فصل: بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْمَيِّتِ النَّفَقَةَ فَأَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَالُهُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَوْ عَامَّةَ النَّفَقَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ يَرُدُّهُ، وَيَحُجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَكْثَرُ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْقَلِيلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَقَدْ يُضِيفُهُ إنْسَانٌ يَوْمًا فَلَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ يَسْتَصْحِبُ مَعَ نَفْسِهِ زَادًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَيُعْطِي السَّقَّاءَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَجْعَلُهُ عَفْوًا فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ وَقُلْنَا إذَا كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْحَجُّ عَنْهُ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُنْفَقَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ بِذَلِكَ السَّفَرِ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَأَنَّ إنْفَاقَ الْحَاجِّ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَإِنْفَاقِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَنْ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَبِنَحْوِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ «فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَائِلَةٍ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي»، وَقَالَ رَجُلٌ «: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَى مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ»، وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ مَشْهُورٌ حَيْثُ قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ» فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَأَمَّا الْحَجُّ يَكُونُ عَنْ الْحَاجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تُجْزِي بِالنِّيَابَةِ فِي أَدَائِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ الْمَالِ لِيُنْفِقَهُ الْحَاجُّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَا يَسْقُطُ بِهَذَا عَنْ الْحَاجِّ، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ حَتَّى صَارَ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَقَطْ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ فَلَمَّا قَالَ يَضْمَنُ وَيَحُجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ عُرْفَنَا أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ.
(قَالَ)، وَإِنْ أَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَفِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفَاءٌ بِحَجِّهِ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَجَازَ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبْتَلَى بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَالُ الْمَيِّتِ حَاضِرًا أَوْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إظْهَارُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَنْ يُنْفَقَ مِنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ (قَالَ) فَإِنْ نَوَى الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّفْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَطَلَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ وَتَوَطُّنُهُ بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُهُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فِي سَفَرِهِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ أَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُ: إنْ أَقَامَ بَعْدَ النَّفْرِ ثَلَاثًا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ مَتَى شَاءَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ لِانْتِظَارِ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَوَطِّنًا بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْمَقَامِ أَنْ يَرْجِعَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ.
فَإِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ عَادَتْ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَهُوَ نَظِيرُ النَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَقَامَ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: لَا تَعُودُ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا أَصْلُ سَفَرِهِ كَانَ لِعَمَلِ الْمَيِّتِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ السَّفَرُ تَبْقَى نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَبِالْوُصُولِ لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ السَّفَرُ، ثُمَّ هُوَ أَنْشَأَ سَفَرًا بَعْدَ ذَلِكَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ لِهَذَا السَّفَرِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ بِزَمَانٍ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ، ثُمَّ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ قُدُومَ قَوَافِلِ مَكَّةَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ، وَلَكِنَّهُ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ مُوَافِقٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ.
فَأَمَّا قُدُومُهُ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْإِقَامَةِ لَيْسَ يَعْمَلُ لِلْمَيِّتِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ (قَالَ): فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَلَغَتْ حِجَجًا فَالْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ رِجَالًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصَى وَأَبْعَدُ عَنْ فَوَاتِ مَقْصُودِهِ بِهَلَاكِ الْمَالِ (قَالَ): وَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا عَتَقَ وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ»، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ بِدُونِ شَرْطِهِ فَيَكُونُ الْمُؤَدَّى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ نَفْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، ثُمَّ اسْتَغْنَى حَيْثُ جَازَ مَا أَدَّى عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ مِلْكُ الْمَالِ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ لَا يَتَقَدَّرُ الْمَالُ بِالنِّصَابِ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قُرْبِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَدَاءِ وَبُعْدِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ الْفَقِيرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَجَبَ الْأَدَاءُ فَإِنَّمَا حَصَلَ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَكَانَ فَرْضًا.
فَأَمَّا الْعِتْقُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ بِمَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَالْمُؤَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ فَرْضًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى الْحَجَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَنَافِعُ الْفَقِيرِ حَقُّهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ كَانَ فَرْضًا فَأَمَّا مَنَافِعُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَبِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَا تَخْرُجُ الْمَنْفَعَةُ مِنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَمِلْكُ الْغَيْرِ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ فَرْضُ الْعُمْرِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدَّاهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَمَنَافِعُهُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَهَذَا جَائِزٌ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.
(قَالَ): فَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَلَا بِالْإِطْعَامِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ كَمَا إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ.
(قَالَ): وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ، وَإِنْ فَسَدَ لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِي الْفَاسِدِ، وَإِنَّ إحْرَامَهُ كَانَ لَازِمًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا عَتَقَ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ دَمٍ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ، وَكُلُّ مَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَكَانَ هَذِهِ يَنْوِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا بَعْدَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْ، وَلَكِنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْحُرُّ، وَالْحُرُّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ بِإِعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً إذَا عَتَقَ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِفَوَاتِ مَا شَرَعَ فِيهِ.
وَإِنْ أَطْعَمَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ ذَبَحَ عَنْهُ مِنْ الدِّمَاءِ مَا يَلْزَمُهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلطَّعَامِ الَّذِي يُؤَدَّى فِي الْكَفَّارَةِ وَلَا لِمَا يُرَاقُ دَمُهُ فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْمِلْكَ وَبِدُونِ الْمِلْكِ فِيمَا كَفَّرَ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا فِي الْإِحْصَارِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِإِذْنِهِ بِالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ هَدْيٍ،
فَإِذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُكْتَسِبُ لِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الدَّمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّلَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَوْلَى حَقٌّ بِسَبَبِ عَبْدِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِهِ، ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ حُرًّا وَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ الْعَبْدُ إذَا تَحَلَّلَ بِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- وَلِأَنَّهُ أَهْدَى فِي إقَامَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِصَيْرُورَتِهَا مَعْهُودَةً عِنْدَهُ فَإِنْ أَحَجَّ صَرُورَةً عَنْ نَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْآمِرِ وَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ شُبْرُمَةَ؟ فَقَالَ: أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ لَا».
وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ تَعَارُضٌ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ، فَقَالَ: مَنْ نُبَيْشَةَ، فَقَالَ: صَدِيقٌ لِي، فَقَالَ: إذَا حَجَجْت عَنْ نُبَيْشَةَ فَحِجَّ عَنْ نَفْسِكَ» وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يُحْرِمْ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ لِلْكَيْفِيَّةِ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ الْغَيْرِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا.
وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذَا نَظِيرِ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا حَجُّهُ يَكُونُ نَفْلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَصْلِ، وَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ يَبْقَى مُطْلَقُ نِيَّةِ الْحَجِّ وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ نَوْعُ سَفَهٍ قَبْلَ أَدَاءِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّفِيهُ مُسْتَحِقُّ الْحَجْرِ فَجَعَلَ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوًا تَحْقِيقِيًّا لِمَعْنَى الْحَجْرِ فَيَبْقَى مُطْلَقُ النِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَدَّى حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَحْرَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَبِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْلَى.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي الْحَجِّ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ مِنْهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ عِنْدَنَا، وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْوَقْتِ فَكَانَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لَهُ لَا مِعْيَارًا، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَتَمَيَّزُ الْفَرْضُ مِنْ النَّفْلِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ.
وَقَوْلُهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ قُلْنَا عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ التَّعْيِينَ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ تَارَةً وَبِالدَّلَالَةِ أُخْرَى، وَفِي الْحَجِّ التَّعْيِينُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَدَاءِ النَّفْلِ مَعَ بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ كَمَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فَكَانَ حَجُّهُ عَمَّا نَوَى وَمَا قَالَ بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُلْغِي اعْتِبَارَ نِيَّةِ النَّفْلِ بَلْ يَجْعَلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ آذِنٌ لِأَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْإِحْرَامِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ إفْصَاحًا فَإِنَّمَا يَتَأَدَّى لَهُ حَجٌّ بِالنِّيَّةِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا بِمَالِهِ لِلْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَالصَّرُورَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ قَدْ حَجَّ؛ لِأَنَّ الصَّرُورَةَ بِمَالِهِ يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَمَنْ قَدْ حَجَّ مَرَّةً يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ وَكَمَا أَنَّ دَرَجَةَ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ أَوْلَى (قَالَ): وَالْحَجُّ التَّطَوُّعُ جَائِزٌ عَنْ الصَّحِيحِ يُرِيدُ أَنَّ بِهِ الصَّحِيحَ الْبَدَنِ إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ طَاعَةً عَظِيمَةً فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَنْهُ يَكُونُ جَائِزًا وَكَوْنُهُ صَحِيحًا لَا يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ التَّطَوُّعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ الْأَمْرَ مُوسِعٌ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ فَكَذَا هُنَا فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا صَرْفُ الْمَالِ إلَى سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ نِيَابَةً فَيَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِيهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إمَّا التَّعْظِيمُ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ، وَإِمَّا إتْعَابُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ أَصْلًا وَلَا تُجْزِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا، وَالْحَجُّ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلْبُقْعَةِ، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ يَحْصُلُ وَمَعْنَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى أَدَائِهَا، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ لَا يَحْصُلُ فَلَا تُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْأَدَاءِ بِالنَّائِبِ، وَتُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ لِحُصُولِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالنَّائِبِ.
وَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمُعْتَبَرُ الْوُسْعُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ عَجْزٌ مُسْتَغْرِقٌ لِبَقِيَّةِ الْعُمْرِ لِيَقَعَ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَقُلْنَا: إنْ كَانَ عَجْزُهُ بِمَعْنًى لَا يَزُولُ أَصْلًا كَالزَّمَانَةِ يَجُوزُ الْأَدَاءُ بِالنَّائِبِ مُطْلَقًا.
وَإِنْ كَانَ عَارِضًا يُتَوَهَّمُ زَوَالُهُ بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَسْجُونًا، فَإِذَا أَدَّى بِالنَّائِبِ كَانَ ذَلِكَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَامَ بِهِ الْعُذْرُ إلَى أَنْ مَاتَ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَوَقَعَ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ، وَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤَدِّي تَطَوَّعَ لَهُ وَالْمَالُ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْوُجُوبِ بِسَبَبِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَعْضُوبَ وَالْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَتْ: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَوْلُهَا شَيْخًا كَبِيرًا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ يَعْنِي لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْمَعْضُوبِ وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ عَرَفْنَا أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ يَتِمُّ بِهِ.
وَإِذَا جَازَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ يُؤَدَّى بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِالْبَدَنِ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي يَجِبُ بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالزَّمِنُ لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْخِطَابُ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّرْطَ مَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى» وَزَادُ الْمَعْضُوبِ وَرَاحِلَتُهُ لَا يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ بِالزِّيَارَةِ وَالْمَالُ شَرْطٌ لِيُتَوَسَّلَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَائِتٌ فِي حَقِّ الْمَعْضُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِاعْتِبَارِهِ وَاعْتِبَارُ الِابْتِدَاءِ بِالْبَقَاءِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إذَا افْتَقَرَ بِهَلَاكِ مَالِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ يَبْقَى وَاجِبًا، ثُمَّ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْأَصْلُ بِاعْتِبَارِ الْبَدَلِ وَهُنَاكَ الْمَالُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِمُبَاشَرَةِ النَّائِبِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِهِ، وَالرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَتْ فِي الْخَثْعَمِيَّةِ فَفِي بَعْضِهَا قَالَتْ: هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ فِي الْحَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ مُرَادُهَا أَنْ تَزُولَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ عَنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ شَيْخًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْضُوبُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ إذَا بَذَلَ وَلَدُهُ لَهُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ عَنْهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَبِطَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْقَرَابَاتِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا بَذَلَتْ الطَّاعَةَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ دَيْنًا عَلَى أَبِيهَا بِقَوْلِهِ «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ فَدَلَّ أَنَّ بَذْلَ الْوَلَدِ الطَّاعَةَ يُلْزِمُهُ الْحَجَّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْمَالِ تَكْفِي لِلْإِيجَابِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ بِمَنْفَعَةِ الِابْنِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ.
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ كَثِيرُ مِنَّةٍ عَلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مِنَّةٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ مُتَبَرِّعٌ فِي بَذْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ كَغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعُهُ مُوجِبًا لِلْحَجِّ عَلَى الْأَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَوْ بَذَلَ الْمَالَ لِأَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْبَذْلِ فَكَذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْأَبُ مِنْ مُكَافَأَتِهِ إذَا اسْتَفَادَ مَالًا وَهُنَا لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا بَذَلَ مِنْ الطَّاعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ بِبَذْلِ الْوَلَدِ الْمَالَ فَبِبَذْلِهِ الطَّاعَةَ أَوْلَى، وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اسْتِطَاعَةُ تَوَصُّلِهِ إلَى الْبَيْتِ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا وَقَائِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَعْمَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَائِدٍ يُهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الضَّالِّ وَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْضُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ، وَالْمَالُ هُنَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ وَبَذْلُ الْقَائِدِ الطَّاعَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ.
وَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ، وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَمَا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ يَحُجُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ تَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَجِّجَ الْوَصِيُّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَإِنْ حَجَّجَ امْرَأَةً جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ أَنْقَصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَا الْحَلْقُ فَكَانَ إحْجَاجُ الرَّجُلِ عَنْهُ أَكْمَلَ مِنْ إحْجَاجِ الْمَرْأَةِ (قَالَ): وَإِنْ أَحَجَّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَجَامَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي إحْرَامِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ يُؤَدِّي بِهِ حَجًّا صَحِيحًا فَبِالْإِفْسَادِ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَالدَّمِ وَقَضَاءِ الْحَجِّ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ لِلْحَاجِّ حَتَّى إنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا وَافَقَ فَالْحَجُّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَلَكِنْ إذَا خَالَفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ مُوجَبُهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا وَافَقَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِأَمْرِهِ، وَلَوْ خَالَفَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ (قَالَ): وَلَوْ قَرَنَ مَعَ الْحَجِّ عُمْرَةً كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا يُجَانِسُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ فَهُوَ بِالْقِرَانِ زَادَ لِلْمَيِّتِ خَيْرًا فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ مُجَرَّدٍ لِلْحَجِّ، وَسَفَرُهُ هَذَا مَا تَفَرَّدَ لِلْحَجِّ بَلْ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ تَمَتَّعَ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي زَادَهَا لَا تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجِّ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ عَنْهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عُمْرَتُهُ عَنْ الْمَيِّتِ صَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُنَاكَ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَكَذَا هُنَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ، وَإِنْ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَكِنْ يَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَدَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْحَجِّ لِلْمَيِّتِ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَيْهِ عُمْرَةَ نَفْسِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْحَجُّ لِلْمَيِّتِ بِبَعْضِ النَّفَقَةِ، وَبِهَذَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجَرِّدَ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ، فَإِذَا اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجَرِّدْ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَبِقَدْرِ مَا يُنْتَقَصُ بِهِ يُنْتَقَصُ مِنْ الثَّوَابِ فَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ ضَرَرًا عَلَيْهِ لَا مَنْفَعَةً لَهُ، ثُمَّ دَمُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمَا يَكُونُ عَلَى الْحَجِّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْقِرَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَذَا النُّسُكُ، وَلِأَنَّ لِهَذَا الدَّمِ بَدَلًا وَهُوَ الصَّوْمُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُشْكِلْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ يَكُونُ عَلَيْهِ (قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فَقَرَنَ مَعَهَا حَجَّةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا نَفَقَةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ يَكُونُ عَلَى الْحَاجِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَّضِحُ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا (قَالَ): وَإِذَا كَانَ أُمِرَ بِالْحَجِّ فَبَدَأَ وَاعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ كَانَ مُخَالِفًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالْمُتَمَتِّعُ يَحُجُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ فَكَانَ هَذَا غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَفَرٍ يَعْمَلُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا أَنْفَقَ فِي سَفَرٍ كَانَ عَامِلًا فِيهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ فِي الْعُمْرَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ (قَالَ): وَكُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَمَ كَفَّارَةٍ فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دَمًا وَجَبَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْحَاجِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الدَّمِ الْوَاجِبِ بِالْجِمَاعِ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى دَمِ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّحَلُّلِ وَهُمَا احْتَجَّا، وَقَالَا: دَمُ الْإِحْصَارِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْإِحْرَامِ وَهُوَ بِمُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ عَامِلًا لِلْمَيِّتِ فَكَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُدْخِلُ لَهُ فِي هَذَا حُكْمًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، ثُمَّ أُحْصِرَ كَانَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الرُّجُوعِ، وَنَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْبَيْتِ وَكَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عَلَى وَصِيِّ الْمَيِّتِ فَيُحِجُّ بِهِ إنْسَانًا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمَيِّتِ فِيمَا أَنْفَقَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَنْفَقَ فَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ، وَقَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ يَعْنِي إذَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ الْمَيِّتِ فَيَحُجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُمْكِنُ وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُلُثُ مَالِهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَيَحُجُّ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّمَا يُحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ بِنَفْسِهِ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَذَلِكَ يُحَجُّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَكْفِي لِلْحَجِّ مِنْ مَنْزِلِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْوَصِيُّ عَنْ تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الْحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى نَسَمَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتُعْتَقُ عَنْهُ وَكَانَ ثُلُثُ مَالِهِ دُونَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَجِّ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَيْلُ الثَّوَابِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ بِعَبْدٍ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ الْمَالِ مَاشِيًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ: رَاكِبُ الْبَعِيرِ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ رَاكِبِ الْحِمَارِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا إنْ وَجَدَ النَّفَقَةَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ عَنْهُ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: الْخِيَارُ إلَى الْوَصِيِّ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا، وَإِنْ شَاءَ مِنْ مَنْزِلِهِ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ زِيَادَةً فِي الْمَسَافَةِ وَنُقْصَانًا فِي النَّفَقَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ زِيَادَةٌ فِي النَّفَقَةِ وَنُقْصَانٌ فِي الْمَسَافَةِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَيْلُ الثَّوَابِ فَيَخْتَارُ الْوَصِيُّ أَيَّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، فَأَمَّا الْمُحْصَرُ بَعْدَمَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُحْصَرَ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ عَلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ لِلْمَيِّتِ ثَوَابَ النَّفَقَةِ فَإِنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحَجِّ فَأَهَّلَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا كَانَ ضَامِنًا لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي سَفَرٍ يَخْلُصُ لَهُ وَأَنْ يَنْوِيَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ لَزِمَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ نَوَاهُمَا، وَلَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ نِيَّتِهِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ عَنْ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَبَقِيَتْ نِيَّةُ أَصْلِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ أَبَوَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي تَرْكِهِ تَعْيِينَ أَحَدِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ يَجْعَلُ التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِيمَا صَنَعَ، وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ فَبِتَرْكِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَجِّ وَالْآخَرُ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَأْمُرَاهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِسَفَرٍ خَالِصٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلنَّفَقَةِ فِي مَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَإِنْ أَمَرَاهُ بِالْجَمْعِ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرَّحَ أَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ النُّسُكِ لَا خُلُوصُ السَّفَرِ لَهُ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ (قَالَ): رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مِنْ الْكَافِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ أَدَاؤُهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «حَيْثُ رَقَى الْمَلْدُوغَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» وَالرُّقْيَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ طَاعَةٌ، ثُمَّ جَوَّزَ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْأَدَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ وَقَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ إذَا عَمِلَ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الصَّلَاةِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْجِهَادِ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ يُؤَدِّي الْفَرْضَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرِّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ»، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عُلِّمَ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْطَى قَوْسًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ»، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا»، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ عَمَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ بِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُصَلِّي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُ أَجْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} الْآيَةَ فَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الرُّقْيَةِ قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ مَالًا أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اضْرِبُوا لِي فِيهَا بِسَهْمٍ» مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِعَيْنِهِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ لَا يَجُوزُ، قُلْنَا: الْعَقْدُ الَّذِي لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ يَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ بَقِيَ أَمْرُهُ بِالْحَجِّ فَيَكُونُ لَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فِي مَالِهِ، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ لَيْسَ يَسْتَحِقُّهَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِهِ كَالْقَاضِي يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ وَالْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ لَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ (قَالَ): وَيَجُوزُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَحْبُوسِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ.
(قَالَ): وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ إنْ شَاءَ قَالَ: لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِّ عَنْ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَرَّحَ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ شَاءَ نَوَى وَاكْتَفَى بِالنِّيَّةِ (قَالَ): وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالْقِرَانِ فَخَرَجَ الْمُجَهَّزُ يَؤُمُّ الْبَيْتَ وَسَاقَ هَدْيًا فَقَلَّدَهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ عَنْ غَيْرِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِحْرَامِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ كَمَا يَحْصُلُ بِالتَّلْبِيَةِ فَكَذَلِكَ إحْرَامُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْهَدْيُ لِقِرَانِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ مِنْ جِمَاعٍ فِي إحْرَامٍ قَبْلَ هَذَا أَوْ إحْصَارٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا فَسَاقَ مَعَهُ لِذَلِكَ هَدْيًا بَدَنَةً وَقَلَّدَهَا فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى قِيَاسِ مَا لَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ هَذِهِ الْهَدَايَا وَسَوْقِهَا فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَدَايَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ (قَالَ): رَجُلٌ أَمَرَهُ رَجُلَانِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَنْوِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَالَ: لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَفَقَتِهِمَا، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْحَاجِّ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَتِهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَكَذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِالنِّيَّةِ فَبِتَرْكِهِ تَعْيِينَ النِّيَّةِ يَكُونُ مُخَالِفًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا قَالَا: الْإِبْهَامُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ صَحِيحًا وَالتَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ فِي الِانْتِهَاءِ وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كَتَعْيِينِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ فَتَرْكُهُ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِيهِ لَا يَجْعَلُهُ مُخَالِفًا، وَإِذَا عَيَّنَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِ الْأَدَاءِ كَانَ ذَلِكَ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْعَمَلِ مَعَ إبْهَامِ النُّسُكِ لَا يَكُونُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَعَهُ، ثُمَّ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ فِي إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ كَعِبَارَةِ ابْنِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَصِيرُ الِابْنُ مُحْرِمًا بِهَذَا لَا أَنْ يَصِيرَ الْأَبُ مُحْرِمًا عَنْهُ بَقِيَ لِلْأَبِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْقَارِنِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَنْ نَفْسِهِ بِإِحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ (قَالَ): وَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَوَقَفُوا بِهِ فِي الْمَوَاقِفِ وَقَضَوْا لَهُ النُّسُكَ كُلَّهُ، قَالَ: يُجْزِيهِ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: لَا يُجْزِيهِ.
وَالْقِيَاسُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلْأَصْحَابِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَإِلْزَامُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِوِلَايَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ النِّيَّةُ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ أَمْرِهِ لَا تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ لَا تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْأَصْحَابِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرِّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَكَمَنْ نَصَبَ الْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَجَعَلَ فِيهِ اللَّحْمَ وَأَوْقَدَ النَّارَ تَحْتَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَطَبَخَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ قَامَتْ نِيَّتُهُمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا.
وَأَمَّا سَائِرُ الْمَنَاسِكِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ نِيَّاتِهِمْ عَنْهُ فِي أَدَائِهَا صَحِيحٌ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا، وَلَوْ أَدَّوْا عَنْهُ جَازَ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ، فَقَالَ: الْإِحْرَامُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَتُجْزِي النِّيَابَةُ فِي الشُّرُوطِ، وَإِنْ كَانَ لَا تُجْزِي فِي الْأَعْمَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَابَةُ لَا تُجْزِي فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّيَابَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَفِي أَصْلِ الْإِحْرَامِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ فَيَنُوبُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَأَمَّا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ (قَالَ): فَإِنْ أَصَابَ الَّذِي أَهَلَّ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ يَصِيرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِهِ إفْصَاحًا، فَأَمَّا الْمُهِلُّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ إحْرَامِهِ (قَالَ): وَإِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ): بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّتِي سَأَلَتْهُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا: حُجِّي وَاعْتَمِرِي» وَأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي قَدْ تُوُفِّيَتْ وَأَنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا، فَقَالَ:» فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْوَارِثِ يَتَبَرَّعُ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُرَبِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَاذَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَا صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ.
(قُلْنَا)؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
(قُلْنَا) خَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ فَفِيمَا طَرِيقُهُ الْعَمَلُ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِيهِ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا قُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ): رَجُلٌ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَأَحَجَّ الْوَصِيُّ عَنْهُ رَجُلًا فَهَلَكَتْ النَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً أُخْرَى مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ يَحُجُّ عَنْهُ ثَانِيًا وَإِلَّا فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي تَعْيِينِ الْمَالِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي مَالًا فَهَلَكَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: مَحِلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَتَعْيِينُ الْوَصِيِّ الثُّلُثَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الثُّلُثُ لِلْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا تَعْيِينُهُ فِي الثُّلُثِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَعْيِينُ الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا التَّعْيِينُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ صَارَ كَأَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يُوجَدْ وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلِهَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَعِتْقِ نَسَمَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَسَعُهُمَا يَبْدَأُ بِاَلَّذِي بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يَبْدَأُ بِهَا، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْبِدَايَةِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُوصَى يَقْصِدُ تَقْدِيمَ الْفَرْضِ فِي الْأَدَاءِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِهِ، وَلَمْ يَقُلْ حَجَّةً حُجَّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُفْعَلَ بِثُلُثِهِ طَاعَةٌ أُخْرَى (قَالَ): وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ رَجُلٌ حَجَّةً فَأَحَجُّوهُ فَلَمَّا قَدِمَ فَضَلَ مَعَهُ كِسْوَةٌ وَنَفَقَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَالَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فَإِنَّ التَّمْلِيكَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْجَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا يُنْفَقُ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْكِفَايَةَ حِينَ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ لَهُ فَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَتِهِ (قَالَ): وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ، فَقَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً، وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يُعْطَى فَإِنَّهُ يُعْطَى بِقَدْرِ مَا يُحِجُّهُ حَجَّةً وَلَهُ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ إذَا أَخَذَهُ بَلْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، إنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ الْحَجَّ عِيَارًا لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً صَحِيحَةً يَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَمَشُورَتُهُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ فَإِنْ شَاءَ حَجَّ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ (قَالَ): وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَوْصَى بِوَصَايَا لِأُنَاسٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ يُضْرَبُ لِلْحَجِّ فِيهِ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ وَجَبَ تَنْفِيذُهَا لَهُ بِنَفَقَةِ الْمُوصِي وَوَجَبَ تَنْفِيذُ سَائِرِ الْوَصَايَا حَقًّا لِلْمُوصَى لَهُمْ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْحُقُوقِ تَجْرِي الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ كُلِّ مُسْتَحِقٍّ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَجِّ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّتَيْنِ هُنَاكَ لِحَقِّ الْمُوصِي فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، ثُمَّ مَا خَصَّ الْحَجَّ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمْكِنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ثُلُثُ مَالِهِ إلَّا هَذَا وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ فَإِنْ أَحَجُّوا بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ فَرَجَعَ الْحَاجُّ بِفَضْلِ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فَكَانَ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَهُ فَيُضَمُّ ذَلِكَ إلَى مَا بَقِيَ وَيُحَجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا فَحِينَئِذٍ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِي الْحَجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ التَّفَاوُتِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ رُجُوعِهِ كِسْرَةٌ أَوْ جِرَابٌ خَلَقٌ أَوْ ثَوْبٌ خَلَقٌ فَلِهَذَا جَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ عَفْوًا، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ (قَالَ): وَإِذَا أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا إذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُحْصَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي حَقِّهَا الْمَحْرَمَ عِنْدَنَا، ثُمَّ يُشْتَرَطُ أَنْ تَمْلِكَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مَعَهَا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: نَفَقَةُ الْمَحْرَمِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْخُرُوجِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِتَبَرُّعِهِ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ كَمَا لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَتِهَا فَكَمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لِنَفْسِهَا فَكَذَلِكَ لِلْمَحْرَمِ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَهَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فِيمَا سَبَقَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَا مِنْ الطَّرِيقِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَمْ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ؟ وَكَانَ ابْنُ أَبِي شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ بِدُونِهِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ فَيَكُونُ شَرْطُ الْوُجُوبِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ فَسَّرَهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ»، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي شَرْطِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي وَقْتٍ أَخْوَفَ مِمَّا كَانَ يَوْمئِذٍ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْنَ الطَّرِيقِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَمِلْكُ نَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْعِيَالِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ زِيَادَةُ نَفَقَةِ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْكَسْبِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَاسْتُحْسِنَ اشْتِرَاطُ مِلْكِ نَفَقَةِ شَهْرٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ، ثُمَّ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ قَالَ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ أَخَّرَ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ مَاتَ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِتَأْخِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِيَّتِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتَ أَدَائِهِ وَلَا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْعُمُرِ أَدَاؤُهُ فَصَارَ جَمِيعُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْحَجِّ كَجَمِيعِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَهُنَاكَ التَّأْخِيرُ يَسَعُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ أَدَائِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْظُرَ إلَى مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَمْ يَحُجَّ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَرَاهُمْ مُسْلِمِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّنَةَ الْأُولَى بَعْدَ مَا تَمَّتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَدَاءِ الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ فَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَتَأْخِيرِ الصَّوْمِ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بَيَانُهُ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ هَذَا الْوَقْتُ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِيَقِينٍ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْأَدَاءِ بِمَجِيءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَوْهُومٌ فَرُبَّمَا لَا يَعِيشُ إلَيْهَا وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ فَبَقِيَ مُضِيُّ هَذَا الْوَقْتِ تَفْوِيتًا لَهُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عُمُرِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ السَّنَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِحَيَاتِهِ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ فَخَرَجَتْ السَّنَةُ الْأُولَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ فِي حَقِّهِ تُعَدُّ لِمَا أَدْرَكَهَا بِمَنْزِلَةِ السَّنَةِ الْأُولَى، فَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- فَقَالُوا نُزُولُ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَأَمَّا النَّازِلُ سَنَةَ سِتٍّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}،
وَهَذَا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِيَّةِ مَعَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفَوْتِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ وَالْحَجُّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فَأَمِنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ بِفِعْلِهِ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ كَانَ لِعُذْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُلَبُّونَ تَلْبِيَةً فِيهَا شِرْكٌ وَمَا كَانَ التَّغْيِيرُ مُمْكِنًا لِلْعَهْدِ حَتَّى إذَا تَمَّتْ الْمُدَّةُ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٍ وَنَادَى أَنْ لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ، ثُمَّ حَجَّ بِنَفْسِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ وَحْدَهُ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَصْحَابِهِ يَكُونُونَ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ كِفَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ أَوْ كَانَ لِلنَّسِيءِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَعْذَارَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ (قَالَ): وَإِنْ أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ «لَا تَصُومِي تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِكِ» وَلِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهَا مِنْ ذَلِكَ فَوَّتَتْ عَلَى الزَّوْجِ حَقَّهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا كَمَا خَرَجَتْ عَنْ حَجَّةٍ أَحْرَمَتْ بِأُخْرَى وَهِيَ لَا تَمْلِكُ تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرَةِ إلَّا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا هُنَا قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ بِالْهَدْيِ لِيُوَفِّرَ حَقَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَتْ الْمَحْرَمَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ إذَا أَهَلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ بِخِلَافِ الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَيْضًا أَعَادَهُ لِلْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَ الْمَمْلُوكُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ كَانَ لِمَعْنَى خُلْفِ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبِ الْإِحْرَامِ، وَجَعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ إبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا لَازِمًا، تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ بِالسَّبْقِ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ لُزُومُهُ لَيْسَ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْمَحِلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَحَلَّلَهَا، ثُمَّ جَامَعَهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ بِإِحْرَامٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعَلَيْهَا دَمٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحَلَّلَتْ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ بِإِحْلَالِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَعَلَيْهَا الدَّمُ وَقَضَاءُ الْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَيْهَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ أَوْ فِي عَامٍ آخَرَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْمُحْصَرِ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ فَإِنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهَا فَحَجَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ فَوَاتُ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.