سورة الرعد / الآية رقم 18 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ

الرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعد




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)}.
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة بعض مظاهر قدرة اللّه، وقوة سلطانه، وسعة علمه، ثم ختمت هذه المشاهد بهذا الحكم الذي ألزم الوجود كلّه، الانقياد للّه، والولاء له، طوعا أو كرها- جاءت هذه الآيات تخاطب العقل، وتدعوه إلى اللّه، وتضرب له الأمثال الحسية، ليقيم من منطقها طريقه الذي يستقيم عليه، في التهدّى إلى الحقّ، والإيمان باللّه، وإفراده بالألوهية، ونبذ الشركاء والأنداد، التي إذا قايسها العقل باللّه، كانت ضلالا وكانت هباء!.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟}.
هذا سؤال ينبغى للعاقل أن يسأله، وأن يجيب عليه!.. فإن هذا الوجود في سماواته وأرضه، لا بد له من خالق قد خلقه، وأجرى نظامه على هذا الترتيب المحكم البديع.. فإذا لم يسأل المرء نفسه هذا السؤال، ولم تثر في نفسه داعية له، فها هو ذا السؤال يملأ سمعه.. فماذا يكون الجواب؟ ومن ضاع منه الجواب بين سحب الجهل والضلال المنعقد على عقله وقلبه.. فهذا هو الجواب حاضر عتيد.
{قُلِ اللَّهُ!}.
وهذا الجواب هو من بديهية العقل، كما أن السؤال من بديهية العقل أيضا.. وعلى هذا، فإنه حكم لازم، وقضاء قاطع لا مردّ له.
وإذن فليكن الحساب والجزاء على هذا الحكم الذي لم يلتزمه المشركون، ولم يأخذوا أنفسهم به.
{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا}؟.
والاستفهام هنا إنكارىّ، يضع المشركين في قفص الاتهام، والإدانة.
إذ كيف لا يعطون ولاءهم للّه، ولا يخلصون له عبادتهم، وهو خالق السموات والأرض، على حين يجعلون ولاءهم وعباداتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، والتي هى خلق من خلق اللّه، تدين له بالولاء، كما دان له كل مخلوق؟ إنهم يسوّون في هذا بين المتناقضات، ويقولون إن الأعمى والبصير سواء، وإن الظلمات والنور متعادلان، وإن الباطل والحق متشابهان.. وإن المخلوق والخالق سيان! وهذا منطق أحمق سفيه، لا يقبله إلّا من عميت بصيرته، وختم اللّه على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة!.
{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟} هذا استفهام إنكارى أيضا، يسأل فيه المشركون عن تلك الآلهة التي عبدوها من دون اللّه، أو جعلوها شركاء للّه.. أهذه الآلهة تخلق كما يخلق اللّه؟ وهل لها في هذا الوجود شيء خلقته، حتى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون- إن كان لهم نظر- فيرون أن لهذه الآلهة خلقا خلقته، وعندئذ يتشابه الخلق عليهم فلا يفرقون بين ما خلق اللّه، وما خلق غير اللّه، أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟ وهل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة الم عبودة لهم؟ {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [73: الحج] فكيف يستوى من يخلق ومن لا يخلق؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟.
{قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
لم يبق إذن إلا الصيرورة إلى هذا الحكم، الذي لا حكم غيره، وهو أن اللّه هو الخالق لكل شىء.. وأنه {الواحد} المتفرد بالخلق {القهار} الذي له كل مخلوق، ويخضع لسلطانه كل موجود.. عظيم أو صغير.. في السماء، أو في الأرض.. {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟..} [78: النساء] قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ...}.
بقدرها: أي بحجمها، ومقدارها.
الزبد: الرغوة التي تتكون من السائل حين يضرب بعضه ببعض، كما يظهر ذلك في لعاب البعير حين يهدر ويرغو، أو لعاب الإنسان حين يثور، ويرمى بالكلام في اندفاع وقوة.
والرابى: المرتفع، ومنه الربوة، وهى المكان المرتفع.. وهذا مثل آخر ضربه اللّه سبحانه وتعالى للباطل والحق، وأنهما أمران مختلفان، اختلاف الأعمى والبصير، والظلمات والنور.
الحق والباطل.. دولة ودولة:
فهذا الماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية- كلّ على قدر ما نزل من ماء- فيحمل معه في جريانه واندفاعه، غثاء ورغوة وزبدا، فيختلط بالماء، ويعكر صفوه، حتى ليبدو لعين الغرّ الجاهل أن ما يراه هو غثاء وزبد، وأن لا شيء وراء هذا.. ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ أن بطن الوادي ملىء بالماء، مترع بالخير، وإن هذا الزبد إن هو إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ولا يبقى إلا ما ينفع الناس من ماء تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وإذا هو حياة يردها الناس فتمسك حياتهم، وحياة كل حىّ!.
هذه صورة واقعة في الحياة، يراها الناس جميعا.. باديهم وحاضرهم، جاهلهم وعالمهم.
وهناك صورة أخرى تشبه تلك الصورة، قد لا يشهدها إلا أهل العلم والصناعة، ولكنها على كل حال صورة لا تغيب عن المجتمع الإنسانى أبدا، وهى تلك المعادن التي تسلط عليها النار، فتنصهر، وتتحول إلى مادة سائلة، أشبه بالماء، حيث يستطيع الصانع أن يشكل منها ما يشاء من آنية، وحلىّ!.
فهذه المعادن حين تنصهر تحت حرارة النار، يعلو سطحها زبد أشبه بالزبد الذي يعلو سطح الماء المندفع بقوة الجريان من السيل المتدفق، وإن هذه الرغوة التي تعلوا وجه المعدن المنصهر هى خبث يلقى به بعيدا عن جوهر المعدن حتى يخلص للطرق والصقل، ويصبح آنية نافعة، أو حلية ثمينة معجبة.
{كذلك يضرب الحق والباطل} أي يضرب بعضهما ببعض، في هذا الصدام الذي بين أولياء الحق، وأتباع الباطل، فينشأ من هذا الضرب، وذاك الصراع زبد.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} أي يرمى به بعيدا، في جفاء وكره.. {وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أي ما ينفع الناس من الماء، ومن المعادن هو الذي يبقى، ويعيش مع الناس- ويكون سببا في حياتهم.. كالماء، أو سببا في تمكنهم من أسباب الحياة، ورفهها ونعيمها كالمعادن التي تصاغ منها الآنية والحلىّ.
فالصراع الذي يقع بين الحق والباطل، يثير في الحياة غبارا، ودخانا، يعكر من صفو الحياة حتى ليبدو لأول نظرة أن غير هذا الصراع أولى بالناس، ولكن تلك هى سنة الحياة، إذ كان من شأن الباطل دائما أن يتحكك بالحق وأن يعترض سبيله، وكان على الحق أن يعمل على الخلاص منه، حتى يصفر وجهه، ويتمكن الناس من الانتفاع به.. تماما كما ينتفعون بالماء بعد أن يدور دورته، ويخلص من الزبد الذي علق به!!.
والذين يشهدون الصراع الدائر بين الحق والباطل، ويرصدون مواقع القتال بينهما، وما يقع من انتصارات وهزائم- هؤلاء قد يرون للباطل دولة، دونها دولة الحق، ويرون للمبطلين، صولة، دونها صولة المحقّين، ومن أجل هذا نجد كثيرا من الناس يضيقون بالحق ذرعا، ولا يصبرون على المكاره في سبيل الانتصار له والدّفاع عنه.. وهؤلاء قد فاتهم أن هذه المكاره التي تحفّ بالحق، هى الثمن الذي يؤديه أصحاب المثل العليا، والنزعات الطيبة لما يجنون من ثمرات مباركة، هى غذاء الأرواح، وزاد القلوب، وهى التي تلد الرجال، وتربىّ للإنسانية قادتها الراشدين، وزعماءها المصلحين.
فليس بمنكور أن يهزم الحق في معاركه مع الباطل.. فالحق والباطل في صراع متلاحم لا ينتهى أبدا.. فينتصر هذا مرة، وينتصر ذاك أخرى، حتى يظل هذا الصراع دائما، لا تنقطع موارده، ولا تنطفىء ناره.. ولو كان النصر لأحدهما على الآخر ضربة لازب، لانتهى الصراع القائم في هذا الوجود من من أول معركة، ولكانت الحياة وجها واحدا.. حقا أو باطلا.. ولو كان هذا لسكن ريح الحياة، ولخمدت جذوة الكفاح التي تدفع موكب الحياة في قوه وانطلاق، فيتولد من هذا الاندفاع كل ما أقام الإنسان على هذه الأرض من مدنية وعمران.
إن الحياة في هذا الكوكب الأرضى محكومة بهذا الصراع الأبدى، بين قوى الخير والشر، والحق والباطل.. في ميزان، تتراجح كفتاه، وتضطربان هكذا أبدا.
وهزيمة الحق في أروع مظاهره، وأكمل كمالاته، ليست بالتي تنقص من قدره، أو تقلل خطره، أو تحمل أتباعه على الشك فيه، أو الجفوة له.. فالحق وإن بدا أنه خسر المعركة في بعض معاركه مع الباطل، فإن هذا لا يعنى أنه هزم، وأسلم يده للباطل وأهله.. وإنما ينهزم الحق حين تنهزم مبادئه في نفس أهله، وتخف موازينه عندهم.. فذلك هو ميدان المعركة بين الحق والباطل.
فما دامت قلوب أهل الحق عامرة به، وما دامت أرواحهم متعلقة بالحياة معه والعيش في ظله، فإنه لن يهزم أبدا، ولو خسر معاركه في ميدان الحرب والقتال، وفيما يتقاتل من أجله الناس، من متاع الدنيا وزخرفها.
يقول الفيلسوف جون ستيوارت: إن من السخافة أن يتوهم المرء أن الحق لا لشىء سوى أنه حق- يشتمل على قوة غريزية، ليست موجودة في الباطل، من شأنها أن تمكن الحق من التغلب على ضروب العقاب والتنكيل.
إذ الحقيقة الواقعة أن مقدارا كافيا من العقوبات القانونية أو الظلم الاجتماعى جديرة بأن تحول دون انتشار الحق!.
ثم يقول الفيلسوف:
ولكن الفضيلة الصادقة التي يتميز بها الحق، هى أنه يمكن إخماده، مرة، ومرتين، ومرّات، غير أنه لا بد- على مدى الدهور- من أن يظهر أناس يعاودون استكشافه المرة بعد الأخرى، حتى يوافق ظهوره في إحدى المرات ظروفا ملائمة، فيفلت من الاضطهاد، ويجمع من الأنصار ما يمكنه من الثبات يريد هذا الفيلسوف أن يقول: إن للحق أصولا مستقرة في ضمير الإنسانية، وأن هذه الأصول، وإن حجبتها قوى الشرّ والبغي، وغامت على شمسها سحب الضلال والزيغ، فإنّ جوهرها النقىّ لا يناله من ذلك شىء، بل يظل هكذا على نقائه، وصفائه، وكرمه، حتى تجىء الظروف المناسبة، التي تجلّى عن وجه الحقّ ما غشيه من ضباب، وما خيّم عليه من ظلام.. وذلك إما بقوة تنبعث من كيان الحق، كما تنبعث الحرارة من الشمس، فتبدّد السحب والغيوم، وإما بأن تنحلّ قوى الباطل من تلقاء نفسها، فيذبل عوده، وتجفّ أوراقه، كما تموت نبتة السوء، وتصبح هشيما تذروه الرياح.. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}.
والحق دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلا من رزقهم- سبحانه- الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد، إذ الحق- في حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وقهر لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان في حرب متصلة مع نفسه، وما فيها من أهواء ونزعات، حتى إذا أقامها على الحق وصالحها عليه، وأسلم زمامها له- كان عليه أن يواجه الناس، وأن يجاهد في سبيل الحق الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه ولسانه ويده، جميعا.
ومن هنا كان الصبر قرين الحق في كلّ دعوة يدعو إليها الإسلام، في مجال الخير والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان والإنسانية على صراط مستقيم.
ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة، ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هنا عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، وإلّا لو دخلوا المعركة بغير هذه العدة- عدة الصبر- لا يحلّ عزمهم، ولم يكن لهم من سبيل إلى احتمال تبعات هذه الدعوة.. فكان قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [34- 35: فصلت]- جامعا بين الدعوة إلى الصفح والمغفرة، وبين الصبر، الذي بغيره لا يمكن حمل النفس على هذا المكروه عندها، وهو دفع السيئة بالحسنة.
وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يطلّ عليه من تسلط أهوائه، وساوس شيطانه، يقول اللّه تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} لا يستثنى سبحانه أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}.
هذا، وللحق أصول ثابتة في الحياة، هى الروح السّارية في هذا الوجود، وهى الغالبة لكل باطل، حيث يكون له زبد ورغاء عند تشبثه بالحق، وتعلقه بذاتيته، كما تتعلق النباتات الطفيلية بأصول الأشجار الكريمة.. يقول سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ويقول جلّ شأنه: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} [38- 39: الدخان].. فعلى هذا الخالق بالحق قامت السموات والأرض وما فيهما من موجودات.. والحق هو اسم من أسماء اللّه سبحانه وتعالى، وكفي بالوجود أن ينتسب إلى هذا النسب الكريم، ليهزم كل باطل، ويقضى على كل ضلال.. ومن هنا كان دائما النصر للحق، ولأتباع الحق.
والهزيمة دائما للباطل وأهل الباطل.. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
{لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى} جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير:
الحسنى للذين استجابوا لربهم.. أي إن للذين استجابوا لربهم، وآمنوا به، واتبعوا سبيله،- العاقبة الحسنى، والجزاء الحسن.. {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ..} فهؤلاء هم الزبد والغثاء، ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يجدون عنها مصرفا، ولو كان لهم ملك ما في الأرض جميعا، ومثله مضافا إليه، لقدموه فدية من هول هذا العذاب.. وهيهات!.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة كانت مثلا مضروبا للحق والباطل وأنهما كثيرا ما يقع بينهما صراع، وقد يعلو الباطل على الحق في بعض المواقف، كما يعلو الزبد صفحة الماء المتدافع من مسيل الوادي.. ولكنه لا يلبث أن يذهب هباء، ويبقى ما ينفع الناس.. كذلك الذين استجابوا للّه وآمنوا به، والذين لم يستجيبوا له، واتخذوا من دونه شركاء.. فالذين استجابوا للّه هم أشبه بالماء.. والذين لم يستجيبوا للّه هم هذا الزبد.. وإذا كان ذلك كذلك، كان لكل من الفريقين حسابه، وجزاؤه عند اللّه.. فكما لا يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الزبد ولا الماء.. كذلك لا يستوى الكافرون والمؤمنون.. أولئك أصحاب النار، وهؤلاء أصحاب الجنة:
{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [20: الحشر].




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال