فصل: كِتَابُ الْقِسْمَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْقِسْمَةِ:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: إمْلَاءُ الْقِسْمَةِ مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ فِي الْمَحَلِّ الْمُحْتَمَلِ لَهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ وَجَوَازُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَمَّا الْكِتَاب فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وَالسُّنَّةُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ «قِسْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ» وَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالنَّاسُ يُعَامَلُونَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُنْتَفِعٌ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَالطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَيْ يَخُصُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعُ الْغَيْرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ.
وَفِي الْقِسْمَةِ شَيْئَانِ: الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَتَمْيِيزُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَهِيَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَمْيِيزٌ مَحْضٌ وَهُوَ الْقِسْمَةُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ حَتَّى أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ كَانَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَبَعْدَ مَا اقْتَسَمَا نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيَّنَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ وَلِهَذَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ وَنَوْعٌ هُوَ تَمْيِيزٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَالْقِسْمَةِ فِيمَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانَاتِ فَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَتَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ؛ وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْقَاضِي عَلَيْهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ وَفِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَصِفُهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَنِصْفُهُ عِوَضٌ عَمَّا أَخَذَهُ صَاحِبُهُ مِنْ نَصِيبِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ يُسَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَسَّمَ جِبْرِيلُ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ ثَمَانِيَة عَشَرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا فِيهَا أَرْزَاقُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَوَائِبُهُ» وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ سِتَّةَ حُصُونٍ الشَّقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَيْبَةَ وَالسَّلَالِمَ وَالْغُمُوضَ وَالْوَطِيحَةَ إلَّا أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْمَزَارِعَ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ حُصُونٍ مِنْهَا: النَّسَقِ وَالنَّطَاةِ وَالْكَيْبَةِ وَقَدْ افْتَتَحَ بَعْضَ الْحُصُونِ مِنْهَا عَنْوَةً وَقَهْرًا وَبَعْضَهَا صُلْحًا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحَقِيقِ مَعَ قَوْمِهِ صَالَحَ عَلَى النُّزُولِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْمَغَازِي فَمَا افْتَتَحَ مِنْهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصًا؛ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا خَرَجُوا؛ لِمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الرُّعْبِ وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ}.
إلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} «فَجَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحِصَّةَ مَعَ الْخُمْسِ فِي الشَّطْرِ وَقَسَّمَ الشَّطْرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ» وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا جَمِيعًا وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ مِائَةٍ رَجُلٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ عُبَيْدُ السُّهَا عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِائَةٍ وَكَانَ الْقَاسِمُ فِي النَّسَقِ وَالنَّطَاةِ وَكَانَتْ النَّسَقُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَالنَّطَاةُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ فِيهَا خُمْسُ اللَّهِ وَطَعَامُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَطَايَاهُ وَكَانَ أَوَّلُ سَهْمٍ خَرَجَ مِنْ النَّسَقِ سَهْمَ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الشَّطْرَيْنِ وَأَنَّ أَصْلَ الْقِسْمَةِ كَانَتْ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ذَكَرَ مِقْدَارَ مَا قَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ أَنَّهُ قَسَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فِي الْمَغَانِمِ قِسْمَيْنِ عَلَى الْعُرَفَاءِ وَأَصْحَابِ الرَّايَاتِ وَقِسْمَةً أُخْرَى عَلَى الرُّءُوسِ الَّذِينَ هُمْ تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْسَرُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَسَّمَ ابْتِدَاءً عَلَى الرُّءُوسِ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ، ثُمَّ «لَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ نَفْسِهِ سَهْمًا وَلَكِنْ كَانَ سَهْمُهُ مَعَ سَهْمِ ابْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» فَقِيلَ إنَّهُ تَوَاضَعَ بِذَلِكَ وَقِيلَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُسَاوِي اسْمَهُ اسْمٌ فِي الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ؛ وَلِهَذَا خَرَجَ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ فِيهِ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الْعَرَافَةَ مَذْمُومَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُتَحَرَّزُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الْجِهَادِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ الْعَرَافَةَ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ اخْتَارَ لِذَلِكَ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي أَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ ضِعْفُ سَهْمِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ أَرْبَعَمِائَةِ فَرَسٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الرِّجَالِ سَهْمٌ وَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الرِّجَالِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ مِائَةٍ مِنْ الْخَيْلِ سَهْمَانِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الرَّجَّالَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْلِ الْفُرْسَانُ يُقَالُ: غَارَتْ الْخَيْلُ قَالَ اللَّهُ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِكَ}.
أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك فَهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَأَنَّهُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ فَقَدْ «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ مَعَ نَهْيِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِمَارِ» فَدَلَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لَيْسَ مِنْ الْقِمَارِ وَذُكِرَ عَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ الْقَضَاءِ رِزْقًا فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَكَانَ صَاحِبَ يَسَارٍ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ وَلَا يَأْخُذَ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَذَ جَازَ لَهُ وَبَيَانُهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَجْرًا وَلَا الَّذِي عَلَى الْغَنَائِمِ وَلَا الَّذِي عَلَى الْمَقَاسِمِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَجْرِ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ شُرِطَ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ الْكَفَالَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ أَنْ لَا يَأْخُذَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي وَاَلَّذِي عَلَى الْغَنَائِمِ يَحْفَظُهَا وَاَلَّذِي عَلَى الْمَقَاسِم مَنْ وُجِدَ كَالْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ فَاسْتِئْجَارُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَزَّارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى كَانَ يَقْسِمُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرَ وَقَدْ بَيَّنَّا فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِعَمَلِ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ عَمَلِ الْقَضَاءِ وَعَنْ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ فَأَتَى بِرِكَازٍ مِنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْخُمْسَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ وَأَتَاهُ ثَلَاثَةٌ يَدَّعُونَ غُلَامًا كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: ابْنِي فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَقَضَى بِالْغُلَامِ لِلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ لِصَاحِبَيْهِ قَالَ الرَّاوِي فَقُلْت لِعَامِرٍ: هَلْ رُفِعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، أَمَّا حُكْمُ الْخُمْسِ فِي الرِّكَازِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا حُكْمُ الْقُرْعَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الْقُرْعَةِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ بَعْدَ حُرْمَةِ الْقِمَارِ أَمْ قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضِيَ بِهِ أَوْ لَمْ يَرْضَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَعَلَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِحُجَّةٍ أَقَامَهَا وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْقُرْعَةَ لِيُطَيِّبَ الْقُلُوبَ وَإِنَّمَا رَجَّحَهُ فِي الْقَضَاءِ لِتَرْجِيحٍ فِي حُجَّتِهِ مِنْ يَدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: فَقَضَى لِلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ لَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ كَانَ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يُقَالُ قَضَى الْقَاضِي لِصَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ وَمَا ذُكِرَ فِي آخِرِهِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ لِصَاحِبَيْهِ مُشْكِلٌ لَا يَتَّضِحُ فَالْحَيُّ الْحُرُّ لَا يَتَقَوَّمُ بِالدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ مَمْلُوكًا لَهُمْ أَوْ مِنْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمْ فَإِقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ابْنُهُ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ نَصِيبِهِ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي التَّضْمِينِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْكَلَ عَلَى السَّائِلِ حَيْثُ قَالَ: هَلْ رَفَعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ فَإِنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ يَجْمَعُ بَدَلَ النَّفْسِ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ حِصَّةُ الَّذِي قَرَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ بِحِصَّتِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ كَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ إذَا قَبِلَهُ إلَّا أَنَّ عَامِرًا لَمْ يُحَارَفْ أَلَمْ يَرُدَّ مَا سَمِعَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّفْ لِذَلِكَ لِعِلْمِهِ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مَأْخُوذٍ بِهِ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فِي النَّسَبِ وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ: خَاصَمْت أَخِي إلَى الشَّعْبِيِّ فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ أُرِيدُ قِسْمَتَهَا وَيَأْبَى ذَلِكَ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ كَانَتْ مِثْلَ هَذِهِ فَخَطَّ بِيَدِهِ مِقْدَارَ آجُرَّةٍ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ فَقَالَ: وَخَطَّهَا عَلَى أَرْبَعِ قِطَعٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُقَسِّم الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي طَلَبَ الْقِسْمَةَ مُتَظَلِّمٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَشْفَعُ بِمِلْكِهِ وَلَا يُنْصِفُهُ فِي الِانْتِفَاعِ وَاَلَّذِي يَتَعَنَّتُ وَإِنَّمَا يَبْنِي الْقَاضِي قَضَاءَهُ عَلَى الْتِمَاسِ الْمُتَظَلِّمِ الطَّالِبِ لِلْإِنْصَافِ دُونَ الْمُتَعَنِّتِ؛ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْقِسْمَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ هُنَا مُتَعَنِّتٌ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَبِالْقِسْمَةِ تَنْقَطِعُ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي مِقْدَارِ آجَرَّةٍ خَطَّهَا عَلَى الْأَرْضِ قَسَمْتهَا بَيْنَكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ دُونَ التَّحْقِيقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي دَارِ الَّذِي يَأْتِي الْقِسْمَةَ مِنْهُمَا فِيمَا يَحْتَمِلُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْآجُرَّةِ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَالْمَسْجِدُ لَا يَكُونُ كَمَفْحَصِ الْقَطَاةِ وَإِنَّمَا قَالَ: ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أُجْرَةُ الْقَسَّامِ إذَا اسْتَأْجَرَهُ الشُّرَكَاءُ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَنْصِبَاءِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى مِقْدَارِ الْأَنْصِبَاءِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَاسِمُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ تَلْحَقُ الشُّرَكَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ النَّفَقَةِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالنَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ إنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَمَنْفَعَةُ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَبِيرِ أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَوْ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ، ثُمَّ الْغُنْمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ يَعْنِي الثِّمَارَ وَالْأَوْلَادَ، فَكَذَلِكَ الْغُرْمُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَمَلَهُ لَهُمْ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ كَمَا إذَا اسْتَوَتْ الْأَنْصِبَاءُ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَسَّامَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْمِسَاحَةِ وَمَدِّ الْأَطْنَابِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْحُدُودِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الْمِلْكِ اسْتَوْجَبَ كَمَالَ الْأَجْرِ إذَا قَسَّمَ بِنَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ تَمْيِيزُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَكَمَا يَتَمَيَّزُ نَصِيبُ صَاحِبِ الْكَبِيرِ بِعَمَلِهِ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ يَتَمَيَّزُ نَصِيبُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَبِيرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَكْبَرَ وَالْحِسَابُ لَا يَدِقُّ إذَا اسْتَوَتْ الْأَنْصِبَاءُ وَإِنَّمَا يَدِقُّ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْأَنْصِبَاءِ وَتَزْدَادُ دِقَّتُهُ بِقِلَّةِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ فَلَعَلَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَسْوَأُ مِنْ تَمْيِيزِ نَصِيبِ الْكَبِيرِ وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَصَلَ بِعَمَلٍ وَاحِدٍ وَهُمَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الزَّوَائِدِ فَإِنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْمِلْكِ فَإِنَّمَا تَتَوَلَّدُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَبِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَحَاجَةُ الْكَبِيرِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّ مَنْفَعَةَ صَاحِبِ الْكَثِيرِ هُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ نَصِيبِهِ لَا لِلْعَمَلِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ بِهِ فَأَمَّا أَجْرُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَإِنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يُقْسَمُ بِذَلِكَ وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَّامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ هُنَا: إنَّمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ وَعَمَلُهُ فِي ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ وَعَمَلُهُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ أَنَّ كَيْلَ مِائَةِ قَفِيزٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْقَسَّامِ فَذَكَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ لِقَاسِمِ الْأَرْضِينَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ رِزْقًا لَهُ فَقَسَمَ بِالْأَجْرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ كَعَمَلِ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ فَرْضٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْقَسَّامُ نَائِبٌ عَنْ الْقَاضِي فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كِفَايَتَهُ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ عَمَلَهُ لَيْسَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي شَيْءٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَسَّامُ بِمَنْزِلَةِ الْكَاتِبِ لِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَالِي لَا أَرْتَزِقُ أَسْتَوْفِي مِنْهُمْ وَأُوفِيهِمْ أَصْبِرُ لَهُمْ نَفْسِي فِي الْمَجْلِسِ وَأَعْدِلُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْزُقُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى الْقَضَاءِ فَزَادَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ حَتَّى جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَعَلَّ عَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ عَلَى أَخْذِ الْأَجْرِ، وَقَالَ لَهُ احْتَسِبْ فَقَالَ شُرَيْحٌ فِي جَوَابِهِ مَا قَالَ وَمُرَادُهُ إنِّي فَرَّغْت نَفْسِي عَنْ أَشْغَالِي لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَآخُذُ كِفَايَتِي مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَأَنَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَشَارَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النَّصِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الْفُقَرَاءِ اسْتَحَقُّوا الْكِفَايَةَ فِي مَالِ الْفُقَرَاءِ وَذَكَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَافَرَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَصَابَتْنِي الْقُرْعَةُ فِي السَّفَرَةِ الَّتِي أَصَابَنِي فِيهَا مَا أَصَابَنِي تُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ الْإِفْكِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقَسْمِ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَأَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَكِنَّهُ «كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ» فَاسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قُلْنَا: إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فَلَهُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ لِإِبْدَائِهِ بِالْقَسْمِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَسَّامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ الْقُرْعَةَ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ قَاسِمُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ؛ فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَالْقِمَارُ حَرَامٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ عُلَمَاؤُنَا اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ وَتَعْيِينِ الْعِتْقِ، ثُمَّ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي كَانَ بِعِبَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رِجْسٌ وَفِسْقٌ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا بِالسُّنَّةِ وَالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ فِيهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، ثُمَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَفِي الْقِمَارِ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ، ثُمَّ الْقَاسِمُ لَوْ قَالَ: عَدَلْت أَنَا فِي الْقِسْمَةِ فَخُذْ أَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ وَأَنْتَ هَذَا الْجَانِب كَانَ مُسْتَقِيمًا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ لِتَطْبِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}.
وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَاسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ إلَى نَفْسِهِ وَقَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي يُقَسِّمُ بِالْقُرْعَةِ أَوْ نَائِبُهُ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ كَمَا لَا يَلْتَفِتُ إلَى إبَاءِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاسِمُ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا خَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ هُنَا يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ بَيْنَهُمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وَبِخُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ لَا يَتِمُّ فَكَانَ هَذَا كَالرُّجُوعِ عَنْ الْإِيجَابِ قَبْلَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا خَرَجَ جَمِيعُ السِّهَامِ إلَّا وَاحِدًا فَقَدْ تَمَّتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ تَعَيَّنَ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ.
دَارٌ بَيْنَ وَرَثَةٍ اقْتَسَمُوهَا وَفَضَّلُوا بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَعَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْمُسَاوَاةِ فِي الزَّرْعِ وَالْبِنَاءُ يَكُونُ فِي جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ وَبَعْضُ الْعَرْصَةِ تَكُونُ أَفْضَلَ قِيمَةً مِنْ الْبَعْضِ وَأَكْثَرَ مَنْفَعَةً فَإِنَّ مُقَدِّمَ الدَّارِ يُرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يُرْغَبُ فِي مُؤَخَّرِهِ وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَفْضِيلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْمِسَاحَةِ، وَإِنْ اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ مِسَاحَةً وَالْبِنَاءُ وَالْقِيمَةَ قِيمَةً بِقِيمَةِ عَدْلٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ التَّرَاضِي لَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ فِي الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ الْمِسَاحَةِ تَتَّسِرُ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْبِنَاءِ؛ لِمَا بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ مِنْ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ فِي الْقِيمَةِ فَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالتَّقْوِيمِ تَكُونُ أَعْدَلَ وَإِذَا جَازَ قِسْمَةُ الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَقِسْمَةُ الْبَعْضِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ حِينَ اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ غَيْرَ مَعْرُوفِ الْقِسْمَةِ فَهَذَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَرْضَ تَتَنَاوَلُهُمَا قِسْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِذَا لَمْ تُعْرَفْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْقِسْمَةِ فِي الْبِنَاءِ لِلْجَهَالَةِ فَلَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَجَوَّزْنَا هَذَا لِمَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ مَيَّزُوا الْبِنَاءَ عَنْ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ حِينَ خَالَفُوا بَيْنَهُمَا فِي طَرِيقِ الْقِسْمَةِ فَاعْتَبَرُوا فِي الْأَرْضِ الْمُعَادَلَةَ فِي الْمِسَاحَةِ وَفِي الْبِنَاءِ الْمُعَادَلَةَ فِي الْقِيمَةِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَرْضَيْنِ يَقْسِمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِسْمَةً عَلَى حِدَةٍ وَفِي ذَلِكَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ فِي أَحَدَيْهِمَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمِسَاحَةِ فِي الْأُخْرَى، فَكَذَلِكَ هُنَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ (وَالثَّانِي) أَنَّ حُكْمَ الْقِسْمَةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَتِمُّ بِالْمِسَاحَةِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ تَمَامُ الْقِسْمَةِ فِيهَا عَلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقِسْمَتُهَا بِالْقِيمَةِ لَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْكُلِّ وَمَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُ تَمَامِ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ يَتِمُّ فِي الْمَعْلُومِ لَمْ تَضُرَّهُمْ الْجَهَالَةُ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الثِّيَابِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُسَمِّي لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا بَيْنَ قَوْمٍ حُضُورٍ كِبَارٍ تَصَادَقُوا عِنْدَ الْقَاضِي عَلَيْهَا وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ بِهَا فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مِنْهُمْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهمْ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ وَلَوْ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ، وَإِنْ سَأَلُوا الْقَاضِيَ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ الْقَاضِي لَا يُقْسِمُ الْعَقَارَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ وَقَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا لَهُمْ وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَقَوْلُهُ: مَقْبُولٌ فِيهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ يُنَازِعُهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ مِلْكِهِمْ فِيهَا وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إنَّمَا سَأَلُوا الْقَاضِيَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ مِلْكَهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ زَعَمُوا أَنَّ الدَّارَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا مِيرَاثًا وَلَا غَيْرَهُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ قَسَّمَهُمْ الْقَاضِي بِطَلَبِهِمْ وَأُشْهِدُوا أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ نَظَرًا مِنْهُ لِغَائِبٍ عَسَى يَحْضُرُ فَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِيهَا حَقًّا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهمْ عُرُوضٌ أَوْ مَنْقُولٌ سِوَى الْعَقَارِ فَأَقَرُّوا أَنَّهَا مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَطَلَبُوا قِسْمَتَهَا قَسَّمَهَا الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِمْ وَأَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ لِاعْتِبَارِ يَدِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَنْقُولِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ فَأَقَرُّوا أَنَّهَا دَارُهُمْ اشْتَرَوْهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَسَأَلُوا الْقَاضِيَ قِسْمَتَهَا أَجَابَهُمْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَقَرُّوا بِأَصْلِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ مَشْرُوعٍ فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْقِسْمَةَ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي هُنَا يَتَنَاوَلُ الْمَيِّتَ وَيَصِيرُ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِقِسْمَةِ الْقَاضِي وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَثْبُتَ بِهَا حُجَّةُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْدُثُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ وَيُنَفِّذَ وَصَايَاهُ وَبِالْقِسْمَةِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْ التَّرِكَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ حَقُّهُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوَائِدِ فَكَانَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ يَقْطَعُ حَقَّهُ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْقَاضِيَ يَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي تَرِكَتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمَيِّتِ فَبِمَ يُخْبِرُونَ الْقَاضِيَ بِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَلْزَمَ الْمَيِّتَ قَضَاؤُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ وَرَاءَ مَا فِي أَيْدِيهمْ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةً فَيُكَلِّفُهُمْ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ وَتُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَاضِي فِي حَقِّ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَا يُلْزِمُ الْمَيِّتَ شَيْئًا وَبِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ هُنَاكَ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْعُرُوضَ يُخْشَى عَلَيْهَا النَّوَى وَالتَّلَفُ وَفِي الْقِسْمَةِ تَحْصِينٌ وَحِفْظًا لَهَا فَأَمَّا الْعَقَارُ مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا لَا يُخْشَى عَلَيْهَا التَّلَفُ فَفِي الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الْمَيِّتِ يَقْطَعُ حَقَّهُ عَنْهَا (وَالثَّانِي) أَنَّ فِي الْعُرُوضِ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ أَثْبَتَ يَدَهُ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا زَعَمُوا أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْقِسْمَةِ هُنَاكَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِمْ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَسَوَّى؛ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْمِيرَاثِ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ نُسَلِّمُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ قَضَاؤُهُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمُشْتَرَى لَا يَتَضَمَّنُ قَطْعَ حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْقَاضِي الْوِلَايَةُ عَلَى الْغَائِبِ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ فَهُمْ مَا أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْبَائِعِ الْغَائِبِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَوْتِهِ أَحْكَامٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ وُقُوعِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرَاتِهِ وَحُلُولِ آجَالِهِ.
وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِالْقِسْمَةِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ عَلَى الْمَوْتِ وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ فَالْقِسْمَةُ فِيهَا لِلتَّحْصِينِ لَا لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْعُرُوضِ تُجْرَى بَيْنَ الْمُوَدِّعِينَ لِلْحِفْظِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْقَضَاءَ بِمَوْتِهِ فَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْقِسْمَةُ لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَأْخُذُ فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ بِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْقِسْمَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِالْبَيْعِ وَزَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْبَيْعِ هُنَاكَ مَقْصُودٌ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهمْ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نَائِبًا فِي حَقِّهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ غَائِبٌ وَالدَّارُ فِي أَيْدِي الْكِبَارِ الْحُضُورِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْسِمُهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أُصُولِ الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَقْسِمْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ الْوَرَثَةَ كُلَّهُمْ كِبَارٌ حُضُورٌ فَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْسِمَ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِقَوْلِهِمْ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْزِلُ حَقَّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَيُشْهِدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِإِقْرَارِ الْحُضُورِ الْكِبَارِ وَأَنَّ الْغَائِبَ وَالصَّغِيرَ عَلَى حُجَّتِهِمَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا فِي يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِمَا بَلْ فِيهَا نَظَرٌ لَهُمَا بِظُهُورِ نَصِيبِهِمَا مِمَّا فِي يَدِ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّهُ بِالْقِسْمَةِ يَعْزِلُ نَصِيبَ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَكَانَ هَذَا مَحْضُ نَظَرٍ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ وَلِلْقَاضِي هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعَقَارِ فِي يَدِ الصَّغِيرِ أَوْ الْغَائِبِ لَمْ أُقَسِّمْهَا بِإِقْرَارِ الْحُضُورِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْكَبِيرُ أَوْدَعَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهَا رَجُلًا حِينَ غَابَ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينٌ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِحُضُورِ أَمِينِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْسِمُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ قَبِلَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْقَاضِي فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي الْمِيرَاثِ فَيَنْتَصِبُونَ خَصْمًا عَنْهُ وَيُنَصِّبُ بَعْضُهُمْ خَصْمًا عَنْ بَعْضٍ فَقَلَّ مَا تَخْلُو تَرِكَةٌ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُونَ وَقَلَّ مَا يَحْضُرُونَ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَقْسِمْهَا لِمَكَانٍ غَائِبٍ أَوْ صَغِيرٍ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ الْقَاضِيَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْعَقَارُ فِي أَيْدِيهمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ وَيُوَكِّلُ بِنَصِيبِ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ مَنْ يَحْفَظُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ أَحَدَ الْحَاضِرِينَ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ وَالْآخَرَ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا بِحُضُورِ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْحَاضِرُ وَاحِدًا لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ خَصْمٌ فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَوْ كَانَ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ هُنَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْهُمَا فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْحَاضِرَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَظَلِّمٍ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ وَلَا طَالِبٌ لِلْإِنْصَافِ إذْ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ حَتَّى يَقُولَ لِلْقَاضِي أَقْسِمْهَا بَيْنَنَا لِكَيْ لَا يَنْتَفِعَ بِمِلْكِي غَيْرِي فَإِذَا حَضَرَ اثْنَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ لِيَسْأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ خَصْمٌ صَغِيرٌ جَعَلَ لَهُ الْقَاضِي وَصِيًّا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ فِي نَصِيبِ الْوَصِيِّ وَوَصِيُّ الصَّغِيرِ قَائِمٌ مَقَامَ الصَّغِيرِ فَكَأَنَّهُ بَالِغٌ حَاضِرٌ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ حِينَئِذٍ وَيَأْمُرُ بِالْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا مُدَّعِيًا وَالْآخَرَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَأَحَدَهُمَا خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ شِرَاءً بَيْنَهُمْ وَمِنْهُمْ غَائِبٌ لَمْ أَقْسِمْهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ فِي الْمِيرَاثِ إنَّمَا قَسَّمَهَا عِنْدَ حُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ لِتَعَذُّرِ اشْتِرَاطِ حُضُورِهِمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الشِّرَاءِ فَقَدْ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَيَسَّرَ اشْتِرَاطُ حُضُورِهِمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا وَلِأَنَّ الْحَاضِرَ مِنْ الْمَسِيرَيْنِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ بِالشِّرَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ لَا يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لِلْمُورَثِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ الْمُورَثِ وَيَصِحُّ إقَالَتُهُمْ مَعَهُ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ الْخِلَافَةُ عَنْ الْمَيِّتِ.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا وَفِيهَا وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ وَبَعْضُهُمْ شَاهِدٌ فَأَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الدَّارَ تُقْسَمُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَإِذَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ قُسِّمَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ بَيْتًا فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ وَهُوَ صَغِيرٌ لَا يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِنَصِيبِهِ إذَا قَسَّمَ لَمْ يُقَسِّمْهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا مُتَعَنِّتٌ فَإِنْ قَبِلَ الْقِسْمَةَ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَبِالْقِسْمَةِ يَفُوتُ ذَلِكَ فَالطَّالِبُ مِنْهُمَا إنَّمَا يَقْصِدُ التَّعَنُّتَ وَالْإِضْرَارَ بِشَرِيكِهِ فَلَا يُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْسِمُ الْحَائِطَ وَالْحَمَّامَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرًا وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ اتِّصَالُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَفِي الْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَقْسِمُهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ؛ لِمَا لَا يُفِيدُهُ وَلَا بِمَا فِيهِ إضْرَارٌ وَلَوْ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقْدَمُوا عَلَى إتْلَافِ الْمِلْكِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَرَاضَوْا الْقِسْمَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا بَعْضٌ قَلِيلٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِّمَ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عِنْدَنَا (وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْسِمُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَائِرُ الشُّرَكَاءِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَنْصِبَائِهِمْ إلَّا هَذَا الْوَاحِدُ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْقَلِيلِ لَمْ يَقْسِمْهَا إذَا كَانَ هُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْسِمُهَا عِنْدَ إبَاءِ بَعْضِهِمْ إلَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ تَحْصِيلُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهَذِهِ قِسْمَةٌ تَقَعُ عَلَى ضَرَرٍ وَالْقَاضِي لَا يُجْبِرُ الشُّرَكَاءَ عَلَى مِثْلِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَلَنَا أَنَّ الطَّالِبَ لِلْقِسْمَةِ يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِنْ الْقَاضِي وَلَا يَتَعَنَّتُ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَهَذَا مِنْهُ طَلَبٌ لِلْإِنْصَافِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَب الْقِسْمَةِ وَالْقَاضِي يُجِيبُ الْمُتَعَنِّتَ بِالرَّدِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَلِيلِ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَبِيرِ فَيَصِيرُ هَذَا فِي حَقِّهِ وَمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ سَوَاءً وَالْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ (قَالَ:) إذَا كَانَ الضَّرَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قَسَمْتهَا أَيُّهُمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْسِمُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَبِيرِ خَاصَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ رَضِيَ بِالضَّرَرِ حِينَ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَصَاحِبُ الْكَبِيرِ مُنْتَفِعٌ بِالْقِسْمَةِ فَيَقْسِمُهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ لِهَذَا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ لَا يُلْزِمُ الْقَاضِي شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمُلْزَمُ طَلَبُهُ الْإِنْصَافَ مِنْ الْقَاضِي وَاتِّصَالُهُ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا جَمِيعًا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْمَقْصُودُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا وَرَفَعَا بَيْنَهُمَا طَرِيقًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَسَمَا بَعْضَ الْمُشْتَرَكِ وَبَقِيَا شَرِكَتَهُمَا فِي الْبَعْضِ وَهُوَ مَوْضِعُ الطَّرِيقِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَصِيبِهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا رَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا وَمَا يَرْجِعُ إلَى تَتْمِيمِ الْمَقْصُودِ بِالْقِسْمَةِ لَا يَكُونُ مَانِعًا صِحَّتَهَا، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَيَذْكُرَ كَيْفَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي مَوْضِعِ الطَّرِيقِ مَا كَانَ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَقَدْ كَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِيهَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّوَثُّقُ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يُبَيِّنَا فَرُبَّمَا يَدَّعِي صَاحِبُ الْأَقَلِّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَيُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُسَاوٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ بِالتَّطَرُّقِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ الْكِتَابَ بَيْنَهُمَا لِلتَّوَثُّقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى التَّوَثُّقِ لَهُمَا.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَفِيهَا صُفَّةٌ فِيهَا بَيْتٌ وَبَابُ الْبَيْتِ فِي الصِّفَةِ وَمَسِيلُ مَاءِ ظَهْرِ الْبَيْتِ عَلَى ظَهْرِ الصِّفَةِ فَاقْتَسَمَا فَأَصَابَ الصِّفَةَ أَحَدُهُمَا وَقَطَعَهُ مِنْ السَّاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقًا وَلَا مَسِيلَ مَاءٍ وَصَاحِبُ الْبَيْتِ يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ السَّاحَةِ وَيُسِيلُ مَاءَهُ فِي ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي الصِّفَةِ عَلَى حَالِهِ وَيُسَيَّلَ مَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ اشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ مَا أَصَابَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ وَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ الْبَيْتَ وَذَكَرَ فِي الْبَيْعِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ دَخَلَ الطَّرِيقُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ إيجَابُ الْمِلْكِ وَقَصْدُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنْ الْمَحْدُودِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لِلْبَيْتِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ وَأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ لِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ مَعَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِدُخُولِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فِي الْبَيْعِ فَعِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ عَرَفْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ الْمَقْصُودُ التَّمَيُّزُ دُونَ الِاسْتِرْبَاحِ فَبِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا التَّمْيِيزَ فِي أَنْ لَا يَبْقَى لِأَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ طَرِيقُ مَسِيلِ مَاءٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُفْتَتَحٌ لِلطَّرِيقِ وَلَا مَسِيلُ مَاءٍ؛ فَإِذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَصَابَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ جَازَتْ الْقِسْمَةُ وَكَانَ طَرِيقُهُ فِي الصِّفَةِ وَمَسِيلِ مَائِهِ عَلَى طَرِيقِ سَطْحِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتِمُّ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ لِعَدَمِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لَهُ كَمَنْ اشْتَرَى مُهْرًا صَغِيرًا أَوْ أَرْضًا سَبْخَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمُشْتَرَى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِيَدْخُلَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ لَهُ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ الْمَقْصُودَةِ اتِّصَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُفْتَتَحًا إلَى الطَّرِيقِ وَلَا مَسِيلَ مَاءٍ فَهَذِهِ قِسْمَةٌ وَقَعَتْ عَلَى ضَرَرٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا إدْخَالَ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ لِتَصْحِيحِ الْقِسْمَةِ لِعِلْمِهَا أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ وَلَا مَسِيلُ مَاءٍ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مُهْرًا صَغِيرًا أَوْ أَرْضًا سَبِخَةً لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يَجُزْ لِفَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِتَصْحِيحِ الْقِسْمَةِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا دَخَلَ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ قُلْنَا هُنَاكَ مَوْضِعُ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ لَيْسَ مِمَّا تَتَنَاوَلُهُ الْإِجَارَةُ وَلَكِنْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَالْأَجِيرُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأُجْرَةَ إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَفِي إدْخَالِ الشُّرْبِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا هُنَا مَوْضِعُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ وَمُوجَبُ الْقِسْمَةِ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا لِأَحَدِهِمَا حَقًّا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَضَرَّرَ بِهِ الْآخَرُ وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ بِدُونِ رِضَاهُ وَإِنَّمَا دَلِيلٌ الرِّضَا اشْتِرَاطُهُ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ؛ فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ بِدُونِ ذِكْرِهِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ وَلَوْ رَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ عَلَى الطَّرِيقِ ظُلَّةٌ وَكَانَ طَرِيقُ أَحَدِهِمَا عَلَى تِلْكَ الظُّلَّةِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّخِذَ طَرِيقًا آخَرَ فَأَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُرُورِ عَلَى ظَهْرِ الظُّلَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَكَمَا أَنَّ أَسْفَلَهُ مَمَرٌّ لَهُمَا، فَكَذَلِكَ أَعْلَاهُ فَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَذَا أَنْ يُحْدِثَ لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَهُنَاكَ إنَّمَا يُرِيدُ اتِّخَاذَ طَرِيقٍ وَمَسِيلٍ لِنَفْسِهِ فِي مِلْكٍ خُصَّ بِهِ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ وَفِي السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ يَحْسُبُ فِي الْقِسْمَةِ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلُوِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْسُبُ الْعُلُوُّ بِالنِّصْفِ وَالسُّفْلُ بِالنِّصْفِ، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ جُمْلَةِ ذَرْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْسِمُ ذَلِكَ عَلَى الْقِيمَةِ قِيمَةِ الْعُلُوِّ أَوْ قِيمَةِ السُّفْلِ وَقِيلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى وَمُحَمَّدٌ شَاهَدَ اخْتِلَافَ الْعَادَاتِ فِي الْبُلْدَانِ فَقَالَ: إنَّمَا يُقْسَمُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي سُفْلِهِ سِرْدَابًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ عُلُوًّا آخَرَ كَانَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَ بِمُقَابَلَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلُوِّ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالسُّفْلِ كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ سِرْدَابًا فِي السُّفْلِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَاسْتَوَيَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَحْصُلُ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ يَبْنِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ وَاتِّصَالُ الْعُلُوِّ بِالسُّفْلِ كَاتِّصَالِ بَيْتَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَحِقُ الضَّرَرُ لِصَاحِبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: صَاحِبُ السُّفْلِ بِحَفْرِ السِّرْدَابِ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ يَحْمِلُ مَا يَبْنِي عَلَى حَائِطِ السُّفْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَصِيرُ بِحَائِطِ صَاحِبِ السُّفْلِ لَا مَحَالَةَ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاءِ صَاحِبِ السُّفْلِ وَمُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَافَقَ أَبَا يُوسُفَ وَلَكِنْ فِي الْقِسْمَةِ يَقُولُ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ بِنَاءٌ وَالْمُعَادَلَةُ فِي قِسْمَةِ الْبِنَاءِ تَتَيَسَّرُ وَلِأَنَّ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَكُونُ قِيمَةُ الْعُلُوِّ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السُّفْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَبِمِصْرِ وَفِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ قِيمَةُ السُّفْلِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْعُلُوِّ كَمَا هُوَ بِالْكُوفَةِ قِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكْثُرُ النَّدَاوَةُ فِي الْأَرْضِ يُخْتَارُ الْعُلُوِّ عَنْ السُّفْلِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَشْتَدُّ الْبَرْدُ وَيَكْثُرُ الرِّيحُ يُخْتَارُ السُّفْلُ عَلَى الْعُلُوِّ وَرُبَّمَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَاسْتُحْسِنَ الْقِسْمَةُ فِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُفْلٌ عُلُوُّهُ لِغَيْرِهِمَا وَعُلُوٌّ سُفْلُهُ لِغَيْرِهِمَا فَأَرَادَ الْقِسْمَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ كُلٍّ ذِرَاعٍ ذِرَاعٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بَيْتًا لِسُفْلِهِ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ لَا عُلُوَّ لَهُ بِأَنْ كَانَ الْعُلُوُّ لِغَيْرِهِمْ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ بِإِزَاءِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ وَبِإِزَاءِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ سِتَّةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَثُلُثَيْ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ عِنْدَهُ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الَّذِي لَا عُلُوَّ لَهُ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الَّذِي لَا سُفْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَخَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ خَمْسُونَ مِنْهَا سُفْلٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا عُلُوٌّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْتَبِرُ الْمُعَادَلَةَ بِالْقِيمَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَاذَا كَانَتْ الدُّورُ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَهُ مِنْهَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ وَأَبِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ قَسَّمَ الْقَاضِي كُلَّ دَارٍ بَيْنَهُمْ عَلَى حِدَةٍ وَلَمْ يَضُمَّ بَعْضَ أَنْصِبَائِهِمْ إلَى بَعْضٍ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَنْصِبَاءُ أَحَدِهِمْ إذَا جُمِعَتْ فِي دَارٍ كَانَ أَعْدَلَ لِلْقِسْمَةِ جَمَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُعَادَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِذَا قَسَّمَ كُلَّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِتَفَرُّقِ نَصِيبِهِ وَإِذَا قَسَّمَ الْكُلَّ قِسْمَةً وَاحِدَةً يَجْتَمِعُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَارٍ وَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَالْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَمْضِي قَضَاؤُهُ عَلَى وَجْهٍ يَرَى النَّظَرَ فِيهِ كَمَا يَمْضِي قَضَاؤُهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلِأَنَّ الدُّورَ فِي حُكْمِ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ السُّكْنَى وَالْجِنْسُ الْوَاحِدُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ قِسْمَةً وَاحِدَةً كَالْغَنَمِ وَالثِّيَابِ الْهَرَوِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا تَتَفَاوَتُ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ نِسْبَةُ الْبُلْدَانِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الرَّأْيُ لِلْقَاضِي فَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الدُّورُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ صَدَاقًا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ حَتَّى إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ (وَكَذَلِكَ) لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ دَارٍ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَبَعْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِاصْطِلَاحِ الشُّرَكَاءِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ عَلَى مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالْمُعَاوَضَةُ تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ يَغْلِبُ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَفِي الدُّورِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا جَمَعَهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ يَكُونُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَإِذَا قَسَّمَ كُلَّ ذِرَاعٍ عَلَى حِدَةٍ فَمَعْنَى التَّمْيِيزِ فِيهِ يَغْلِبُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَمْكِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّورِ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ فَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَبِاخْتِلَافِ الْجِيرَانِ وَبِالْقُرْبِ مِنْ الْمَاءِ وَبِالْبُعْدِ عَنْهُ وَبِالْقُرْبِ مِنْ الرَّبْطِ وَالْبَعْدِ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ إذَا قَسَّمَهَا قِسْمَةً وَاحِدَةً وَأَنَّ قِسْمَةَ كُلِّ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ أَعْدَلُ، ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ عِنْدَهُ الدُّورُ وَالْبُيُوتُ وَالْمَنَازِلُ فَالدُّورُ سَوَاءً كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِرِضَاءِ الشُّرَكَاءِ وَالْبُيُوتُ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً سَوَاءً كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى فَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمُسَقَّفٍ وَاحِدٍ لَهُ دِهْلِيزٌ فَلَا يَتَفَاوَتُ فِي الْمَنْفَعَةِ عَادَةً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا تُؤَجَّرُ بِأَجْرٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ فَتُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَالْمَنَازِلُ إنْ كَانَتْ مُجْتَمَعَةً فِي دَارِ وَاحِدَةٍ مُتَلَازِقَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً تُقْسَمُ كُلُّ مَنْزِلَةٍ عَلَى حِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَالِّ أَوْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بَعْضُهَا فِي أَقْصَاهَا وَبَعْضُهَا فِي أَدْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ فَالْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِي مَنْفَعَةِ مَعْنَى السُّكْنَى وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الدُّورِ فَهِيَ تُشْبِهُ الْبُيُوتَ مِنْ وَجْهٍ وَالدُّورَ مِنْ وَجْهٍ فَلِشَبَهِهَا بِالْبُيُوتِ قُلْنَا: إذَا كَانَتْ مُتَلَازِقَةً تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَلِشَبَهِهَا بِالدُّورِ قُلْنَا: إذَا كَانَتْ فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَهُمَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا يَقُولَانِ يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَعْدِلْ الْوُجُوهِ فَتَمْضِي الْقِسْمَةُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْبِنَاءَ بِذَرْعٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُهَا عَلَى الذَّرْعِ إذَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَتْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالثَّابِتُ لِقَاضِي وِلَايَةٍ قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ فَإِذَا جَعَلَ عَلَى ذَلِكَ الذَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي مَحَلُّ وِلَايَتِهِ وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الدَّرَاهِمِ كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا مِنْهُ وَرَاءَ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى تَحْصِيلِ الدَّرَاهِمِ وَأَدَائِهَا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَاَلَّذِي وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ الدِّرْهَمُ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَنْوِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فَنَفْسُ الْقِسْمَةِ يَتَعَجَّلُ نَصِيبَ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ وَيَتَأَخَّرُ نَصِيبُ الْآخَرِ إلَى خُرُوجِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَتَنْعَدِمُ الْمُعَادَلَةُ بِذَلِكَ وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الذَّرْعِ يَتَعَجَّلُ وُصُولَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَيَتِمَّ الْقِسْمَةَ وَلَا حَقَّ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ عَلَى الذَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ عَلَى الدَّرَاهِمِ عِنْدَنَا (وَقَالَ) مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ أَوْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ يَسِيرَةً؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى الدَّرَاهِمِ مَحْضَ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ بَيْعُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْبِنَاءِ بِمَا يُوجِبُ لَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا عِنْدَ تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ رُبَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ وِلَايَتِهِ لِلْحَاجَةِ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْكَثِيرِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْبِنَاءِ رُبَّمَا يَكُونُ أَضْعَافَ جَمِيعِ قِيمَةِ الْأَرْضِ فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ مُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ بِالذَّرْعِ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ يَقَعُ جَمِيعُ السَّاحَةِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ الْبَيْتِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ وَإِذَا كُلِّفَ نَقْلَ الْبِنَاءِ تَنْقَطِعُ الْمَنْفَعَةُ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقِسْمَةَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَهَذَا لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِسْمَةِ تَثْبُتُ لَهُ فَلَا يَتَعَدَّى فَيَتَعَدَّى وِلَايَتَهُ إلَى مَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْقِسْمَةُ إلَّا بِهِ كَالْجَدِّ مَعَ مُوصَى الْأَبِ يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ إلَى الْوَصِيِّ دُونَ الْجَدِّ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، ثُمَّ لَهُ وِلَايَةُ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّدَاقِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي التَّزْوِيجِ.
وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ طَرِيقًا بَيْنَنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَرْفَعُ نَظَرَ فِيهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ طَرِيقٍ يُرْفَعُ كَمَا بَيَّنَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَوْضِعُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ كَغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ فَاَلَّذِي يَقُولُ: لَا يَرْفَعُ طَرِيقًا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ مَعَ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى مَا الْتَمَسَ وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَفِي قِسْمَةِ مَوْضِعِ الطَّرِيقِ قَطْعُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ وَالْقَائِلُ لَا يَرْفَعُ طَرِيقًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَعَنِّتٌ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ مَوْضِعَ الطَّرِيقِ فَقَطْ فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ قِسْمَتَهُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُجِبْهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلطَّالِبِ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ مَوْضِعَ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ.
وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جَعَلَ الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهِمْ؛ لِأَنَّ بَابَ الدَّارِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِ الطَّرِيقِ أَعْرَضَ مِنْ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْحِمْلُ مِنْ بَابِ الدَّارِ لَا يَحْمِلُهُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَإِذَا جَعَلَ الطَّرِيقَ أَضْيَقَ مِنْ بَابِ الدَّارِ يَتَضَرَّرُ بِهِ الشُّرَكَاءُ وَمَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَ إلَى مَسْكَنِهِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مَا يُدْخِلُهُ فِي بَابِ الدَّارِ؛ فَلِهَذَا يَجْعَلُ الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَرْضِ الدَّارِ وَطُولِهِ.
وَإِذَا وَقَعَ الْحَائِطُ لِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَعَلَيْهِ جُذُوعٌ لِلْآخَرِ وَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَكَذَا أَوْ لَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ كَذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ فَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ قَلْعَ الْجُذُوعِ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِلْحَدِيثِ: «الشَّرْطُ أَمْلَكُ»، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَزَجُّ وَقَعَ عَلَى حَائِطٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ دَرَجَةٍ، وَكَذَلِكَ أُسْطُوَانَةٌ وَقَعَ عَلَيْهَا جُذُوعٌ، وَكَذَلِكَ رَوْشَنٌ وَقَعَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ مُشْرِفٌ عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَقْطَعَ الرَّوْشَنُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ قَطْعَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ قَرَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقًّا لِإِنْسَانٍ فِي حَائِطِ غَيْرِهِ فَإِذَا تَمَّتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَجِبُ تَرْكُهَا كَذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ أَحَدَهُمَا ثَبْتُ عُلُوٍّ وَالْآخَرَ السُّفْلُ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَهْدِمَ الْعُلُوَّ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ السَّاحَةُ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ أَطْرَافُ جُذُوعٍ شَاخِصَةٌ فِيهَا فَأَرَادَ صَاحِبُ السَّاحَةِ قَطْعَ تِلْكَ الْجُذُوعِ فَإِنْ كَانَتْ أَطْرَافُ الْجُذُوعِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَرَارُهُ مُسْتَحَقًّا لِإِنْسَانٍ فِي سَاحَةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ أَوْ تَفْرِيغِ هَوَاءِ السَّاحَةِ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إذْ هُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ وَقَعَتْ شَجَرَةٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَأَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَقَدْ ذَكَّرَنِي رُسْتُمُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَطْعِ تِلْكَ الْأَغْصَانِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَحِقُّ إقْرَارَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَذَكَّرَنِي سِمَاعَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْرَكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ اسْتَحَقَّ الشَّجَرَةَ بِأَغْصَانِهَا فَتَرْكُ الْأَغْصَانِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَزَجِّ وَالدَّرَجَةِ.
وَإِذَا أَصَابَ رَجُلًا مَقْصُورَةٌ مِنْ الدَّارِ وَأَصَابَ الْآخَرَ مَنْزِلٌ طَرِيقُ عُلُوِّ هَذَا الْمَنْزِلِ فِي هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي الْمَقْصُورَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهُ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَالْقِسْمَةُ لِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ إذَا لَمْ يَبْقَ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجِبُ إمْضَاءُ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ سَاحَةٍ فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا وَيَرْفَعَ بِنَاءً وَأَرَادَ الْآخَرُ مَنْعَهُ، وَقَالَ: إنَّك تَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَ مَا بَدَا لَهُ؛ لِأَنَّ السَّاحَةَ مِلْكُهُ وَالسَّاحَةُ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِمَا يَبْدُو لَهُ وَلَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ مَخْرَجًا؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ أَرَأَيْت لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا رَحًى أَوْ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ اتَّجَرَ فِي حَانُوتِهِ نَوْعَ تِجَارَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَكْسُدُ بِسَبَبِهِ تِجَارَةٌ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْحَوَانِيتِ يَتَأَذَّوْنَ بِغُبَارِ سَنَابِكِ الدَّوَابِّ الْمَارَّةِ وَأَنْ يَتَأَذَّى الْمَارَّةُ بِدُخَانِ نِيرَانِهِمْ الَّتِي يُوقِدُونَهَا فِي حَوَانِيتِهِمْ، ثُمَّ لَيْسَ لِلْبَعْضِ مَنْعُ الْبَعْضِ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَقِلَّ مَاءُ بِئْرِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالِكَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، وَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ كَانَ أَحْسَنَ لَهُ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُوصِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» وَالتَّحَرُّزُ عَنْ سُوءِ الْمُجَاوِرَةِ مُسْتَحَقٌّ دَيْنًا وَلَكِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَالْحِيلَةُ لِلْجَارِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا عَنْ نَفْسِهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّ جَارِيَ اتَّخَذَ مُجَمِّدَةً بِجَنْبِ حَائِطِي فَقَالَ:
اتَّخِذْ أَنْتَ أَتُونًا بِجَنْبِ الْحَائِطِ لِيُذِيبَ هُوَ مَا يَجْمَعُ مِنْ الْجَمْدِ وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلُوِّ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً فَتَأَذَّى بِذَلِكَ صَاحِبُ السَّاحَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْبَابِ وَالْكَوَّةِ يَرْفَعُ نَقْصَ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا أَوْلَى وَلَكِنَّهُ يَبْنِي فِي مِلْكِهِ مَا يَسْتُرُهُ إنْ شَاءَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَوَّةِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الدَّارَيْنِ وَالْجَارَيْنِ وَلَوْ اتَّخَذَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ كِرْيَاسًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ بِئْرَ مَاءٍ فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ وَطَلَبَ تَحْوِيلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَحْوِيلِهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبُ إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ فَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ؛ لِمَا تَلِفَ بِهِ كَمَا لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ فِي بِئْرِهِ هَذَا.
وَإِذَا قَسَّمَ رَجُلَانِ دَارًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا حَيِّزًا وَالْآخَرُ حَيِّزًا فَوَقَعَ لِأَحَدِهِمَا حَائِطٌ لِلظَّاهِرِ مِنْهُ عَلَى آجُرَّتَيْنِ وَأُسُّهُ عَلَى أَرْبَعٍ وَقَدْ دَخَلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ آجُرَّةٌ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَائِطِ أَنَا آخُذُ مِنْ نَصِيبِك مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أُسِّ حَائِطِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ مَا ظَهَرَ مِنْ الْحَائِطِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ اسْتَحَقَّ الْحَائِطَ وَالْحَائِطُ اسْمٌ لِلْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَمَّا الْأُسُّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَرْضٌ لَا حَائِطٌ وَالْأَرْضُ وَاقِعٌ فِي قِسْمِ الْآخَرِ فَلَوْ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ حَرِيمًا لِحَائِطِهِ وَلَيْسَ لِلْحَائِطِ حَرِيمٌ.
وَإِذَا قَسَّمَ الشَّرِيكَانِ دَارًا أَوْ دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ لِصَاحِبِهِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ فِيهِ الشُّفْعَةُ، ثُمَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ مَعْنَى التَّمْيِيزِ فِي الْقِسْمَةِ تَغْلِبُ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالشُّفْعَةُ تَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ.
وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا وَرَفَعَا طَرِيقًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَرَادَ قِسْمَةَ الطَّرِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ قِسْمَتُهُ تَسْتَقِيمُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ قَسَمْتُهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا طَرِيقٌ لَمْ أَقْسِمْهُ، ثُمَّ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ هُنَا مَعْنَى الضَّرَرِ وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا تَفْوِيتُهَا.
وَإِذَا اصْطَلَحَ الرَّجُلَانِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى إنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ مَنْزِلًا فِي دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ نِصْفَ دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أَنْ أَجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِهَامًا مَعْلُومَةً مِنْ دَارٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَارًا وَالْآخَرُ عَبْدًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ تَجْرِي بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي وَلَا رِبًا فِي شَيْءٍ مِمَّا تَنَاوَلَهُ تَصَرُّفُهُ وَلَوْ اصْطَلَحَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الْأَرْضَ كُلَّهَا وَالْآخَرُ الْبِنَاءَ كُلَّهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِلتَّرَاضِي فَإِنَّ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُبَادَلَةُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْأَرْضِ بِنَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ الْبِنَاءِ صَحِيحٌ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ لَهُ يَنْقُضُهُ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لِلْآخَرِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ لَا يُقْلِعَ بِنَاءَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَا يَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى بَيْعٍ شُرِطَ فِيهِ إعَارَةٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ لَمَّا شَرَطَ تَرْكَ الْبِنَاءِ فِي أَرْضِ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ هَذَا التَّرْكِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ.
فَهُوَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ شُرِطَتْ فِي بَيْعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابِلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ فَهُوَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ.
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي طَرِيقٍ لَيْسَ بِنَافِذٍ لَهَا فِيهِ بَابٌ فَاقْتَسَمَهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الزُّقَاقِ لِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الزُّقَاقِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَحُ الْبَابَ بِرَفْعِ بَعْضِ الْحَائِطِ وَلَوْ رَفَعُوا جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الزُّقَاقِ مَنْعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ حَقَّ الْمُرُورِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ إلَى أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى مِلْكِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَحُ الْبَابَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً بَيْنَ وَرَثَةٍ بَابُهَا فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَقْصُورَةِ فِيهَا إلَّا طَرِيقُهُمْ فَاقْتَسَمُوا الْمَقْصُورَةَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَابًا مِنْ نَصِيبِهِ فِي الدَّارِ الْعُظْمَى لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ عَرْصَةِ الدَّارِ فَهُمْ يُرِيدُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلُوا جَمِيعَ صَحْنِ الدَّارِ مَمَرًّا فَيَكُونُ لِأَهْلِ الدَّارِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَفْعُ الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ خَالِصُ حَقِّهِمْ وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّطَرُّقِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ طَرِيقًا لَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ قَالَ: يُمْنَعُونَ مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ لَهُمْ طَرِيقًا خَاصًّا فِي صَحْنِ الدَّارِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَابِ الْمُرَكَّبِ وَقَدْ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ بَعْضُ الْقُضَاةِ فَيُفَصِّلُ الْحُكْمَ بِهِ؛ فَلِهَذَا مَنَعُوا مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ وَلِأَهْلِ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا مَا بَدَا لَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُمْ طَرِيقًا وَاحِدًا بِقَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ حَقِّهِمْ مُتَّفَقٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَحْنِ الدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ الدَّارِ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِيهَا مَا أَحَبُّوا وَيَفْتَحُ أَهْلُ الْمَقْصُورَةِ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ الْأَبْوَابِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ لَا يَبْنُونَ لِأَنْفُسِهِمْ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ دَارًا أُخْرَى إلَى جَنْبِ هَذِهِ الْمَقْصُورَةِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي قِسْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِهَذِهِ الدَّارِ فِيهَا فَسَاكِنُهَا يُرِيدُ إثْبَاتَ طَرِيقٍ لِنَفْسِهِ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ الشَّرِكَةُ فِيهَا خَاصَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يُمَكَّنُ مِنْ إحْدَاثِ طَرِيقِ لِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَإِنْ اشْتَرَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْمَقْصُورَةُ هَذِهِ الدَّارَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ طَرِيقَهَا فِي مَقْصُورَتِهِ، ثُمَّ يَمُرُّ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكِ فَلَهُ إذَا كَانَ الدَّارُ وَالْمَقْصُورَةُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الْمَقْصُورَةِ غَيْرَ سَاكِنِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْزِلَانِ وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ دَارِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِيهِ مِنْ الْمَقْصُورَةِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْمَقْصُورَةِ أَنْ يَرْضَى بِتَطَرُّقِهِ فَمَا هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمَقْصُورَةُ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِذَلِكَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الطَّرِيقُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشُّرْبِ فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَرْضٌ بِجَنْبِ نَهْرٍ شُرْبُهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ إذَا اشْتَرَى بِجَنْبِ أَرْضِهِ أَرْضًا أُخْرَى وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ الْأَرْضَ الْأُخْرَى مِنْ هَذَا النَّهْرِ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَفِي الطَّرِيقِ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَقْصُورَةِ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَسْتَوْفِي مِنْ الْمَاءِ فَوْقَ حَقِّهِ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي هَذَا النَّهْرِ مِقْدَارُ مَا يَسْقِي بِهِ أَرْضَهُ فَإِذَا سَقَى بِهِ أَرْضَيْنِ فَهُوَ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الطَّرِيقِ هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ سَوَاءٌ دَخَلَ الْمَقْصُورَةَ فَقَطْ أَوْ يَحُولُ مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى الدَّارِ؛ فَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَقْصُورَةِ وَاحِدًا.
وَإِذَا اقْتَسَمَ الرَّجُلَانِ دَارًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا طَائِفَةً وَفِي نَصِيبِ الْآخَرِ ظُلَّةٌ عَلَى الطَّرِيقِ وَكَنِيفُ شَارِعٍ فَالْقِسْمَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ كَنِيفَ الشَّارِعِ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ سَوَاءٌ ذَكَر الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ وَالظُّلَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا فِي الدَّارِ سَوَاءً ذَكَر الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ هَدَمَ أَهْلُ الطَّرِيقِ تِلْكَ الظُّلَّةَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْبِنَاءَ بِالْقِسْمَةِ، أَمَّا الْأَرْضُ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْقِسْمَةِ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْمُشْتَرَكُ الْبِنَاءُ دُونَ الْأَرْضِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الظُّلَّةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّ لَهُمْ مِنْهَا نَفْسَ الْبِنَاءِ لَا حَقَّ الْقَرَارِ، وَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُ.
وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا فَلَمَّا وَقَعَتْ الْحُدُودُ بَيْنَهُمَا إذَا أَحَدُهُمَا لَا طَرِيقَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى طَرِيقٍ فَالْقِسْمَةُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى الضَّرَرِ وَالْمَقْصُودُ تَحْصِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ لَا قَطْعُ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَطْعُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا فَكَانَتْ مَرْدُودَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَائِطٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ بَابًا يَمُرُّ فِيهِ رَجُلٌ وَلَا تَمُرُّ فِيهِ الْحَمُولَةُ فَالْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ بِالتَّطَرُّقِ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَالْأَصْلُ فِي الطَّرِيقِ مُرُورُ النَّاسِ فِيهِ فَأَمَّا مُرُورُ الْحَمُولَةِ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا نَادِرًا وَبِتَعَذُّرِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَمُرُّ فِيهِ رَجُلٌ فَلَيْسَ هَذَا بِطَرِيقٍ وَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ قَطْعِ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ اقْتَسَمَا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِفُلَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الضَّرَرِ.
وَإِذَا اقْتَسَمَا دَارًا عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ دَارًا لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ هَذَا فِي الْبَيْعِ مُبْطِلٌ لَهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ قِسْمَةٍ عَلَى شَرْطِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شِرَاءِ عَلَى شَرْطِ قِسْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقِسْمَةِ فِي الشِّرَاءِ كَاشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَإِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا مَعْرُوفًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ مِقْدَارًا مُسَمًّى أَوْ زِيَادَةً فِي الْمَبِيعِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.