٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَالطَّالِبُ غَائِبٌ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إنْشَاءَ الْكَفَالَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَسَوَاءٌ أَجَازَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ حِينَ حَضَرَ: قَدْ كُنْت كَفَلْت لِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَا حَاضِرٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ إقْرَارًا مِنْك بِالْكَفَالَةِ وَقَالَ الْكَفِيلُ: أَنْشَأْت الْكَفَالَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَمْ يَصِحَّ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ لِأَنَّ صِيغَةَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ وَلِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ يَصِحَّ.
وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ؛ يُحْمَلُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوثَقْ بِهِ غَدًا فَهُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ آخَرَ وَلِلطَّالِبِ قِبَلَهُ حَقٌّ فَذَلِكَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يُوَافِ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهِ الثَّانِي وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- الْآخَرُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ- وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ وَبِنَفْسِ الثَّانِي بَاطِلَةٌ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ بَعْدَ هَذَا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ.
وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالشَّرْطِ وَتَعْلِيقُهَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ أَنْ لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ لِكَوْنِهَا مُخَاطَرَةً وَكُنَّا اسْتَحْسَنَّا لِلتَّعَامُلِ الْجَارِي بَيْنَ التُّجَّارِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ سَبَبًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ عَمْرٍو فَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْكَفَالَةِ بِنَفْسِ زَيْدٍ فَلَا اتِّصَالَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ هُنَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَطَرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- قَالَا: تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِخَطَرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَكَ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَتَيْنِ حَصَلَتَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَ فِي تَصْحِيحِ الثَّانِيَةِ تَأْكِيدٌ يُوجِبُ الْأُولَى لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْمُوَافَاةُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ جَدَّ فِي طَلَبِهِ لِيُوَافِيَ بِهِ حَتَّى يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ الْتِزَامِ الْكَفَالَةِ الثَّانِيَةِ وَلَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ كَانَ جَائِزًا بِدَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ الْكَفِيلُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ فَيَبْرَأُ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا ثَبَتَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ الْكَفِيلُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ أَحَدِهِمَا إلَى الطَّالِبِ لِإِقْحَامِهِ حَرْفَ أَوْ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ الْخِيَارُ فِي بَيَانِ مَا الْتَزَمَهُ إلَيْهِ وَأَيَّهُمَا سَلَّمَ فَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ مَالٌ فَاكْفُلْ لَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت ثُمَّ بَلَغَ الطَّالِبُ فَقَالَ أَجَزْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَرَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ وَكِيلَ الطَّالِبِ كَانَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا تَوَقَّفَتْ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَ صَارَ مُلْتَزِمًا وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْكَفَالَةِ قَبْلَ قُدُومِ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ اللُّزُومَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الطَّالِبِ وَلِلْعَاقِدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبِ أَنْ يُبْطِلَ هَذِهِ الْكَفَالَةَ قَبْلَ إجَازَةِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَإِنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخَاطَبِ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ لُزُومِ الْعُهْدَةِ إذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ فُلَانٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَخَذَ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ كَفَلَ لِلْوَكِيلِ؛ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَكْفُلُ لِي وَالْتِزَامُ الْكَفِيلِ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ إلَيْهِ؛ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ كَفَلَ بِهِ لِلْمُوَكِّلِ أَخَذَهُ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ رَسُولًا مِنْ جِهَتِهِ وَالْكَفِيلُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَإِنْ دَفَعَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إلَى الْمُوَكِّلِ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي: فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: فَالْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ وَفَّى الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَهُوَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ وَأَرَادَ يَمِينَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُهُ لَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ؛ يُقَامُ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَخَذَ بِهِ فَاسْتَعْدَى؛ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ أَنْ يَحْضُرَ فَيُبَرِّئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مُقِرًّا بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ أُمِرَ بِأَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ مِنْهَا وَلَا طَرِيقَ لِلْإِخْرَاجِ سِوَى أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ لِيُسَلِّمَهُ فَإِنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ نَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ: كَفَلَ لِي وَلَمْ آمُرْهُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْحُضُورِ مَعَهُ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهَذَا الِالْتِزَامِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ فَيَقْتَصِرَ وَبَالُ مَا الْتَزَمَهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَحِينَئِذٍ: الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَيُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ مَعَهُ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَمَاتَ الطَّالِبُ فَلِوَصِيِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي حُقُوقِهِ وَكَمَا يُطَالِبُ الْوَصِيُّ الْمَطْلُوبَ بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي فَكَذَلِكَ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ؛ أَخَذَهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ، يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي حُقُوقِهِ وَأَيُّ الْوَرَثَةِ أَخَذَهُ بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ حَتَّى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ شُرَكَائِهِ فِي حُقُوقِهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَقْبِضُ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَّا مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمَالِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ نَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَلَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ فَدَفَعَهُ الْوَكِيلُ إلَى غُرَمَائِهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ وَالْوَرَثَةُ كَالْأَجَانِبِ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ.
وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ وَقَدْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِالثُّلُثِ فَدَفَعَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الْغُرَمَاءِ أَوْ إلَى الْمُوصِي لَهُ؛ يَبْرَأُ إلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَيِّتِ لِلْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ حَتَّى يُوَصِّلَ إلَى كُلِّ مُسْتَحِقٍّ حَقَّهُ فَأَمَّا الْمُوصِي لَهُ وَالْوَرَثَةُ فَحَقُّهُمْ مُؤَخَّرٌ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْخِلَافَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِدَفْعِهِ إلَى الْوَصِيِّ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا دَفَعَهُ إلَى الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا.
قِيلَ: يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لَا يَعْدُوهُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَلَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغُرَمَاءِ حَقُّهُمْ فَإِذَا أَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ وَالْوَصِيَّةَ؛ جَازَ الدَّفْعُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَبَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ قِيَامُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ وَالْغَرِيمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَبَقِيَ الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ فَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ بِنَفْسِ رَجُلٍ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا بَرِئَ مِنْ كَفَالَةِ هَذَا وَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِمَا، وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْآخَرِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَلَا يَبْرَأُ عَنْ حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّ فِي حَقِّ مَنْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ بِهَذَا التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ خُصُومَتِهِ وَإِثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ: وَصِيَّانِ لِمَيِّتٍ كَفَلَا رَجُلًا بِنَفْسِهِ، لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَدَفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى أَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ بَرِئَ مِنْهُ وَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي صَفْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْخُصُومَةِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَلِهَذَا بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.