سورة طه / الآية رقم 41 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى

طهطهطهطهطهطهطهطهطهطهطهطهطهطهطه




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


تبدأ هذه السورة وتختم خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ببيان وظيفته وحدود تكاليفه.. إنها ليست شقوة كتبت عليه، وليست عناء يعذب به. إنما هي الدعوة والتذكرة، وهي التبشير والإنذار. وأمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها. الذي تعنوا له الجباه، ويرجع إليه الناس: طائعهم وعاصيهم.. فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر؛ ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون.
وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر، مفصلة مطولة؛ وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى وموقف الجدل بين موسى وفرعون. وموقف المباراة بين موسى والسحرة.. وتتجلى في غضون القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه، وقال له ولأخيه: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}..
وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته، وهدايته له. وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والأنذار.
وتحيط بالقصة مشاهد القيامة. وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم. حيث يعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار. تصديقاً لما قيل لأبيهم آدم، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان!
ومن ثم يمضي السياق في هذه السورة في شوطين اثنين: الشوط الأول يتضمن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى...} تتبعه قصة موسى نموذجاً كاملاً لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته.
والشوط الثاني يتضمن مشاهد القيامة وقصة آدم وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة وقصة موسى. ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها ويتناسق معه ومع جو السورة.
وللسورة ظل خاص يغمر جوها كله.. ظل علوي جليل، تخشع له القلوب، وتسكن له النفوس، وتعنو له الجباه.. إنه الظل الذي يخلعه تجلي الرحمن على الوادي المقدس على عبده موسى، في تلك المناجاة الطويلة؛ والليل ساكن وموسى وحيد، والوجود كله يتجاوب بذلك النجاء الطويل.. وهو الظل الذي يخلعه تجلي القيوم في موقف الحشر العظيم: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} {وعنت الوجوه للحي القيوم} والإيقاع الموسيقي للسورة كلها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها رخياً شجياً ندياً بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في القافية كلها تقريباً.
{طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى.
تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى. الرحمن على العرش استوى. له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى. الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى}.
مطلع رخي ندي. يبدأ بالحروف المقطعة: {طا. ها} للتنبيه إلى أن هذه السورة. كهذا القرآن مؤلفة من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور. ويختار هنا حرفان ينتهيان بإيقاع كإيقاع السورة، ويقصران ولا يمدان لتنسيق الإيقاع كذلك.
يتلو هذين الحرفين حديث عن القرآن كما هو الحال في السور التي تبدأ بالحروف المقطعة في صورة خطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.. ما أنزلنا عليك القرآن ليؤدي إلى شقائك به أو بسببه. ما أنزلناه لتشقى بتلاوته والتعبد به حتى يجاوز ذلك طاقتك، ويشق عليك؛ فهو ميسر للذكر، لا تتجاوز تكاليفه طاقة البشر، ولا يكلفك إلا ما في وسعك، ولا يفرض عليك إلا ما في طوقك والتعبد به في حدود الطاقة نعمة لا شقوة، وفرصة للاتصال بالملأ الأعلى، واستمداد القوة والطمأنينة، والشعور بالرضى والأنس والوصول..
وما أنزلناه عليك لتشقى مع الناس حين لا يؤمنون به. فلست مكلفاً أن تحملهم على الإيمان حملاً؛ ولا أن تذهب نفسك عليهم حسرات؛ وما كان هذا القرآن إلا للتذكير والإنذار:
{إلا تذكرة لمن يخشى}.
والذي يخشى يتذكر حين يُذكر، ويتقي ربه فيستغفر. وعند هذا تنتهي وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم- فلا يكلف فتح مغاليق القلوب، والسيطرة على الأفئدة والنفوس. إنما ذلك إلى الله الذي أنزل هذا القرآن. وهو المهيمن على الكون كله، المحيط بخفايا القلوب والأسرار:
{تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى. الرحمن على العرش استوى. له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى}..
فالذي نزل هذا القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات.. السماوات العلى.. فالقرآن ظاهرة كونية كالأرض والسماوات. تنزلت من الملأ الأعلى. ويربط السياق بين النواميس التي تحكم الكون والتي ينزل بها القرآن؛ كما ينسق ظل السماوات العلى مع الأرض، وظل القرآن الذي ينزل من الملأ الأعلى إلى الأرض..
والذي نزل القرآن من الملأ الأعلى، وخلق الأرض والسماوات العلى، هو {الرحمن} فما نزله على عبده ليشقى. وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام بهذا المعنى. وهو المهيمن على الكون كله. {على العرش استوى} والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء. فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى.
ومع الهيمنة والاستعلاء الملك والإحاطة:
{له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى}.
والمشاهد الكونية تستخدم في التعبير لإبراز معنى الملك والإحاطة في صورة يدركها التصور البشري. والأمر اكبر من ذلك جداً. ولله ما في الوجود كله وهو أكبر مما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وعلم الله يحيط بما يحيط به ملكه:
{وأن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}..
وينسق التعبير بين الظل الذي تلقيه الآية: {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى}. والظل الذي تلقيه الآية بعدها: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} ينسق بين الظاهر الجاهر في الكون، والظاهر الجاهر من القول. وبين المستور المخبوء تحت الثرى والمستور المخبوء في الصدور: السر وأخفى. على طريقة التنسيق في التصوير. والسر خاف. وما هو أخفى من السر تصوير لدرجات الخفاء والاستتار. كما هو الحال تحت أطباق الثرى..
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لطمأنة قلبه بأن ربه معه يسمعه، ولا يتركه وحده يشقى بهذا القرآن، ويواجه الكافرين بلا سند، فإذا كان يدعوه جهراً فإنه يعلم السر وأخفى. والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسره ونجواه، يطمئن ويرضى؛ ويأنس بهذا القرب فلا يستوحش من العزلة بين المكذبين المناوئين؛ ولا يشعر بالغربة بين المخالفين له في العقيدة والشعور.
ويختم هذا المطلع بإعلان وحدانية الله بعد إعلان هيمنته وملكيته وعلمه:
{الله لا إله إلا هو. له الأسماء الحسنى}..
و {الحسنى} تشارك في تنسيق الإيقاع، كما تشارك في تنسيق الظلال. ظلال الرحمة والقرب والرعاية، التي تغمر جو هذا المطلع وجو السورة كله.
ثم يقص الله على رسوله حديث موسى، نموذجاً لرعايته للمختارين لحمل دعوته: وقصة موسى هي أكثر قصص المرسلين وروداً في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب موضوع السورة التي تعرض فيها وجوها وظلها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة. وسورة المائدة. وسورة الأعراف. وسورة يونس. وسورة الإسراء. وسورة الكهف.. وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى.
وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة: حلقة وقوف بني إسرائيل أمام الأرض المقدسة لا يدخلون لأن فيها قوماً جبارين. وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة: حلقة لقاء موسى للعبد الصالح وصحبته فترة..
فأما في البقرة والأعراف ويونس وفي هذه السورة طه فقد وردت منها حلقات كثيرة. ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه تنسيقاً له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها.
في البقرة سبقتها قصة آدم وتكريمه في الملأ الأعلى، وعهد الله إليه بخلافة الأرض ونعمته عليه بعد ما غفر له.. فجاءت قصة موسى وبني إسرائيل تذكيراً لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه.
واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم وإطعامهم المن والسلوى، وذكرت مواعدة موسى وعبادتهم للعجل من بعده، ثم غفرانه لهم. وعهده إليهم تحت الجبل. ثم عدوانهم في السبت. وقصة البقرة.
وفي الأعراف سبقها الإنذار وعواقب المكذبين بالآيات قبل موسى عليه السلام فجاءت قصة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل. وخاتمة فرعون وملئه المكذبين. ثم ما كان من بني إسرائيل بعد ذلك من اتخاذ العجل في غيبة موسى. وتنتهي القصة بإعلان فيها وراثة رحمة الله وهداه للذين يتبعون الرسول النبي الأمي.
وفي يونس سبقها عرض مصارع المكذبين. فجاءت قصة موسى من حلقة الرسالة، وعرض مشهد السحرة، ومصرع فرعون وقومه بالتفصيل.
أما هنا في طه. فقد سبقها مطلع السورة يشف عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته. فجاءت القصة مظللة بهذا الظل تبدأ بمشهد المناجاة؛ وتضمن نماذج من رعاية الله لموسى عليه السلام وتثبيته وتأييده؛ وتشير إلى سبق هذه الرعاية للرسالة، فقد كانت ترافقه في طفولته، فتحرسه وتتعهده: {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}..
فلنأخذ في تتبع حلقات القصة كما وردت في السياق.
{وهل أتاك حديث موسى. إذ رأى نارا فقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار هدى}..
{وهل أتاك حديث موسى؟}.. وما يتجلى فيه من رعاية الله وهداه لمن اصطفاه؟..
فها هو ذا موسى عليه السلام في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل ان يخدمه ثماني سنوات أو عشراً. والأرجح انه وفىَّ عشرا؛ ثم خطر له أن يفارق شعيباً وأن يستقل بنفسه وبزوجه، ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره.
لماذا عاد. وقد خرج من مصر طريداً. قتل قبطياً فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي، وغادر مصر هارباً وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألواناً؟ حيث وجد الأمن والمطأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه؟
إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستاراً لما تهيئه لموسى من أدوار.. وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك. تحركنا أشواق وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال.. وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار. يد المدبر المهيمن العزيز القهار..
وهكذا عاد موسى.
وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم. ضل طريقه والليل مظلم، والمتاهة واسعة. نعرف هذا من قوله لأهله: {امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}.. فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض، ليراها الساري في الصحراء، فتكشف له عن الطريق، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق.
ولقد رأى موسى النار في الفلاة. فاستبشر. وذهب ليأتي منها بقبس يستدفئ به أهله، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة. أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق؛ أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق.
لقد ذهب يطلب قبساً من النار؛ ويطلب هادياً في السرى.. ولكنه وجد المفاجأة الكبرى. إنها النار التي تدفئ. لا الأجسام ولكن الأرواح. النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى:
{فلما أتاها نودي: يا موسى إني أنا ربك. فاخلع نعليك. إنك بالواد المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا، فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى}..
إن القلب ليجفُ، وإن الكيان ليرتجف. وهو يتصور مجرد تصور ذلك المشهد.. موسى فريد في تلك الفلاة. والليل دامس، والظلام شامل، والصمت مخيم. وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور. ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء: {إني أنا ربك فاخلع نعليك. إنك بالوادِ المقدس طوى وأنا اخترتك..}.
إن تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الأبصار. الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات. ويتلقى. يتلقى ذلك النداء العلوي بالكيان البشري.. فكيف؟ كيف لولا لطف الله؟
إنها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى عليه السلام فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة. وبحسب البشرية أن يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء.. كيف؟ لا ندري كيف! فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم، إنما قصاراه أن يقف مبهوتاً يشهد ويؤمن!
{فلما أتاها نودي يا موسى: إني أنا ربك..} نودي بهذا البناء للمجهول؟ فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه. ولا تعيين صورته ولا كيفيته. ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه.. نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما. فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه، ولا نسأل عن كيفيته، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان.
{يا موسى إني انا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى}.. إنك في الحضرة العلوية. فتجرد بقدميك. وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة، فلا تطأه بنعليك.
{وأنا اخترتك}.. فيا للتكريم! يا للتكريم ان يكون الله بذاته هو الذي يختار. يختار عبداً منِ العبيد هو فرد من جموع الجموع.. تعيش على كوكب من الكواكب هو ذرة في مجموعة. المجموعة هي ذرة في الكون الكبير الذي قال له الله: كن.. فكان! ولكنها رعاية الرحمن لهذا الإنسان!
وبعد إعلانه بالتكريم والاختيار، والاستعداد والتهيؤ بخلع نعليه، ويجيء التنبيه للتلقي:
{فاستمع لما يوحى}..
ويلخص ما يوحى في ثلاثة أمور مترابطة: الاعتقاد بالوحدانية، والتوجه بالعبادة، والإيمان بالساعة؛ وهي أسس رسالة الله الواحدة:
{إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى}..
فأما الألوهية الواحدة فهي قوام العقيدة. والله في ندائه لموسى عليه السلام يؤكدها بكل المؤكدات: بالإثبات المؤكد. {إنني أنا الله} وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء: {لا إله إلا أنا} الأولى لإثبات الألوهية لله، والثانية لنفيها عن سواه.. وعلى الألوهية تترتب العبادة؛ والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة؛ ولكنه يخص بالذكر منها الصلاة: {وأقم الصلاة لذكري} لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر، لأنها تتمحض لهذه الغاية، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى؛ وتتهيأ فيها النفس لهذا الغرض وحده، وتتجمع للاتصال بالله.
فأما الساعة فهي الوعد المرتقب للجزاء الكامل العادل، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه؛ وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق.. والله سبحانه يؤكد مجيئها: {إن الساعة آتية} وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم.. والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي، فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفاً لهم وهم بهذه الفطرة لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا.. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام. فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى:
{فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى}..
ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشئ التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه؛ وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال.
هذه هي الوهلة الأولى للنداء العلوي الذي تجاوبت به جنبات الوجود؛ وأنهى الله سبحانه إلى عبده المختار قواعد التوحيد. ولا بد أن موسى قد نسي نفسه ونسي ما جاء من أجله، ليتبع ذلك الصوت العلوي الذي ناداه؛ وليسمع التوجيه القدسي الذي يتلقاه. وبينما هو مستغرق فيما هو فيه، ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه، إذا هو يتلقى سؤالاً لا يحتاج منه إلى جواب:
{وما تلك بيمينك يا موسى؟}..
إنها عصاه. ولكن أين هو من عصاه؟ إنما يتذكر فيجيب:
{قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى}..
والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده. إنما كان عما في يمينه. ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل، فهي واضحة، إنما عن وظيفتها معه. فأجاب..
ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا: أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم وقد كان يرعى الغنم لشعيب. وقيل: إنه ساق معه في عودته قطيعاً منها كان من نصيبه. وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها لأن ما ذكره نموذج منها.
ولكن ها هي ذي القدرة القادرة تصنع بتلك العصا في يده ما لم يخطر له على بال، تمهيداً لتكليفه بالمهمة الكبرى:
{قال: ألقها يا موسى. فألقاها. فإذا هي حية تسعى. قال: خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}:
ووقعت المعجزة الخارقة التي تقع في كل لحظة؛ ولكن الناس لا ينتبهون إليها. وقعت معجزة الحياة. فإذا العصا حية تسعى. وكم من ملايين الذرات الميتة أو الجامدة كالعصا تتحول في كل لحظة إلى خلية حية؛ ولكنها لا تبهر الإنسان كما يبهره ان تتحول عصا موسى حية تسعى! ذلك أن الإنسان أسير حواسه، وأسير تجاربه، فلا يبعد كثيراً في تصوراته عما تدركه حواسه. وانقلاب العصا حية تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه لها بشدة. أما الظواهر الخفية لمعجزة الحياة الأولى، ومعجزات الحياة التي تدب في كل لحظة فهي خفية قلما يلتفت إليها. وبخاصة أن الألفة تفقدها جدتها في حسه، فيمر عليها غافلاً أو ناسياً.
وقعت المعجزة فدهش لها موسى وخاف: {قال: خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} ونردها عصا.
والسياق هنا لا يذكر ما ذكره في سورة أخرى من أنه ولى مدبراً ولم يعقب. إنما يكتفي بالإشارة الخفيفة إلى ما نال موسى عليه السلام من خوف: ذلك أن ظل هذه السورة ظل أمن وطمأنينة، فلا يشوبه بحركة الفزع والجري والتولي بعيدا.
واطمأن موسى والتقط الحية، فإذا هي تعود سيرتها الأولى! عصا!.. ووقعت المعجزة في صورتها الأخرى. صورة سلب الحياة من الحي، فإذا هو جامد ميت، كما كان قبل أن تدركه المعجزة الأولى..
وصدر الأمر العلوي مرة أخرى إلى عبده موسى:
{واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى}..
ووضع موسى يده تحت إبطه.. والسياق يختار للإبط والذراع صورة الجناح لما فيها من رفرفة وطلاقة وخفة في هذا الموقف المجنح الطليق من ربقة الأرض وثقلة الجسم لتخرج بيضاء لا عن مرض أو آفة. ولكن: {آية أخرى} مع آية العصا. {لنريك من آياتنا الكبرى} فتشهد وقوعها بنفسك تحت بصرك وحسك. فتطمئن للنهوض بالتبعة الكبرى:
{اذهب إلى فرعون إنه طغى}..
وإلى هنا لم يكن موسى يعلم انه منتدب لهذه المهمة الضخمة.. وإنه ليعرف من هو فرعون: فقد ربي في قصره. وشهد طغيانه وجبروته. وشاهد ما يصبه على قومه من عذاب ونكال.. وهو اللحظة في حضرة ربه. يحس الرضى والتكريم والحفاوة. فليسأله كل ما يطمئنه على مواجهة هذه المهمة العسيرة؛ ويكفل له الاستقامة على طريق الرسالة:
{قال: رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي. اشدد به أزري، وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيرا. إنك كنت بنا بصيراً}..
لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره.. وانشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة؛ ويجعله دافعاً للحياة لا عبئاً يثقل خطى الحياة.
وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره.. وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة وعلمه قاصر والطريق طويل وشائك ومجهول؟!.
وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله.. وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة والأرجح أن هذا هو الذي عناه. ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً}. وقد دعا ربه في أول الأمر دعاء شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر. ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه.
وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله. هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان وثبات الجنان وهدوء الأعصاب، وكان موسى عليه السلام انفعالياً حاد الطبع سريع الانفعال. فطلب إلى ربه أن يعينه بأخيه يشد أزره ويقويه ويتروى معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه.
والأمر الجليل الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير. فموسى عليه السلام يطلب أن يشرح الله صدره وييسر له أمره ويحل عقدة من لسانه ويعينه بوزير من أهله.
كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة؛ ولكن ليتخذ ذلك كله مساعداً له ولأخيه على التسبيح الكثير والذكر الكثير والتلقي الكثير من السميع البصير.. {إنك كنت بنا بصيراً}.. تعرف حالنا وتطلع على ضعفنا وقصورنا وتعلم حاجتنا إلى العون والتدبير..
لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير. وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يخجل ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطئ عليه بالإجابة الكاملة:
{قال: قد أوتيت سؤلك يا موسى}:
هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل. وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل.. كل ما سألته أعطيته. أعطيته فعلاً. لا تعطاه ولا ستعطاه؟ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه: {يا موسى} وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد؟
وإلى هنا كفاية وفضل من التكريم والعطف والإيناس. وقد طال التجلي؛ وطال النجاء؛ وأجيب السؤل وقضيت الحاجة.. ولكن فضل الله لا خازن له، ورحمة الله لا ممسك لها. فهو يغمر عبده بمزيد من فضله وفيض من رضاه، فيستبقيه في حضرته، ويمد في نجائه وهو يذكره بسابق نعمته، ليزيده اطمئناناً وأنساً بموصول رحمته وقديم رعايته. وكل لحظة تمر وهو في هذا المقام الوضيء هي متاع ونعمى وزاد ورصيد.
{ولقد مننا عليك مرة أخرى. إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى. أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم. فليلقه اليم بالساحل، يأخذه عدو لي وعدو له. وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني. إذ تمشي أختك فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن. وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتونا، فلبثت سنين في أهل مدين. ثم جئت على قدر يا موسى. واصطنعتك لنفسي...}.
إن موسى عليه السلام ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار. إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان. إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر؛ ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص. فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلاً من التهيؤ والاستعداد. وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد. وأنه صنع على عين الله منذ زمان، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع. ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف. وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون، لأن يد القدرة كانت تسنده، وعين القدرة كانت ترعاه.
في كل خطاه. فلا عليه اليوم من فرعون، وقد بلغ أشده. وربه معه. قد اصطنعه لنفسه، واستخلصه واصطفاه.
{ولقد مننا عليك مرة أخرى}.. فالمنة قديمة ممتدة مطردة، سائرة في طريقها معك منذ زمان. فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن.
لقد مننا عليك إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، وألهمناها ما يلهم في مثل حالها.. ذلك




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال