سورة البقرة / الآية رقم 131 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


إبراهيم: اسم علم أعجمي. قيل: ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية: أب رحيم، وفيه لغى ست: إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة، وبألف مكان الياء، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء، أو فتحها، أو ضمها، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء، قال عبد المطلب:
نحن آل الله في كعبته *** لم نزل ذاك على عهد إبراهيم
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم *** إذ قال وجهي لك عان راغم
الإتمام: الإكمال، والهمزة فيه للنقل. ثم الشيء يتم: كمل، وهو ضد النقص. الإمام: القدوة الذي يؤتم به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، وهو مفرد على فعال، كالإزار للذي يؤتزر به، ويكون جمع آم، اسم فاعل من أم يؤم، كجائع وجياع، وقائم وقيام، ونائم ونيام. الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعلية من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة.
فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنيه، أو منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبه من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت. النيل: الإدراك. نلت الشيء أناله نيلاً، والنيل: العطاء. البيت: معروف، وصار علماً بالغلبة على الكعبة، كالنجم للثريا. الأمن: مصدر أمن يأمن، إذا لم يخف واطمأنت نفسه. المقام: مفعل من القيام، يحتمل المصدر والزمان والمكان. اسماعيل: اسم أعجمي علم، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون، قال:
قال جواري الحي لماجينا *** هذا ورب البيت اسماعينا
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول: اسمع ايل، وايل هو الله تعالى. التطهير: مصدر طهر، والتضعيف فيه للتعدية. يقال: طهر الشيء طهارة: نطف. الطائف: اسم فاعل من طاف به إذا دار به، ويقال أطاف: بمعنى طاف، قال:
أطافت به جيلان عند فطامه ***
والعاكف: اسم فاعل من عكف بالشيء: أقام به ولازمه، قال:
عليه الطير ترقبه عكوفا ***
وقال يعكفون على أصنام لهم: أي يقيمون على عبادتها. البلد: معروف، والبلد الصدر، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى. يقال: وضعت الناقة بلدتها إذا بركت. وقيل: سمي البلد بمعنى الأثر، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت، قال:
أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها
والبارك: البارك بالبلد. الاضطرار: هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه، وهو افتعل من الضر، أصله: اضترار، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً، وفعله متعد، وعلى ذلك استعماله في القرآن، وفي كلام العرب، قال:
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ ***
المصير: مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، قال:
في ذروة من بقاع أولهم *** زانت عواليها قواعدها
وبالأساس فسرها ابن عطية أولاً والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها الثانية، ومنه قعدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك، أي يثبتك.
انتهى كلامه. والقواعد من النساء جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه، إن شاء الله تعالى. الأمة: الجماعة، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة، والواحد المعظم المتبوع، والمنفرد في الأمر والدين والحين. والأم: هذه أمة زيد، أي أمه، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ، وأتباع الرسل، والطريقة المستقيمة، والجيل. المناسك: جمع منسك ومنسك، والكسر في سين منسك شاذ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك، والناسك: المتعبد. البعث: الإرسال، والإحياء، والهبوب من النوم. العزيز، يقال: عزيعز بضم العين، أي غلب، ومنه: {وعزني في الخطاب}، وعز يعز بفتحها، أي اشتد، ومنه: عز علىَّ هذا الأمر، أي شق، وتعزز لحم الناقة: اشتد. وعزيعز من النفاسة، أي لا نظير له، أو قل نظيره. الرغبة عن الشيء: الزهادة فيه، والرغبة فيه: الإيثار له والاختيار له، وأصل الرغبة: الطلب. الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي}: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، كما قال: {ما ولاهم عن قبلتهم} ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازماً لهم، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنهم، وإن كانوا من نسله، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف، وقدروه اذكر، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم، فيكون مفعولاً به، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة} والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به، وهو {قال إني جاعلك}. والابتلاء: الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل: معناه أمر. قال الزمخشري: واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء: إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما متلازمان.
وابراهيم هنا، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خليل الله، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود النبي عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز.
وقيل: بكوثي، وقيل: ببابل، وقيل: بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور: إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في: ابراهيم، والنحل، ومريم، والشورى، والذاريات، والنجم، والحديد، وأول الممتحنة، وثلاث آخر النساء، وأخرى التوبة، وآخر الأنعام، والعنكبوت. وقرأ المفضل: ابراهام بألفين، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير: ابراهام، وقرأ أبو بكرة: إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة: برفع إبراهيم ونصب ربه. فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب، وتقدم معنى ابتلائه إياه. قال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية. وقرأ ابن عباس: معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء بتطلب فيها الإجابة، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي، ولا في الحديث الصحيح، وللمفسرين فيها أقوال: الأول: روى طاوس، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، والاستطابة، والختان، وهذا قول قتادة. الثاني عشر: وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الثالث: ثلاثون سهماً في الإسلام، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم، وهي عشر في براءة {التائبون} الآية، وعشر في الأحزاب {إن المسلمين} الآية، وعشر في {قد أفلح} وفي المعارج. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الرابع: هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. وقيل: بدل الهجرة الذبح لولده، قاله الحسن. الخامس: مناسك الحج، رواه قتادة، عن ابن عباس. السادس: كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل: {رب اجعل هذا البلد آمناً}، قاله مقاتل.
السابع: هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقوله: ربنا تقبل منا، قاله ابن جبير. الثامن: هو قوله تعالى: {وحاجَّه قومه} قاله يمان. التاسع: هي قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات، قاله أبو روق. العاشر: هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه، فسلم ماله للضيفان، وولده للقربان، ونفسه للنيران، وقلبه للرحمن، فاتخذه الله خليلاً. الحادي عشر: هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي البخاري، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، وأوحى الله إليه {إني جاعلك للناس إماماً}، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فإن صحت تلك الرواية، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته، فيتفق التاريخان، والله أعلم. الثاني عشر: هي عشرة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الملة والصلاة، وهي الفطرة والزكاة، وهي الطهرة والصوم، وهو الجنة والحج، وهو الشعيرة والغزو، وهو النصرة والطاعة، وهي العصمة والجماعة، وهي الألفة والأمر بالمعروف، وهو الوفاء والنهي عن المنكر، وهو الحجة. الثالث عشر: هي: تجعلني إماماً، وتجعل البيت مثابة وأمناً، وترينا مناسكنا، وتتوب علينا، وهذا البلد آمناً، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم، إذ كلها ابتلاه بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد، ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات، إن كانت أقوالاً، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالاً، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم} وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، والسدل، والسواك، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، والشيب وتغييره، والثريد، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه، وليس كتابنا موضوعاً لذلك، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.
فأتمهن: الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى، فالمناسب التطابق في الضمير.
وعلى هذا، فالمعنى: أي أكملهن له من غير نقص، أو بينهن، والبيان به يتم المعنى ويظهر، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن، أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن، أو أقام بهن، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن، قاله يمان؛ أو وفى بهن، قاله الربيع، أو أدّاهن، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال القاضي: كان قبل النبوة، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب، لأنه جعله إماماً، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً. وقال آخرون: إنه بعد النبوة، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق.
{قال إني جاعلك}: تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: {قال إني جاعلك للناس إماماً}. وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. للناس: يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً. قيل: قال أهل التحقيق: والمراد بالإمام هنا: النبي، أي صاحب شرع متبع، لأنه لو كان تبعاً لرسول، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، ومن يكون كذلك، لا يكون إلا نبياً. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} والخلفاء أيضاً أئمة، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها، لأنه ذكره في معرض الامتنان، فلا بد أن يكون أعظم نعمة، ولا شيء أعظم من النبوة.
قال ومن ذريتي، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً. وقرأ زيد بن ثابت: ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم، وذكرنا أنها لغات فيها، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.
{قال لا ينال عهدي الظالمين}: والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد: الإمامة، قال مجاهد: أو النبوة، قاله السدي؛ أو الأمان، قاله قتادة. وروي عن السدي، واختاره الزجاج: أو الثواب قاله قتادة أيضاً؛ أو الرحمة، قاله عطاء؛ أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله: {إن الله عهد إلينا} {ألم أعهد إليكم} أو إدخاله الجنة من قوله: كان له {عند الله عهداً} أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي، قاله الضحاك أيضاً؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال: أن العهد هي الإمامة، لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: {ومن ذريتي} هو استعلام، كأنه قيل: أتجعل من ذريتي إماماً: وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} أنه جواب لقول إبراهيم: {ومن ذريتي} على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش: الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه.
وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن: لم يجعل الله لهم عهداً. قال ابن أبي الفضل: ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال: ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم: أجيب إلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره: أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال: لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً. انتهى ما ذكره ملخصاً بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر: واجعل من ذريتي إماماً، فهو سؤال؛ وأما من قدر: وتجعل وجاعل، فهو استفهام على حذف الاستفهام، إذ معناه: وأجاعل أنت يا رب، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم: وجاعل، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبراً من نبي، كان صدقاً ضرورة. ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام. هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله: إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده. وأما قوله: إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون، فليس كذلك، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها. ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير، أي: ظالموهم، أو الضمير محذوف، أي منهم. ومن أغرب الانتزاعات في قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا: لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه، لأنه سجد للأصنام، فقد ظلم. وقد قال تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}، وذلك بخلاف عليّ، فإنه لم يسجد لصنم قط.
قلت له: فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً، كسلمان، وأبي ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار. وهذا ما لا يذهب إليه أحد، فلم يحر جواباً.
وقال الزمخشري: وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد، ابني عبد الله بن الحسين، حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المتصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد، وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه، فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب فقد ظلم. انتهى كلامه. وزيد بن عليّ الذي ذكره، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم. وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة، وإنما ذكره الزمخشري، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم. واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الذي ذكره الزمخشري، هو هشام بن عبد الملك، خرج عليه زيد بن عليّ، وكان قد قال لأخيه الباقر: ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له: لهذا وقت لا يتعداه. فدعا إلى نفسه وقال: إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته. فقال له الباقر: يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة. فلم يلتفت زيد لكلام الباقر، وخرج على هشام، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة، وأحرقه بالنار، وكان كما حذره الباقر. وأما الدوانيقي، فهو المنصور أخو السفاح، سمي بذلك قيل لبخله. وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة. وأما إبراهيم ومحمد، اللذان ذكرهما الزمخشري، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانا قد تغيبا أيام السفاح، وأول أيام المنصور، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر، فخطب حتى حضرت الصلاة، فنزل وصلى بالناس، وبويع بالمدينة طوعاً، واستعمل العمال، وغلب على المدينة والبصرة، وجبى الأموال.
وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه. وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى، وإن كان موضوعها أصول الدين، فهناك ذكرها، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال. فنقول: الذي عليه أصحاب الحديث والسنة، أن نصب الإمام فرض، خلافاً لفرقة من الخوارج، وهم أصحاب نجدة الحروري. زعموا أن الإمامة ليست بفرض، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاجون إلى إمام، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع. واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل، خلافاً للرافضة، إذ أوجبت ذلك عقلاً، ويكون الإمام من صميم قريش، خلافاً لفرقة من المعتزلة، إذ قالوا: إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي، وجب نصب النبطي دون القرشي، وسواء في ذلك بطون قريش كلها، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ، أو العباس، إما منصوصاً عليه، وإما باجتهاد، ويكون أفضل القوم، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل، خلافاً لأبي العباس القلانسي، فإنه يقول: ينعقد للمفضول، إذا كان بصفة الإمامة، مع وجود الفاضل، وشروطه: أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة، شجاعاً، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق، فقال أبو الحسن: يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم. وقال أبو الحسن أيضاً، والقاضي أبو بكر بن الطيب: لا يجوز الخروج عليه، وإن أمن الناس ذلك، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين، ولا اعتبار في ذلك بعدد، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد، وجبت المبايعة على كلهم، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال: لا ينعقد بأقل من ذلك، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بأربعين، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بسبعين، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد، خلافاً للكرامية، إذ أجازوا ذلك، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، والقول بالتقية باطل، خلافاً للإمامية، ومعناها: أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة، خلافاً للرّافضة، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً.
وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها، خلافاً للإمامية، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي: الإمامة في الصلاة، وموضوعها علم الفقه.
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمناً، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا: الكعبة، على قول الجمهور. وقيل: المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة، لأنه وصفه بالأمن، وهذه صفة جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، قاله الأخفش، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، كما يقال مقام ومقامه، قال الشاعر:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة *** فهل يعجزني بقعة من بقاعها
ذكر رحباً على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة: مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:
مثاباً لا فناء القبائل كلها *** تخب إليها اليعملات الطلائح
ويروى: الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، {سواء العاكف فيه والباد}. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرّقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطراً، وقال الشاعر:
جعل البيت مثاباً لهم *** ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس: معاذاً وملجأ. وقال قتادة والخليل: مجمعاً. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي: أي مكان. إثابة: واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه. والألف واللام في قوله للناس: أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن: مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن، أو على حذف مضاف، أي ذا أمن، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً، أي آمنا، كما قال تعالى: {اجعل هذا البلد آمناً}، وجعله آمناً، اختلفوا، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال: إنه في الدنيا، فقيل معناه: أن الناس كانوا يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش، إلا الخمس الفواسق، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم، ثم أتى الحرم، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه: إنه آمن من لأهله، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة، فلا يروعه أحد. وقيل: معناه: إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة، قيل: من المكر عند الموت. وقيل: من عذاب النار. وقيل: من بخس ثواب من قصده، قال قوم: وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل: يشمل البيت والحرم. وقال في ريّ الظمآن معناه: ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله: وأمناً، معطوف على قوله: مثابة، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: واتخذوا على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.
{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور: واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتحها، جعلوه فعلاً ماضياً. فأما قراءة: واتخذوا على الأمر، فاختلف من المواجه به، فقيل: إبراهيم وذريته، أي وقال الله لإبراهيم وذريته: اتخذوا. وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، أي: وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال: «هذا مقام إبراهيم»، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: «لم أومر بذلك». فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف. وقيل: المواجه به بنو إسرائيل، وهو معطوف على قوله: {اذكروا نعمتي} وقيل: هو معطوف على قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة}، قالوا: لأن المعنى: ثوبوا إلى البيت، فهو معطوف على المعنى.
وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة: واتخذوا، بفتح الخاء، فمعطوف على ما قبله، فأما على مجموع، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ، وإما على نفس جعلنا، فلا يحتاج إلى تقديرها، بل يكون في صلة إذ. والمعنى: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، قاله الزمخشري. من مقام: جوّزوا في من أن تكون تبعيضية، وبمعنى في، وزائدة على مذهب الأخفش، والأظهر الأول. وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقاً، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وخرجه البخاري، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم. وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم، فأراه موضعه اليوم. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب، فاغتسل عليه، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، قاله الربيع بن أنس؛ أو مواقف الحج كلها، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد، أو عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء والشعبي، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها؛ أو الحرم كله، قاله النخعي ومجاهد؛ أو المسجد الحرام، قاله قوم. واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره. فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى، ولأن المقام هو موضع القيام، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره. مصلى: قبلة، قاله الحسن. موضع صلاة، قاله قتادة. موضع دعاء، قاله مجاهد، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة. قال ابن عطية: موضع صلاة على قول من قال المقام: الحجر، ومن قال غيره قال: مصلى، مدعى على أصل الصلاة، يعني في اللغة. انتهى.
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرنا أو وصينا، أو أوحينا، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى. {أن طهرا}: يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا.
فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر. والتطهير: المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به. وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد، قاله السدّي، وهو بعيد، وبالتطهير من الأوثان. وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد، فعبدت من دون الله، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل. والمعنى: أنه لا ينصب فيه وثن، ولا يعبد فيه غير الله. وقال يمان: معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه. وقيل: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقيل: من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه. وقيل: معناه أخلصاه لهؤلاء، لا يغشاه غيرهم، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس، وجميع الخبائث، وما يمنع منه شرعاً، كالحائض.
{بيتي}: هذه إضافة تشريف، لا أن مكاناً محل لله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه، صار له بذلك اختصاص، فحسنت إضافته إلى الله بذلك، وصار نظير قوله: {ناقة الله} {وروح الله} من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره، فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى. وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح. {للطائفين والعاكفين}: ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد، قاله عطاء وغيره. وقال ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً، فيرحلون عن قريب، ويؤيده أنه ذكر بعده. والعاكفين، قال: وهم أهل البلد الحرام المقيمون، والمقيم مقابل المسافر. وقال عطاء: العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب. وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء. وقال ابن عباس: المصلون، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت، إنما يدخل لطواف أو صلاة. وقيل: هم المعتكفون. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالعاكفين: الواقفين، يعني القائمين، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود. والمعنى للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. انتهى. ولو قال: القائم هنا معناه: العاكف، من قوله: ما دمت عليه قائماً، لكان حسناً، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيئ البيت له.
{والركع السجود}: هو المصلون عند الكعبة، قاله عطاء وغيره. وقال الحسن: هم جميع المؤمنين، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي، لأنهما أقرب أحواله إلى الله، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً، وكان آخرهما على فعول، لا على فعل، لأجل كونها فاصلة، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود: المصلون، فناسب أن لا يعطف، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة، وليس كذلك. وفي قوله: {والركع السجود} دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً، إذ لم يخصص.
{وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً}: ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى: صير، وصورته أمر، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه، وهو قوله: {بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم} أو إلى المكان الذي صار بلداً، ولذلك نكره فقال: {بلداً آمناً}. وحين صار بلداً قال: {رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني} وقَال {لا أقسم بهذا البلد} هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل: الآيتان سواء، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً، ويكون بلداً النكرة، توطئة لما يجيء بعده، كما تقول: كان هذا اليوم يوماً حاراً، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً. ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً، بل دعى له بذلك، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله: {هذا البلد}، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً. ووصف بلد بآمن، إما على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم: {عيشة راضية} أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم: نهارك صائم وليلك قائم.
وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين، أو من أن يعود حرمه حلالاً، أو من أن يخلو من أهله، أو آمناً من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة، فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً. وقال القفال: معناه مأموناً فيه، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم.
{وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}. قيد هنا من سأل له الرزق فقال: {من آمن منهم بالله واليوم الآخر}، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشاً لما طغت، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف»، وكانت مكة إذ ذاك قفراً، لا ماء بها ولا نبات، كما قال: {بواد غير ذي زرع} فبارك الله فيما حولها، كالطائف وغيره، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر. وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل فاقتلع فلسطين، وقيل: بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعاً، فأنزلها بِوَادّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف، وقال بعضهم:
كل الأماكن إعظاماً لحرمتها *** تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه. ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، ولا يختص ذلك بذريته، وإن كان ظاهر قوله: {وارزقهم من الثمرات} مختصاً بذريته لقوله: {إني أسكنت من ذريتي} لعود الضمير في وارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين.
ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ ا




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال