سورة الأنبياء / الآية رقم 100 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ

الأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا الشوط الأخير في السورة بعد عرض سنن الله الكونية، الشاهدة بوحدة الخالق؛ وسنن الله في إرسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة الأمة ووحدة العقيدة.. يعرض السياق فيه مشهداً للساعة وأشراطها، يتبين فيه مصير المشركين بالله ومصير الشركاء؛ ويتفرد الله ذو الجلال بالتصريف فيه والتدبير.
ثم يقرر سنة الله في وراثة الأرض، ورحمة الله للعالمين المتمثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعندئذ يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينفض يده منهم، وأن يدعهم لمصيرهم، فيترك الحكم لله فيهم؛ ويستعين به على شركهم وتكذيبهم واستهزائهم، وانصرافهم إلى اللعب واللهو، ويوم الحساب قريب.
{وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون. فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون. وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون}..
إن أمة الرسل واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة، أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس الوجود؛ والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير في هذا الأصل الكبير.
إنما كانت التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد، بقدر استعداد كل أمة، وتطور كل جيل؛ وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها، واستعدادها لأنماط من التكاليف ومن التشريعات؛ وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب، ومن نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلاً بعد جيل.
ومع وحدة أمة الرسل، ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات.. فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم، كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها. وثار بينهم الجدل، وكثر بينهم الخلاف، وهاجت بينهم العداوة والبغضاء.. وقع ذلك بين اتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم بعضاً باسم العقيدة. والعقيدة واحدة، وأمة الرسل كلها واحدة.
لقد تقطعوا أمرهم بينهم في الدنيا. ولكنهم جميعاً سيرجعون إلى الله. في الآخرة: {كل إلينا راجعون} فالمرجع إليه وحده، وهو الذي يتولى حسابهم ويعلم ما كانوا عليه من هدى أو ضلال:
{فمن يعمل الصالحات وهو مؤمن، فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون}..
هذا هو قانون العمل والجزاء.. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الأيمان.. وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب.
ولا بد من الأيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته.
إن الإيمان هو قاعدة الحياة، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء.
والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر.. والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن القرآن دائماً بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم، ولا موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح، لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة. فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاهاً معزولاً عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
والجزاء على العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا. فالقرى التي هلكت بعذاب الاستئصال ستعود كذلك حتماً لتنال جزاءها الأخير، وعدم عودتها ممتنعة، فهي راجعة بكل تأكيد.
{وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}..
إنما يفرد السياق هذه القرى بالذكر بعد أن قال: {كل إلينا راجعون} لأنه قد يخطر للذهن أن هلاكها في الدنيا كان نهاية أمرها، ونهاية حسابها وجزائها. فهو يؤكد رجعتها إلى الله، وينفي عدم الرجعة نفياً قاطعاً في صورة التحريم لوقوعه. وهو تعبير فيه شيء من الغرابة، مما جعل المفسرين يؤولونه فيقدرون أن {لا} زائدة. وأن المعنى هي نفي رجعة القرى إلى الحياة بعد إهلاكها. أو نفي رجوعهم عن غيهم إلى قيام الساعة. وكلاهما تأويل لا داعي له. وتفسير النص على ظاهره أولى، لأن له وجهه في السياق على النحو الذي ذكرنا.
ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة يبدؤه بالعلامة التي تدل على قرب الموعد. وهو فتح يأجوج ومأجوج:
{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا. يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين. إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون. إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا إنا كنا فاعلين}..
وقد قلنا من قبل عند الكلام على يأجوج ومأجوج في قصة ذي القرنين في سورة الكهف: اقتراب الوعد الحق الذي يقرنه السياق بفتح يأجوج مأجوج، ربما يكون قد وقع بانسياح التتار وتدفقهم شرقاً وغرباً، وتحطيم المماليك والعروش.. لأن القرآن قد قال منذ أيام الرسول صلى الله عليه السلام- {اقتربت الساعة} غير أن اقتراب الوعد الحق لا يحدد زماناً معيناً للساعة. فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} إنما المقصود هنا هو وصف ذلك اليوم حين يجيء، والتقديم له بصورة مصغرة من مشاهد الأرض، هي تدفق يأجوج ومأجوج من كل حدب في سرعة واضطراب. على طريقة القرآن الكريم في الاستعانة بمشاهدات البشر والترقي بهم من تصوراتهم الأرضية إلى المشاهد الأخروية.
وفي المشهد المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوئين!
{فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}..
لا تطرف من الهول الذين فوجئوا به. ويقدم في التعبير كلمة {شاخصة} لترسم المشهد وتبرزه!
ثم يميل السياق عن حكاية حالهم إلى إبرازهم يتكلمون، وبذلك يحيي المشهد ويستحضره:
{يا ويلنا! قد كنا في غفلة من هذا. بل كنا ظالمين}..
وهو تفجع المفجوء الذي تتكشف له الحقيقة المروعة بغتة؛ فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف، ويدعو بالويل والهلاك، ويعترف ويندم، ولكن بعد فوات الأوان!
وحين يصدر هذا الاعتراف في ذهول المفاجأة يصدر الحكم القاطع الذي لا مرد له:
{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}..
وكأنما هم اللحظة في ساحة العرض، يردون جهنم هم وآلهتهم المدعاة؛ وكأنما هم يقذفون فيها قذفاً بلا رفق ولا أناة؛ وكأنما تحصب بهم حصباً كما تحصب بالنواة! وعندئذ يوجه إليهم البرهان على كذب ما يدعون لها من كونها آلهة. يوجه إليهم من هذا الواقع المشهود:
{لو كان هؤلاء ما وردوها}..
وهو برهان وجداني ينتزع من هذا المشهد المعروض عليهم في الدنيا، وكأنما هو واقع في الآخرة.. ثم يستمر السياق على أنهم قد وردوا جهنم فعلاً، فيصف مقامهم فيها، ويصور حالهم هناك؛ وهي حال المكروب المذهوب بإدراكه من هول ما هو فيه:
{وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير، وهم فيها لا يسمعون}.
وندع هؤلاء لنجد المؤمنين في نجوة من هذا كله، قد سبقت لهم الحسنى من الله، وقدر لهم الفوز والنجاة:
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون}..
ولفظة {حسيسها} من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها.
فهو تنقل صوت النار وهي تسري وتحرق، وتحدث ذلك الصوت المفزع. وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر. ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه فضلاً على معاناته نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين. وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم. وتتولى الملائكة استقبالهم بالترحيب، ومصاحبتهم لتطمئن قلوبهم في جو الفزع المرهوب:
{لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة. هذا يومكم الذي كنتم توعدون}..
ويختم المشهد بمنظر الكون الذي آل إليه. وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب، وبزمام الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب:
{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}..
فإذا السماء مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه؛ وقد قضي الأمر، وانتهى العرض، وطوي الكون الذي كان يألفه الإنسان.. وإذا عالم جديد وكون جديد:
{كما بدأنا أول خلق نعيده}.. {وعداً علينا إنا كنا فاعلين}..
ومن هذا المشهد المصور لنهاية الكون والأحياء في الآخرة يعود السياق لبيان سنة الله في وراثة الأرض، وصيرورتها للصالحين من عبادة في الحياة. وبين المشهدين مناسبة وارتباط:
{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}..
والزبور إما أن يكون كتاباً بعينه هو الذي أوتيه داود عليه السلام. ويكون الذكر إذن هو التوراة التي سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفاً لكل كتاب بمعنى قطعة من الكتاب الأصيل الذي هو الذكر وهو اللوح المحفوظ، الذي يمثل المنهج الكلي، والمرجع الكامل، لكل نواميس الله في الوجود.
وعلى أية حال فالمقصود بقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر...} هو بيان سنة الله المقررة في وراثة الأرض: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}..
فما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
ولقد وضع الله للبشر منهجاً كاملاً متكاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض. منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه؛ وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته.
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود. ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية الزاهرة؛ ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة.
وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً.. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق. والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح. فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم.
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ. ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله، وتجري سنته: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.. فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون..
وفي النهاية يجيء إيقاع الختام في السورة مشابهاً لإيقاع الافتتاح!
{إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. قل: إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون؟ فإن تولوا فقل: آذنتكم على سوآء، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون. إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.. قال: رب احكم بالحق، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}..
{إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين}.. إن في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون والحياة. ومن مصائر الناس في الدنيا والآخرة. ومن قواعد العمل والجزاء.. إن في هذا لبلاغاً وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله. ويسميهم {عابدين} لأن العابد خاشع القلب طائع متهيئ للتلقي والتدبر والانتفاع.
ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون. وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين..
إن المنهج الذي جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة.
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي: جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة. وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم.
وكفل للعقل البشري حرية العمل، بكفالة حقه في التفكير، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير. ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض.
ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقاً لخطوات البشرية في عمومه. قابلاً لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نمواً مطرداً. وهو يقودها دائماً، ولا يتخلف عنها، ولا يقعد بها، ولا يشدها إلى الخلف، لأنه سابق دائماً على خطواتها متسع دائماً لكامل خطواتها.
وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها.
وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق. لا يعذب الجسد ليسمو بالروح، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد. ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة. ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد.
وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته، ولمصلحته؛ وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف، وتجعلها محببة لديه مهما لقي من أجلها الآلام أحياناً لأنها تلبي رغيبة من رغائبه، أو تصرف طاقة من طاقاته.
ولقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة. ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ. فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى.
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية الجغرافية. لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد.. وكان هذا غريباً على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد.. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرناً تحاول أن تقفو خطى الإسلام، فتتعثر في الطريق، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج ولو في الدعاوى والأقوال وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات، وتجعل لكل طبقة قانوناً. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع.. فكان غريباً على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء.
ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين. من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء. فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة، لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام.
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب..
وبعد إبراز معنى الرحمة وتقريره يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يواجه المكذبين المستهزئين، بخلاصة رسالته التي تنبع منها الرحمة للعالمين:
{قل إنما يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد. فهل أنتم مسلمون؟}.
فهذا هو عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة. عنصر التوحيد المطلق الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية، ومن أثقال الوثنية، ومن ضغط الوهم والخرافة. والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة، فيربطها بالوجود كله، وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة، لا وفق أهواء ونزوات وشهوات. والذي يكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار.
هذا هو طريق الرحمة.. {فهل أنتم مسلمون؟}.
وهذا هو السؤال الواحد الذي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على المكذبين المستهزئين.
{فإن تولوا فقل: آذنتكم على سواء}..
أي كشفت لكم ما عندي فأنا وأنتم على علم سواء. والإيذان يكون في الحرب لإنهاء فترة السلم، وإعلام الفريق الآخر أنها حرب لا سلام.. أما هنا والسورة مكية ولم يكن القتال قد فرض بعد فالمقصود هو أن يعلنهم بأنه قد نفض يده منهم، وتركهم عالمين بمصيرهم، وأنذرهم عاقبة أمرهم. فلم يعد لهم بعد ذلك عذر، فليذوقوا وبال أمرهم وهم عالمون..
{وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}..
آذنتكم على سواء. ولست أدري متى يحل بكم ما توعدون. فهو غيب من غيب الله. لا يعلمه إلا الله. وهو وحده يعلم متى يأخذكم بعذابه في الدنيا أو في الآخرة سواء. وهو يعلم سركم وجهركم، فما يخفى عليه منكم خافية:
{إنه يعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون}..
فأمركم كله مكشوف له، وحين يعذبكم يعذبكم بما يعلم من أمركم ظاهره وخافيه. وإذا أخر عنكم العذاب فحكمة تأخيره عند الله:
{وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال