سورة البقرة / الآية رقم 137 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


الوصية: العهد، وصى بنيه: أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ. ووصى وأوصى لغتان، إلا أنهم قالوا: إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير. يعقوب: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويعقوب عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً. الحضور: الشهود، تقول منه: حضر بفتح العين، وفي المضارع: يحضر بضمهما، ويقال: حضر بكسر العين، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال: يحضر، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت: حضر يحضر بالضم، وهي ألفاظ شذت فيها العرب، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها، قالوا: نعم ينعم، وفضل يفضل، وحضر يحضر، ومت تموت، ودمت تدوم، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها. قالوا: ضللت بكسر العين، تضل بالكسر، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين.
إسحاق: اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبه ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر: الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى. وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء، واستوفي النقل هنا. الحنف: لغة الميل، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى، قال الشاعر:
والله لولا حنف في رجله *** ما كان في صبيانكم من مثله
وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمي اللديغ سليماً. وقال القفال: الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات. وقال عمر:
حمدت الله حين هدى فؤادي *** إلى الإسلام والدين الحنيفي
وقال الزجاج: الحنيف: المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه، وأنشد:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا *** حنيفاً ديننا عن كل دين
الأسباط: جمع سبط، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، وهم ولد يعقوب اثنا عشر، لكل واحد منهم أمة من الناس، وسيأتي ذكر أسمائهم. سموا بذلك من السبط: وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. ويقال: سبطييييي عليه العطاء إذا تابعه. ويقال: هو مقلوب بسط، ومنه السباطة والساباط. ويقال للحسن والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت، فيقال: سبط أبي عمر بن عبد البر، وسبط حسين بن منده، وسبط السلفي في أولاد بناتهم. وقيل: أصل الأسباط من السبط، وهو الشجر الملتف، والسبط: الجماعة الراجعون إلى أصل واحد. الشقاق: مصدر شاقه، كما تقول: ضارب ضراباً، وخالف خلافاً، ومعناه: المعاداة والمخالفة، وأصله من الشق، أي صار هذا في شق، وهذا في شق. والشق: الجانب، كما قال الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحوّل
وقيل: هو من المشقة، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه. الكفاية: الأحساب. كفاني كذا: أي أحسبني، قال الشاعر:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال
أي أغناني قليل من المال. الصبغة: فعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ. والصبغ: المصبوغ به، والصبغ: المصدر، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان، وفعله على فعل بفتح العين، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق. وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن يوسف بن علي الفهري، عرف بالليلى، وهو شارح الفصيح، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر.
{ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين}: قرأ نافع وابن عامر: وأوصى، وقرأ الباقون: ووصى. قال ثعلب: أملى عليّ خلف بن هشام البزار، قال: اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً. كتب أهل المدينة: وأوصى، وسارعوا، يقول، الذين آمنوا من يرتدد، الذين اتخذوا، مسجداً خيراً منهما، فتوكل، وأن يظهر، بما كسبت أيديكم، ما تشتهيه الأنفس، فإن الله الغني، ولا يخاف عقباها. وكتب أهل العراق: ووصى، سارعوا، ويقول، من يرتد، والذين اتخذوا، خيراً منها، وتوكل، أن يظهر، فيما كسبت أيديكم، ما تشتهي، فإن الله هو، فلا يخاف. وبها متعلق بأوصى، والضمير عائد على الملة في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم}، وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره، أو على الكلمة التي هي قوله: {أسلمت لرب العالمين} ونظيره، وجعلها كلمة باقية في عقبه، حيث تقدم {أنني براء مما تعبدون}.
وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال: هو أصوب، لأنه أقرب مذكور، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم. وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة، إذ الكلمة بعض الملة. ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة. وقيل: يعود على الكلمة المتأخرة، وهو قوله: {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}. وقيل: على كلمة الإخلاص وهي: لا إله إلا الله، وإن لم يجر لها ذكر، فهي مشار إليها من حيث المعنى، إذ هي أعظم عمد الإسلام. وقيل: يعود على الوصية الدال عليها ووصى. وقيل: يعود على الطاعة.
بنيه: بنو إبراهيم، إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، ومدين: ومديان، ونقشان، وزمزان، ونشق، ونقش سورج، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية. هؤلاء الثمانية ولده لصلبه، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير. قرأ الجمهور: ويعقوب بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. يا بني: من قرأ ويعقوب بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز:
رجلان من ضبة أخبرانا *** أنا رأينا رجلاً عريانا
بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين، وفي النداء لمن بحضرة المنادي. وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله، ولذلك صدر كلامه بقوله: {إن الله اصطفى لكم الدين}، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل. وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون.
{إن الله اصطفى لكم الدين}، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان. والألف واللام في الدين للعهد، لأنهم كانوا قد عرفوه، وهو دين الإسلام.
{فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}: هذا استثناء من الأحوال، أي إلا على هذه الحالة، والمعنى: الثبوت على الإسلام، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهى عن الموت، ونظير ذلك في الأمر: مت وأنت شهيد، لا يكون أمراً بالموت، بل أمر بالشهادة، فكأنه قال: لتستشهد في سبيل الله، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها، كان متذكراً للموت دائماً، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً،. وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام، ونظير ذلك قولهم: لا أرينك هنا، لا ينهي نفسه عن الرؤية، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان، فيكون يراه، فكأنه قال: اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف، منها: الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت. ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين، حتى وصى به من كان ملتبساً به، إذ كان بنوه على دين الإسلام. ومنها اختصاصه ببنيه، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم. ومنها أنه عمم بنيه، ولم يخص أحداً منهم، كما جاء في حديث النعمان بن بشير، حين نحله أبوه شيئاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» ورد نحله إياه وقال: لا أشهد على جور. ومنها إطلاق الوصية، ولم يقيدها بزمان ولا مكان. ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين. ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم. قال المؤرخون: نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع، وقيل: ابن سنتين. وقيل: ابن أربع عشرة سنة، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وثلاثون سنة. وكان لإسماعيل، لما مات أبوه إبراهيم، تسع وثمانون سنة. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدّسة، ودفن عند أبيه إبراهيم. وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة سنة.
{أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت}: نزلت في اليهود. قالوا: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ قال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك، فقال لهم: ما تعبدون من بعدي؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاماً لنبيه بما وصى به يعقوب، وتكذيباً لليهود. وأم هنا منقطعة، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار، والتقدير: بل أكنتم شهداء؟ فمعنى الإضراب: الانتقال من شيء إلى شيء، لا أن ذلك إبطال لما قبله. ومعنى الاستفهام هنا: التقريع والتوبيخ، وهو في معنى النفي، أي ما كنتم شهداء، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم، أي كان أسلافكم، أو تنزلهم منزلة أسلافهم، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية. والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم. وقال ابن عطية: قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى، فتدّعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون. وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه: {أم يقولون افتراه}. انتهى، وهذا أيضاً قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: (المشهور) أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. (الثاني): أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. (الثالث): بمعنى همزة الاستفهام فقط.
وقال الزمخشري: الخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه، ولو سمعوا ما قاله لبنيه، وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: {أم كنتم شهداء}؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت}؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف.
إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمراً، جواباً لمن. قال: ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله:
فهل لك أو من والد لك قبلنا ***
أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله:
فيا عجباً حتى كليب تسبني ***
أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال:
دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدرى أرشد طلابها
يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: {تقيكم الحر} كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئاً، ومنه: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} أي ويأتيه دواعيه وأسبابه، وقال الشاعر:
وقل لهم بادروا العذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إني أنا الموت
وفي قوله: حضر، كناية غريبة، إنه غائب لا بد أن يقدم، ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره. وقرئ: حضر بكسر الضاد، وقد ذكرنا أن ذلك لغة، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء. {إذ قال لنبيه}، إذ: بدل من إذ في قوله: إذ حضر، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذا وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما.
{ما تعبدون من بعدي} ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل، فقيل: هو سؤال عن صفة المعبود، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول: ما زيد، أفقيه أم شاعر؟ وقيل: سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات، كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل.
وفهم عنه بنوه فأجابوه: بأنا لا نعبد شيئاً من هؤلاء. وقيل: استفهم بما عن المعبود تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه. وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال: دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين، وهمتهم مصروفة إليهم. من بعدي: يريد من بعد موتي، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير، كما يخير الأنبياء، اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا القول.
{قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}: هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلاً، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرئ فيه بالقطع، لكان ذلك جائزاً. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار، أعني: وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب. وقد جاء في العباس: هذا بقية آبائي، وردّوا عليّ أبي، وأنا ابن الذبيحين، على القول الشهير: أن الذبيح هو إسحاق، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أباً لقوله: {وإله آبائك إبراهيم}، وإبراهيم جدّ ليعقوب. وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} على توريث الجدّ دون الإخوة، وإنزاله منزلة الأب في الميراث، عند فقد الأب، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث، إذا لم يكن أب، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وهو قول أبي حنيفة. وقال زيد بن ثابت: هو بمنزلة الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فيعطى الثلث، ولم ينقص منه شيئاً، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال علي: هو بمنزلة أحد الإخوة، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس، فيعطى السدس، ولم ينقص منه شيئاً، وبه قال ابن أبي ليلى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وأما قراءة أبيّ فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً، وأبون رفعاً، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر:
فلما تبين أصواتنا *** بكين وفدّيننا بالأبينا
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير. وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به، إذ كان يجوز أن يقال: قالوا إلهك، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال. وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً. وفي قوله: وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ، وإنما كرر لفظ وإله، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره، إلا في الشعر، أو على مذهب من يرى ذلك، وهو عنده قليل. فلو كان المعطوف عليه ظاهراً، لكان حذف الجار، إذا كان اسماً، أولى من إثباته، لما يوهم إثباته من المغايرة. فإن حذفه يدل على الاتحاد. وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب، لأنه هو السائل، وقدم إبراهيم، لأنه الأصل، وقدم إسماعيل على إسحاق، لأنه أسنّ أو أفضل، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته، وهو في عمود نسبه. واقتصر على هؤلاء، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم، ولم يعم، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.
{إلهاً واحداً}: يجوز أن يكون بدلاً، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالاً، ويكون حالاً موطئة نحو: رأيتك رجلاً صالحاً. فالمقصود إنما هو الوصف، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام. {ونحن له مسلمون}: أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد، لأن العبادة متجددة دائماً. ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً، وعنه تكون العبادة، فيكون قوله: {ونحن له مسلمون} أحد جملتي الجواب. فأجابوه بشيئين: أحدهما: الذي سأل عنه، والثاني: مؤكد لما أجابوا به، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال. وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله: {نعبد}، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله:
ماذا ولا عتب في المقدور رمت *** إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل
وقال:
ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً *** والحق يدفع ترهات الباطل
أو بين جزأي إسناد، نحو قوله:
وقد أدركتني والحوادث جمة *** أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا. وهذه الجملة التي هي قوله: {ونحن له مسلمون} ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاماً مستقلاً، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله: {تلك أمّة قد خلت}. لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله: {ونحن له مسلمون} ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: {ونحن له مسلمون} ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله الإضمار.
وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة، وقالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره هو عليهم، فدل على أن التقليد كاف، واستدل بها التعليمية، قالوا: لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، قالوا: لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم. وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله. والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشئ عن تقليد، ولا تعليم، ولا أنه أيضاً ناشئ عن استدلال بالعقل، فبطل تمسكهم بالآية. وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي، لأنها لم تجيء في معرض ذلك، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه، وهو الله تعالى، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب، فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال: إن في قوله: {نعبد إلهك وإله آبائك} إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع، لأنه قد تقدّم في أول السورة: {يا أيّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} فمرادهم هنا بقولهم: {نعبد إلهك وإله آبائك} الإله الذي دل عليه وجود آبائك، وهذا إشارة إلى الاستدلال.
{تلك أمّة قد خلت}، تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت: ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمّة. {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}: أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ، فلا ينفع أحداً كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: {ولكم ما كسبتم}. ويجوز أن تكون الجملة من قوله: {لها ما كسبت} استئنافاً، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقراً ثابتاً، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: {ولكم ما كسبتم} على قوله: {لها ما كسبت}. ولا يصح أن يكون {ولكم ما كسبتم} عطفاً على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم، فأخبروا أن أحداً لا ينفع أحداً، متقدّماً كان أو متأخراً. وروي: يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم! يا فاطمة، لا أغني عنك من الله شيئاً! قال ابن عطية: وفي هذا الآية ردّ على الجبرية القائلين: لا اكتساب للعبد. انتهى.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين، وهي من المسائل المعضلة، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة. أحدها: قول الجبرية، وهو أن العبد مجبور على فعله، وأنه لا اختيار له في ذلك، بل هو ملجأ إليه، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه، إذا حركه محرك. والثاني: قول القدرية، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل. والثالث: قول المعتزلة، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه. والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله يخلق للعبد تمكيناً وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب. ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير: أحدها: قول أبي الحسن: أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلاً بخلق الله، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله، وهو متعلق القدرة الحادثة، هو الكسب. والثاني: قول الباقلاني: أن ذات الفعل لم تحصل له صفة، كونه طاعة ومعصية، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة.
والثالث: قول أبي إسحاق الإسفرائني: أن القدرتين، القديمة والحديثة، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما، فكان فعل العبد يوقع بإعانة، فهذا هو الكسب.
{ولا تسألون عما كانوا يعملون}: جملة توكيدية لما قبلها، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير، وإذا كان كذلك، فلا يسأل أحد عن عمل أحد. فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها. {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كل شاة برجلها تناط. قالوا: وفي هذه الآية، وما قبلها، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله، إفحاماً له، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة. لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم. فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه، فقال: إن كان الدين بالاتباع، فالمتفق عليه أولى. وفي قوله: {لها ما كسبت} إلى آخره، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم. وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.
{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا}: الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة، وعلى نصارى نجران، وفيهم نزلت. كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب، وأبيّ بن ياس بن أخطب، والسيد، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم. وأو هنا للتفصيل، كأو في قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} والمعنى: وقالت اليهود كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فالمجموع قالوا للمجموع، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين. وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة}. {قل بل ملة إبراهيم}: قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. أما على المفعول، أي بل نتبع مل




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال