سورة النحل / الآية رقم 66 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمِ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ

النحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.}.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن وجوه كثيرة، من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون حين كفروا باللّه، ومكروا بآياته، وجحدوا أفضاله وأنعامه، فناسب ذلك أن يذكّرهم- سبحانه- بمزيد من فضله عليهم، وهو أن هذه المنكرات التي اقترفوها جديرة بأن تسوق إليهم المهلكات، وأن ينزل بهم ما نزل بالظالمين قبلهم من نقم اللّه، بل ويشمل البلاء كل ما بين أيديهم من أنعام سخرها اللّه لهم.
وفى التعميم الذي شمل الناس جميعا، وما على الأرض من دابّة، إشارة إلى أن رحمة اللّه لم تتخلّ عن الناس، حتى في مواقع البلاء، والهلاك.. فلم يهلك اللّه الناس جميعا بسبب ما يقع منهم من ظلم، وشرك، وكفر، ولو أخذهم بظلمهم لما أبقى منهم باقية، ولأخذ غير الظالمين بالظالمين، بل ولما أقام حياة على هذه الأرض، من حيواناتها ودوابها.. إذ كانوا جميعا كيانا واحدا، مطالبا بأن يقيم خلافة اللّه في الأرض، على صراط مستقيم.
قوله تعالى: {وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي ولكن شاءت رحمة اللّه بالناس ألا يعجّل لهم العقاب، وأن يقيمهم في الحياة إلى أجل مسمّى، حتى تتاح لهم الفرصة لإصلاح ما أفسدوا، والرجوع إلى ربّهم.. إذ لا شك أن في امتداد العمر للظالم رحمة به، حتى يراجع نفسه، ويرجع إلى ربّه.. فإن لم يرجع إلى اللّه، ويؤمن به فإن مطاولة الزمن له لم تضرّه، فقد كان بكفره غير متقبل لجديد من الضرر.. إذ ليس بعد الكفر ذنب.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام على كرم اللّه وجهه بقوله: موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه، خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب! قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} هو تنديد بالمشركين، واستنكار لأفعالهم وأقوالهم جميعا، فهم يجعلون للّه ما يكرهون، أي ينسبون إليه الإناث، فيجعلون الملائكة بناته، ويسمّون آلهتهم بأسماء مؤنثة، ويقولون عنها إنها بنات اللّه! وفى هذا يقول اللّه تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [27- 28: النجم].. هذا، على حين يجعلون لأنفسهم الذكور، ثم لا يقف بهم الضلال عند هذا، بل يمنّون أنفسهم الأمانى المسعدة، ويقولون إن لهم العاقبة الحسنى عند اللّه.. كما يقول اللّه تبارك وتعالى فاضحا هذه الأمانى الخادعة:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً} [77- 80: مريم].
وفى قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} إشارة إلى أنهم يصفون الكذب بغير صفته، فهو قبيح، خبيث، لا يثمر إلا القبيح الخبيث، ولكنهم يعطونه صفة الشيء الحسن، ويرجون من ورائه ما يرجو المحسنون من إحسانهم.
ولهذا ضمّن الفعل تصف معنى القول: أي يقولون الكذب الذي يقولونه وهو قولهم {أن لهم الحسنى}.
فهو بدل من الكذب.
قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}.
أي لا شك أن لهم النّار، وليست لهم الحسنى كما يزعمون.. وأنهم مفرطون.. أي سابقون إلى النّار.. فهذا هو المجال الذي يسبقون فيه، ويأخذون المكان الأول منه.
أما في مقام الخير والإحسان فهم في أنزل منزلة.
وقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
فى القسم من اللّه سبحانه وتعالى باسمه الكريم تشريف للنبىّ، ومداناة له، وتلطف من الحقّ جل وعلا معه.. أي وحقّ ربّك، لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، فوسوس لهم الشيطان، وزين لهم ما هم فيه من عمى وضلال، فلم يستجيبوا، لدعوة الحق، ولم يردّوا على رسل اللّه إليهم ردّا جميلا، بل أعنتوهم، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى.. فلا تأس على ما يصيبك من قومك، وما ترى من عنادهم، وتأبّيهم على الحق الذي تدعوهم إليه، فالشيطان يتولاهم اليوم، ويقودهم كما تولّى الظالمين قبلهم، وقادهم إلى موارد الوبال والهلاك.. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي لأولياء الشيطان جميعا عذاب أليم في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هو بيان لمحامل الرسالة التي أرسل بها النبىّ الكريم، فالكتاب الذي أنزل إليه، ليس فيه ما يدخل منه الضيم على أحد ممن يستجيب له.. إنه لا ينزع من أحد سلطانا، ولا يعتدى على حرمة من حرماته، بل إن كل ما يحمله هو الخير، والرحمة، والأمن، والسلام.. فهو نور يكشف معالم الطريق إلى الحق والخير، ويقيم لمن يهتدى به فهما صحيحا للعقيدة التي يعتقدها.
فالقرآن الكريم ميزان عدل وحق، وفيصل ما بين الحق والباطل وحكم ما بين الخير والشر.. فما استقام على ميزانه، فهو الحق والخير، وما انحرف عنه، فهو الباطل والضلال.. فعلى هديه يجتمع أهل الكتاب على كلمة سواء منه، فيما اختلفوا فيه، وإليه يحتكم أهل الهدى، فيقضى بينهم بما يرفع الخصام والشقاق فيما كان سببا في خصامهم وشقاقهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [59: النساء].. وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [10: الشورى].. وفى هذا يقول الرسول الكريم في صفة القرآن الكريم: «القرآن مأدبة اللّه، فتعلموا من مأدبته» ففى مأدبة اللّه هذه الشفاء والرحمة، والهدى والمعرفة.. إنه مأدبة علم وحكمة، وخلق، وليس مأدبة معدة، ولا طعام بطون.
وقوله تعالى: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هو بيان لما في القرآن الكريم من معطيات الخير التي لا تنفد.. فهو إذا كان ميزان الحق والعدل الذي تردّ إليه الأمور، وتنزل على حكمه الأحكام، فإنه كذلك هدى ورحمة، لمن آمن به واهتدى بهديه، واستظل بظلّه.. فهو الشفاء من كل داء، والعافية من كل سقام، والاستقامة من كل ضلال.. كما يقول الحق جلّ وعلا:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [82: الإسراء] وكما يقول سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [44: فصلت].
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لمّا ذكر في الآية السابقة، أن القرآن الذي نزل على النبىّ، هو شفاء لما في الصدور وروح للأرواح، وحياة للنفوس، فناسب أن يذكر ما ينزّل من السماء من ماء هو روح الحياة، وحياة الأحياء.
وبهذا تتم نعمة اللّه، حيث ينزل على عباده من رحمته، ما تحيا به حياتهم، المادية والروحية، جميعا.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن الآية المبصرة هى التي يتلقّاها الناس من كلمات اللّه، حين تتلى عليهم، لا من تلك الآيات الكونية التي يرونها بأبصارهم.. فهذه الآيات الكونية وإن كانت موطنا للعبرة، ومرادا للتبصرة، إلا أن كلمات اللّه التي تعيها آذان واعية، وتتلقاها قلوب متفتحة- هذه الكلمات هى أوضح بيانا، وأفصح لسانا، وأفعل أثرا، إذ هى النور الذي تنكشف على أضوائه الآيات الكونية المبثوثة في الأرض والسماء.. وهذا هو السر في أن جاءت فاصلة الآية الكريمة: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ولم تجىء هكذا: {لقوم يبصرون} حيث كان ذلك هو التعقيب المناسب للآية التي تحدّث عن الماء الذي ينزل من السماء، وأثره في إحياء الأرض.. وكل هذه صور ترى ولا تسمع.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ}.
اختلف المفسرون، وتعددت آراؤهم في تأويل الضمير في قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُون ِهِ}.
فهذا الضمير مفرد مذكر، يعود إلى {الأنعام} والأنعام جمع، فكان مقتضى هذا أن يعود الضمير إلى الأنعام مؤنثا هكذا: {بطونها} إذ أن كل جمع غير عاقل، يعود عليه الضمير مفردا مؤنثا.. وقد جاء على تلك الصفة في قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (الآيتان: 21- 22) فما تأويل هذا؟ ولم اختلف النظم في الآيتين، فجاء في آية النحل هكذا: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} على حين جاء في آية المؤمنون: {مِمَّا فِي بُطُونِها}.
يقول المفسرون: إن الأنعام، تجىء في اللغة بمعنى المفرد، كما تستعمل جمعا.. وقد استعملت في آية النحل بمعنى المفرد، واستعملت في آية المؤمنون الاستعمال الآخر الذي لها، وهو الجمع!! ويأتون لهذا بكثير من الشواهد اللغوية للاستعمالين.
والقول بأن الأنعام لفظ مفرد، مثل ثوب أخلاق ونطفة أمشاج قول متهافت لا يراد منه إلا الخروج من هذا الموقف بين يدى الآية الكريمة، وتسوية نظمها على أية صورة!! فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ الأنعام مرة واحدة بمعنى المفرد، على كثرة ما ورد فيه من ذكر هذا اللفظ في مواضع شتى.. فمن ذلك: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ} [30: الحج]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ} [12: محمد] {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ} [118: النساء]، {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ} [5: النحل] {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ} [54: طه] {مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ} [33: النازعات] هذا هو بعض ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الأنعام.. وقد استعملت استعمال الجمع غير العاقل، فعاد إليها الضمير مفردا مؤنثا.. كما أضيفت إليها الآذان جمعا.. وكما أضيفت هى إلى الناس هكذا {أنعامكم} وليس بمعقول أن يرعى الناس جميعا بهيمة واحدة!! والذي نراه في مجىء الضمير في آية النحل مفردا مذكرا، على غير ما يقتضيه الاستعمال اللغوي، هو أن الحيوان الذي يشرب لبنه، ويؤكل لحمه، هو الحيوان المجترّ، بخلاف الحيوان الذي له لبن، ولكن لا يحل شرب لبنه، ولا أكل لحمه، وهو غير مجترّ، كالكلب، والخنزير.
والحيوان المجترّ، له خاصية في جهازه الهضمى.. فله معدة، وله معى، وله كرش، يختزن فيه الطعام، وبعيد مضغة مجترا.. بخلاف الحيوان غير المجتر فإنه ليس له هذا الكرش الذي يختزن فيه الطعام.
ومن هنا يبدو الحيوان المجتر وكأنه لا يحمل بطنا واحدا كسائر الحيوانات، بل يحمل بطونا.. المعدة، والمعى، والكرش، الذي هو أشبه بمجموعة من البطون.
ومن هنا أيضا جاء النظم القرآنى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} مشيرا إلى بطون هذا الحيوان المجتر الذي أحلّ شرب لبنه، وأكل لحمه، وأن الحيوان الذي ليس له هذه البطون لا يؤكل لحمه، ولا يشرب لبنه..!
ومن هنا- مرة ثالثة- كان على الإنسان أن ينظر في الحيوان الذي يشرب من لبنه ويأكل من لحمه، فإذا كان على تلك الصفة أكل من لحمه وشرب من لبنه، وإلا أمسك عنه.
فالآية الكريمة إذ تنبه الإنسان إلى ما في بطون الأنعام من عبرة في خروج اللبن من بين الفرث والدم تنبّهه كذلك إلى ما أحلّ له من الحيوان ذى اللبن، ولهذا جاء وصف اللبن بهذين الوصفين: {لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ}.
وعلى هذا يكون الضمير في {بطونه} عائدا إلى الحيوان المجترّ ذى البطون، وذى اللبن الخالص، السائغ للشاربين.. هذا الحيوان المنتقى من بين مجموعة الأنعام كلها، فهو حيوانها الذي ينبغى أن يتجه النظر إليه في هذا المقام! مقام أخذ اللبن الخالص السائغ منه.
أما آية المؤمنون فلم يكن المراد منها التنبيه إلى هذه الخاصية من الحيوان، ذى اللبن الخالص السائغ، حيث جاءت الآية هكذا: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}.
فهى تحدّث عن الأنعام في جملتها، وعما يجنيه الناس منها من ثمرات، ليس اللبن إلا بعضا منها، وليس في الآية ما في آية النحل من إلفات خاص إلى اللبن الصافي السائغ، الذي يخرج بقدرة القدير، وتدبير الحكيم العليم.. من بين الفرث والدم.
فآية النحل تلفت الأبصار والبصائر في قوة، إلى هذه الظاهرة العجيبة، التي تحدّث عن قدرة اللّه، وإلى ما تملك القدرة من قوى التصريف والإبداع.
فمن بين الفرث، وهو الروث، وبين الدم يجرى اللبن الخالص، السائغ، دون أن تعلق به شائبة، أو يمسّه سوء، يغيّر لونه أو طعمه، أو ريحه.. ومن تلك الأخلاط التي تجمع من الأطعمة التي يتناولها الحيوان، وتتجمع في كرشه ومعدته- من تلك الأخلاط يخرج الفرث، واللبن، والدّم.. فيأخذ الفرث سبيله إلى العمى، ثم إلى خارج الجسد، ويأخذ اللبن مجراه إلى الضرع، ويأخذ الدم مساره في العروق! دون أن يبغى بعضها على بعض، أو يختلط بعضها ببعض، حتى لكان كلّا منها وارد من عالم لا يتصل بالعالمين الآخرين، بأية صلة.. فتبارك اللّه رب العالمين..!!
وفى تقديم قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} على قوله سبحانه {لَبَناً} الذي هو مطلوب للفعل {نسقيكم} في هذا إلفات إلى الفرث والدم وما يخرج من بينهما، وهو اللبن الخالص السائغ للشاربين.. فإنه قبل أن يقع لنظر الناظر هذا اللبن، يلتقى نظره أولا بالفرث والدم، الذي لا يتصور أن يخرج منهما إلا ما يشاكلهما.. فإذا رأى بعد هذا أن ذلك اللبن الخالص السائغ يخرج من بين هذين الشيئين: الفرث والدم، عجب لذلك كلّ العجب، وحمله ذلك على أن يقف عند هذه الظاهرة وقوفا طويلا، يشهد فيها لمحات من قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته.
قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
{ومن} من هنا للتبعيض.. أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا.. وهو ما يؤخذ من التمر.. من خلّ، وما يتخذ من العنب.. من زبيب مثلا.. فليس كل ثمرات النخيل والأعناب، يتخذ، أي يصنع منها السكر، وغير السكر، وإنما يؤكل أكثره من غير صنعة، وقليله هو الذي يصنع من السّكر وغيره.. ولهذا عاد الضمير في {منه} على هذا البعض، أو هذا القليل.. أي وبعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذونه سكرا ورزقا حسنا.
والسّكر: ما يسكر، وهو الخمر.. والرزق الحسن ما يصنع من التمر والعنب في أغراض أخرى غير السّكر.
وفى هذا إشارة إلى أن السكر- وهو الخمر- رزق غير حسن.. وإن سمّى رزقا، لأن كثيرا من الناس يصنعه، ويبيعه، ويعيش من العمل فيه.
وهذه أول آية تنزل في الخمر، وتومئ إليه هذه الإماءة التي تحقره، وتسمه بتلك السمة التي تعزله عن الحسن من الرزق.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال