سورة النحل / الآية رقم 128 / تفسير تفسير الألوسي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ

النحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}
{إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} تعليل لما سبق من الأمر وانلهي، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة {مَّعَ} من متبوعية المتقين من حيث أنهم المباشرون للتقوى، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] والمعنى أن الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلًا عن الحزن عليه فواتًا أو وقوعًا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارًا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى: {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} للاشعار بأنه من باب الاحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115] وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 90] وحقيقة الإحسان الإتسان بالأعمال على الوجه اللائق، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون احداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأول فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لافادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين اما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولًا أوليًا وإما هو صلى الله عليه وسلم وأشياعه رضي الله تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحًا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجمليلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند التعزية:
اصبر نكن بك صابرين وإنما *** صبر الرعية عند صبر الرأس
قال كل ذلك في إرشاد العقل السليم، وإلى كون الجملة في موضع التعليل لما سبق ذهب العلامة الطيبي حيث قال: إنه تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين ونهاه عن الحزن على عنادهم وآبائهم الحق وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم علل ذلك بقوله سبحانه: {حَكِيمٌ إِنَّ الله} إلخ أي لا تبال بهم وكرهم لأن الله تعالى وليك ومحبك وناصرك ومبغضهم وخاذلهم، وعمم الحكم أرشادًا للاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وفي تعريض بالمخالفين وبخذلانهم كما صرح به في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] وذكر أن إيراد الجلمة الثانية اسمية وبناء {مُّحْسِنُونَ} على {هُمْ} على سبيل التقوى مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه وهو مستلزم لاستمرار التقوى لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة، وإليه الإشارة بما ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وما ذكر من حمل التقوى على أعلى مراتبها غير متعين، وما ذكره في بيانه لا يخلو عن نظركما لا يخفى على المتأمل، وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وغيرهم عن الحسن أنه قال في الآية: اتقوا فيما حرم الله تعالى عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، ويوهم كلام بعضهم أن اجلملة في موضع التعليل للأمر بالمعاقبة بالمثل حيث قال: إن المعنى إن الله بالعون والحرمة والفضل مع الذين خافوا عقاب الله تعالى وأشفقوا منه فشفقوا على خلقه بعد الإسراف في المعاقبة، وفسر الاحسان بترك الاساءة كما قيل:
ترك الإساءة احسان وإجمال ***
ولا يخفى ما فيه من البعد، وقد اشتملت هذه الآيات على تعليم حسن الأدب في الدعوة وترك التعدي والأمر بالصبر على المكروه مع البشارة للمتقين المحسنين، وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وغيرهما عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوصى فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء} [النحل: 89] أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع، وقيل: كل شيء هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه: {وَكُلَّ شىْء أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآء ذِى القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] قال السيادي: العدل رؤية المنة منه تعالى قديمًا وحديثًا، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد، وقيل: العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم، والفحشاء الاستهانة بالشريعة، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان، والبغي ظلم العباد، وقيل: الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكًا وإيجادًا.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} [النحل: 91] المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الاعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي صلى الله عليه وسلم عليكم وتذكيره إياكم؛ قال النصر آبادي: العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من الكل لمن له الكل {مَا عِندَكُمْ} من الصفات ينفد لمكان الحدوث {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيًا من أوصافه باقيًا بما عند الله تعالى كذا في أسرار القرآن. {مَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} أي عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} معتقد للحق اعتقادًا جازًا {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الافعالية والصفاتية {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} من جنات الصفات والأفعال {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعمْلَونَ} [النحل: 97] إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادى أفعالهم وأجرهم يناسب صفات الله تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظركم بينهما من التفاوت في الحسن، ويقال: الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل:
كل عيش ينقضي ما لم يكن *** مع مليح ما لذاك العيش ملح
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110] قال سهل هو اشارة إلى الذين رجعوا القهقري في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعهم منعهم عليهم بصنوف الانعام، وقيل: إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في الله تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية {ضَرَبَ الله مَثَلًا} للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} من العلوم والفضائل والأنوار {مّن كُلّ مَكَانٍ} من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابًا بزينتها ونظرًا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السلفية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيآت غاسقة من صور المحسوسات التي أنجذبت إليها {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع} بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات{بما كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] من كفران أنعم اا تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ} أي من جنسهم وهي القوة الفكرية {فَكَذَّبُوهُ} بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة {فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي عذاب الحرمان والاحتجاب {وَهُمْ ظالمون} [النحل: 113] في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم {قانتا لِلَّهِ} مطيعا له سبحانه على أكمل وجه {حَنِيفًا} مائلا عن كل ما سواه تعالى: {ولم يكن مِنَ المشركين} [النحل: 120] بنسبة شيء إلى غيره سبحانه: {شاكرا} لا نعمه مستعملا لها على ما ينبغي {اجتباه} اختياره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم {وَهَدَاهُ} بعد الكشف {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع {وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً} وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة {وَإِنَّهُ فِى الاخرة} قيل أي في عالم الأرواح {لَمِنَ الصالحين} [النحل: 122] المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الخمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص على ذلك الشعراني في كتبه {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} [النحل: 124] وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتني الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرع لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتدار بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذنينك اليومين وسبحان من خلق فهدى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ ثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} [النحل: 126] لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} قيل: الصبر أقسام.
صبر لله تعالى. وصبر في الله تعالى. وصبر مع الله تعالى. وصبر عن الله تعالى. وصبر بالله تعالى، فالصبر لله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل، والصبر في اا تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذًا جدًا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقًا وتعظيمًا ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم، والصبر بالله تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئًا من بقية الأنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودًا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فالكل مني {وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] لانشراح صدرك بي {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} بقاياهم وفنوا فيه سبحانه: {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] بشهود الوحدة في الكثرة وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية نزلة التوبة للعارف والإحسان نزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس، هذا والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال