سورة الإسراء / الآية رقم 105 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً

الإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالإسراءالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}.
الضمير في أنزلناه، يعود إلى القرآن الكريم، وليس هناك مذكور يعود إليه هذا الضمير، وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام القرآن، وأنه أظهر وأشهر من أن يذكر للدلالة عليه.. فإذا ذكر الحقّ الذي نزل من السماء، واستقرّ حقّا قائما في هذه الأرض، مصاحبا للناس- كان ذلك معنيّا به القرآن الكريم وحده، دون سواه.
وهنا سؤال:
كيف يكون ذلك الوصف خاصّا بالقرآن الكريم وحده، مع أن الكتب السماوية كلّها إنما نزلت بالحقّ، لأنها من عند اللّه؟
والجواب على هذا، هو أن هذه الكتب، وإن تكن قد أنزلها اللّه سبحانه وتعالى، بالحقّ، كما أنزل القرآن.. إلا أنها حين اتصلت بالنّاس، عبثوا بها، وغيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي نزلت به.
أما القرآن الكريم، فقد أنزله اللّه سبحانه وتعالى بالحق، وأنه سبحانه تولّى حفظ هذا الحقّ الذي نزل به، فلم تبدّل آياته، ولم تحرّف كلماته.. وهذا هو بعض السرّ في قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.
أي ملازما للحقّ، قائما عليه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [9: الحجر] فالقرآن محفوظ بقدرة اللّه من أن تمتد إليه يد التحريف والتبديل.. فهو نعمة تامّة، أنعم اللّه بها سبحانه وتعالى على هذه الأمة، لتكون منار هدى ورحمة للناس إلى يوم الدّين. أما الكتب السماوية السابقة، فهى نعم من عند اللّه، ابتلى بها من أنعم اللّه عليهم بها، وشأنها في هذا شأن كل نعم اللّه، يخلى اللّه سبحانه وتعالى بينها وبين أهلها، إن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها.
ولهذا، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى هذه الكتب، أمانة في يد القائمين عليها من أحبار ورهبان.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} [44: المائدة] فهم الموكّلون بحفظ كتبهم التي هى أمانة في أيديهم.. فإن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها، شأنهم في هذا شأنهم في كل أمانة يؤتمن الناس عليها.. وقد ضيع أهل الكتاب هذه الأمانة، فلم يرعوها حقّ رعايتها، بل مكروا بآيات اللّه، فغيّروا وبدّلوا، وألقوا بأهوائهم فيها.. على هذه الصورة الشائهة التي في أيديهم.
وفى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} إشارة إلى أن مهمّة النبىّ هى إبلاغ هذا الكتاب، والتبشير بما يحمل إلى الذين يؤمنون به من رضوان اللّه، وثوابه العظيم لهم، في الدنيا والآخرة، والإنذار بما يحمل إلى المكذبين، من وعيد بالبلاء والنقمة وسوء المنقلب.! تلك هى وظيفة النبي مع هذا الكتاب الذي أنزله اللّه عليه.. أما حفظه، فقد تولّاه اللّه سبحانه وتعالى.
فليفرغ النبىّ جهده كلّه، إلى إبلاغه للناس!
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا}.
والواو في قوله تعالى: {وَقُرْآناً} هى واو العطف، وما بعدها معطوف على الآية قبلها.. لتثبت وصفا آخر للقرآن.. فكما أنه نزل بالحق، وبالحق استقرّ وثبت، ولم يلحقه تبديل أو تحريف- هو كذلك نزل قرآنا منجّما، ولم ينزل مرة واحدة.
وفى تنكير {قُرْآناً} تنويه به، ورفع لقدمه، وأنه لتفرده بهذا الوصف، مستغن عن كل تعريف.. إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، وأن يؤثر بالقراءة من كل قارئ.
و{فرقناه} أي نزلناه مفرّقا، ولم ينزل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله.. وأصله من الفرق، وهو الفصل بين الشيئين، كما يقول سبحانه وتعالى: {فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [63: الشعراء] أي أن موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق، وانشق، فكان كل فرق، أي جانب، كالجبل العظيم وقد قرىء {فرّقناه} بتشديد الراء.. وهذا يؤيد المعنى الذي أشرنا إليه كما يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ}.
فهذا تعليل للسبب الذي من أجله أنزل اللّه سبحانه وتعالى القرآن على مكث، أي على زمن متطاول، فنزل منجّما، أي مفرّقا في نحو ثلاث وعشرين سنة.
وذلك ليعيش النبىّ والمؤمنون معه، على هذا الزاد الكريم، المختلف الألوان، والطعوم، طوال تلك المدّة التي كان القرآن يتنزل فيها، وهم يرصدون مطلع كلّ آية، ويشهدون بزوغ كل كلمة.. وبهذا ظل النبي والمؤمنون معه خلال هذه السنين الثلاث والعشرين في مقام الانتظار لهذا الضيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا، موكبا، وتلقاهم أضواؤه، شعاعة شعاعة، حتى إذا كان آخر كوكبة في مواكبه، وآخر ضوءة بين السماء والأرض- أذّن مؤذّن الحق:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} وعندها صافح النبىّ هذا الوافد الكريم، في موكبه الحافل، وسناه المشرق، ثم ودّعه، لينتقل هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، وليقيم القرآن في الناس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، ويستقبلون من آياته وكلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح والنجاة، في الدنيا والآخرة جميعا.
وفى قوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} وفى تعدية الفعل قرأ بحرف الجرّ {على} {على الناس} بدلا من اللام: للناس.
إشارة إلى علوّ هذا القرآن، وأنه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا، وألقا، وبحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، ووجهوا عقولهم وقلوبهم له.. فلا تعمّى عليهم المسالك، ولا تتفرق بهم السبل، وفى هذا يقول الرسول الكريم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب اللّه وسنّتى».
وفى قوله تعالى: {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} بيان للأسلوب الذي نزل به القرآن خلال هذا الزمن الذي نزل فيه، وأنه نزّل تنزيلا.. أي نزل شيئا شيئا، وهذا يعنى أن القرآن الكريم وإن تلقّاه النبىّ آية آية، وآيات آيات، وسورة سورة- فإنه في جميع أحواله تلك، هو القرآن الكريم كلّه.. ففى الآية الواحدة، أو الآيات، يعرف القرآن الكريم، ويعرف أنه كلام ربّ العالمين، وأنه المعجزة القاهرة المتحدية، التي تقصر دونها أيدى البلغاء، وتخضع لجلالها رقاب الفحول من الشعراء والخطباء! فالآيات القليلة التي تلقّاها النبىّ في صدر دعوته، كانت صورة مصغرة للقرآن الكريم كله.. بها تحدّى قريشا، وبها أفحمهم وأعجزهم!.
وإذا كان لنا أن نمثّل الصورة التي تنزل بها القرآن، فإنه يمكن أن نرى في القمر وفى مطالعه ومنازله، أقرب صورة له.. حيث القمر هو القمر في جميع مطالعه، وإن لم ينكشف من وجهه، هلالا، ما انكشف منه، بدرا.. إنه في جميع أحواله آية من آيات اللّه، وإن أية لمعة بارقة منه هى إشارة مبينة عنه، ونبأ عظيم يحدّث عن بهائه وجلاله وروعته!.. ومع هذا، فإن العيون الكليلة لا تنبهر به، والقلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال والجمال المطلّ به على الوجود.. تماما كالقرآن الكريم الذي لم تتفتح له قلوب، المستكبرين الضالين، حتى بعد أن تم وكمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أول آية من آياته، ولأول إشارة من إشاراته.
قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
فى هذه الآية إشارة إلى أن شأن أولئك المكابرين المعاندين، الذين يقفون من كتاب اللّه هذا الموقف المنحرف، وينظرون إليه هذا المنظر المريض- إشارة إلى أنهم لا يعلون من قدر القرآن شيئا، إذا هم آمنوا به، ولا ينزلون من قدره شيئا، إذا هم أمسكوا أنفسهم على الكفر، وأبوا أن يعترفوا بأنه كلام اللّه، وأن الرسول الذي جاء به هو رسول اللّه.. إنه مائدة اللّه الممدودة بهذا الخير الذي لا ينفد على كثرة الطاعمين منه، ولا يفسد على مر الزمن لقلة الأيدى التي تمتد إليه، وتنال منه.. فالشمس هى الشمس، وإن اكتحلت بضوئها الأبصار، أو عشيت عن ضوئها العيون!!- وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
.. في هذا إشارتان:
أولاهما: أن هذا القرآن لا يقدره قدره، ولا يعرف فضله، إلا من انتفع بعقله، وأحسن الاستماع إليه، والتلقّى عنه.. وأنّ أصحاب العقل والحجا وأهل العلم والمعرفة، هم أقرب الناس نسبا إلى هذا القرآن- وأكثرهم معرفة به، وأصدقهم نظرا إليه، وعرفانا بقدره وفضله.
وثانيتهما: أن هذا القرآن، قد جعل للعرب عامة، ولأهل مكة خاصة فضل السبق إليه. والوقوف على موارده.. فجاء إليهم بلسان عربى مبين، هو لسانهم الذي به يتعاملون.. ثم هو من جهة أخرى قد سعى إليهم، وحلّ بينهم، دون أن يبذلوا جهدا أو مالا.. فإن هم أحسنوا استقباله، وأخذوا بحظّهم منه، فذلك هو خيرهم المدعوّون إليه، وإن هم أساءوا مقامه فيهم، وغلّوا أيديهم عن تناول قطوفه، والأخذ من ثمره، ارتحل عنهم إلى غيرهم، ونزل عند من يعرف قدره، ويحسن الأخذ عنه.
والقوم الذين يتلفت إليهم القرآن في هذا الموقف، ويؤذن أهل مكة بالتحول عنهم إليهم، هم أهل العلم، من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
فأهل العلم هؤلاء يعرفون قدر هذا القرآن ويعلمون- بما عندهم من علم- أنه كلام اللّه، وأن الرسول الذي يتلوه- هو رسول اللّه.. وأن هذا القرآن إذا يتلى عليهم خشعوا له، وخرّوا على أذقانهم سجّدا بين يدى آياته وكلماته.. كما يقول سبحانه وتعالى في القسيسين والرهبان من النصارى: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [83: المائدة].
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن أهل العلم من أهل الكتاب، هؤلاء الذين إذا يتلى عليهم القرآن {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا} لم يكونوا قد وجهوا بالقرآن بعد، ولم يكونوا قد دعوا إلى الإيمان به.. إذ كانت الدعوة لا تزال تمهدّ الأرض التي تركّز رايتها فيها، وتجعل منها منطلقا لرسالتها في الناس جميعا.. حيث تخيرت الأمة العربية التي نزلت بلسانها، لحمل هذا الشرف العظيم.. ومع هذا، فإن أهل الكتاب- وخاصة أهل العلم منهم- كانوا يرصدون مطلع النبوة، ويشهدون هذا الصراع المحتدم في مكة بين قريش وبين النبىّ الذي ظهر فيهم، وما يتلو عليهم من آيات اللّه.. وكانت تلك الآيات، تطرق أسماع العلماء من أهل الكتاب، فيعرفون وجه الحق فيها، فتخشع لذلك قلوبهم، وتفيض بالدمع عيونهم ويخرّون للأذقان يبكون! وفى هذا الذي يتحدث به القرآن إلى أهل مكّة عن علماء أهل الكتاب، وعن موقع كلمات اللّه وآياته هذا الموقع منهم- في هذا تسفيه لأهل مكة، ولتفّلتهم عن هذا الخير الوارد عليهم، ثم هو من جهة أخرى تحريض لهم على أن يبادروا هذا الخير فيأخذوا حظهم منه، قبل أن يقلت من أيديهم، ويسبقهم إليه أهل الكتاب، وهم الذين كانوا ينفسون على أهل الكتاب هذا العلم الذي جاءتهم به رسل اللّه في هذه الكتب التي في أيديهم، والذين كانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [157: الأنعام].. فها هم أولاء قد أنزل عليهم الكتاب الذي كانوا يتمنّونه، وها هم أولاء يزورّون عن هذا الكتاب، ويزهدون فيه، بل ويرجمونه بأيديهم وألسنتهم.. فهل بعد هذا السّفه سفه؟ وهل مع هذا الغباء غباء!- وفى قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً} إشارة إلى عظم وقع القرآن على قلوبهم، وأنهم إذا تليت عليهم آياته استولت عليهم حال من الخشية والرهبة، فسقطوا مغشيا عليهم، بكيانهم كلّه. وألقوا بثقل أجسامهم على الأرض، ولصقت وجوههم بها.!
قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
هو بيان لحال أخرى من أحوال أهل العلم من أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم القرآن.. فهم لأول الصدمة يخرّون على أذقانهم سجّدا.. ثم هم إذا صحوا من سكرتهم قليلا، وفاء إليهم ما عزب من عقولهم، وجدوا أنفسهم مع آيات اللّه، تطالعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخرّون للأذقان باكين، لما عرفوا من الحق.. فيزدادون خشوعا إلى خشوع، وإيمانا إلى إيمان! فهما إذن حالان للمستمعين إلى آيات اللّه، من أهل العلم هؤلاء.
الحال الأولى، حين تلقاهم آيات اللّه، وتطلع عليهم كلماته لأول وهلة.
فإذاهم بين يديها في حال من الجلال والرهبة، تنعقد معه الألسنة، وتسكن معه الجوارح، وتخمد الأنفاس.. شأنهم في هذا شأن من تبغته آية من آيات اللّه، يرى فيها من الحسن والجمال ما لم تشهده عين، ولم يتصوره خاطر، فيخرّ مغشيا عليه، جلالا ورهبة.
والحال الثانية.. أنه حين يعيشون مع هذه الآيات وقتا ما، ويأنسون إليها، ويزايلهم بعض ما وقع عليهم أول الأمر من سطوة جلالها وجمالها، عندئذ يجدون شيئا من العقل يلقونه بها، وإذا هى لعقولهم أبهى جلالا، وأروع جمالا، مما استقبلته منها أول الأمر مشاعرهم.. وهكذا يلتقى عندهم على كلمات اللّه، منطق العقل، مع بداهة الشعور، فيتأكد لذلك حكم البداهة.. {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}.
فى هذه الآية يعود الخطاب إلى المشركين، بعد أن وقفت بهم الآيتان السابقتان إزاء أهل الكتاب، وأرتهم منهم أنهم يتعاملون مع هذا القرآن الذي لم يدعوا إليه بعد، ويلقونه بهذا الاحتفاء العظيم، على حين أنهم- أي المشركين- يلقون هذا القرآن الذي دعوا إليه، بوجوه منكرة، وقلوب مغلقة، وعقول شاردة.
وفى تجديد الخطاب إليهم، دعوة مجدّدة لهم إلى أن يتدبروا أمرهم هذا الذي هم فيه، وأن يبادروا فيصلحوا موقفهم من القرآن، ويصطلحوا معه، ويلقوه لقاء كريما غير هذا اللقاء الذي كان منهم.. هذا إن كان لهم حاجة في أنفسهم، وفى استنقاذها من الضلال والضياع! وإلا فهم وما اختاروا!- وفى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} تصحيح لمعتقد المشركين في اللّه.. ذلك أنهم كانوا لا يعرفون عن اللّه إلا أنه اللّه أي الإله الأكبر، الذي يرأس الآلهة الآخرين، الذين يعبدونهم من دونه.. من ملائكة وكواكب، مثّلوها في تلك الأصنام التي نحتوها من أحجار، وسوّوها من خشب، أو ذهب.. كاللات، والعزّى، ومناة، وغيرها.
فاسم اللّه هو عند هؤلاء المشركين، هو العلم الذي يطلقونه على الإله الأكبر.. ليس له عندهم اسم أو صفة أخرى.
ولهذا عجب هؤلاء المشركون حين كانوا يسمعون من النبىّ تلك الأسماء والصفات التي كان يذكرها فيما يذكر القرآن الكريم، من أسماء اللّه وصفاته.
كالرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والحكيم.. وكانوا يقولون:
أإله هو أم آلهة هذا الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ.. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً} [60: الفرقان].
فكان قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} تصحيحا لمعتقدهم الفاسد في اللّه، وأنه سبحانه وتعالى ليس- كما تصوّروا- ذاتا كدواتهم، أو ذوات معبوداتهم، يطلق عليهم اسم واحد، يستدلّ به عليه، ويتعامل معه به! فاللّه سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال كلها، فأىّ وصف من أوصاف الكمال، هو للّه سبحانه، وهو اسم وصفة معا لذاته.. فاللّه، هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو العليم، وهو السميع، وهو البصير، وهو الخالق، وهو الرازق.. إلى ما يمكن أن تحمل للغة من صفات الكمال والجلال، التي لا يشاركه أحد فيها.
فكل اسم حسن يدعى اللّه به، ويعبد عليه، هو إيمان باللّه، وإقرار بالعبودية له. وذلك بأية لغة، وبأى لسان!- وفى قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} هو بيان للأسلوب القاصد، المستقيم، الذي يدعى اللّه سبحانه وتعالى به، ويعبد عليه، وهو ألا يكون جهرا صارحا بالدعاء، وبالصلاة- وهى دعاء أيضا- ولا هما خافتا به.. وإنما هو وسط بين هذا وذاك.. فالجهر الصارخ، يدخل على الإنسان بشعور حفىّ، بأن اللّه بعيد عنه، لا يسمع إلا إذا نودى نداء عاليا، ولهذا نهى النبىّ أصحابه في بعض أسفاره، وكانوا كلّما علوا شرفا من الأرض رفعوا أصواتهم بالتكبير- نهاهم أن يبالغوا في هذا، وقال: «إنكم لا تدعون ربّا أصمّ».
أما الهمس بالدعاء والمخافتة به، فإنه يعزل صاحبه عن أن يسمع ما يناجى به اللّه، ومن ثمّ فلا يتشكل له من دعائه من المعاني ما يصل شعوره باللّه، ويشدّ عقله وقلبه إليه!.
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
بهذه الآية تختم هذه السورة الكريمة.. فيلتقى ختامها مع بدئها، حيث بدأت بتسبيح اللّه وتنزيهه ثم ختمت بحمده وتقديسه.
وكأنّ هذا الحمد هو مما أوجبه استقبال تلك المنّة الكبرى التي منّ اللّه بها على عبده محمد، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ثم لكأن هذا الحمد أيضا هو بيان لصورة من صور الكمال التي يدعى بها اللّه أو الرحمن، كما جاء الأمر في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}.
ونرتّل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}، فنجد أننا بين يدى صلاة هى الصورة المثلى للدعاء لذى أمر اللّه سبحانه وتعالى النبىّ الكريم والمؤمنين معه، أن يقيموا دعاءهم عليه في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}.
ففى هذا الدعاء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} في هذا الدعاء أكثر من ظاهرة.
فأولا: مضمون الدعاء.. فهو في كلمات قليلة، قد جمع فيها ما تفرق من صور الدّعاء، في مقام الولاء للّه، وإخلاص العبادة والعبودية للّه.. فهو حمد للّه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ هو إقرار بأن اللّه سبحانه المتفرد بالكمال، والمنزّه عن النقص، فلا حاجة له إلى ولد يؤنس وحشته، ويتخذ منه سندا وعضدا، ولا منازع له، ولا شريك معه في هذا الوجود، ولا معين له في القيام على هذا الوجود، والإمساك بنظامه الحافظ له.. فحيث نظر ناظر، فرأى قوة لقوىّ، أو عظمة لعظيم، أو سلطانا لذى سلطان، أو غنى لذى غنى.
أو ما شاكل ذلك مما يكبر في صدور الناس- فاللّه سبحانه وتعالى له القوة كلها، وله العظمة جميعها، وله السلطان المطلق، وله الغنى الشامل، وله الكمال في كل شىء، وإليه أمر كل شىء.. وهذا هو بعض السرّ في أن ختم هذا الدعاء بقوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
أي قل: اللّه أكبر، اللّه أكبر.
تكبيرا مطلقا، من غير مقايسة أو مفاضلة.. الكبير في كل مقام.. فهو- سبحانه- الكبير المتعال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وثانيا: الكلمات التي ختم بها هذا الدعاء، قد انتظمت صورتها من حروف، من شأنها أن تمسك من ينطق بها على حال بين الجهر والتخافت، حتى دون أن يكون ذلك عن قصد منه.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فلو ذهب من يتلو هذه الكلمات أن يجهر بها إلى حيث يبلغ صوته من العلوّ، لأسكت به عند طبقة معينة من الأداء الصوتى، لا يستطيع أن يرتفع فوقه، وذلك لخلوّها من أي حرف من حروف المدّ.. وهى الواو، والألف، والياء.. الأمر الذي يحجز الصوت عن أن يذهب مذهبا فوق حدود الاعتدال.
ومن جهة أخرى، فإن الذي يتلو هذه الكلمات، لو أراد أن يخافت بها، لتفلّتت منه، وحملته حملا على أن ينطق بها، وأن يجريها خارج شفتيه.
وانظر، فإنك تجد أكثر حروف هذه الكلمات من اللامات والميمات والدالات والذالات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}.
فهناك خمسة عشر لاما وستة ميمات، ودالان، وثلاثة ذالات.
ومخرج حرف اللام من طرف اللسان حيث يضرب في مقدمة الحلق، على حين أن الميم مخرجه من الشفتين، ومخرج الدال والذال من أقصى طرف اللسان، حيث يضرب في الأسنان.
فالحركة الغالبة عند النطق بهذه الكلمات، هى حركة طرف اللسان مع الشفتين، حيث لو أراد الإنسان أن يحرك لسانه بهذه الكلمات من داخل شفتيه، لاضطر اضطرارا إلى أن يفتح شفتيه عند النطق بالميم، ولو أراد أن يزمّ شفتيه عند النطق بالميمات، لوجد هناك ما يقسره قسرا على أن يفتح شفتيه عند الالتقاء بثلاث واوات رصدت له، وأخذت مكانها في مقاطع هذه الكلمات.. والواو حرف لا يتحقق نطقه نطقا صحيحا إلا بحركة الشفتين، حركة تجمعهما، ثم تفرقهما في فتحة أشبه بنصف دائرة! فسبحان من هذا كلامه! سبحانه! سبحانه!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال