سورة الكهف / الآية رقم 29 / تفسير تفسير الشعراوي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً

الكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29)}
قوله تعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ..} [الكهف: 29] أي: قُلِ الحق جاء من ربكم، واختار كلمة الرب ولم يَقُلْ من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87].
وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25].
فمعنى: {مِن رَّبِّكُمْ..} [الكهف: 29] أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم وربّاكم وتعهدكم هو الذي نزَّل لكم هذا الحق و{رَّبِّكُمْ..} [الكهف: 29] أي: ليس ربي وحدي، بل ربكم وربّ الناس جميعاً.
والحق: هو الشيء الثابت، وما دام من الله فلن يُغيِّره أحد؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مُقبلاً، وبعد ذلك يُعدِّل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يَخْفَى عليه شيء ولا يَعْزُب عن عمله شيء، لذلك لا استدراك على حُكْم من أحكامه من أحد من خلقه.
فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدَّك بالنعم، وهو الذي يُربّيك كما يُربِّي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تُقيِّد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يُقيّد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها ليس لها مطلوبات.
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره: بماذا أمرك معبودك؟ وعَمَّا نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن: فلهم أن يقولوا: نِعْمَ هذا الإله، ونِعْمَ هذا الدين؛ لأنه يتركني بحريتي أفعل ما أريد.
لذلك؛ نجد الذين يدَّعُون ألوهية، أو يدعون نُبوّة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعُب على الناس؛ لأن فيها حَجْراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادَّعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعتّ سجاح النبوة خففتْ الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟
وما أشبه مُدَّعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعَرَضٍ من الدنيا، فيُفْتون الناس بتحليل ما حرَّم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإنْ كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى مَنْ يُخفِّف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم، وترى الواحد منهم يُكذِّب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد.
إذن: ما دُمْتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل:(اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي)، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قُلْ لهم: لا جبرَ في الإيمان {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم.
وقد جاء في الحديث القدسي: (إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني، ولن تملكوا ضُرّي فتضروني، ولو أن أوّلكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
(ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمِغْرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر، وذلك أَنَّي جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أنْ أقولَ له كُنْ فيكون).
إذن: فائدة الإيمان تعود على المؤمن، كما قال تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا..} [فصلت: 46] لكني أحب لخَلْقي أن يكونوا دائماً على خير مني، فأنا أعطيهم خير الدنيا، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة.
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..} [الكهف: 28].
وكان خصوم الإسلام حينما يَرَوْنَ الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها، لا من جهتهم بالعدوان على مَنْ يؤمن، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه وَفْداً، قالوا: يا محمد إنّا بعثنا إليك لنُعْذرَ فيك، لقد أدخلتَ على قومك ما لم يُدخِلْه أحد قبلك، شتمتَ آلهتنا وسفَّهْتَ أحلامنا وسبَبْت ديننا، فإنْ كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا، وإنْ كنت تريد جاهاً سوَّدناكَ علينا، وجعلناك رئيسنا، وإنْ كنت تريد مُلْكاً ملكْناك.
فقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما بي ما تقولون، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم، فإنْ أنتم أطعتُم فبها، وإلاَّ فإنَّ الله ناصري عليكم».
وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سِراً يتساهل فيه رسول الله، فلما لم يجدوا بُغْيتهم قالوا: نتوسل إليك بمَنْ تحب، فربما خجل أنْ يقبلَ منا ونحن خصومه، فلنرسل إليه مَنْ يحبه، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة: «والله، يا عَمِّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتركَ هذا الأمر ما تركته، حتى يُظِهره الله، أو أَهْلِك دونه».
فلما فشلت هذه المحاولة أيضاً أتَوْهُ من ناحية ثالثة، فقالوا: ننتهي إلى أمر هو وسط بيننا وبينك: دَعْكَ من هؤلاء الفقراء، واصْرِف وجهك عنهم، ولا تربط نفسك بهم، ووجِّه وجهك إلينا، فأنزل الله: {واصبر نَفْسَكَ..} [الكهف: 28].
ثم بيَّن الحق سبحانه وتعالى أن الإسلام أو الدين الذي أًَنزله الله لا يأخذ أحكامه من القوم الذين أُنزِل عليهم؛ لأن رسول الله إنما أُرسِلَ ليضع لهم موازين الحق، ويدعو قومه إليها، فكيف يضعون هم هذه الموازين، فيأمرون رسول الله بأنْ يصرف وجهه عن الفقراء ويتوجّه إليهم؟
لذلك قال: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ..} [الكهف: 29] لأنه بعثني بالحق رسولاً إليكم، وما جئت إلا لهدايتكم، فإنْ كنتم تريدون توجيهي حسْب أهوائكم فقد انقلبتْ المسألة، ودعوتكم لي أن أنصرف عن هؤلاء الذين يدعُون ربهم بالغداة والعشيّ وأتوجه إليكم، فهذا دليل على عدم صِدْق إيمانكم، وأنكم لستم جادِّين في اتباعي؛ لذلك فلا حاجة بي إليكم.
ثم يقول تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] أي: ادخلوا على هذا الأساس: أن كل حَقٍّ ينزل من الله، لا أن آخذ الحق منكم، ثم أردّه إليكم، بل الحق الذي أرسلني الله به إليكم، وعلى هذا مَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر.
والأمر في هذه الآية سبق أنْ أوضحناه فقلنا: إذا وجدنا أمراً بغير مطلوب فلنفهم أن الأمر استُعمِل في غير موضعه، كما يقول الوالد لولده المهمل: العب كما تريد، فهو لا يقصد أمر ولده باللعب بالطبع، بل يريد تهديده وتأنيبه.
وهكذا في: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] وإلا لو أخذتَ الآية على إطلاقها لَكانَ مَنْ آمن مطيعاً للأمر: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن..} [الكهف: 29] والعاصي أيضاً مطيع للأمر: {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] فكلاهما إذن مطيع، فكيف تُعذِّب واحداً دون الآخر؟
فالأمر هنا ليس على حقيقته، وإنما هو للتسوية والتهديد، أي: سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا، فأنتم أحرار في هذه المسألة؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم، فالله سبحانه غنيّ عنكم وعن إيمانكم، وكذلك خَلْق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم، فاستغناء الله عنكم مَسْحوب على استغناء الرسول، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم.
وقد أراد الحق سبحانه أن يصيح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة ويجهر بها في أُذن صناديد الكفر وعُتَاة الجزيرة العربية الذين لا يخرج أحد عن رأيهم وأمرهم؛ لأن لهم مكانةً وسيادة بين قبائل العرب.
ولحكمة أرادها الحق سبحانه لم يأْتِ نصر الإسلام على يد هؤلاء، ولو جاء النصر على أيديهم لقيل: إنهم أَلِفُوا النصر وألفوا السيادة على العرب، وقد تعصَّبوا لواحد منهم ليسُودوا به الدنيا كلها، فالعصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد، ولكن الإيمان بمحمد خلق العصبية لمحمد.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا..} [الكهف: 29].
والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تُهوّل الآية وتُفخِّم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوْا عن أسبابها، إذن: فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خَوْف العذاب سيمنعهم من الجريمة.
ومعنى {أَعْتَدْنَا} أي: أعددنا، فالمسألة منتهية مُسْبقاً، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومُعدَّة ومُجهّزة، لا أنها ستُعَدُّ في المستقبل، وقد أُعِدَّتْ إعداد قادر حكيم، فأعدَّ الله الجنة لتتسع لكل الخَلْق إنْ آمنوا، وأعدّ النار لتتسع لكل الخلق إنْ كفروا، فإنْ آمن بعض الخلق وكفر البعض، فالذي آمن وَفّر مكانه في النار، والذي كفر وفَّر مكانه في الجنة.
لذلك قال تعالى في هذه المسألة: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
إذن: فخَلْق الله تعالى للجنة وللنار أمر منضبط تماماً، ولن يحدث فيهما أزمة أو زحام أبداً، بل لكلٍّ مكانه المعدّ المخصّص.
وقوله تعالى: {لِلظَّالِمِينَ..} [الكهف: 29] والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حَقَّ الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم، ثم يأتي الظلم فيما دون ذلك، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قَدْر ظُلْمه، إلا أن يكون مشركاً. فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتُر عنه، فإنْ ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يُعذَّب به، ثم يُدخِله الله الجنة، إنْ لم يتُبْ، وإنْ لم يغفر الله له.
وقوله تعالى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا..} [الكهف: 29] السرادق، كما نقول الآن: أقاموا السرادق أي: الخيمة. ومعنى سرادق: أي محيط بهم، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خالٍ من النار؛ لأن رؤيته لمكان خَالٍ من النار قد تُوحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أنْ يؤيسَهم من الخروج.
ثم يقول تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29].
الاستغاثة: صَرْخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم، كما قال في آية أخرى: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ..} [إبراهيم: 22] أي: حين يصرخون من العذاب لا أستطيع أنْ أزيل صراخكم، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي.
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب {يُغَاثُواْ} يتبادر إلى الذِّهْن أنهم يُغَاثُون بشيء من رحمة الله، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يُخفّف عنهم العذاب.. لا {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل..} [الكهف: 29] أي: فإنْ طلبوا الغَوْث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار، فإذا بهم بماء كالمهل.
والمهْل هو عُكَارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدُّرْدِيّ، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غَلْي الماء، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار، ويُعذَّبون من حيث ينتظرون الرحمة.
وقوله تعالى هنا: {يُغَاثُواْ} أسلوب تهكميّ؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أنْ تخاطب المخاطب على مقتضى حاله، فتهنئه حال فرحه، وتعزيه حال حزنه بكلام موافق لمقتضى الحال، فإنْ أخرجتَ المقتضى عن الحال الذي يطلبه، فهذا ينافي البلاغة إلا إنْ أردتَ التهكُّمَ أو الاستهزاء.
إذن: فقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل..} [الكهف: 29] تهكّم بهم، لأن الكلام فيه خرج عن مقتضى الحال، كما يقول الوالد لولده الذي أخفق في الامتحان: مبارك عليك السقوط.
ومعنى: {يَشْوِي الوجوه..} [الكهف: 29] أن الماء من شدة حرارته يشوي وجوههم، قبل أن يدخل أجوافهم: {بِئْسَ الشراب..} [الكهف: 29] أي: الذي يغاثون به {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29] المرتفق هو الشيء الذي يضع الإنسان عليه مِرْفقه ليجلس مُستريحاً، لكن بالله هل هناك راحة في جهنم؟
إذن: فهذه أيضاً من التهكّم بهم وتبكيتهم، كما قال تعالى مخاطباً جبابرة الدنيا وأعزّتها وأصحاب العظمة فيها مِمَّنْ عَصَوْا الله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
والحق سبحانه وتعالى يتكلم في هذه المسألة بأساليب متعددة منها استخدام كلمة(النُّزُل) وهو ما يُعد لإكرام الضيف، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} [الكهف: 107].
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30-32] فالذي أَعَدَّ هذا النُّزُل وهذه الضيافة هو الغفور الرحيم، والذي يُعِد نُزُلاً لضيفه يُعِدّه على قَدْر غِنَاه وبَسْطة كرمه، فما بالك بنُزل أعدّه الله لأحبابه وأوليائه؟
وذيّل الآية بقوله: {غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 32] لأنه ما من مؤمن إلا وقد عمل سيئة، أو همَّ بها، وكأن الحق سبحانه يقول: إياك أنْ تذكرَ ما كان منك وأنت في هذا النُّزُل الكريم، فالله غفور لسيئتك، رحيم بك، يقبل توبتك، ويمحو أثر سيئتك.
والحديث عن النُّزل هنا في الجنة، فهي محلُّ الإكرام والضيافة، فإن استخدم في النار فهو للتهكُّم والسخرية من أهلها، كما قال تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 92-93].
فقد استخدم النزل في غير مقتضاه.
بعد أن جاء الأمر الإلهي في قوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] أراد سبحانه أنْ يُبيّن حكم كُلٍّ من الاختيارين: الإيمان، والكفر على طريقة اللَّفِّ والنشر، وهو أسلوب معروف في العربية، وهو أن تذكر عدة أشياء، ثم تُورِد أحكامها حَسْب ترتيبها الأول، أو تذكرها مُشوَّشة دون ترتيب.
ومن النوع الأول الذي يأتي فيه اللَّفُّ والنشْر على الترتيب قوله تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..} [القصص: 73].
أي: لتسكنوا في الليل، وتبتغوا من فضل الله في النهار.
فالترتيب إذا كان الحكم الأول للمحكوم عليه الأول، والحكم الثاني للمحكوم عليه الثاني وهكذا، ومن ذلك قول الشاعر:
قَلْبِي وَجَفْنِي وَاللسان وخالقي ***
هذه أربع مُخْبر عنها، فما قصتها وبماذا أخبرنا عنها؟ يقول:
قَلْبِي وَجَفْنِي وَاللسَانُ وخالِقِي *** رَاضٍ وباكٍ شَاكِرٌ وغَفُورُ
فتكون على الترتيب: قلبي راضٍ، وجفني باكٍ، ولساني شاكر، وخالقي غفور.
ومرة يأتي اللف والنشر على التشويش ودون ترتيب ثقةً بأن نباهةَ السامع ستردُّ كل شيء إلى أصله كما في الآية التي نحن بصددها، فتلاحظ أن الحق سبحانه بعد أن قال: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ..} [الكهف: 29] فبدأ باختيار الإيمان ثم ذكر الكفر، أما في الحكم على كل منهما فقد ذكر حكم الكفر أولاً: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً..} [الكهف: 29] ثم ذكر بعده حكم المؤمنين: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].
وليكُنْ في الاعتبار أن المتكلم رَبٌّ حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلّم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجّح أن يكونَ الإيمانُ أولاً وأنْ يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أنْ (دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المنفعة).
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال