سورة البقرة / الآية رقم 226 / تفسير تفسير القرطبي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} فيه أربع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} {يُؤْلُونَ} معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية والوه والوه. وقرأ أبى وابن عباس {للذين يقسمون}. ومعلوم أن {يقسمون} تفسير: {يُؤْلُونَ}. وقرئ {للذين آلوا} يقال: آلى يؤلى إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ}، وقال الشاعر:
فآليت لا أنفك أحدو قصيدة *** تكون وإياها بها مثلا بعدي
وقال آخر:
قليل الألايا حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليّة برّت
وقال ابن دريد:
أليّة باليعملات يرتمي *** بها النجاء بين أجواز الفلا
قال عبد الله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.
قلت: وقد آلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم.
وقيل: لان زينب ردت عليه هديته، فغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآلى منهن، ذكره ابن ماجة.
الثانية: ويلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصى إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط. واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي، قول: لا إيلاء له. وفى قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء. وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه.
الثالثة: واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله عليه السلام: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت». وبه قال الشافعي في الجديد.
وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك واهل الحجاز وسفيان الثوري واهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو على عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر ب الله فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد ب الله ونواه.
ومن قال إنه يمين يدخل عليه، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى. فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته فقال: إن وطيتك فعلى صيام شهر أو سنة فهو مول. وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة. والأصل في هذه الجملة عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} ولم يفرق، فإذا آلى بصدقة أو عتق عبد معين أو غير معين لزم الإيلاء.
الرابعة: فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك.
وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمؤل، وهو أصح لان الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه ابن القاسم مبنى على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، على ما يأتي بيانه في المائدة فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة.
الخامسة: فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمؤل، قال مالك وغيره. قال الباجى: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال قال مالك: كل كلام نوى به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.
السادسة: واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا.
وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبى ليلى والحكم وحماد بن أبى سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.
وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فان حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الايمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبى ثور.
وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء. قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفى العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بألفي وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الاربعة الأشهر. واحتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولى أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. ووجه قول إسحاق- في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ- القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.
السابعة: واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الاربعة الأشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الاربعة الأشهر طلقة رجعية. ومنهم ومن غيرهم من يقول: يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الاربعة الأشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولى لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجنه له ليفي فيراجع امرأته بالوطي ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفئ أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها. قال سليمان بن يسار: كان تسعة رجال من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوقفون في الإيلاء، قال مالك: وذلك الامر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر.
الثامنة: وأجل المولى من يوم حلف لأمن يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم، فإن خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطي ضرب له السلطان أجل أربعة أشهر من يوم حلف، فإن وطئ فقد فاء إلى حق الزوجة وكفر عن يمينه، وإن لم يفئ طلق عليه طلقة رجعية. قال مالك: فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطي فتصح رجعته، لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطي ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر.
التاسعة: واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب، فقال ابن عباس: لا إيلاء إلا بغضب، وروى عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشارة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.
وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك واهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الايمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك.
قلت: ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم. والله أعلم.
العاشرة: قال علماؤنا: ومن امتنع من وطئ امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل. وقد قيل: يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا.
الحادية عشرة: واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبى طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.
الثانية عشرة: وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يكون موليا من حلف ألا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار لأنه يجد السبيل إلى وطئها في غير ذلك المكان. قال ابن أبى ليلى وإسحاق: إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، ألا ترى أنه يوقف عند الأشهر الاربعة، فإن حلف ألا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك، وهذا إنما يكون في سفر يتكلف المئونة والكلفة دون جنته أو مزرعته القريبة.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن. والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} فكان ذلك لجميع الأزواج. قال ابن المنذر: وبه أقول.
وقال مالك والزهري وعطاء بن أبى رباح وإسحاق: أجله شهران.
وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الامة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشعبي: إيلاء الامة نصف إيلاء الحرة.
الرابعة عشرة: قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما.
وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول.
وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.
الخامسة عشرة: وأما الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الايمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطئ زوجته ضرارا من غير يمين.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها *** تطلق يوما أو يموت حليلها
وأما فائدة توقيت الاربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ} وقد آلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الاربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:
ألا طال هذا الليل وأسود جانبه *** وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فو الله لولا الله لا شيء غيره *** لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربى والحياء يكفني *** وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوى اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ} معناه رجعوا، ومنه: {حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} ومنه قيل للظل بعد الزوال: في، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفئ فيئة وفيوءا. وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع. قال:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له *** ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا
الثامنة عشرة: قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهى امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطي فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قال مالك في المدونة والمبسوط.
وقال عبد الملك: وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فإن أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت. وقالت طائفة: إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي: وبه قال الأوزاعي.
وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والاشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطي، قال ابن عطية: ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر.
وقال أحمد بن حنبل: إذا كان له عذر يفئ بقلبه، وبه قال أبو قلابة.
وقال أبو حنيفة: إن لم يقدر على الجماع فيقول: قد فئت إليها. قال إلكيا الطبري: أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهى رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب: إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك في صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة: لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال: وكذلك إن كان في سفر أو سجن.
التاسعة عشرة: أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولى إذا فاء بجماع امرأته.
وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه.
وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ} يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الايمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطئ الزوجة معصية.
قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها» خرجه ابن ماجه في سننه. وسيأتي لها مزيد بيان في آية الايمان إن شاء الله تعالى. وحجة الجمهور قوله عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
العشرين: إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا. وفى ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبى حنيفة في مسألة الايمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي.
الحادية والعشرون: قلت: بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال: لما حكم الله تعالى للمولى بأحد الحكمين من في أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير في أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شي، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا. وفى جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب.
الثانية والعشرون: قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما بالضم وعزيمة وعزيما وعزمانا، واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك. قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله. والطلاق من طلقت المرأة تطلق على وزن نصر ينصر طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا. قال الأعشى:
أيا جارتا بيني فإنك طالقة ***
ويجوز طلقت بضم اللام مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعى، وبعير طلق بضم الطاء واللام غير مقيد، والجمع إطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه. فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها.
وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة.
الثالثة والعشرون: في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: {سَمِيعٌ} وسميع يقتضى مسموعا بعد المضي.
وقال أبو حنيفة: {سَمِيعٌ} لايلائه، {عَلِيمٌ} بعزمه الذي دل عليه مضى أربعة أشهر.
وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه قال: سألت اثنى عشر رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يولى من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضى أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الامر أن تقدير الآية عندنا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ} بعد انقضائها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وتقديرها عندهم: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ} فيها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.
قلت: وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والاقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسى الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم.
الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على أن الامة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال