سورة البقرة / الآية رقم 238 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


يذر: معناه يترك، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ.
خبير: للمبالغة، من خبرت الشيء علمته، ومنه: قتل ارضاً خابرها، وخبرت زيداً اختبرته، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به، والخبار الأرض اللينة.
التعريض: الإشارة إلى الشيء دون تصريح.
الخطبة: بكسر الخاء التماس النكاح، يقال خطب فلان فلانة، أي: سألها خطبه أي: حاجته، فهو من قولهم: ما خِطبك؟ أي: ما حاجتك، وأمرك؟ قال الفراء: الخطبة مصدر بمعنى الخطب، وهو من قولك: إنه يحسن القِعدة والجِلسة، يريد: القعود والجلوس.
والخُطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على: الزجر، والوعظ، والإذكار، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام، وكانت سجاح يقول لها الرجل: خطب، فتقول: نكح.
أكنّ الشيء: أخفاه في نفسه، وكنه: ستره شيء، والهمزة في أكنّ للتفرقة بين المعنيين، كأشرقت.
العقدة: في الحبل، وفي الغصن معروفة، يقال: عقدت الحبل والعهد، ويقال: أعقدت العسل، وهو راجع لمعنى الاشتداد، وتعقد الأمر عليّ اشتدّ، ومنه العقود.
المقتر: المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه، ومنه القتير، وهو مسمار الدرع، والقترة أدنى الغبار، والناموس الصغار، والقتار: ريح القدر قال طرفة:
حين قال الناس في مجلسهم *** أقتار ذاك أم ريحٌ قطر
والقتر: بيوت الصيادين على الماء، قال الشاعر:
ربّ رام من بني ثعل *** مثلج كفيه في قتره
النصف: هو الجزء من اثنين على السواء، ويقال: بكسر النون وضمها، ونضيف: ومنه: ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، أي: نصفه، كما يقال: ثمن وثمين، وعشر وعشير، وسدس وسديس، ومنه قيل: النصف. المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف، وكل شيء بلغ نصف غيره فهو نصف، يقال: نصف النهار ينصف، ونصف الماء القدح، والإزار الساق، والغلام القرآن، وحكى الفراء في جميع هذا: أنصف.
المحافظة على الشيء: المواظبة عليه، وهو من الحفظ، حفظ المكان حرسه، وحفظ القرآن تذكره غائباً، وهو راجع لمعنى الحراسة، وحفظ فلان: غضب، وأحفظه: أغضبه، ومصدر: حفظ، بمعنى غضب: الحفيظة والحفظ.
الركوب: معروف، وركبان: جمع راكب، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء، فحسن أن يجمع جمع الأسماء، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل، قالوا: حاجر وحجران، ومثل، ركبان: صحبان، ورعيان، جمع صاحب وراع، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجيء فيها فعلان، لم يرد مثل: ضربان وقتلان في جمع: ضارب وقاتل.
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدّم ذكر عدة طلاق الحيض، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع، وكان في ضمنها قوله {وعلى الوارث مثل ذلك}
أي: وارث المولود له، ذكر عدة الوفاة إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض.
وقرأ الجمهور: يتوفون، بضم الياء مبنياً للمفعول وقرأ علي، والمفضل، عن عاصم: بفتح الياء مبنياً للفاعل، ومعنى هذه القراءة أنهم: يستوفون آجالهم.
وإعراب: الذين، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن: بالذين، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر، فجاء الخبر عما هو المقصود، والمعنى: من مات عنها زوجها تربصت، وأنشد الفراء رحمه الله:
لعلِّي إن مالت بي الريح ميلة *** على ابن أبي ذيان أن يتندّما
فقال: لعلِّي، ثم قال: أن يتندّما، لأن المعنى: لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر:
بني أسدٍ إن ابن قيس وقتله *** بغير دم دارَ المذلة حلت
ألغى ابن قيس، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذُلّ؛ وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها، فيها معنى الخبر، أنها تترك الإخبار عن الإسم الأول ويكون الخبر عن المضاف، مثاله: إن زيداً وأخته منطلقة، لأن المعنى: إن أخت زيد منطلقة؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر:
فمن يك سائلاً عني فإني *** وجروة لا ترود ولا تعار
والرد على الفراء، وتأويل الأبيات والآية، مذكور في النحو.
وذهب الجمهور إلى أن له خبراً، واختلفوا، فقيل: هو ملفوظ به، وهو: يتربصن، ولا حذف يصحح معنى الخبر، لأنه ربط من جهة المعنى، لأن النون في: يتربصن، عائد، فقيل: على الأزواج الذين يتوفون، فلو صرح بذلك فقيل: يتربصن أزواجهم، لم يحتج إلى حذف، وكان إخباراً صحيحاً، فكذلك ما هو بمعناه، وهو قول الزجاج.
وقيل: ثَمَّ حذف يصحح معنى الخبرية، واختلفوا في محل الحذف، فقيل: من المبتدأ، والتقدير: وأزواج الذين، ودل على المحذوف قوله: {ويذرون أزواجاً} وقيل: من الخبر، وتقديره: يتربصن بعدهم، أو: بعد موتهم، قاله الأخفش.
وقيل: من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن، تقديره: أزواجهم يتربصن، ودل عليه المظهر، قاله المبرد.
وقيل: الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً.
وقوله: {يتربصن بأنفسهنّ} بيان للحكم المتلو، وهي جملة لا موضع لها من الإعراب، قالوا: وهذا قول سيبويه.
قال ابن عطية: إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد، مثل قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسَّن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: {فلا جناح عليكم} إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة الأخفش والمبرد ما ذكرناه.
انتهى كلامه.
وظاهرة قوله: يتربصن، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها، فيدخل فيه الأمة والكتابية والصغيرة.
وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها، وروي عنه أن عليها عدّة، فإن لم يدخل فلا عدة قولاً واحداً، ويتخرج على هذين القولين الإحداد، وتخصيص الحامل قيل: بقوله {وأولات الأحمال أجلهن} الآية، ولم يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلاَّ بالسنة لا بهذه الآية، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات، فيحتمل أن يقال: هي في المطلقة، لا في المتوفى عنها زوجها، ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه، وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون، فامتنع التخصيص.
وقيل: الآية تتناول أولاً الحوامل، ثم نسخ بقوله: {وأولات الأحمال} وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور.
وروي عن علي، وابن عباس، وغيرهما: أن تمام عدتها آخر الأجلين، واختاره سحنون، وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك.
ومعنى: {يتربصن بأنفسهن} أي: ينتظرن. قيل: والتربص هنا الصبر عن النكاح، قاله الحسن، قال: وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب، وضعف قوله. وقيل: ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد، وهو أن تمتنع من الزينة، ومن لبس المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة، والطيب، وما يجري مجرى ذلك. وهذا قول الجمهور، وليس في الآية نص على الإحداد، بل التربص مجمل بينته السنة، ثبت في حديث الفريعة قوله صلى الله عليه وسلم: «أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». وكانت متوفى عنها زوجها، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً, وصح أنه قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاَّ على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً، وتلزم المبيت في بيتها» وهذا قول الجمهور، وقال ابن عباس، وأبو حنيفة، وغيرهما: تبيت حيث شاءت، وروي ذلك عن علي، وجابر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والحسن، وداود.
قال ابن عباس: قال تعالى: {يتربصن بأنفسهن} ولم يقل: يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشراً، قالوا: معناه وعشر ليال، ولذلك حذف التاء وهي قراءة ابن عباس. والمراد عشر ليال بأيامها، فيدخل اليوم العاشر، قيل: وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام، والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ، ولا تنقضي عدّتها إلاَّ بانقضاء اليوم العاشر، هذا قول الجمهور.
وقال الأوزاعي، وأبو بكر الأحم: ليس اليوم العاشر من العدة، بل تنقضي بتمام عشر ليالٍ. وقال المبرد: معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة، تقول العرب: سرنا خمساً، أي: بين يوم وليلة قال الشاعر:
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة *** وكان النكيرات تضيف وتجأرا
وقال الزمخشري: وقيل عشراً ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام، تقول: صمت عشراً، ولو ذكرت خرجت من كلامهم، ومن البين فيه {إن لبثتم إلا عشراً} {إن لبثتم إلا يوماً} انتهى كلامه.
ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليالٍ لأجل حذف التاء، ولا إلى تأويلها بمدد، كما ذهب إليه المبرد، بل الذي نقل أصحابنا أنه: إذا كان المعدود مذكراً وحذفته، فلك فيه وجهان.
أحدهما، وهو الأصل: أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود، فتقول: صمت خمسة. تريد: خمسة أيام، قالوا: وهو الفصيح، قالوا: ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمساً. ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام، واليوم مذكر وكذلك قوله:
وإلاَّ فسيري مثل ما سار راكب *** يتمم خمساً ليس في سيره أمم
يريد خمسة أيام، وعلى ذلك ما جاء في الحديث، ثم أتبعه بست من شوال، وإذا تقرر هذا فجاء قوله: عشراً على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع كلام، فهو شبيه بالفواصل، كما حسن قوله: {إن لبثتم إلا عشراً} كونه فاصلة، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين، فقوله: ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم، ليس كما ذكر، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح، إذ حاله عندهم محذوفاً كحاله مثبتاً في الفصيح، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه، وقوله: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه، كما ذكر، بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه. كما ذكرنا. وقوله: ومن البين فيه {إن لبثتم إلاَّ عشراً} قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة، وقوله: {إن لبثتم إلا يوماً} فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلة معها، فأتى بقوله: إلاَّ يوماً، للدلالة على ذلك، وهذا عندنا يدل على أن قوله: عشراً، إنما يريد بها الأيام، لأنهم اختلفوا في مدة اللبث، فقال قوم: عشر، وقال، أمثلهم طريقة: يوم، فقوله: إلاَّ يوماً، مقابل لقولهم إلاَّ عشراً، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام، إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم: عشر ليال، ويقول بعض: يوماً. وظاهر قوله: أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر، فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة، كان الشهر تاماً أو ناقصاً. وإن وجبت في بعض شهر، فقيل: تستوفي مائة وثلاثين يوماً، وقيل: تعتدّ بما يمر عليها من الأهلة شهوراً، ثم تكمل الأيام الأول، وكلا القولين عن أبي حنيفة.
ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك، فتعتد إثر الوفاة، جاء الفعل مسنداً: إليهن، وأكد بقوله: بأنفسهن، فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة، وقامت على ذلك البينة، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة، فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة، وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء والأسود بن يزيد، وفقهاء الأمصار.
وقال علي، والحسن البصري، وخلاس بن عمرو، وربيعة: من يوم يأتيها الخبر.
وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيراً في العدة. وروي عن سعيد بن المسيب، والشافعي: أنهما قالا: إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر.
وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور، وأجمعوا على أن المعتدة، لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل، أن عدتها منقضية، ولم تتعرض الآية في المتوفى عنها زوجها إلاَّ لأن تتربص تلك المدة، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال، ولو كانت حاملاً، قاله جابر، وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعبد الملك بن يعلى، ويحيى الأنصاري، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وروي عن أبي حنيفة.
وقيل: لها النفقة من جميع المال، وروي ذلك عن علي، وعبد الله بن عمر، وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وأبي العالية، والنخعي، وخلاس بن عمرو، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختياني، والثوري، وأبي عبيد.
وظاهر قوله {يتربصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً} أنه إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها، وقيل: لا تبرأ إلاَّ بحيضة تأتي بها في المدة، وإلاَّ فهي مستريبة، فتمكث حتى تزول ريبتها.
وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الإعتداد بالحول، وهذا من غرائب النسخ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول، وقيل: إن الحول لم ينسخ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب، بل هو على الندب، فأربعة أشهر وعشراً، أقل ما تعتدّ به المتوفى عنها زوجها، والحول هو الأكمل والأفضل.
وقال قوم: ليس في هذا نسخ، وإنما هو نقصان من الحول: كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن ذلك نسخاً، بل كان تخفيفاً.
قالوا: واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون خلق أحدكم نطفة أربعين يوماً، ثم علقة أربعين يوماً، ثم مضغة أربعين يوماً، ثم ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها، أو استظهاراً لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين» قال أبو العالية وغيره: إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها، وظهور الحمل في الغالب.
وقال الأصمعي: ولد كل عامل يركض في نصف حمله، وقال الراغب: ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر، إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر، وزيد على ذلك عشراً استظهاراً.
قال وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في: {تلك عشرة كاملة} قال القشيري: لما كان حق الميت أعظم، لأن فراقه لم يكن بالاختيار، كانت مدة وفاته أطول، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد. كما قيل:
وكما تبلى وجوه في الثرى *** فكذا يبلى عليهنّ الحزن
{فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف}. بلوغ أجلهنّ هو انقضاء المدة المضروبة في التربص، والمخاطبون: بعليكم، الأولياء، أو الآئمة والحكام والعلماء، إذ هم الذين يرجع إليهم في الوقائع، أو عامة المؤمنين. أقوال، ورفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهنّ لأنهم هم الذين ينكرون عليهنّ، ويأخذونهنّ بأحكام العدد، أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن، إذ كان ذلك في العدّة حراماً، فزال الجناح بعد انقضاء العدة.
والذي فعلن بأنفسهن: النكاح الحلال، قاله مجاهد، وابن شهاب، أو: الطيب، والتزين، والنقلة من مسكن إلى مسكن، قاله أبو جعفر الطبري، ومعنى: بالمعروف أي: بالإشهاد، وقيل: ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه، وقال الزمخشري: {فيما فعلن في أنفسهن} من التعرض للخطاب، بالمعروف: بالوجه الذي لا ينكره الشرع، والمعنى: أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمه أن يكفوهن، وإن فرطوا كان عليهم الجناح. إنتهى كلامه. وهو حسن.
{والله بما تعملون خبير} وعيد يتضمن التحذير، وخبير للمبالغة، وهو العلم بما لطف والتقصي له.
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطب النساء أو أكننتم في أنفسكم} نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة، وهو: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإن من عزمي أن أتزوج؛ وإنى فيك لراغب، وما أشبه ذلك، أو: أريد النكاح، وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها، قاله ابن عباس. أو: إنك لنافقة، وإن قضي شيء سيكون، قاله الشعبي. أو: يصف لها نفسه، وفخره، وحسبه، ونسبه، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة، أو يقول لوليها: لا تسبقني بها، كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك» وقد أوّل هذا على أنه منه صلى الله عليه وسلم لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها، لا أنه أرادها لنفسه، ولذلك كره مجاهد أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سراً، أو يقول: ما عليك تأيم، ولعل الله يسوق إليك خيراً، أو رب رجل يرغب فيك، أو: يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها.
قال ابراهيم: أو يقول كل ما سوى التصريح، قاله ابن زيد، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج، ولا التنبيه عليه، ولا الرفث، وذكر الجماع، والتحريض عليه. وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد، فكما خالف نهيُ حكمَيْ التعريض والتصريح في الخطبة، فكذلك في القذف.
{أو أكننتم في أنفسكم} أي: أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفى عنهما، وقيل: المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة، فأباح الله التعريض، وحرم التصريح في الحال، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب.
{علم الله أنكم ستذكرونهن} هذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، وفيه طرف من التوبيخ، كقوله: «علم الله أنكم كنتم تختانون» وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت، وتتوق إليهن الأنفس، ويتمنى نكاحهن.
وقال الحسن، معنى: ستذكرونهن، كأنه قال: إن لم تنهوا. إنتهى.
وقوله: ستذكرونهن، شامل لذكر اللسان وذكر القلب، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.
{ولكن لا تواعدوهن سراً} هذا الاستدراك من الجملة التي قبله، وهو قوله: ستذكرونهن، والذكر يقع على أنحاء وأوجه، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه، وهو نظير قولك: زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشرٍّ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء، وإن من أحواله المواجهة بالشر، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها، لكن يحتاج ما بعد: لكن، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء.
قال الزمخشري، فإن قلت، أين المستدرك بقوله: {ولكن لا تواعدوهن}. قلت، هو محذوف لدلالة: {ستذكرونهن} عليه {علم الله أنكم ستذكرونهن} فاذكروهن {ولكن لا تواعدوهن سرا} إنتهى كلامه.
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن، بل الاستدراك جاء من قبل قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء، لا على طريق الوجوب، ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير: فاذكروهن، على ما قررناه قبل قولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقي استدرك فقال: ولكن لا تخف مني.
والسر ضد الجهر، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه، لكنه في سر، وقد يعبر به عن العقد، لأنه سبب فيه، وقد فسر: السر، هنا: بالزنا الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، والضحاك، والنخعي. ومما جاء: السر، في الوطء الحرام، قوله الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم *** ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الأعشى:
ولا تقربن جارة إنَّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال ابن جبير: السر، هنا النكاح. وقال ابن زيد معنى ذلك: لا تنكحوهن وتكتمون ذلك، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن، فسمى العقد عليهم مواعدة، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة.
قال بعضهم: جماعاً وهو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت وكيت، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف. وقال ابن عباس، وابن جبير أيضاً، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، ومالك، وأصحابه، والجمهور: المعنى: لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية.
فعلى هذا القول، والقول الذي قبله، ينتصب، سراً، على الحال، أي: مستسرين. وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول، وإذا انتصب على الحال كان مفعول: فواعدوهن محذوفاً، تقديره: النكاح، وقيل: انتصب على أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: مواعدة سراً. وقيل التقدير في: وانتصب انتصاب الظرف، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به، والذي تدل عليه الآية أنهم: نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج.
وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها، وأما إطلاق المواعدة سراً على النقد فبعيد أيضاً، وأيد قول الجمهور فبعيد أيضاً، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر.
{إلا أن تقولوا قولاً معروفاً}. هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت: سراً، من قوله: {ولكن لا تواعدوهن سراً} على أي تفسير فسرته، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقال الضحاك: من القول المعروف أن تقول للمعتدة: احبسى عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي: وأنا مثل ذلك.
قال ابن عطية: وهذا عندي مواعدة.
وإنما التعريض قول الرجل: إنكن لإماء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة ونحو هذا.
وقال الزمخشري: {إلا أن تقولوا قولا معروفاً} وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.
فان قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهنّ، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، أو: لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناءً من: سراً، لادائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلاَّ التعريض إنتهى كلام الزمخشري.
ويحتاج إلى توضيح، وذلك أنه جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ، وجعل ذلك على وجهين.
أحدهما: أن يكون استثناء من المصدر المحذوف، وهو الوجه الأول الذي ذكره، وقدّره: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، فكأن المعنى: لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً، فصار هذا نظير: لا تضرب زيداً ضرباً شديداً.
والثاني: أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف، وهو الوجه الثاني الذي ذكره، وقدره: إلاَّ بأن تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلاَّ بالتعريض، فكان المعنى: لا تواعدوهنّ سراً، أي نكاحاً بقول من الأقوال، إلاَّ بقول معروف، وهو التعريض. فحذف: من أن، حرف الجر، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره.
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو: الباء، التي للسبب.
قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من: سراً، لأدائه إلى قوله: لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، والتعريض ليس مواعداً، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل، وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. لكن هذا يصح فيه: ما رأيت إلاَّ حماراً، وذلك لا يصح فيه، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح، فانتصاب: سراً، على أنه مفعول، فكذلك ينبغي أن يكون: أن تقولوا، مفعولاً، ولا يصح ذلك فيه، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً. هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً.
وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين.
أحدهما: ما ذكره الزمخشري، وهو: أن يتسلط العامل على ما بعد؛ إلاَّ، كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. و: ما في الدار أحد إلاَّ حماراً.
وهذا النوع فيه خلاف عن العرب، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ، فتقول: ما رأيت إلاَّ حماراً، وما في الدار إلاَّ حمار. ويصح في الكلام: {ما لهم به من علم إلاَّ اتباع الظن}
والقسم الثاني: من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلاَّ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة، ومن ذلك: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضر. فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص، بل يقدّر المعنى: ما زاد، لكن النقص حصل له، وما نفع لكن الضرر حصل، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه، وهذا لا يمكن.
وإذا تقرر هذا فيكون قوله: {إلاَّ أن تقولوا} استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل، والتقدير: لكنّ التعريض سائغ لكم، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلاَّ، فلذلك منعه، والله أعلم.
وظاهر النهي في قوله {لا تواعدوهنّ سرّاً} التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة، قال: فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب. وروى أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما. وقال ابن القاسم: وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم. وقال الشافعي: لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح، والتصريح بهما مكروه. وقال ابن عطية: أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة.
{ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} نهوا عن العزم على عقدة النكاح، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة.
وانتصاب: عقدة، على المفعول به لتضمين: تعزموا، معنى ما يتعدّى بنفسه، فضمن معنى: تنووا، أو معنى: تصححوا، أو معنى: توجبوا، أو معنى: تباشروا، أو معنى: تقطعوا، أي: تبتوا. وقيل: انتصب عقدة على المصدر، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله *** حتى أنال به كريمَ المأكلِ
الأصل وأظل عليه، فحذف: على، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى، قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح *** لأمر ما يسوّد من يسود
وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله: {وإن عزموا الطلاق} وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك، ولذلك قال ابن عطية: عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدّي. ولم ينقل عن أحد خلافه، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة.
والكتاب هنا هو المكتوب أي: حتى يبلغ ما كتب، وأوجب من العدّة أجله أي: وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن، وهو على حذف مضاف، التقدير: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام على التزّوج، وهذا النهي معناه التحريم، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم النكاح، فإن كان ذلك قبل الدخول بها، فقال عمر، والجمهور: لا يتأبد التحريم.
وقال مالك، وابن القاسم، في المدّونة: ويكون خاطباً من الخطاب. وحكى ابن الجلاب عن مالك: أنه يتأبد، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء، قال قوم: يتأبد، وقال قوم: لا يتأبد، والقولان عن مالك، ولو عقد عليها في العدّة، ودخل بها في العدّة، فقال عمر، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي، والليث، وأحمد وغيرهم: يتأبد التحريم.
وقال مالك، والليث: ولا تحل له بملك اليمين، وقال علي، وابن مسعود، وإبراهيم، وأبو حنيفة، والشافعي: وعبد العزيز بن أبي سلمة، وجماعة: لا يتأبد، بل يفسخ بينهما، ثم تعتدّ منه ويكون خاطباً من الخطاب.
قال الحسن، وأبو حنيفة، والليث، وأحمد، وإسحاق، والمدنيون غير مالك: تعتدّ من الأوّل، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر.
وقال مالك، وأصحاب الرأي، والأوزاعي والثوري: عدّة واحدة تكفيهما جميعاً، سواء كانت بالحمل، أم بالإقراء، أم بالأشهر.
{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} قيل: المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ، وقيل: من الوفاء والإخلاف، قاله ابن عباس: فاحذروه، الهاء تعود على الله تعالى، أي: فاحذروا عقابه.
وقال الزمخشري: يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. انتهى. فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم، أي فاحذور ما لا يجوز ولا تعزموا عليه، فتكون الهاء في: فاحذروه ولا تعزموا عليه، عائدة على شيء واحد، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله، والهاء في: عليه، على ما لا يجوز، فيختلف ما تعود عليه الهاآن، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم، وحذرهم منه، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه، وجاء خبر إن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات، وإن كان من صفات الفعل.
قيل: وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البديع.
منها: معدول الخطاب، وهو أن الخطاب بقوله: {والذين يتوفون} الآية عام والمعنى على الخصوص.
ومنها: النسخ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها: الاختصاص، وهو أن يخص عدداً فلا يكون ذلك إلاَّ لمعنى، وذلك في قوله: {أربعة أشهر وعشراً} ومنها: الكناية، في قوله: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} كنى بالسر عن النكاح، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها: التعريض، في قوله: {يعلم ما في أنفسكم} ومنها: التهديد، بقوله {فاحذروه} ومنها: الزيادة في الوصف، بقوله: {غفور حليم}.
{لا جناح عليكم إن طلقتم ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة} نزلت في أنصاري تزوّج حنيفية ولم يسم مهراً، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله عليه وسلم: «متعها ولو بقلنسوتك» فذلك قوله: {لا جناح عليكم} الآية.
ومناسبتها لما قبلها أنه: لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ، والمتوفى عنهنّ أزواجهنّ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مدخولاً بها، أو غير ذلك.
والمطلقات أربع: مدخول بها مفروض لها، ونقيضتها، ومفروض لها غير مدخول بها، ونقيضتها.
والخطاب في قوله: {لا جناح عليكم} للأزواج، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه: لما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوّج طلباً للعصمة والثواب، ودوام الصحبة، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزأ من هذا المكروه، فرفع الله الجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
{ما لم تمسوهنّ} قرأ حمزة والكسائي: تماسوهنّ، مضارع ماس، فاعل. وقرأ باقي السبعة مضارع مسست، وفاعل. يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس، ورجح أبو علي قراءة: تمسوهنّ، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية، نحو: نكح، وسفد، وفزع، ودقط، وضرب الفحل، والقرابان حسنتان، والمس هنا والمماسة: الجماع، كقوله: {ولم يمسسني بشر} و: ما، في قوله: {ما لم تمسوهنّ} الظاهر أنها ظرفية مصدرية، التقدير: زمان عدم المسيس كقوله الشاعر:
إني بحبلك واصل حبلي *** وبريش نبلك رائش نبلي
ما لم أجدك على هدى أثر *** يقرو مقصك قائف قبلي
وهذه ما، الظرفية المصدرية، شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسناً، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم: ما، شرطية، ثم قدرها بأن، وأراد بذلك، والله أعلم، تفسير المعنى، و: ما إذا كانت شرطاً تكون إسماً غير ظرف زمان ولا مكان، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطاً بهذا المعنى.
وزعم ابن مالك أن: ما، تكون شرطاً ظرف زمان؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه، وتأول ما استدل به والده، وتأولنا نحن بعض ذلك، بخلاف تأويل ابنه، وذلك كله ذكرناه في كتاب (التكميل) من تأليفنا. على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه.
وزعم بعضهم أن: ما، في قوله {ما لم تمسوهنّ} إسما موصولاً والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ، فلا يكون لفظ. ما، شرطاً، وهذا ضعيف، لأن: ما، إذ ذاك تكون وصفاً للنساء، إذ قدرها بمعنى اللاتي، و: ما، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي.
وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديباً لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون.
{أو تفرضوا لهنّ فريضة} الفريضة هنا هو الصداق، وفرضه تسميته.
و: أو، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين، أو لأشياء، والفعل بعدها معطوف على: تمسوهنّ، فهو مجزوم، أو معطوف على مصدر متوهم، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو، بمعنى إلاَّ. التقدير: ما لم تمسوهنّ إلاَّ أن تفرضوا لهنّ فريضة، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على: تسموهنّ، أقوال أربعة.
الأول: لابن عطية وغيره والثاني: للزمخشري والثالث: لبعض أهل العلم ولم يسم والرابع: للسجاوندي وغيره.
فعلى القول الأول: ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين: إما الجماع، وإما تسمية المهر، أما عند انتفاء الجماع فصحيح، وأما عند انتفاء تسمية المهر فالحكم ليس كذلك، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر، وهي المفوضة، إذا طلقها زوجها لا ينتفي الجناح عنه.
وعلى القول الثاني: ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلاَّ إن فرض لها مهرٌ، فلا ينتفي الجناح، وإن انتفى الجماع، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح حالة فرض الفريضة، فيثبت فيها الجناح.
وعلى القول الثالث: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط، سواء فرض أم لم يفرض، وقالوا: المراد هنا بالجناح لزوم المهر، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع، فرض مهراً أو لم يفرض، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف، وإن لم يفرض، فاختلف في ذلك، فقال حماد بن أبي سليمان: إذا طلقها ولم يدخل بها، ولم يكن فرض لها، أجبر على نصف صداق مثلها، وقال غيره: ليس لها نصف مهر المثل، ولكن المتعة.
وفي هذا القول الثالث حذف جملة، وهي قوله: فرضتم، وإضمار: لم، بعد: أو، وهذا لا يجوز إلاَّ إذا عطف على مجزوم، نحو: لم أقم وأركب، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدراً بعد حرف العطف.
وعلى القول الرابع: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع وتسمية المهر معاً، فإن وجد الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف المسمى، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين، وينتفى بانتفائهما، ويكون الجناح إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين.
وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء، وأجمعوا على جواز ذلك، والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموماً، سواء كنّ حيضاً أم لا، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وموت الزوج قبل البناء، وقبل الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض، فليس لها مهر ولا ميراث، قاله مسروق، وهو مخالف للأصول.
وقال عليّ، وزيد، وابن عباس، وابن عمر، والزهري، والأوزاعي، ومالك. والشافعي: لها الميراث، ولا صداق لها. وعليها العدة.
وقال عبد الله بن مسعود، وجماعة من الصحابة، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: لها صداق مثل نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث.
وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض، وهو جائز عند فقهاء الأمصار، لأنه تعالى قسم حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة لم يسم لها، ومطلقة سمي لها، فإن لم يفرض لها، ووقع الطلاق قبل الدخول، لم يجب لها صداق إجماعاً. قاله القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدّم خلاف حماد بن أبي سليمان في ذلك، وأن لها نصف صداق مثلها، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها لم يلزمها تسليم نفسها، أو مهر مثلها لزمها التسليم، ولها حبس نفسها حتى تقبض صداقها.
وقال أبو بكر الأصم، وأبو إسحاق الزجاج: هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير مهر جائز، وقال القاضي: لا تد




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال