سورة النور / الآية رقم 55 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ المَصِيرُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

النورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنورالنور




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور، في مشاهد الكون الكبير.. يعود سياق السورة إلى موضوعها الأصيل. موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة، لتتطهر قلوبها وتشرق، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض.
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم، وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض.
فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون. فهم يظهرون الإسلام، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرضى بحكمه، والطمأنينة إليه. ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم. أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والأمن في المقام، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله. وطاعتهم لله ورسوله.. وذلك على الرغم من عداء الكافرين. وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير..
{لقد أنزلنا آيات مبينات. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}..
فآيات الله مبينة كاشفة؛ تجلو نور الله، وتكشف عن ينابيع هداه. وتحدد الخير والشر، والطيب والخبيث. وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملاً دقيقاً لا لبس فيه ولا غموض؛ وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام. فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة، لا يخشى منها صاحب حق على حقه؛ ولا يلتبس فيها حق بباطل، ولا حلال بحرام.
{والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.. والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد. غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقاً، من وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره، فاتصل به، وسار على الدرب، حتى يصل بمشيئة الله ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال. حسب مشيئة الله في الهدى والضلال.
ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس. فريق المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:
{ويقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا. ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك. وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ بل أولئك هم الظالمون}..
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك. والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية. فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج؛ ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية؛ وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون. مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل.
وهؤلاء كانوا يقولون: {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا}.. يقولونها بأفواههم، ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم. فيتولون ناكصين يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: {وما أولئك بالمؤمنين} فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم. والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها؛ ثم يدعها ويمضي، إنما هو تكيف في النفس، وانطباع في القلب، وعمل في الواقع، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير..
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها:
{وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}..
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف مع الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن. وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل. ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبون أن يجيئوا إليه. فأما إذا كانوا أصحاب حق قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله، راضين خاضعين، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم، وفق شريعة الله، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق.
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان. المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام. ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله، ولا أن يحكم فيهم قانونه، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير {وما أولئك بالمؤمنين} فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله. إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه!
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق. وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب. وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله. وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيِّئ الأدب معتم، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم، وتتعجب من ريبتهم، وتستنكر تصرفهم الغريب:
{أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟}..
والسؤال الأول للإثبات. فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر.
وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة. إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها، فلا تتذوق حقيقة الإيمان، ولا تسير على نهجه القويم.
والسؤال الثاني للتعجب. فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل؟ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين!
والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب. فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان. فالله خالق الجميع ورب الجميع. فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه؟
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف. لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً. وكل خلقه أمامه سواء. فلا يظلم أحداً منهم لمصلحة أحد. وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف. فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم. أفراداً كانوا أم طبقة أم دولة.
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه. وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة، وحين تشرع دولة لدولة. أو كتلة من الدول لكتلة.. فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة. إنما هي العدالة المطلقة، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله، ولا يحققها حكم غير حكمه.
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر؛ ولا يحبون للحق أن يسود. فهم لا يخشون في حكم الله حيفا، ولا يرتابون في عدالته أصلاً {بل أولئك هم الظالمون}..
فأما المؤمنون حقاً فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله. ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ هو القول الذي يليق بالمؤمنين؛ وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور:
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا. وأولئك هم المفلحون}..
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف. السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى؛ النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء؛ ومن الإطمئان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم. فالله الذي خلق أعلم بمن خلق..
{وأولئك هم المفلحون}.. المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بعلمه وعدله؛ فلا بد أن يكونوا خيراً ممن يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بشر مثلهم، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً.. والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد، لا عوج فيه ولا التواء، مطمئنون إلى هذا المنهج، ماضون فيه لا يتخبطون، فلا تتوزع طاقاتهم، ولا يمزقهم الهوى كل ممزق، ولا تقودهم الشهوات والأهواء.
والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم.
{ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}..
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام. فالأن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه. والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة؛ والتحرج من إتيان ما يكره توقيراً لذاته سبحانه، وإجلالاً له، وحياء منه، إلى جانب الخوف والخشية.
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون، الناجون في دنياهم وأخراهم. وعد الله ولن يخلف الله وعده. وهم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم. فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة. وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون.
وأدب الطاعة لله ورسوله، مع خشية الله وتقواه، أدب رفيع، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته. كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه. فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله، ولا تستمد منها، هي ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن، ويستعلي عليها ضميره. فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار.
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان، وما هم بمؤمنين. بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن. قل: لا تقسموا. طاعة معروفة. إن الله خبير بما تعملون. قل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول. فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. وإن تطيعوه تهتدوا. وما على الرسول إلا البلاغ المبين}..
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن. والله يعلم إنهم لكاذبون. فهو يرد عليهم متهكماً، ساخراً من أيمانهم: {قل: لا تقسموا. طاعة معروفة}.. لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها، مفروغ منها، لا تحتاج إلى حلف أو توكيد! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به: لا تحلف لي على صدقك. فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل.
ويعقب على التهكم الساخر بقوله: {إن الله خبير بما تعملون}.. فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد، وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون!
لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة. الطاعة الحقيقية. لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة!
{قل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}.
{فإن تولوا} وتعرضوا، أو تنافقوا ولا تنفذوا {فإنما عليه ما حمل} من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه {وعليكم ما حملتم} وهو أن تطيعوا وتخلصوا. وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: {وإن تطيعوه تهتدوا} إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح. {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} فليس مسؤولاً عن إيمانكم، وليس مقصراً إذا أنتم توليتم. إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول.
وبعد استعراض أمر المنافقين، والانتهاء منه على هذا النحو.. يدعهم السياق وشأنهم، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين، يبين جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم؛ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم؛ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً. يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}..
ذلك وعد الله للذين أمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً.. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده.. فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً.. يتوجه بهذا كله إلى الله.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن: {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.
ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض.. أمانة الاستخلاف..
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم.. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله.. فاما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان.. فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله.
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}.. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض.. ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.
{وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً}.. ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبداً حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة» وأَنزل الله هذه الآية، فأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال