سورة الشعراء / الآية رقم 57 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ

الشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراءالشعراء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}.
التفسير:
لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..!
وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها.
إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..!
فلقد سلّط اللّه على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
(130- 133: الأعراف).
وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل.
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} [134: الأعراف].
ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} [135: الأعراف].
فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول اللّه تعالى على لسانهم إلى موسى: {قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [129: الأعراف].
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}.
وأن هذا الأمر من اللّه سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر اللّه موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ}.
لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ}.
يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!
وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا: {يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ} [22: المائدة] وقالوا {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} [24: المائدة].
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟
ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟
وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين.
أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ} فهو- واللّه أعلم- ما كان من نقم اللّه التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شيء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه.
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي متجهين جهة الشرق {فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}.
أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
{قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، {ثمّ} أي هناك و{الآخرين} فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.
{وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}.
وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها.
هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم اللّه إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون.
ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ}.
ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} (الآيتان: 137- 138).. وفي سورة الدخان.. يقول اللّه تعالى عن فرعون وملائه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ}.
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} الآيات: (25- 31).
فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط اللّه عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات اللّه، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى {الَّتِي بارَكْنا فِيها} إذ قد يقع في بعض الأفهام أن البركة تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} [96: آل عمران]. ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام.
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين.
فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟
وإذا لم يصح الحديث بأن: «مصر كنانة اللّه في أرضه، من أرادها بسوء قصمه اللّه».
فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب، كشف عنها قلب مؤمن، ونطق بها لسان صدّيق!! وقد آن لنا بعد هذا، أن نقف وقفة، عند التكرار في القصص القرآنى، وما يقال فيه، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا.
التكرار في القصص القرآنى:
التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث.
وقد وجد أصحاب الأهواء، ومرضى القلوب، من الملحدين وأعداء الإسلام في هذا التكرار مدخلا ملتويا، يدخلون منه على هذا الدين، للطعن في القرآن الكريم، والنيل من بلاغته، وإسقاط القول بإعجازه، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا.. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز وبأنه منزل من السماء، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال، فيقولون: إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا، فتخرج به عن وعيه، وتجىء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال، مردّدة مقطعة، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها، ثم يذكرها فيعود إليها، ثم ينصرف عنها.. وهكذا.
وإن الذين يقولون هذا القول، أو يحكونه عنهم، هم أعاجم أو أشباه أعاجم، لم يذوقوا البلاغة العربية، ولم يتصلوا بأسرارها.. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء، لأن يقولوا هذا القول، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب قريش نفسها، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه، ورمته به.
ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به، في وجه هذا الحق المشرق المبين.
فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم: {وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.
وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول، فقال تعالى: {فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً}.
وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول، في وجه عداوتها وحربها للنبيّ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد.
وندع الردّ على هذه المفتريات، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره، التي هي وجه من وجوه إعجازه، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين.
ما داعية هذا التكرار:
كانت هذه الظاهرة- ظاهرة تكرار القصص القرآنى- على تلك الصورة الواضحة، مما استرعى أنظار العلماء إليها، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها.
فهذا أبو بكر الباقلّانيّ، يقول في كتابه إعجاز القرآن:
إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدّى معنى واحدا- من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة.
وهو يريد بهذا القول أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول، دون أن تتغيّر معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب، وبهتت المعاني، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم.
رب العالمين.
ثم يقول الباقلاني:
وأعيد كثير من القصص (القرآنى) في مواضع مختلفة، ونبّهوا- أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ، ومكررا.
ويريد الباقلاني بهذا، أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه، إزاء القرآن، هو عرض القصص القرآنى، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر، والبسط والقبض، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة.
فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء! وهذا القول من الباقلانيّ لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار الذي جاء عليه القصص القرآنى، والذي سنعرض له، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى، التي عرضها أصحابها في هذا المقام.
ويقول الزركشي في كتابه: البرهان في علوم القرآن:
ومنه-أي من التكرار- تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى، وغيره من الأنبياء.. قال بعض العلماء: ذكر اللّه موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا!! ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول:
وإنما كرّرها- أي القصة- لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر، وهي أمور:
أحدها: أنه- أي القرآن- إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا.. ألا ترى أنه ذكر الحيّة في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟
ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين.. نتجاوزهما إلى ما بعدهما.
الرابعة: إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة- لا يخفى ما فيه من الفصاحة! الخامسة: أن اللّه سبحانه أنزل هذا القرآن، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه، لصحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وآله، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأى نظم جاءوا، وبأى عبارة عبّروا.
والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: إنه- أي القرآن- إذا كرر القصة زاد فيها- هذه الإشارة هى في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى، وأوضح وجه يطلّ علينا منه.
ولم يذكر الزركشيّ ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة، وفى إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها، واكتفى بالقول: بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول، أو الثاني أو الثالث.
وهكذا.
دعوى وبرهانها:
والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى، وفي كل تكرار في القرآن الكريم- هى أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة، كاملة، مجسّمة، أو شبه مجسّمة للحدث، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات، في الواقعة، الواحدة، أو الحدث الواحد، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به.
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية، يؤدّى وظيفة حيوية، في إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لا بدّ أن تعاد العبارة، مرّة ومرّة، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله.
ولنا أن نشبه ذلك- على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به- بالتصوير الفتوغرافى والتصوير السينمائى أو التليفزيونى.
ففى التصوير الفتوغرافى: اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله، تصويرا كاملا.. صامتا.
والصورة هنا، وإن أعطت جميع ملامح المشهد، فإنها تحتاج في قراءتها إلى مهارة وحذق للكشف عن مضمونها، أو بعض مضمونها.. إذ كانت إنما تكشف المقطع السّطحى للحدث، أو الجسم الذي تصوّره.. منقطعا عن الحركة، والتجسيد.
أما الصورة السينمائية، فإنها تتشكل من مئات وآلاف من اللقطات حتى تتجسم الأحداث والشخوص، وتتكشف كل خافية كانت مختفية وراء الصورة الفتوغرافية، فإذا هي تجمع بين الحركة والتجسيد.
إن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآنى، هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلّى فيه روعة الكلمة وجلالها، بحيث لا يرى لها وجه في أية لغة، وفي أية صورة من صور البيان، يقارب هذا الوجه، في جلاله، وروعته، وسطوته.
وهل شهدت الحياة الكلمة تؤدّى ما يؤديه العمل السينمائى اليوم في نقل المشاهد والشّخوص بأبعادها الثلاثة: (طولها، وعرضها، وعمقها)، وبحركاتها، وسكناتها، ونطقها، وصمتها؟ وكم تتكلف السينما لهذا العمل من لقطات؟ مئات وألوفا!! أما النظم القرآنى، فإنه يعرض المشاهد بأبعادها، وأعماقها، وحركاتها، وسكناتها، وبنطقها وصمتها، وبوسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، ثم لا يكون ذلك كله إلا بعدد محدود من اللقطات، لا يكاد يتجاوز أصابع اليد عدّا.
ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجمع هذه اللقطات في معرض واحد، حتى لا تتراكب وتتراكم، بل جعلها موزعة في مواضع متباعدة أو متقاربة في القرآن الكريم، بحيث يمكن أن تستقل كل لقطة منها بذاتها مستغنية عن كل تفصيل، ثم بحيث لو نظر ناظر إليها من خلال اللقطات.
الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا.
حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير في مجراها اللحن.
اعتراضات وتمويهات:
وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشىء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا.
وتتلخص هذه الاعتراضات، في القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له.
ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!.
تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن سيارة صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، في أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة.
وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟.
السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها.
ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها في هذا المكان.
ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار في محيطها.
وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد.
فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وما ذا يلبس كل واحد؟
وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟
إلى أين كانت وجهته؟ وما ذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟.. وهكذا.. وهكذا.
إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى.
وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة.
وهذا يكشف لنا عن أمرين:
أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه.
وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه.
وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، في الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه.
وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذ




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال