سورة النحل / الآية رقم 90 / تفسير تفسير الشعراوي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

النحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)}
للحق تبارك وتعالى في هذه الآية ثلاثة أوامر: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُرْبى. وثلاثة نَواهٍ: عن الفحشاء والمنكر والبغي. ولما نزلت هذه الآية قال ابن مسعود: أجمعُ آيات القرآن للخير هذه الآية لأنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم.
(ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب له أن يُسلِم، وكان يعرض عليه الإسلام دائماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب عَرْض الإسلام على أحد إلا إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَماً تحسن في الإسلام.
وكأنه صلى الله عليه وسلم ضَنَّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم، لذلك كان حريصاً على إسلامه وكثيراً ما يعرضه عليه، إلا أن سيدنا عثمان بن مظعون تريَّث في الأمر، إلى أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس، فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه، فقال له ابن مظعون: ما حدث يا رسول الله؟ فقال: إن جبريل عليه السلام قد نزل عليَّ الساعة بقول الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
قال ابن مظعون رضي الله عنه: فاستقر حبُّ الإيمان في قلبي بهذه الآية الجامعة لكل خصال الخير.
ثم ذهب فأخبر أبا طالب، فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الآية قال: يا معشر قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد، فإنه قد جاءكم بأحسن الأخلاق).
(ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب، وكان معه أبو بكر وعلي، قال علي: فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان ابن ثعلبة فقال: إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فقال مقرون: إنك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك وظاهرتْ عليك).
أخذ عثمان بن مظعون هذه الآية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل، فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد بن المغيرة، وقال له: إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا، فأفكر الوليد بن المغيرة أي: فكَّر فيما سمع وقال: والله إن له لحلاوةً، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يُعْلَى عليه، وما هو بقول بشر.
ومع شهادته هذه إلا أنه لم يؤمن، فقالوا: حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر.
وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم، واستقرتْ في أفئدتهم؛ لأنها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ، دعَتْ لكل خير، ونَهتْ عن كل شر.
قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل..} [النحل: 90].
ما العدل؟ العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لأنه لا يكون إلا بين شيئين متناقضين، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً؛ لأنه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصفَ تكوينه، وكأنه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد شعرة، هذا هو الإنصاف.
ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون، فحساسية ميزان البُرّ غير حساسية ميزان الجواهر مثلاً، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى سُمٍّ، وقد شاهدنا تطوراً كبيراً في الموازين، حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره.
والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة ألا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن الطريق، فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها، في الأمور العقدية التي هي عمل القلب، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة.
فكيف يكون العدل في الأمور العقدية؟
لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون، فأنكروا وجوده سبحانه مطلقاً، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة، هكذا تناقضتْ الأقوال وتباعدتْ الآراء، فجاء العدل في الإسلام، فالإله واحد لا شريك له، مُنزّه عَمّا يُشبه الحوادث، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى.
فلله سَمْع، ولكن ليس كأسماع المحدثات، لا ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من المعطّلة، ولا نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبِّهة، بل نقول: ليس كمثله شيء، ونقف موقف العَدْل والوسطية.
كذلك من الأمور العقدية التي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضية الجبر والاختيار، حيث اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول إن الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل لله سبحانه في أعمال العبد؛ ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً. ومن يقول: لا؛ بل كل الأعمال من الله والعبد مُجْبَر عليها.
فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول: بل الإنسان يعمل أعماله الاختيارية بالقوة التي خلقها الله فيه للاختيار.
وفي التشريع والأحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى عليه السلام في القصاص مثلاً: في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل حتى قالوا لموسى عليه السلام: {أَرِنَا الله جَهْرَةً..} [النساء: 153].
فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، فكان المناسب لهم القِصَاص ولا بُدَّ، ولو تركهم الحق سبحانه لَكَثُر فيهم القتل، فهم لا ينتهون إلا بهذا الحُكْم الرادع: مَنْ قتَل يُقتلُ، والقتل أنْفى للقتل.
وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله، فكوْنُك ترى الإله تناقض في الألوهية؛ لأنك حين تراه عينُك فقد حددّتَه في حيّز.
إذن: كونه لا يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى. وكيف نطمع في رؤيته جَلَّ وعلاَ، ونحن لا نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته، فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم، وبها نتحرك ونزاول أعمالنا، وبها نفكّر، وبها نعيش، أين هي؟!
فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ الله سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب. هل رأيت هذه الروح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسِّك؟!
فإذا كانت الروح وهي مخلوقة لله يعجز العقل عن إدراكها، فكيف بمَنْ خلق هذه الروح؟ فمن عظمته سبحانه أنه لا تُدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلاً، وهو معنًى من المعاني التي يدّعيها كل الناس، ويطلبون العمل بها، هذا الحق ما شَكْله؟ ما لونه؟ طويل أم قصير؟! فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحق وهو مخلوق لله سبحانه، فكيف نتصور الله ونطمع في رؤيته؟!
ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا لله تعالى في التلمود جماعة من النقباء، وجعلوه سبحانه قاعداً على صخرة يُدلي رِجْليْه في قصعة من المرمر، ثم أتى حوت.. إلخ.. سبحان الله؛ ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادية؟
ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية، تكون هي أيضاً مُسرفة في الروحانية ليحدث نوع من التوازن في الكون، فجاءت شريعة عيسى عليه السلام بعد مادية مُفْرطة وإسراف في الموسَوية، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيات الناس؟
جاءت شريعة عيسى عليه السلام تُهدّيء الموقف إذا حدث قتل، فيكفي أن قُتِل واحد ولنستبقي الآخر ولا نثير ضجّة، ونهيج الأحقاد والترة بين الناس، فدَعَتْ هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل.
ثم جاء الإسلام ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم، فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو، فأعطى وليَّ المقتول حَقّ القصاص، ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} [البقرة: 178].
ونلاحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن.
وللقصاص في الإسلام حكَم عالية، فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة، بل يهدف إلى حفظ حياة الناس كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} [البقرة: 179].
فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فلا يُهدد حياة الآخرين.
وحينما يُعطي ربُّنا تبارك وتعالى حقَّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكِّنه منه تبردُ ناره، وتهدأ ثورته، فيفكر في العفو وهو قادر على الانتقام، وهكذا ينزع هذا الحكمُ الغِلَّ من الصدور ويُطفِيء نار الثأر بين الناس.
ولذلك نرى في بعض البلاد التي تنتشر فيها عملية الثأر يأتي القاتل حاملاً كفنه على يده إلى وليّ المقتول، ويضع نفسه بين يديه مُعترفاً بجريمته: هاأنا بين يديْك اقتلني وهذا كفنِي.
ما حدث ذلك أبداً إلا وعفا صاحب الحق ووليّ الدم، وهذا هو العدل الذي جاء به الإسلام، دين الوسطية والاعتدال.
هذا العفو من وليّ الدم أداةُ بِنَاء، ووسيلة محبة، فحين نعطيه حَقّ القصاص، ثم هو يعفو، فقد أصبحت حياة القاتل هبةً من وليّ الدم، فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه عنه، وهذا جميل يحفظه أهل القاتل، ويقولون: هذا حَقَن دم ابننا.
موقف آخر لعدالة الإسلام ووسطيته نراها في حُكْم الحيض مثلاً، ففي شريعة موسى عليه السلام يُخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض لا يجمعهما بيت واحد.
وفي شريعة عيسى عليه السلام لا مانع من وجودها في البيت، ولا مانع من معاشرتها والاستمتاع بها.
فجاء الإسلام بالعدل في هذه القضية فقال: تبقى المرأة الحائض في بيتها لا تخرج منه، ولكن لا يقربها الزوج طوال مدة الحيض، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222].
وكذلك لو أخذنا الناحية الاقتصادية في حياتنا، والتي هي عصب الحياة، والتي بها يتم استبقاء الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره، وبها يتم استبقاء النوع بالزواج، وكُل هذا يحتاج إلى حركة إنتاج، وإلى حركة استهلاك، وبالإنتاج والاستهلاك تستمر الحياة، ولو توقف أحدهما لحدث في المجتمع بطالة وفساد.
وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد، فما أعرفه أنا أخدم به الكل، وما يعرفه الكل يَخدمني به، وهكذا تستمر حركة الحياة.
والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال، فإنْ شاركتَ في حركة الحياة واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة وآمالك في المستقبل.
فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيَّعتَ على نفسك تحقيق الآمال في المستقبل، فلن تجد ما تبني به بيتاً مثلاً أو تشتري به سيارة، أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات الحياة. وهذا ما نسميه الإسراف.
وفي المقابل، كما لا يليق بك الإسراف حتى لا يبقى عندك شيء، وكذلك لا يليق بك التقتير والبخل والإمساك فتكنز كل ما تكتسب، ولا تنفق إلا ما يُمسِك الرمَق؛ لأنك في هذه الحالة لن تساهم في عملية الاستهلاك، فتكون سبباً في بطالة المجتمع وفساد حاله.
وقد عالج القرآن هذه القضية علاجاً دقيقاً في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29].
أي: لا تُمسك يدك بُخْلاً وتقتيراً، فتكون ملُوماً من أهلك وأولادك، ومن الدنيا من حولك، فيكرهك الجميع، وكذلك لا تبسط يدك بالإنفاق بَسْطاً يصل إلى حَدّ الإسراف والتبذير، فيفوتك تحقيق الآمال وتتحسَّر حينما ترى المقتصد قد حقَّق ما لم تستطع أنت تحقيقه من آمال الحياة، وترقّى هو في حياته وأنت مُعْدم لا تملك شيئاً، فكان عليك أن تدّخر جُزْءاً من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به حينما تريد.
ولذلك قال تعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 27].
وقال: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67].
إذن: فالعَدْل أمر دائر في كل حركات التكليف، سواء كان تكليفاً عَقَدياً، أو تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة، فالأمر قائم على الوسطية والاعتدال، ومن هنا قالوا: خَيْر الأمور الوسط.
وقوله: {والإحسان..} [النحل: 90].
ما الإحسان؟
إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ..} [البقرة: 194].
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ..} [النحل: 126].
فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحق، وأنْ تتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله، عملاً بقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
والناس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقي.
وأول هذه المراتب كظم الغيظ، من كَظْم القِرْبة المملوءة، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والردّ بالمثل، ولكنه يظل يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه.
لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة الأعلى، وهي مرتبة العفو، فيأتي الإنسان ويقول: لماذا أدَعْ نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي، وأُقَاسي ألمه ومرارته؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه، فيعفو عمَّنْ أساء إليه، ويُخرِج المسألة كلها من قلبه.
فإنِ ارتقى الإنسان في العفو، سعى المرتبة الثالثة، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك، وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردِّ بالمثل، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله، فالذي اعتدى اعتدى بقدرته، وانتقم بما يناسبه، والذي ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله تعالى، وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه وتعالى؟
إذن: فالإحسان اجمل بالمؤمن، وأفضل من الانتقام.
لكن كيف يصل الأمر إلى أنْ تعفوَ عمَّنْ أساء، بل إلى أنْ تُحسِن إليه؟
نقول: هَبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر وأساء إليه، فماذا يكون موقفك منهما؟ وإلى أيّهما يميل قلبك؟
لا شكَّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه، وقد يتعدَّى الأمر إلى أنْ تُرضيه بهدية وتُريه من حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني، والسبب في ذلك إساءة أخيه له فهي التي عطفَتْ قلبك إليه، وعادتْ عليه بالهدايا والألطاف.
إذن: من الطبيعي أنْ يُحسِنَ المعتَدى عليه إلى المعتدِي، وأنْ يشكرَ له أنْ تسبَّب له في هذه النعم؛ ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: أفلا أُحسِن لمن جعل الله في جانبي؟
فالإحسان: أنْ تصنع فوق ما فرض الله عليك، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض الله عليك، ومن جنس ما تعبَّدنا الله به، فمثلاً تعبدنا الله بخمس صلوات في اليوم والليلة فلا مانعَ من الزيادة عليها من جنسها، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج. والإحسان هنا يكون بزيادة ما فرضه الله علينا.
وقد يكون الإحسان في الكيفية دون زيادة في العمل، فلا أزيد مثلاً عن خمس صلوات، ولكن أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض، وأُتقِن ما أنا فيه من العمل، وأُخلِص في ذلك عملاً بحديث جبريل عليه السلام حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك).
فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلاله وجماله وكماله، فإنْ لم تصل إلى هذه المرتبة فلا أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك، وهذه كافية لأنْ تُعطي العبادة حقّها ولا تسرق منها، فاللصُّ لا يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه، فإذا كنا نفعل ذلك مع بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الآخرين، أيليق بنا أنْ نتجرأ على الله ونحن نعلم نظره إلينا؟!
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي، إنْ كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخلَل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟).
وقال بعضهم في معنى العدل والإحسان:
العدل: أن تستوي السريرة مع العلانية.
والإحسان: أن تعلو السريرة وتكون افضل من العلانية.
والمنكر: إنْ علَتْ العلانية على السريرة.
وقوله تعالى: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} [النحل: 90].
إيتاء: أي إعطاء.
قالوا: لأن العالم حَلَقات مقترنة، فكل قادر حوله أقرباء ضُعفَاء محتاجون، فلو أعطاهم من خيْره، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله عليه لَعَمَّ الخير كل المجتمع، وما وجدنا مُعْوزاً محتاجاً؛ ذلك لأن هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله، كل قادر يُعطي مَنْ حوله.
وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً، وقد حثتْ الآية على القريب، وحنَّنَتْ عليه القلوب؛ لأن البعيد عنك قريب لغيرك، وداخل في دائرة عطاء أخرى.
وقد يكون الفقير قريباً لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا، وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق موارد العيش لكل الناس.
وقالوا: المراد هنا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمتْ عليهم الزكاة التي أُحِلَّت لغيرهم من الفقراء، وأصبح لهم مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول، ولا يليق بنا أن نجعل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة، وإنْ كان أقرباؤكم أصحابَ رحم، فلا تنسوا أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى من أرحامكم، كما قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ..} [الأحزاب: 6].
هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية، وإنَّ مجتمعاً يُنفِّذ مثل هذه الأوامر ويتحلَّى بها أفراده، مجتمع ترتقي فيه الاستعدادات الخُلقية، إلى أن يترك الإنسان العقوبة والانتقام ويتعالى عن الاعتداء إلى العفو، بل إلى الإحسان، مجتمع تعمُّ فيه النعمة، ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان.
إن مجتمعاً فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب والإيمان والإحسان، إنه لجدير بالصدارة بين أمم الأرض كلها.
وقوله: {وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي..} [النحل: 90].
وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الأوامر السابقة منهجاً قرآنياً قويماً يضمن سلامة المجتمع، وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة، والمتتبع لآيات القرآن الكريم سيجد أن الزنا هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة، فهي إذن الزنا، أو كل شيء يخدش حُكْماً من أحكام الله تعالى، ولكن لماذا الزنا بالذات؟
نقول: لأن كل الذنوب الأخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس الإنسانية، أما الزنا فيتعلَّق بالنفس الإنسانية ذاتها، ويترتب عليه اختلاط الأنساب وبه تدنَسُ الأعراض، وبه يشكُّ الرجل في أهله وأولاده، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله؛ لذلك نصَّ عليه القرآن صراحة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
ومن أقوال العلماء في الفاحشة: أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن الناس، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به، كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه لا يصحّ، ولا ينبغي لأحد أن يطلع عليه.
(والمنكر) هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه، ويُجاهر به، ويستنكره الناس.
إذن: لدينا هنا مرتبتان من الذنب:
الأولى: أن صاحبه يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه، وهذا هو الفحشاء.
والثانية: ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع، وهذا هو المنكر.
(والبغْي) هو الظلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه، وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة من الشرك بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق تبارك وتعالى صِفة من صفاته، وتشرك معه غيره وهو خلقك ورزقك، ومنه ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يُجرَّب عليه في يوم من الأيام أنْ قال خطبة أو ألقى قصيدة، كما لم يُجرِّب عليه الكذب أو غيره من الصفات الذميمة، ومع هذا كله قالوا عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون، وأيُّ ظلم أعظم من هذا؟
ومن الظلم ظُلْم الإنسان لنفسه حينما يُحقِّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة، تُورثه ندماً وحَسْرة وألماً آجلاً، وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلماً كبيراً وجَرَّ عليها ما لا تطيق، ذلك فَضْلاً عن ظلم الإنسان لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله.
إذن: الآية انتظمتْ مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن سلامة المجتمع بما جمعتْ من مكارم الأخلاق، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات، وأعمُّ من أن تكون في المعجزة إيماناً بها، وأعمُّ من أن تكون في التكاليف، وأعمُّ من أن تكون في أمر لا حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم.
وقوله: {يَعِظُكُمْ..} [النحل: 90].
الوعظ: تذكير بالحكم، فعندنا أولاً إعلام بالحكم لكي نعرفه، ولكنه عُرْضة لأنْ نغفلَ عنه، فيكون الوعظ والتذكير به، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى لا نغفل.
وعادة لا تكون العِظَة إلا فيما له قيمة، وما دام الشيء له قيمة فلا تصطفي له إلا مَنْ تحب، كذلك الحق تبارك وتعالى يحب خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم باستمرار لكي يكونوا دائماً على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبِّب في الآخرة، كما تمتعوا بنعمة الأسباب في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله...}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال