سورة يونس / الآية رقم 20 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ

يونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونس




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} هو عطف على الآية قبل السابقة، وهى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} (آية: 18).. أما الآية (19) وهى قوله تعالى: {وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} فهى معترضة بين الآيتين، لتكشف عن واقع هؤلاء المشركين، ولتبيّن لهم أنهم أخذوا طريقا منحرفا عن الطريق العام الذي كان من شأنهم أن يستقيموا عليه، لأنه في الأصل، هو طريق الإنسانية كلّها.. ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم يعمون عن آيات اللّه، ويعشون في ضوء صبحها المشرق الوضيء، فلا يرون فيها مقنعا لهم بأنها من عند اللّه، وأن الرسول الذي يتلوها عليهم هو رسول اللّه.. فيقولون للرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله..}!
وإذ يؤبسهم الرسول من إجابة مقترحهم هذا بقوله الذي أمره اللّه سبحانه أن يلقاهم به: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تجرى الأحاديث فيما بينهم في تساؤل جهول عقيم: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}؟.. وهم يريدون بتلك الآية آية حسيّة كتلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام.
كما ذكر القرآن ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [25: الأنبياء].. ولو أنهم عقلوا لعرفوا أن اللّه سبحانه قد رفع قدرهم، وأعلى في الناس منزلتهم، إذ جاءهم بمعجزة تخاطب عقولهم، وتتعامل مع مدركاتهم، ولم يأتهم بمعجزة تجبه حواسّهم، وتستولى على عقولهم، وتشلّ حركة تفكيرهم.. إن اللّه سبحانه قد ندبهم للتعامل مع هذه المعجزة العقلية، يدركون إعجازها ببصائرهم لا بأبصارهم، ويتناولون قطافها بمدركانهم لا بأيديهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا أطفالا لا رجالا.. وقد أنكر اللّه عليهم هذا الموقف، الذي وقفوه من القرآن الكريم، ورأوا أنّه غير مقنع لهم، كدليل سماوى.. فقال سبحانه وتعالى: {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [50- 51: العنكبوت].
والقوم لم يكونوا على غير علم بما في آيات القرآن الكريم، وما فيها من إعجاز متحدّ لقدرة الإنس والجن.. فهم أقدر النّاس على نقد الكلام، والتعرّف تعرفا دقيقا على الفرق بين حرّ جواهره وزيفها، وجيّدها ورديئها.
ولقد بهرهم القرآن الكريم، فأخذوا به، وسجدوا- على كفرهم- لجلاله، وسطوته، وقالوا فيه: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}.
ولكنهم كانوا على عناد وكبر واستعلاء.. يأبون أن ينقادوا لبشر منهم، وأن يعطوا ولاءهم له..!
كما يقول اللّه تعالى على لسانهم. {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [24- 25: القمر].
فهذه المقترحات التي يقترحونها على النبىّ إن هى إلا تعلّات يتعلّلون بها لأنفسهم، ويرضّونها بهذه العلل، حتى لا تنزع بهم إلى الاستسلام لهذه القوة القاهرة التي تطلّ عليهم من عل، في كلمات اللّه، وآيات اللّه.. وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى عن هذا الشعور المتسلط عليهم، والذي يسوقهم إلى ركوب هذه الشاقّة، والتعلل بهذه العلل، فقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [14- 15: الحجر].
وفى قوله تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} ردّ، وجبه لهؤلاء المشركين فيما يقترحونه على النبىّ من آيات ماديّة محسوسة، كأن يطلعهم على ما يأكلون، وما يدّخرون، وما يقدّرون لهم في تجاراتهم وأعمالهم، من ربح أو خسارة، ونحو هذا.. فذلك ليس لبشر أن يعلمه، وإنما هو مما استأثر للّه سبحانه وتعالى بعلمه.. لا يشاركه فيه أحد من خلقه.. وقد أمر اللّه سبحانه النبىّ أن يعلن في الناس أنه لا يعلم من الغيب شيئا، فقال كما أمره اللّه سبحانه أن يقول:
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [188: الأعراف].
وفى قوله تعالى: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين أمسكوا بأنفسهم، على هذا المرعى الوبيل من الضلال والشرك، عنادا، وجماحا.. فلينتظروا، والنبىّ منتظر معهم، وسيرون وسيرى من تسكون له عاقبة الدار.. {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [135: الأنعام].
قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ}.
الذّوق، والتذوّق: الإحساس بطعم الشيء ومداقه، حلوا، كان أو مرّا.
والرحمة: النعمة، والخير.
والضرّاء: الضّرّ، والسوء، والشرّ.
والمسّ: لمس الشيء لمسا رقيقا.
والآية الكريمة تحدّث عن كفر {النّاس} بنعم اللّه، وجحودهم لأفضاله.. وأنهم إذا مسّهم الضرّ جزعوا، واستكانوا، وضعفوا.. وإن أصابهم الخير، وجرى عليهم النعيم.. طغوا، وبغوا ولبسوا جلود الأفاعى والنمور.
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبمكرهم بآيات اللّه التي جاءهم بها رسول اللّه، هدى ورحمة، ليستنقذهم بها من ضلالهم، وليخرجهم بها من عمى الجاهلية، وسفهها، وليضفى عليهم الأمن والسلام بعد أن مزّقتهم الحروب، وعصفت بهم ريح البغي والعدوان.. وفى هذا يقول اللّه تعالى مذكّرا إياهم بما ساق إليهم من رحماته ونعمه، بهذه الرسالة الكريمة المباركة، وبهذا الرسول الكريم المبارك.. يقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها} [103: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا} إشارة إلى موقف المشركين من آيات اللّه، والمكر بها، والتعلل بالعلل الصبيانية علمها.
وفى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ} نذير شديد للمشركين، وأنهم إذا مكروا بآيات اللّه، فلن يفلتوا من عقاب اللّه.. إنهم يعلنون على اللّه حربا هم فيها المخذولون الخاسرون.. إنهم يبيّتون الشر، ويدبرون له، واللّه سبحانه بعلمه وقدرته مطلع على ما يبيّتون، مفسد ما يدبرون.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فى هاتين الآيتين، مظهر من مظاهر مكر الماكرين بآيات اللّه، وكفرهم بنعمه السابغة عليهم.
فما أكثر ما يركب الناس البحر في ريح رخاء، تصحبهم فيه السكينة والبهجة، ثم على حين غرّة يموج بهم البحر ويضطرب، وتزمجر حولهم العواصف، وتصرخ بهم الريح في جنون مخيف.. وإذا الهلع والفزع، وإذا الكرب الكارب، والهذيان المحموم، يشتمل على من في جوف السفين، الذي يبدو وكأنه دودة على ظهر هذا الكون العظيم!.
ولا ملجأ من هذا الموت الفاغر فاه، ولا عاصم من هذا الهلاك المطلّ من كل مكان، إلا اللّجأ إلى اللّه، والاستصراخ له، والاستنجاد به.. فتتعالى صيحات الصائحين، واستغاثات المستغيثين، وضراعات المتضرعين.. في غير اقتصاد أو انقطاع.
وتجىء رحمة اللّه في إبّانها.. فتهدأ العاصفة، ويخفت صوت الريح.
وإذا البحر قد عاد ساكنا هادئا، وإذا السفين على ظهر حنون ودود، يهدهده كما تهدهد الأم رضيعها، حتى يبلغ السفين بأصحابه شاطىء الأمن والسّلامة، ويأخذ كل واحد من الركب وجهته، ثم لا يعود يذكر للّه شيئا ممّا صنع به.. وإذا هو في ضلاله القديم.. مشرك باللّه، كافر بنعمائه!- وفى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إشارة إلى تلك النّعم التي سخّرها اللّه للناس، في انتقالهم من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، على مراكب البر والبحر.. في اختلاف أشكالها وأنواعها.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} عرض لحالة من أحوال السفر التي تعرض أحيانا لراكب البحر.. وقد ذكرها القرآن الكريم هنا، ليكشف بها عن حال من أحوال الذين يكفرون بآيات اللّه، ويجحدون ما يسوق إليهم من نعم.
وقد جاء النظم القرآنى في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} بنون النسوة التي هى للعقلاء، مستعملا إياها للفلك، وهى غير عاقلة، وكان المتوقع أن يجىء التعبير هكذا: وجرت بهم.
وفى هذا ما يشير إلى أن الفلك، وهى تجرى في ريح طيبة، وعلى ظهر بحر ساكن ساج، قد كان لها سلطان على هذا البحر، تغدو وتروح عليه كيف تشاء، وتتصرف كما تريد.. حتى لكأنها ذات عقل مدبّر، وإرادة نافذة.
وفى النظم القرآنى أيضا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ولم يجىء النظم هكذا: {وجرين بهم في ريح طيبة}.
وذلك ليدل على أن الريح هى التي تحرك الفلك وتدفعها، فالباء هنا باء الاستعانة، التي تدخل على الأداة التي يستعان بها على العمل، كما يقال: كتبت بالقلم، وانتقلت بالقطار.. وهذا ما لا يفيده حرف الجرّ {فى}.
الذي يجعل الريح ظرفا يحتوى السفينة من جميع جهاتها، ولا يدفع بها إلى جهة ما.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}.
اختلف النظم، في قوله سبحانه: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجاء على غير ما يقتضيه السياق.. وجىء بضمير الغائب، بدلا من ضمير الحضور.. هكذا: {وجرين بكم} فما سرّ هذا؟
تتحدث الآية الكريمة عن نعمة عامة شاملة من نعم اللّه، وهى تسيير الفلك في البحر، كما يقول تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [65: الحج] وكما يقول جل شأنه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [12- 13:
الزخرف].
وهذه النعمة، لا يكفر بها الناس جميعا، وإنما يجحدها ويكفر بها من لا يؤمن باللّه.. وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بضمير الغائب، بعد أن جاء التّذكير بالنعمة موجّها إلى الناس جميعا- ومنهم هؤلاء الكافرون- في مواجهة وحضور.. وبهذا عزل الكافرون عن المجتمع الإنسانى، وأبعدوا من مقام الحضور، وحسبوا غائبين، لا وجود لهم.
وفى قوله تعالى: {إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
أولا: {إذا} الفجائية هنا، تنبىء عن أن هؤلاء الكافرين، لم يمسكوا بتلك المشاعر المتجهة إلى اللّه، والضارعة إليه، حين مسّهم الضر في البحر، إلا ريثما تلقى بهم الفلك إلى البرّ، حتى إذا مسّت أقدامهم اليابسة انفصلوا عن تلك المشاعر، وتخفّفوا منها، ورجعوا مسرعين إلى ما كانوا فيه من كفر وضلال وعناد.
وثانيا: وصف البغي بأنه بغى بغير الحق، مع أن البغي لا يكون إلا عدوانا على الحق، وخروجا عليه.. فكيف يلحقه هذا الوصف، الذي يفهم منه أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق؟
ذكرنا جوابا عن مثل هذا، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [181: آل عمران].
والجواب هنا، هو أن وصف بغيهم بأنه بغى بغير الحق، فيه تغليظ لهذا البغي، وإلقاء مزيد من القبح على وجهه القبيح.
فالبغى في ذاته جريمة منكرة شنعاء.
ولكنّه من أهل البغي، شيء لا يكاد ينكر عليهم، ولا يستغرب منهم.
وإذن فهو محتاج إلى أن يكون أكثر من بغى حتى ينكر عليهم، ويذمّ منهم.
فهذا البغي منهم هنا.. هو بغى على وصف خاصّ.. بغى بغير حقّ حتى عند أهل البغي أنفسهم، وهذا يعنى أنه بغى شنيع غليظ، بين صور البغي كلها.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} نداء للناس جميعا، وإعلان لهم كلهم- برّهم وفاجرهم- بأن البغي والعدوان، والخروج على حدود اللّه، هو بغى وعدوان واقع عليهم، وآخذ بنواصيهم.
كما يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [44: الروم] وفى قوله تعالى: {مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا}.
قرئ {متاع} بالنصب والرفع.. وعلى النصب- وهى القراءة المشهورة- يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، تقديره، تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وتكون الجملة حالا من ضمير المخاطبين في قوله تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ}.
وعلى قراءة الرفع يكون خبرا لقوله تعالى: {بَغْيُكُمْ} و{عَلى أَنْفُسِكُمْ} متعلق بالمبتدأ.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تهديد ووعيد لهؤلاء الباغين، وما يلقون من عذاب أليم، يوم يرجعون إلى اللّه، ويوفّون جزاء ما كانوا يعملون من منكرات.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال