سورة الأعراف / الآية رقم 101 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ

الأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعراف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين؛ ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل.. أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء؛ لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون.. كل ذلك للابتلاء.. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: {وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}! أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله.. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار..
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها.. يحذرهم الغفلة والغرة، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى، ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها...} لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.. فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها..
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء. فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ الإنسان في هذه الأرض.
وأن الرسالة ذاتها- على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس- وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافاً؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض- كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان!- وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس..
ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون!
إن إرادة الإنسان وحركته- في التصور الإسلامي- عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً. ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل.. والله بكل شيء محيط.. وإرادة الإنسان وحركته- في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل- يتعاملان مع الوجود كله؛ ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً.. فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة؛ مما يبدو إلى جانبه التفسير الاقتصادي للتاريخ، والتفسير البيولوجي للتاريخ، والتفسير الجغرافي للتاريخ... بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة. وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير!.
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون}..
فليس للعبث- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة- كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى؛ وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له- والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} «ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً. ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على معصيته- سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً» (كما جاء في الحديث القدسي).
ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم- كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم. وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد!
لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم. استحياء لقلوبهم بالألم. والألم خير مهذب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق.. {لعلهم يضرعون}..
{ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة}..
فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف. وإذا هو متاع ورخاء، وهينة ونعماء، وكثرة وامتلاء.. وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء..
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، ويحتمل مشقاته الكثيرون. فالشدة تستثير عناصر المقاومة. وقد تذكر صاحبها بالله- إن كان فيه خير- فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظله طمأنينة، وفي رحابه فسحه، وفي فرَجه أملاً، وفي وعده بشرى.. فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون. فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي. فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله.
{ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}..
أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه.. والتعبير: {عفوا}- إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة: حالة قلة المبالاة. حالة الاستخفاف والاستهتار. حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء.. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفراداً وأمماً- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً، أو تحسب حساباً لشيء. فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان، في يسر واطمئنان! وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة. وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس. ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم:
{وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء}.
وقد أخذ دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء!
عندئذ.. وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية:
{فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}..
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال!
هكذا تمضي سنة الله أبداً. وفق مشيئته في عباده. وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته- وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة؛ ويحذرهم الفتنة.. فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء.. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ، ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد. ولن تظلم نفس شيئاً.
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية. فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض.. هكذا.. {بركات من السماء والأرض} مفتوحة بلا حساب. من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات..
وأمام هذا النص- والنص الذي قبله- نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء. وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال. بل تنكره كل الإنكار!..
إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان. إن الإيمان بالله، وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟
ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله.. نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان..
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه!
إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية؛ وصدق في الإدراك الإنساني، وحيوية في البنية البشرية، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود.. وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها.
وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً!
وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة.. وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة لله.. تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح.. والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود..
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال!
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيداً. ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس:
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}..
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً- يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!.. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ.. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال!
إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون.. لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم، يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم والتقاليد- وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره.. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق.
فهذه هي السنة: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء}! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة.. وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن. وهو متاع بلا رضى. وهي وفرة بلا صلاح. وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال..
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية. التي يشهد بها تاريخ القرى الخالية. وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان، على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا؛ وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء.. في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع:
{أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون؟ أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}..
أفأمن أهل القرى- وتلك سنة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، والبأساء والنعماء، وتلك مصارع المكذبين السادرين، الذين كانوا قبلهم يعمرون هذه القرى ثم تركوها فخلفوهم فيها- أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله في غفلة من غفلاتهم، وغرة من غراتهم؟ أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله بالهلاك والدمار.. بياتاً وهم نائمون.. والإنسان في نومه مسلوب الإرادة، مسلوب القوة، لا يملك أن يحتاط ولا يملك أن يدفع عادية من حشرة صغيرة.. فكيف ببأس الله الجبار؟ الذي لا يقف له الإنسان في أشد ساعات صحوه واحتياطه وقوته؟
أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله.. ضحى وهم يلعبون.. واللعب يستغرق اليقظة والتحفز، ويلهي عن الأهبة والاحتياط. فلا يملك الإنسان، وهو غارٌّ في لعبه، أن يدفع عن نفسه مغيراً. فكيف بغارة الله التي لا يقف لها الإنسان وهو في أشد ساعات جده وتأهبه للدفاع؟
وإن بأس الله لأشد من أن يقفوا له نائمين أم صاحين. لاعبين أم جادين. ولكن السياق القرآني يعرض لحظات الضعف الإنساني، ليلمس الوجدان البشري بقوة، ويثير حذره وانتباهه، حين يترقب الغارة الطامة الغامرة، في لحظة من لحظات الضعف والغرة والفجاءة.
وما هو بناج في يقظة أو غرة. فهذه كتلك أمام بأس الله سواء!
{أفأمنوا مكر الله؟}.
وتدبيره الخفي المغيب على البشر.. ليتقوه ويحذروه.
{فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}..
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار. وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار! أفأمنوا مكر الله؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين، الذين هلكوا بذنوبهم، وجنت عليهم غفلتهم؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم؟
{أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}..
إن سنة الله لا تتخلف؛ ومشيئة الله لا تتوقف. فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟ وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة.. ألا إن مصارع الخالين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية.. كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية؛ وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم. عسى ألا يكون فيهم. لو كانوا يسمعون!
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله. وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئناً بذكر الله، قوياً على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
والمنهج القرآني- مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم. فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة. ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير..
والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام:
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل. كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات}..
فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان. وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا. إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها. فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب:
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}..
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة:
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا}..
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف. كما يقع في كل جاهلية. إذا تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية.
وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}..
منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه. فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال