سورة البقرة / الآية رقم 108 / تفسير روائع البيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
[2] النسخ في القرآن:
التحليل اللفظي:
{نَنسَخْ}: النسخُ يأتي بمعنى (الإزالة) تقول العرب: نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته، ومنه قوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} [الحج: 52] أي يزيل ما يلقيه الشيطان.
ويأتي بمعنى (النقل) من موضع، ومنه قولهم: نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
ويأتي بمعنى (التبديل) تقول: نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى، وإليه يشير قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]
ويأتي بمعنى (التحويل) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد، هذا من حيث اللغة.
وأما في الشرع: فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رحمه الله. النسخ: هو رفع الحكم الشرعي، بدليل شرعيّ متأخر.
{نُنسِهَا}: نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة.
وقيل: من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب. ومنه قوله تعالى: {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن عباس: أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها.
وحكى الأزهري: نُنْسها: أي نأمرُ بتركها، يقال: أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه، ونسيتُه تركته، قال الشاعر:
إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها *** لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها
وأما قراءة (نَنْسَأها) بالهمز، فهو من النسأ بمعنى التأخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة.
وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله، أي أخرّ وزاد.
قال الألوسي: وقرئ: {ننسأها} وأصلها من نسأ بمعنى أخّر، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى: {نُنْسها} فتتحّد القراءتان.
{بِخَيْرٍ مِّنْهَا}: أي بأفضل منها، ومعنى فضلها: سهولتها وخفتها.
والمعنى: نأت بشيء هو خير للعباد منها، أو أنفع لهم في العاجل والآجل.
قال القرطبي: لفظة *خير* هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية.
{وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}: الوليّ معناه القريب والصديق، مأخوذ من قولهم: وليتُ أمر فلان أي قمتُ به، ومنه وليّ العهد: أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
والنصيرُ: المعين مأخوذ من قولهم: نصره إذا أعانه.
قال الإمام الفخر: وأمّا الولي والنصير فكلاهما (فعيل) بمعنى (فاعل) على وجه المبالغة.
والمعنى: ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب.
{أَمْ تُرِيدُونَ}: {أم} تأتي: متصلة، ومنقطعة، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] وأما المنقطعة فهي بمعنى (بل) كقول العرب (إنها الإبل أم شاء) كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [السجدة: 3] أي بل يقولون.
ومثله قول الأخطل:
كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ *** غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً
قال القرطبي: هذه (أم) المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخ.
{يَتَبَدَّلِ الكفر}: يقال: بدّل، تبدّل، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175].
{سَوَآءَ السبيل}: السواءُ من كل شيء: الوسطُ، ومنه قوله تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] أي وسط الجحيم.
والسبيلُ في اللغة: الطريقُ، والمراد به طريق الاستقامة.
ومعنى الآية: من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان، فقد حاد عن الحق، وعدل عن طريق الاستقامة، ووقع في مهاوي الردي.
وجه الارتباط بالآيات السابقة:
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً، ذكر هنا سرَّ النسخ، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها، وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة والأشخاص، فينبغي تسليم الأمر لله، وعدم الاعتراض عليه، لأنه هو الحكيم العليم.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}: أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير لكم منها- أيها المؤمنون- في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم، أو بزيادة الأجر لكم والثواب، أو بمثلها في الفائدة للعباد، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم، حكيم، قدير، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان، وأنه- جل وعلا- شرع هذه الملة الحنيفية السمحة، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار؟!
فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة، أو جهل في المصلحة، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق، يحكم بما شاء، ويأمر بما شاء، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم، أو ناصر ينصركم، فلا تثقوا بغيره، ولا تعتمدوا إلا عليه، فهو نعم الناصر والمعين.
أتريدون- أيها المؤمنون- أن تسألوا رسولكم، نظير ما سأل قوم موسى من قبل؟! فتضلّوا كما ضلّوا، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا:
{أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم، وتقترحوا عليه ما تشتهون، فتصبحوا كاليهود الضالين؟!
ومن يستبدل الكفر بالإيمان، والضلالة بالهدى، فقد حاد عن الجادة، وعدل عن طريق الاستقامة، وتردّى في مهاوي الهلاك، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم.
سبب النزول:
أ- روي أن اليهود قالوا: ألا تعجبون لأمر محمداً؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضاً فنزلت: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا...} الآية.
ب- روي الفخر الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقالوا يا محمد: والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ...} [البقرة: 108].
ج- وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال: نعم، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ...}.
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} بفتح النون من نسخ الثلاثي، وقرأ ابن عامر: {نُنْسخ} بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي.
قال الطبرسي:لا يخلو من أن يكون (أَفْعل) لغة في (فَعَل) نحو بدأ وأبدأ، وحلّ من إحرامه وأحلّ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ، وقول من فتح النون {نَنْسخ} أبينُ وأوضح.
2- قرأ الجمهور: {نُنْسِها} بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {نَنْسأها} بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم: نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها، ومنه قولهم: أنسأ الله أجلك.
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}.
قال ابن قتيبة: أراد أو (نُنْسكها) من النسيان. (ما) شرطية جازمة و(ننسخ) مجزوم لأنه فعل الشرط، و(مِنْ) صلة تأدباً، و(آية) مفعول ل (ننسخ) والمعنى: ما ننسخ آية قال ابن مالك:
وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ *** نكرةً كما لباغٍ من مفر
و(نُنسها) معطوف على (ننسخ) والمعطوف على المجزوم مجزوم، و(نأت) جواب الشرط حذف منه حرف العلة، و(بخيرٍ) جار مجرور متعلق بنأت.
قال العكبري: ومن قرأ بضم النون (نُنْسها) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير: نُنْسكها.
2- قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] والخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سادّ مسدّ مفعولي (تعلم) عند الجمهور، ومحل المفعول الأول عند الأخفش، والمفعول الثاني محذوف.
3- قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} أم منقطعة للإضراب ومعناها (بل) والتقدير: بل أتريدون، {كَمَا سُئِلَ} الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال، و(ما) مصدرية.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: ذكر الله تعالى النسخ في القرآن، وبيّن حكمته، وهو الإتيان بما هو خير للعباد، والخيرية تحتمل وجهين:
الأول: ما هو أخف على البشر من الأحكام.
الثاني: ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين.
قال القرطبي: والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه، لا على ما هو أخف على طباعه، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وذلك لخير العباد، لأنه يكون أكثر ثواباً، وأعظم جزاءً، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد.
اللطيفة الثانية: أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية (أو نُنْسها) على النسيان ضد الذكر، لأنّ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6]، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون.
والجواب كما قال ابن عطية: أن هذا النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة، ومن هذا ما روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة، فلما فرغ منها قال: أفي القوم أُبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلِمَ لم تذكرني؟ قال: خشيت أن تكون قد رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها».
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في (السهولة والخفة) وليس المراد الأفضلية في (التلاوة والنظم) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين.
قال القرطبي: لفظة (خير) هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كان مستوية، وليس المراد ب (أخير) التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89] أي فله منها خير أي نفع وأجر.
وقال أبو بكر الجصاص: {بخيرٍ منها} في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباس وقتادة، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة، إذ غير جائز أن يقال: إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم، إذ جميعه معجز كلام الله.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته بدليل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم، وقدوتهم، كقوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد. ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير (أنّ الله) و(من دون الله) لتربية الروعة والمهابة في نفوس المؤمنين، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية، وكذا الحال في قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
قال العلامة أبو السعود: والمعنى: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً، وأمراً ونهياً، حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقّب لحكمه.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} معنى: {دُونِ الله} أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت:
يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق *** وما على حدثان الدهر من باق
قال في (الفتوحات الإلهية): وقوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أتى بصيغة فعيل في {وَلِيٍّ} و{نَصِيرٍ} لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} السّواء: هو الوسط من كل شيء، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق المستوي يعني المعتدل، ومعنى (ضل) أي أخطأ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل النسخ جائز في الشرائع السماوية؟ قال الإمام الفخر: النسخ عندنا جائز عقلاً، واقع سمعاً، خلافاً لليهود، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً، لكنْ منع منه سمعاً، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.
واحتج الجمهور: من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ.
وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة، وفي نفس شريعة اليهود، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك باتفاق.
قال الجصاص في تفسيره (أحكام القرآن): (زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين، كالسبت، والصلاة إلى المشرق والمغرب، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة، إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به، ولا يجيزون فيه التأويل، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها، وأكثر ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه، ونقلته الأمة..).
دليل أبي مسلم:
أ- احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل.
ب- كما تأول الآية الكريمة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوارة والإنجيل، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب.
ج- وقال: إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه.
والجوال عن الأول: أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
وأما الثاني والثالث: فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل.
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ...}
[النحل: 101] قالوا: إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات، والمرفوع إمّا التلاوة، وإمّا الحكم، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا...} [البقرة: 142] ثم قال تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام.
الحجة الرابعة: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جل ذكره: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول...} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234].
الحجة الخامسة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكتَ وأهلكت الناس.
قال العلامة القرطبي: (معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام، وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوبون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة).
ثم قال: لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغيّر، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى.
الحكم الثاني: ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم؟
ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ التلاوة والحكم معاً.
الثاني: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
الثالث: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
أما الأول: وهو (نسخ التلاوة والحكم) فلا تجوز قراءته، ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات.. روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن فنسخن بخمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن).
قال الفخر الرازي: فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والجزء الثاني، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
وأما الثاني: (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) فهو كما قال الزركشي في (البرهان): يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول، كما روي أنه كان في سورة النور (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم). ولهذا قال عمر: (لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي).
وأخرج ابن حيان: في صحيحه عن (أُبيّ بن كعب) رضي الله عنه أنه قال: (كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور- أي في الطول- ثمّ نسخت آيات منها).
وأما الثالث: (نسخ الحكم وبقاء التلاوة) فهو كثير في القرآن الكريم، وهو كما قال (الزركشي) في ثلاث وستين سورة.. ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية، وآية العدة، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكف عن قتال المشركين.. الخ.
وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة (رسالة في الناسخ والمنسوخ) جاء فيها ما نصه:
اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة، ثم أمرُ القبلة، ثم الصيام الأول، ثم الإعراض عن المشركين، ثم الأمر بجهادهم، ثم أمره بقتل المشركين، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم الخ.
فائدة هامة: ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟
قال العلامة الزركشي: وهنا سؤال وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيها: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.
الحكم الثالث: هل ينسخ القرآن بالسنّة؟
اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن، وأن السنة تنسخ بالسنة، والخبر المتواتر بغير المتواتر؟
فذهب الشافعي: إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده.
وذهب الجمهور: إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن، وبالسنّة المطهرّة أيضاً، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده.
دليل الشافعي:
استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} ووجه الاستدلال عنده من وجوه:
الأول: أنه قال: {نَأْتِ} وأسند الإتيان إلى نفسه، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً.
الثاني: أنه قال: {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن.
الثالث: أنه قال في الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات، وذلك هو الله ربّ العالمين.
الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] حيث أسند التبديل إلى نفسه، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته.
أدلة الجمهور:
احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أ- نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا وصية لوارث» ولا ناسخ إلا السنّة.
ب- نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالرجم فقط.
ج- وقالوا إنّ ما ورد في الكتاب أو السنة، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3-4].
د- وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رحمه الله بأنه استدلال غير واضح. لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى، وإذا كان الأمر كذلك، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ، أيّاً كان الناسخ قرآناً، أو سنة، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم.
الترجيح: ومن هنا يترجح رأي الجمهور، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول.
الحكم الرابع: هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل؟
قال الإمام الفخر: قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه، واحتجوا بأن قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ينافي كونه أثقل، لأنّ الثقل لا يكون خيراً منه، ولا مثله.
والجواب: لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة؟
ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت، إلى (الجلد والرجم) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر.
إذا عرفت هذا فنقول: أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة.
الحكم الخامس: هل يقع النسخ في الأخبار؟
جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67].
قال ابن جرير الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً.. ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي، والحضر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وقال القرطبي: والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فتأمل هذا فإنه نفيس.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة.
2- راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام.
3- النسخ لا يكون في الأخبار والقصص، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام.
4- الأحكام مرجعها إلى الله تعالى، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم.
5- الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان.
6- ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم.
7- الانحراف عن طريق الاستقامة، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس، متمشية مع تطور الزمن، صالحة لكل زمان ومكان.. وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم سنة التدرج في الأحكام، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية، فلا تشعر بملل أو ضجر، ولا تحسّ بمشقة أو شدة.. ولتظلّ الشريعة الغراء- كما أرادها الله- شريعة سمحة، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد، ولا شطط فيها ولا إرهاق.
ومن المعلوم: أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه، ثم زالت تلك الحاجة، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة، وأنفع للعباد.. وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض، باختلاف الأمزجة، والقابلية، والاستعداد.
والأنبياء صلوات الله عليهم هم (أطباء القلوب) ومصلحوا النفوس، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة، وجاءت بسنة التدرج في الأحكام، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان، فما يكون منها في وقت مصلحة، قد يكون في وقت آخر مفسدة، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى، ذلك حكم العليم الحكيم.
جاء في تفسير (محاسن التأويل) ما نصه: إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية، لا تتم لغيرها- بواسطة الفواعل الاجتماعية- إلاّ في قرون عديدة.. لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق في الأفراد، والأمم، على حد سواء.
فإنك لو نظرتَ: في الكائنات الحية، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس، في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافع، فشاب، فكهل، فشيخ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق.
وإذا كان هذا النسخ: ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى؟ هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل، أنّ من الحكمة تكليف العرب- وهم في مبدأ أمرهم- بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني، وغاية الكمال البشري؟!
وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود، فكيف يجوز على الله- وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلّف الأمة وهي في دور (طفوليتها) بما لا تتحمله إلا في دور (شبوبيتها) وكهولتها..؟
وأيّ الأمرين أفضل: أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه، لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان؟ أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهّانها، ونسخ الوجود أحكامها- بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه..؟!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال