سورة البقرة / الآية رقم 126 / تفسير تفسير ابن كثير / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قال الحسن البصري: قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: أمرناه. كذا قال. والظاهر أن هذا الحرف إنما عُدِّيَ بإلى، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} قال: من الأوثان.
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عُبَيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: بلا إله إلا الله، من الشرك.
وأما قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} فالطواف بالبيت معروف.
وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} يعني: من أتاه من غُرْبة، {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين فيه.
وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس: أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى بن القطَّان، عن عبد الملك- هو ابن أبي سليمان- عن عطاء في قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا- ونحن مجاورون-: أنتم من العاكفين.
وقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا كان جالسًا فهو من العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مُكَلِّم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويُحدثون. قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، به.
قلت: وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عَزَب.
وأما قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقال وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود.
وكذا قال عطاء وقتادة.
وقال ابن جَرير رحمه الله: فمعنى الآية: وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك. ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زَمَان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سُنَّة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.
قلت: وهذا الجواب مُفَرَّع على أنه كان يُعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرًا من الشرك والرَّيْب، كما قال جل ثناؤه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] قال: فكذلك قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب: أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الآيات [الحج: 26- 37].
وقد اختلف الفقهاء: أيما أفضل، الصلاة عند البيت أو الطواف؟ فقال مالك: الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام.
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك- أيضًا- رَدّ على من لا يحجه من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
وتقدير الكلام إذًا: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصًا لله، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية، ومن قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] ومن السنة من أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام: «إنما بنيت المساجد لما بنيت له». وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة ولله الحمد والمنة.
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غرابة، وقيل: آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضًا. وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث، عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها».
وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به.
وأخرجه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعَمْرو الناقد، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري.
وقال ابن جرير- أيضًا-: حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعًا: سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبدُ الله ورسوله وإن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهَها وصيدَها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير».
وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» ثم يدعو أصْغَرَ وليد له، فيعطيه ذلك الثمر. وفي لفظ: «بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. لفظ مسلم.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كُريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خَديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها».
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة، عن بكر بن مضر، به. ولفظه كلفظه سواء. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل.
وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال: «هذا جبل يُحبُّنا ونحبه». فلما أشرف على المدينة قال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم». وفي لفظ لهما: «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم». زاد البخاري: يعني: أهل المدينة.
ولهما أيضا عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلته بمكة من البركة» وعن عبد الله بن زيد بن عاصم، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحَرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة».
رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة».
وعن أبي سعيد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إنَّ إبراهيم حَرَّم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف. اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدِّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين». الحديث رواه مسلم.
والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم، عليه السلام، لمكة، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة.
وتَمسَّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى.
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يُعْضَد شوكه ولا ينفر صيده، ولا تُلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا» فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخِر فإنه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: «إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم.
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك.
ثم قال البخاري بعد ذلك: قال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه، عن محمد بن عبد الله بن نُمَير، عن يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يَنَّاق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حَرَام إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجرها ولا يُنَفَّر صيدُها، ولا يأخذ لُقَطَتَها إلا مُنْشِد» فقال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه للبيوت والقبور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذْخِر».
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد- وهو يبعث البعوث إلى مكة-: ائذن لي- أيها الأمير- أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَد من يوم الفتح، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرَبَة.
رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم، عليه السلام، حَرَّمها؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم، عليه السلام، لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم، عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك. فقال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام».
أي: أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك. كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مَكَّة على المدينة، كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة، كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقوله: تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كقوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] إلى غير ذلك من الآيات. وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح».
وقال في هذه السورة: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة.
وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [إبراهيم: 35] وناسب هذا هناك لأنه، والله أعلم، كأنه وقع دعاء ثانًيا بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛ ولهذا قال في آخر الدعاء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]
وقوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ الْمَصِير} قال: هو قول الله تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير، رحمه الله تعالى: قال: وقرأ آخرون: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.
وقال أبو جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} يقول: ومن كفر فأرزقه أيضًا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
وقال محمد بن إسحاق: لما عزل إبراهيم، عليه السلام، الدعوة عمَّن أبى الله أن يجعل له الولاية- انقطاعًا إلى الله ومحبته، وفراقًا لمن خالف أمره، و




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال