سورة النور / الآية رقم 31 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

النورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنور




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


إن الإسلام كما أسلفنا لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية. ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة..
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة. مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة..
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون.. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات.
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء. فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء.. وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء.
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام.
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيهآ أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. وإن قيل لكم: ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم، والله بما تعملون عليم. ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم. والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}..
لقد جعل الله البيوت سكناً، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم. وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان، يجعل أعينهم تقع على عورات؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات؛ وتهيِّئ الفرصة للغواية، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً، فيدخل الزائر البيت. ثم يقول: لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد. وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل. وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة، حين تقع العين على ما يثير.
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي. أدب الاستئذان على البيوت، والسلام على أهلها لإيناسهم، وإزالة الوحشة من نفوسهم، قبل الدخول:
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}..
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به، واستعداداً لاستقباله. وهي لفتة دقيقة لطيفة، لرعاية أحوال النفوس، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار.
وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون. فإن لم يكن أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان، لأنه لا دخول بغير إذن:
{فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم}..
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول؛ فإنما هو طلب للإذن. فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار:
{وإن قيل لكم: ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}..
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين.
{والله بما تعملون عليم}.. فهو المطلع على خفايا القلوب؛ وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات.
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان، دفعاً للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية:
{ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم}..
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.. فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم. وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب، وامتثالها لذلك الأدب العالي، الذي يأخذها الله به في كتابه، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه.
إن القرآن منهاج حياة. فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية، ويمنحها هذه العناية، لأنه يعالج الحياة كلياً وجزئياً، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج. فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكناً. ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة، والضيق بالمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات.. وهي عورات كثيرة، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة.. إنها ليست عورات البدن وحدها. إنما تضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد.
وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!.
وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات، يدبرها الشيطان، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية، والقلوب الناصحة، هنا أو هناك!
ولقد رعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي بإسناده عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. ثم قال رسول الله صلى الله عليع وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فقال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة».. الخ الحديث.
وأخرج أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ وكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم. السلام عليكم.» ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.
وروى أبو داود كذلك بإسناده عن هذيل قال: جاء رجل قال عثمان: سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن. فقام على الباب قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم-: «هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر».
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاه ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
وروى أبو داود بإسناده عن ربعي قال: أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم. أأدخل؟» فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
وقال هشيم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء؛ فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ قالت: ادخل بسلام. فأعاد. فأعادت. وهو يراوح بين قدميه. قال: قولي: ادخل. قالت: ادخل. فدخل!
وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم. فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن. قال: فراجعته أيضاً. فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فاستأذن.
وجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً.. وفي رواية: ليلا يتخونهم.
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً، فأناخ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عشاء يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة».
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء، المشرق بنور الله.
ونحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق تبلدت وغلظت. وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد يكون في البيت هاتف تليفون يملك أن يستأذن عن طريقه، قبل أن يجيء، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان، وعلى غير موعد. ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار!
ونحن اليوم مسلمون، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام. فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! ونطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!
ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نحن عبيد لعرف خاطئ، ما أنزل الله به من سلطان!
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدباً لنا في النفس، وتقليداً من تقاليدنا في السلوك.
فيعجبنا ما نراهم عليه أحياناً؛ ونتندر به أحياناً؛ ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل، فنفيء إليه مطمئنين.
وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر وإتقاء أسباب الفتنة العابرة يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها، بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة، وبدافع الحركة المعبرة، الداعية إلى الغواية:
{قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها؛ وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}..
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين. فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزنية المتبرجة، والجسم العاري.. كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون.. الخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! وبخاصة نظرية فرويد ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية الأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه.. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود. وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة. فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة. وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة تثير. والدعابة تثير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير. والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية.. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام. مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد!
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
{قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم. ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون}..
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر. أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى. ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة؛ بوصفهما سبباً ونتيجة؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. كلتاهما قريب من قريب.
{ذلك أزكى لهم}.. فهو أطهر لمشاعرهم؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها، وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: {إن الله خبير بما يصنعون}..
{وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}..
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}..
والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها. فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة. والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال.
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه. ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه. لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه».
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن}..
والجيب فتحة الصدر في الثوب. والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر. ليداري مفاتنهن، فلا يعرضها للعيون الجائعة؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها، ولكنها قد تترك كميناً في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي. وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكأن في الطاعة، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء. وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها. فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها».. وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة. قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن.
فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً. وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته. فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه. فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذب.. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال. فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات. على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة.. ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة. فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء، والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات.. كما يستثني النساء المؤمنات: {أو نسائهن} فأما غير المسلمات فلا. لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها. وفي الصحيحين: لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها. أما المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن امرأة مسلمة وزينتها.. ويستثني كذلك {ما ملكت أيمانهن} قيل من الإناث فقط، وقيل: ومن الذكور كذلك. لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته. والأول أولى، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان، مهما يكن له من وضع خاص؛ في فترة من الزمان.. ويستثني {التابعين غير أولي الإربة من الرجال}.. وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون. وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة. لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء... ويستثني {الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}.. وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس. فإذا ميزوا، وثار فيهم هذا الشعور ولو كانوا دون البلوغ فهم غير داخلين في هذا الاستثناء.
وهؤلاء كلهم عدا الأزواج ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة.
لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء. فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء.
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهيج الشهوات الكامنة، وتوقظ المشاعر النائمة. ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة:
{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}..
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها. فإن الخيال ليكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها، أو حليها، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته. كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها رداً. والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله. لأن منزله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق. وهو اللطيف الخبير.
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
بذلك يثير الحساسية برقابة الله، وعطفه ورعايته، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله، وبتقواه..
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجاً نفسياً وقائياً. ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة، لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية.. هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج، والمعاونة عليه؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائياً: {وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. والله واسع عليم. وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله. والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم؛ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.. إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامداً غير مضطر.
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين.. والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: {والصالحين من عبادكم وإمائكم}.
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم. ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب. ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا مع هذا أن الإسلام بوصفه نظاماً متكاملاً يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجاً أساسياً؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات.. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقاً على الدولة واجباً للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي بعد ذلك أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقاً عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالاً ونساء فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف».
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله}.. {والله واسع عليم}.. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزاً من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالباً في طريق الإحصان.
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية.
وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
{والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم. إن علمتم فيهم خيراً}..
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}. ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيراً. والخير هو الإسلام أولاً. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كَلاً على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقاً إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:
{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. إن أردن تحصناً. لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة. وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال