سورة يونس / الآية رقم 32 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

يونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونس




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)}.
التفسير:
السمع والبصر.. ومكانهما في الإنسان:
عرضت الآيات السابقة بعض مشاهد القيامة، ليرى الناس منها صورة مصغرة لما يقع فيها، من مساءلة، وحساب، وجزاء، وليكون لهم منها عبرة وعظة.
وهنا في هذه الآيات.. يعاد الناس إلى حيث هم في هذه الحياة الدنيا، وقد صحبتهم من مشاهد القيامة مشاعر، من شأنها أن تفتح عقولهم وقلوبهم لآيات اللّه التي تتلى عليهم، والتي تحدّثهم عن قدرة اللّه، وتكشف لهم آياته فيهم، وآثار أفضاله ونعمه عليهم.
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
هو عرض لبعض آيات اللّه، وما تحمل من دلائل قدرته، ورحمته.
فهذه أسئلة، كان ينبغى أن يوردها الإنسان على نفسه، وأن يتلقّى الجواب عليها من النظر في نفسه، وفيما يطوله إدراكه، من النظر في ملكوت السموات والأرض.
وإذ كان الناس في غفلة عن أن يقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم، وأن يصلوا إلى الحقيقة بمجهودهم الشخصي.. فقد كان من رحمة اللّه بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون إليهم كلماته، ويحدّثونهم بما كان ينبغى أن يحدّثوا هم أنفسهم به.
{مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}؟
{أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ}؟
{وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}؟
{وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؟
ما جواب هذه الأسئلة؟
جواب واحد، لا غير.. هو اللّه رب العالمين..!
وهنا أمور نحبّ أن نقف عندها:
فأولا: إسناد ملكية السمع والأبصار للّه.
لم أسندت إليه سبحانه وتعالى ملكية هاتين الحاستين وحدهما.. مع أنه- سبحانه- يملك كلّ شى ء؟ ولم كانت إضافتهما إلى اللّه بالملك، ولم تكن بالخلق، كما هو أظهر.. فقد يملك الشيء من لا يوجده ويخلقه؟
والجواب: أن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين في الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا! فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرّك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته في الحياة.
وأما عن التعبير بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، فلأن الملكية تطلق يد المالك في التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملّك ما يخلق، فيكون للمالك وحده- حينئذ- التصرف فيما ملكه! فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن اللّه سبحانه وتعالى- وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما- وهما يعملان في الإنسان- يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه- سبحانه- هو الذي يمدّهما بالقوى التي يعملان بها، ولو لا هذا لبطل عملهما.. فهو- سبحانه- الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [46: الأنعام].
وثانيا: إفراد السّمع وجمع الأبصار.. ما دلالة هذا؟ وما السرّ الذي ينطوى عليه؟
والمتتبع لآيات اللّه، التي تتحدث عن السمع والبصر، يجد أن القرآن الكريم قد فرّق بين السمع والبصر، في الصورة التي عبّربها عن كل منهما.
فأما عن السّمع.. فقد التزم فيه القرآن الكريم الإفراد مطلقا، سواء اقترن به البصر أم لم يقترن.. وسواء أجاء منكّرا، أو معرفا بأل أو بالإضافة.
ولم يقع في القرآن مجىء السّمع جمعا في أي حال من أحواله.. ولم يرد في القرآن لفظ {الأسماع} أبدا.
يقول اللّه تعالى: {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [101: الكهف].. ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً} [26: الأحقاف] ويقول تعالى: {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [23: الجاثية] ويقول جلّ وعلا: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ} [26: الأحقاف] ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ} [46: الأنعام].
ويلاحظ في الآيات القرآنية التي ورد فيها {السمع} أنه يقترن دائما بالبصر، أو الأبصار، فإن لم يقترن بهما اقترن بحال من أحوال الإنسان التي يكون فيها في ذهول وغفلة وشرود.. كما في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} [221- 223: الشعراء] وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [37: ق].. فالقلب هنا يقوم مقام البصر، في كشف معالم الطريق إلى الهدى والنور.. وقوله سبحانه: {الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [101: الكهف] فالعيون التي في غطاء عن ذكر اللّه، هى العيون التي لا تتصل معطياتها بعقل أو قلب، وهى الأبصار المعطلة التي لا تعمل! وأما عن البصر.. فقد عبّر عنه القرآن بصيغة الإفراد، وبصيغة الجمع.
وذلك في حال إفراد البصر بالذكر دون أن يقترن به السمع.
فقد جاء البصر مفردا مثل قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} [17: النجم] وقوله سبحانه: {وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [50: القمر] وقوله جلّ شأنه: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [4: الملك] وجاء البصر جمعا، غير مقترن بالسمع، كقوله تعالى: {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} [10: الأحزاب] وقوله سبحانه: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [46: الحج].. وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [2: الحشر].
كذلك جاء البصر جمعا مقترنا بالسّمع، مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [23: الملك] وقوله جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [78: المؤمنون] وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ} [46: الأنعام].
وهكذا جاء وضع السمع في كلام اللّه، مخالفا بينه وبين البصر.. حيث يجىء السّمع مفردا دائما، ويجىء البصر مفردا وجمعا.. وأكثر ما يجىء البصر جمعا إذا اقترن بالسّمع- وقد جاء السّمع مفردا مقترنا بالبصر في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [36: الإسراء] والسرّ في هذا- واللّه أعلم- هو أن بين السمع والبصر اختلافا من وجوه:
فأولا: السمع طريق إلى شيء واحد، هو الصوت.. والصوت، وإن اختلف قوة وضعفا، ورقّة وخشونة.. فهو- على أي حال- شيء واحد، في النوع، وإن اختلف في الدرجة.
أما البصر فهو طريق إلى هذا الكون كلّه، وما فيه من عوالم وأكوان، وما في كل عالم وكون، من ناطق وصامت، ومتحرك وثابت، وجامد وسائل.. إلى غير ذلك مما في العالم الأرضى من كائنات، وما في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب... وكلها مختلفة متغايرة.
فالبصر، بالقياس إلى السّمع، هو أبصار.. يتعامل مع ما لا يحصى من الأشياء، حتى إنه في النظرة الواحدة يفتح عشرات القوى المبصرة، فتجىء إليه بأكثر من منظور! وثانيا: السمع، لا يستطيع أن يضبط أكثر من صوت واحد، في حال واحدة.. وإلا اختلطت عليه الأصوات، وذاب بعضها في بعض، وعسر على الإدراك، عزلها، وتمييزها.
والبصر.. ينقل كثيرا من المرئيات في حال واحدة، ويحتفظ لكل مرئى بصورته، دون أن تختلط بغيرها.. وينقلها إلى الإدراك منفصلة، كما ينقلها إليه متصلة.
فهو- من هذه الجهة- أكثر من حاسّة.. إنه أبصار، وليس بصرا واحدا.
وثالثا: السّمع مقيّد بوجود الصوت، الذي يتعامل معه.. فإذا لم يكن هناك صوت، تعطّل السّمع، وخيم عليه صمت رهيب!.
أما البصر، فهو عامل دائما، فحيثما فتح الإنسان بصره وجد ما ينقله إليه بصره من أشياء لا تكاد تحصى.. في أي مكان، وفى أي زمان.
فالبصر بالقياس إلى السمع هنا، هو أبصار كثيرة.. لا عدّ لها ولا حصر.
ورابعا: وأكثر من هذا كلّه- وهو في النظم القرآنى بالمحلّ الأول- هو أن البصر يستطيع أن يمسك بالأشياء، ويقف ما شاء له الوقوف إزاءها، ويعاود النظر إليها، مرة ومرة ومرات.. ويتفحصها من جميع وجوهها.
والسمع بمعزل عن هذا، إذ لا يستطيع أن يمسك بالصوت أكثر من اللمسة العابرة التي تمرّ به.. وفى هذا يقول اللّه: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [3- 4: الملك].
ومن هنا، كان البصر، أبصارا، في معاودته النظر إلى الأشياء، وفى تفحصها، والنظر إليها من جميع جهاتها، من قرب ومن بعد.
ومن هنا أيضا كان التفات القرآن الكريم إلى النظر، وتوجيهه إلى ملكوت السموات والأرض، وعقد صلة وثيقة بينه وبين القلب.
يقول تبارك وتعالى: {قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [101 يونس] ويقول سبحانه: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [99: الأنعام].. ويقول جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [20: العنكبوت].. ويقول سبحانه: {فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [50: الروم].
وكما دعا القرآن إلى النظر في المحسوسات، وأخذ العبرة والعظة منها، دعا إلى النظر في المعنويات، وتدبّرها، ووصل العقل والقلب بها.
يقول سبحانه وتعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [75: المائدة] ويقول جلّ شأنه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [50: النساء] ويقول سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [48: الإسراء] ومن إعجاز القرآن في هذا أيضا، أنه تحدّث عن حاسّة السّمع باعتبارين:
باعتبار أنها جارحة من الجوارح، وجهاز من الأجهزة، وظيفتها نقل الصوت، شأنها في ذلك عند الإنسان شأنها عند الحيوان.. فهى {أذن} وهى بتعدد أصحابها {آذان}.
وهذا ما نراه في قوله تعالى، في تسفيه أحلام المشركين، وإنزالهم منازل الحيوان: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟} [195: الأعراف].. فهذه كلها جوارح حيوانية، ركّبت في كائنات حيوانية، لم ترتفع بعد إلى مستوى الإنسانية.. فالأذن عندهم أذن، وليست سمعا! أما إذا تحدث القرآن عن الآذان باعتبار أنها جهاز متصل بالقلب والإدراك.. فهى سمع وهى بتعدد أصحابها سمع أيضا.
أما البصر، فقد تحدّث القرآن عنه بالاعتبارين اللذين تحدث بهما عن السّمع.. فهو كعضو من أعضاء الجسم عين، وعيون.
وهو كجهاز متصل بالقلب، والعقل.. بصر وأبصار.
ثم تحدث القرآن عن البصر باعتبار ثالث، وهو أنه بصيرة.
أي ملكة تتخلّق من النظر المتأمّل، المتفحص.. فالبصيرة بنت البصر.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [2: الحشر] ويقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران] ولهذا اشتقّ القرآن من البصر: البصيرة.. والبصائر.. والتبصرة، فقال تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [14: القيامة] وقال سبحانه: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104:
الأنعام].. ويقول جل شأنه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [7- 8 ق].
وبعد، فما أرانا بعد هذا الوقوف الطويل على ساحل هاتين الكلمتين.
{السمع والأبصار} ما نرانا إلّا قد حسونا حسوة من هذا المورد المتدفق العذب، تنقع الصدى، ولا تشفى العليل.. وذلك هو جهد من قصر باعه، فمن كان ذا باع فليرد، وليرتو، وليرو الظّماء! فهذا مورد لا يغيض!.
قوله تعالى: {فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ.. فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ.. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
الإشارة هنا: {فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ} إلى الناس جميعا، مؤمنهم، وكافرهم، ومشركهم.. تلفيهم إلى الإله الحق. الذي خلق فسوّى.. ثم نخلص الإشارة بعد هذا إلى الكافرين والمشركين الذين ضلّ سعيهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.. فتنخسهم نخسة موجعة بهذا الاستفهام الإنكارى:
فماذا بعد الانصراف عن الإيمان باللّه، والتعبد له- ماذا بعد هذا إلا ركوب الضلال، والضرب في المتاهات، والتعبّد لكل باطل وبهتان: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
.. أي فإلى أين تذهبون؟ وإلى أي مهلكة أنتم واردون أيها الضالون؟
قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
حقت: أي وجبت، وقضت، ولزمت! فهؤلاء الذين فسقوا، وخرجوا عن طريق الحق، وكفروا باللّه، هم ممن حكم اللّه عليهم بألا يكونوا في المؤمنين.. وذلك دون أن يقسرهم اللّه على الكفر، أو يسلبهم إرادتهم، أو يعطل عمل عقولهم.
وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص، تحت عنوان مشيئة اللّه ومشيئة الإنسان.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
الإفك: الافتراء، واختلاق الأباطيل.. وأنّى: بمعنى كيف.
وفى الآية محاجّة للمشركين، بعرض آلهتهم التي يعبدونها موضع الامتحان إزاء قدرة اللّه سبحانه وتعالى.
فاللّه سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده.. فهو سبحانه خالق هذا الوجود، ومبدع هذه الأكوان.. وهو الذي أوجد الناس من عدم، وهو الذي يميتهم.. ثم هو الذي يبعثهم.
فهل في هؤلاء المعبودين من يفعل هذا، أو بعض هذا؟
لقد قالها النمرود لإبراهيم، وهو يحاجّه في ربّه، فألقمه إبراهيم حجرا.. فخرس إلى الأبد.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ} {قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ..قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ..قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [258: البقرة].
وفى الآية جاء النظم على غير ما جاء عليه في الآيات السابقة من سورة البقرة، حيث دعى المشركون هنا إلى أن يدعوا آلهتهم أولا، ليؤدّوا هذا الامتحان، وليأتوا بما عندهم.. فإذا ظهر عجزهم، لم يكن إلا التسليم بأن قوة غير قوتهم هى التي أوجدت هذا الخلق الذي يملأ الوجود حولهم، فإذا لم يعرفوا هذه القوة، ولم يدركوا نسبتها إلى من بيده تلك القدرة.. فليسمعوا الجواب، وليصححوا عليه أفكارهم الخاطئة، ونظراتهم الزائفة: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}! ولكن الضالين ما زالوا على ضلالهم القديم، لم يغيرّ هذا الدرس من تفكيرهم شيئا. بل ما زالت أبصارهم متعلقة بآلهتهم، وما زالت عقولهم تنسج لهم الأباطيل والضلالات.. وهنا يسمعهم الوجود كله، إنكاره عليهم هذا الضلال، وتسفيهه هذا البهتان: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
أي كيف تطوع لكم أحلامكم افتراء هذه المفتريات، أمام هذه الحجة الدامغة، والبرهان المبين؟.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
؟.. فهذا امتحان آخر.. يدعى فيه المشركون إلى امتحان شركائهم به.
{هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؟
هذا امتحان أيسر وأهون من الامتحان السابق الذي كانت مادته النظر في بدء الخلق وإعادته.
أما هذا الامتحان فلا بعدو أن يسأل المشركون آلهتهم عن أمر ما، ثم يطلبون إليهم النظر فيه، وكشف وجه الحق لهم عنه: {هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؟
وهؤلاء الآلهة، صم بكم.. لا يسمعون، ولا يجيبون.. فلا هداية منهم إلى حق، ولا دعوة إلى غير حق! فإذا خرست هذه الآلهة عن أن تنطق.. فكيف يتخذها العاقلون الناطقون آلهة لهم يعبدونها من دون اللّه؟
وإذن فقد وجب على هؤلاء العاقلين الناطقين أن يطلبوا الهداية من رب الأرباب: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} وأن يتبعوا هديه، ويأخذوا بما جاءهم منه على يد رسله. {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}.
وأما وقد كشف الامتحان عن هذه الحقيقة، فإن الحكم الذي يوجبه العقل هنا، هو واضح لا يحتاج إلى ترداد نظر:
{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى}؟
جواب واحد لا سبيل إلى غيره، إلا أن يركب المرء رأسه، ويمشى عليه، بدلا من رجليه.
وفى الناس كثيرون يمشون هذا المشي المقلوب، ويأخذون هذا الوضع المنكوس.
وليس يصرفهم عن هذا صيحات الإنكار التي تصيح بهم من كل ناظر إليهم:
{فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ هذا الحكم على أنفسكم، وتريدونها على هذا الوضع الذي أنتم فيه؟
وفى التعبير عن الاهتداء بلفظ {يهدّى} إشارة إلى أن هذا الذي يعبده المشركون من دون اللّه، لا يستطيع أن يهتدى من تلقاء نفسه إلى خير أو حق أبدا، فهو في حاجة إلى من يقوده ويهديه، وحتى مع هذا، هو بطيء الخطا، لا يستجيب استجابة كاملة لمن يهديه.. وهذا ما يدل عليه لفظ {يهدّى} الذي هو بمعنى يهتدى، ولكن فيه ثقل واضطراب! قوله تعالى: {وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} الظن هنا: ضدّ اليقين، وهو ما قام على أوهام باطلة، وتصورات مريضة، وذلك هو الذي يقوم عليه تفكير المشركين، وأصحاب الضلالات، والانحرافات لا تمسك عقولهم إلا بالأوهام، ولا تتعامل إلا بالظنون! فهذا البناء الشامخ الذي يقيمونه من أوهامهم وظنونهم، لآلهتهم، وما يعلّقون عليها من آمال، هى سراب خادع، وهى أضغاث أحلام، إذا جدّ الجد، ووقعت الواقعة، لم يجد أصحابها في أيديهم شيئا.. {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين، الذين غرسوا في مغارس الضلال، وأقاموا بنيانهم على شفا جرف هار.. فحبطت أعمالهم، وساء مصيرهم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال