فصل: ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر حوادث العرب أيام قباذ:

لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، كما ذكرناه، بعث إليه قباذ: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد، وأحب لقاءك. وكان قباذ زنديقاً يظهر الخير ويكره الدماء ويداري أعداءه. فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحدٌ من العرب، فطمع الحارث الكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد، فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث، فاستدعاه، فحضر، فقال له: إن لصوصاً من العرب صنعت كذا وكذا، فقال: ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. وطلب منه شيئاً من السواد، فأعطاه ستة طساسيج، وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع، وهو باليمن، يطمعه في بلاد العجم، فسار تبع حتى نزل الحيرة، وأرسل ابن أخيه شمراً ذا الجناح إلى قباذ، فحاربه فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، ثم وجه تبع شمراً إلى خراسان، ووجه ابنه حسان إلى السغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليه، وكان كل واحد منهما في جيش عظيم، يقال: كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفاً؛ وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم، فنزل على القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه طاعون، فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد.
وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها، فلم يظفر بها، وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنةً، وهي التي تقضي الأمور، فأرسل إليها هديةً عظيمةً، وقال لها: إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهباً وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك.
فلما بلغتها الرسالة قالت: قد أجبته فليبعث المال؛ فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان. ولسمرقند أربعة أبواب، ولكل باب ألفا رجل، وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس. فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس، فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها حتى ماتا؛ وكان مقامهما فيما قيل إحدى وعشرين سنة، وقيل: عادا في طرقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر، ثم انصرفوا جميعاً إلى بلادهم، ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازياً بعده.
وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة؛ وقيل تهودٌ.
قال ابن إسحاق: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابناً له فقتل غيلةً فقدمها عازماً على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو ابن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان، فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال: ولم ذلك؟ فقالا: إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره. فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما، واسمهما كعب وأسد، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان. وسار من المدينة إلى مكة، وهي طريقه، فكسا الكعبة الوصائل والملاء، وكان أول من كساها، وجعل لها باباً ومفتاحاً، وخرج متوجهاً إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار، وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فقال لقومه: أنصفتم. فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار، فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت حمير على ديته.
وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فقال له تبع: هل تجد لقومٍ ملكاً يوازي ملكي؟ قال: لا إلا لملك غسان. قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه؟ قال: أجد لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي! فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم ملك بعد تبع هذا، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب، ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد.
فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً إلا أحضره وقال لهم: رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها. فقالوا: اقصصها علينا. فقال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، فلما قال ذلك قال له رجلٌ منهم: إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت. واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان، وكان يقال له الذئبي نسبةً إلى ذئب بن عدي، وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار.
فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها. فقال: رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة؟ قال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع، فمتى يكون أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين. قال: هل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: فيدوم ذلك من سلطانهن أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع، يقطعه نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي، وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق فقال: يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها! وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان. قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت شيئاً، فما تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق! إن هذا لغائظ، فمتى هو كائن؟ قال: بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، وهو غلام ليس بدنيً ولا مزن، يخرج من بيت ذي يزن. فلا يترك أحداً منهم باليمن قال: فهل يدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء بدعوات، ويسمع منها الأحياء والأموات، ويجتمع فيه الناس للميقات.
فلما فرغ من مسألتهما جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك.
فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم، كما كانت التبابعة تفعل. فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمراً في قتل حسان وتمليكه، فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه، فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها.
ألا من يشتري سهراً بنومٍ؟ ** سعيدٌ من يبيت قرير عينٍ

فإمّا حميرٌ غدرت وخانت ** فمعذرة الإله لذي رعين

ثم ختمها وأتى بها عمراً فقال: ضع هذه عندك، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو:
يا عمرو لا تعجل عليّ منيتي ** فالملك تأخذه بغير حشود

فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك، فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل، ثم عاد إلى اليمن فمنع النوم منه، فسأل الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر، فقال له قائل منهم: ما قتل أحدٌ أخاه أو ذا رحم بغياً إلا منع منه النوم. فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة. قال: وما هي؟ قال: أخرج الكتاب الذي استودعتك. فأخرجه فإذا فيه البيتان، فكف عن قتله، ولم يلبث عمرو أن هلك، فتفرقت حمير عند ذلك.
قلت: هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتله من النقل القبيح والغلط الفاحش، وفساده أشهر من أن يذكر، فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى. ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري، ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم، وكان ملكه مدة معلومة، كما ذكرناه قبل، ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية. ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، وهذا أشهر من: قفا نبك، ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير، كيف كان ملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج! ثم ذكر أيضاً أن تبعاً وجه ابنه حسان إلى الصين وشمراً إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها، فيا ليت شعري! ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود ما يكون بعضهم في بلادهم لحفظها، وجيش مع تبع، وجيش مع حسان يسر بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته، وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها، وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية! والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عدداً وجنوداً فلم يقدروا على ذلك، فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع؟ هذا مما تأباه العقول، وتمجه الأسماع.
ثم إنه قال: إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ، يعني أيام ابنه أنوشروان، ولا خلاف أن مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، كان في زمن أنوشروان، وكان ملكه سبعاً وأربعين سنة، ولا خلاف أيضاً أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرض ملك حمير منه، وكان آخر ملوكهم ذا نواس. وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس، وانقطع نظامهم حتى طمعت الحبشة فيه وملكته، وكان ملكهم اليمن أيام قباذ، وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن؟ هذا مردود محال وقوعه، وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان، والخبر في ذلك مشهور، وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر، ولم يزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون، فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشروان وكان ملكه نيفاً وأربعين سنة؟ وهذا أعجب أن مدة بعضها سبعون سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة، ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله.
وأعجب من هذا أنه قال: ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي، وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، وكان ملك عمرو والحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة، وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكاً، وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل؟ ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله: ذكر الحوادث أيام قباذ، لكان يحتمل تأويلاً فيه، ثم ما قنع بذلك حتى قال، بعد أن قص مسير تبع: وقتل قباذ وملك البلاد.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير، ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد، فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلاد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زماناً طويلاً حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن. فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعاً الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس، ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضاً مما بعدها حتى يستقيم هذا القول.
ثم إنه قال: إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع، وعمر هذا قيل إنه أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، شيخاً كبيراً ومات عند مرجعه من غزوة بدر. ومن الدليل على بطلانه أيضاً أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم: كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك، فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب: إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم، فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه، على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث، الذي هو آدم في قول بعضهم، إلى أن جاء الإسلام، إلا أيام ملوك الطوائف، وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعاً كلياً، على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافاً كثيراً، شمر بن غش، وقيل: تبع أسعد، وإنه بعث إلى سمرقند شمراً ذا الجناح، إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها. وهذا القدر كافٍ في كشف الخطأ فيه.

.ذكر ملك لختيعة:

فلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم، في قول ابن إسحاق، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان امرأ فاسقاً يزعمون أنه كان يعمل عمل قوط لوط، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكاً في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه، ثم يخلي سبيله فيفضحه.

.ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدود:

كان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب، وكان صغيراً حين أصيب أخوه حسان، فشب غلاماً جميلاً ذا هيئة، فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره، فأخذ سكيناً لطيفاً فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها، ثم أخذ سواكه فجعله في فيه، ثم خرج، فقالوا: ذو نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل يحماس، استرطبان ذو نواس لا بأس.
فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لختيعة مقطوع، فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة، واجتمعوا عليه، وكان يهودياً، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان أصل النصرانية بنجران.
قال وهب بن منبه: إن رجلاً من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئاً ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره، فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفياً، ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حباً شديداً، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميمون لا يعلم. فجلس صالح منه منظر العين مستخفياً، وقام فيميون يصلي، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين، فلما رآه فيميون دعا عليه فمات، ورآه صالح ولم يدر ما أصاهب فخاف على فيميون، فصاح: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى، وعرف أن صالحاً عرفه، فكلمه صالح وقال له: يعلم الله أنني ما أحببت شيئاً حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت. قال: افعل. فلزمه صالح، وكان إذا ما جاءه العبد به ضرٌ شفي إذا دعا له، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوباً ثم قال لفيميون: قد أردت أن تعمل في بيتي عملاً، فانطلق إليه لأشارطك عليه؛ فانطلق معه، فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له، فدعا له فأبصر.
وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام. فناداه رجل وقال: ما زلت أنتظرك، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت، قال: فمات، فواراه فيميمون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران، وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لها عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل، فعكفوا عليها يوماً، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحاً، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح. فلما رأى سيده ذلك أعجبه، فسأله عن دينه فأخبره، وعاب دين سيده. وقال له: لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة. فقال: افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون ودعا الله تعالى، فأرسل الله عليها ريحاً فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
وقال محمد بن كعب القرظي: كان أهل نجران يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر. فلما نزلها فيميون وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى بن مريم، عليه السلام، فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى، وله كرامات، فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر، فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر، فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته، فجعل يجلس إليه ويستمع منه، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم- وكان يعلمه- فكتمه إياه وقال: لن تحتمله، والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان. فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحداً واحداً حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئاً، فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال له: امسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فكان عبد الله لا يلقى أحداً إذا أتى نجران به ضر إلا قال: يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له عبد الله فيشفى، حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي.
فرفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني، لأمثلن بك! فقال: لا تقدر على ذلك. فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأسٌ، فأرسله إلى مياه نجران، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأسٌ. فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت، فإنك إذا فعلت قتلتني. فوحد الله الملك ثم ضربه بعصاً بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً. وهم الذين أنزل الله فيهم: {قتل أصحاب الأخدود} [البروج: 4].
وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل، وكان قبل مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، بسبعين سنة، وكان له ساحر حاذق. فلما كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه، فجعل يختلف إلى الساحر، وكان في طريقه راهب حسن القراءة، فقعد إليه الغلام، فأعجبه أمره، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له: ما الذي حبسك؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول: ما الذي أبطأ بك؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم. وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس، فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها، وأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: إن لك لشأناً، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي. وصار الغلام يبرئ الأكمة والأبرص ويشفي الناس. وكان للملك ابن عم أعمى، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال: ادع الله أن يرد علي بصري. فقال الغلام: إن رد الله عليك بصرك تؤمن به؟ قال: نعم. قال: اللهم إن كان صادقاً فأردد عليه بصره، فعاد بصره، ثم دخل على الملك، فلما رآه تعجب منه وسأله، فلم يخبره، وألح عليه فدله على الغلام، فجيء به، فقال له: لقد بلغ من سحرك ما أرى. فقال: أنا لا أشفي أحداً إنما يشفي الله من يشاء، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب، فجيء به، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين، ثم جيء بابن عم الملك، فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فشقه قطعتين، ثم قال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا فان رجع وإلا فاطرحوه من رأسه، فذهبوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم! فرجف بهم الجبل وهلكوا، ورجع الغلام إلى الملك، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله. فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم! فغرقوا ونجا، وجاء إلى الملك فقال: اقتلوه بالسيف، فضربوه فنبا عنه. وفشا خبره في اليمن، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق، فقال الغلام للملك: إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول: بسم الله رب الغلام. ففعل ذلك فقتله. فقال الناس: آمنا برب الغلام! فقيل للملك: قد نزل بك ما تحذر. فأغلق أبواب المدينة وخد أخدوداً وملأه ناراً وعرض الناس، فمن رجع عن دينه تركه، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه.
وكانت امرأة مؤمنة، وكان لها ثلاثة بنين، أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك، فأبت، فألقى ابنيها الكبيرين، فأبت، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع. قال لها الصغير: يا أماه لا ترجعي عن دينك، لا بأس عليك! فألقاه وألقاها في أثره، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيراً.
قيل: حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب، فرأى عبد الله ابن الثامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دماً، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد، فكتب فيه إلى عمر، فأمر بتركه على حاله.