سورة القصص / الآية رقم 24 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَانَقُولُ وَكِيلٌ

القصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصصالقصص




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}.
هنا تنتقل الأحداث نقلة بعيدة، حيث نرى موسى في {مدين} وهي على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام، وتقع على خليج العقبة في مقابل تبوك.. ذلك، بينما كنا معه منذ لحظة في مصر، وفي أحشاء عاصفة هو جاء، لم يكن أحد يقدّر له الخلاص منها.
وتلقاء مدين، هو اتجاهها، حيث كان وجهه مقبلا إليها.
وفي قوله: {قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}.
ما يشير إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى مدين.. وهذا يعنى أن موسى لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة.. وكيف يكون هذا، وموسى- وإن لم يكن نبيا بعد، فإنه كان على دين آبائه، إبراهيم، وإسحق، ويعقوب؟
والجواب، أن موسى كان على ذكر دائم لربه.. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة.. فتارة يسبح ربه، وتارة يحمده، وتارة يستجير به، أو يستهديه.. أو يستغفره.. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه.
فموسى حين قتل المصري: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي}.
وسليمان حين رأى عظمة ملكه، وعرض له ملك النملة، قال:
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ}.
وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة، موحشة، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث. إنه في حيرة من أمره، بعد أن خرج من مصر، كما يخرج راكب سفينة غرقت، فألقت براكبيها في الماء، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش. إن موسى لم يكن يعرف أن وجهته مدين، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها.. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل، ويقيم خطوه على طريق الأمن، ويدفع به إلى شاطئ السلامة.
قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ.. قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ}.
ماء مدين: هو العين التي يستقى منها أهل مدين.
الأمة: الجماعة من كل حيّ.. من الإنسان أو الحيوان.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} [38: الأنعام] وقد غلب استعمال هذا اللفظ على بنى الإنسان.
تذودان: أي تسوقان ماشيتهما، بعيدا عن الماء، حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وأصله من الذود، وهو الدفع، والذود ما يذاد من الحيوان أي يدفع.
والخطب: الشأن، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه.
يصدر الرعاء: أي يرجعون من وردهم.. والورد. ورود الماء، والصدر.
الرجوع بعد الورد.. والرعاء: جمع الراعي.
وهنا نجد موسى قد بلغ في مسيرته {مدين} التي كان وجهه إليها- بقصد أو بغير قصد- بعد أن خرج من مصر! وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها.. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء، وتستقى منه، وتسقى ماشيتها.. وهذا هو السر في حذف مفعول الفعل {يسقون} ليكون شاملا لكل ما يحتاج إلى سقى من إنسان أو حيوان.
وعلى الماء، لفت نظر موسى، منظر فتاتين، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء.. وقد عجب لهذا، وبدا له أن يسأل الفتاتين: {ما خَطْبُكُما}؟
ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟.
وليس الأمر على ما قدّر موسى، وإن الخطب لأهون من هذا، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه.. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيش فيها شعيب.. لقد وقفوا من هذا الرجل الصالح، الذي يحمل إليهم دعوة السماء، بتوحيد اللّه، وبالعدل في الكيل والميزان- وقفوا منه موقف الخصومة، والقطيعة.. فلم يكن لفتاتيه من يمدّ إليهما يدا.. وأبوهما شيخ كبير.. {قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ألم تقف قريش من النبي ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب موقفا كهذا؟ لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب، كما هو معروف في السيرة النبوية.
قوله تعالى: {فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
وكرجل ذى مروءة، لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين، وقد شهدتا منه قوة، وعفة.. فلم يعلق نظره بهما، ولم يتبعهما نفسه، بلى سقى لهما.
ثم تولى إلى الظل، حيث كان يجلس من قبل.. وهناك رفع وجهه إلى السماء، يحمد اللّه أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون، وإحسان.. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري!! قوله تعالى: {فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ.. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
هنا أمور جزئية، لم يذكرها القرآن، لدلالة الحال عليها، وأنها، لا بد أن تحدث على صورة ما حسب تصور الذي يتلو آيات اللّه، أو يستمع إليها.. وهذا من شأنه أن يوقظ شعور المتتبع لأحداث القصة، حتى يملأ هذا الفراغ كما يتصوره.
فمثلا ما كان من حديث ابنتي شعيب إلى أبيهما عن هذا الغريب الذي سقى لهما، وعن حاله التي هو عليها، وعن القوة التي شهدتاها منه، وعن المكان الذي أوى إليه.. ثم ما كان من مداورة الرأى حول الصنيع الذي يصنعونه مع هذا الغريب.. وهل يبعثون إليه بطعام أو يدعونه إلى البيت، ليرى الأب حقيقة ما سمع؟
وعلى أيّ، فقد انتهى الرأى إلى استدعاء موسى، وأن يندب لهذا الأمر إحدى الفتاتين، لا كلتاهما.
{فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ} أي في خفر، وحياء، شأن الحصان العفيفة.. وحسبها أنها ربيبة بيت النبوة.
وانظر في قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ}.
يا للّه، ويا لروعة كلامه المعجز المبين.. لقد تجسد الحياء، فكان بساطا ممدودا على طريقها إلى موسى.. إنها لا تمشى على الأرض، ولكنها تمشى على حياء، تتعثر فيه قدماها، وتقصر به خطاها، ويضطرب له كيانها.
{قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا} إنها رسول أبيها، الذي عرف موسى من أمره أنه {شيخ كبير} ولو كان في استطاعته أن يسعى إلى موسى لما بعث بابنته إليه، ولجاء إليه بنفسه، يدعوه إلى النزول عنده.. وهو الغريب، الذي لا مأوى له في هذا البلد.
والمراد بالأجر هنا، ليس مجرد الأجر المادي، وإنما هو جزاء إحسان بإحسان، ولقاء معروف بمعروف.
{فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
لقد التقى الرجلان.. موسى وشعيب.. وكان بينهما حديث، أفضى به موسى إلى مضيفه، وعرف المضيف بهذا الحديث من يكون ضيفه، ومن اى بلاد جاء، وما سبب مجيئه.. فلما عرف شعيب ما وقع لموسى من أحداث، آواه إليه، وأمّنه، قائلا: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
فإنك هنا بحيث لا تنالك بد فرعون.
وهنا تظهر الأنثى التي تطلب الرجل الذي تطمع في أن يكون رجلها الذي تحلم به، وتنتظر الأيام تجئ به، ليطرق بابها! {قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
إنه- واللّه أعلم- ليغلب على الظن، أنها تلك التي بعث بها أبوها لتدعو هذا الغريب إليه.. وها هو ذا قد جاء.. وربما يرحل غدا أو بعد غد.. فلا تدع الفرصة تفلت من يدها، وقد رأت بعين الأنثى في موسى، الرجل الذي هو أهل لها.
{يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي أمسك به عندنا، ولا تدعه يفلت من يديك، وذلك بأن تصله بك بعمل.. فهو خير من يعمل لك، حيث عجزت عن العمل.. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
هكذا تكشف لأبيها عن معدن الرجل الذي يستأجره، وأنه في الرجال يتزين بأجمل صفتين: القوة، والأمانة.. وقد رأت قوته فيما كان منه من السقي لهما، كما رأت أمانته في غض بصره عنها، وقد جاءته وحدها تدعوه إلى أبيها.
ويستجيب شعيب لهذا الطلب في غير تردد، ويستشعر بمشاعر الأب ما بنفس ابنته نحو هذا الغريب.
{قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وهكذا يجئ شعيب إلى موسى صريحا واضحا، كما يجئ إلى ابنته أبا حانيا عاطفا، لا يري حرجا في أن يتخير لابنته الرجل الذي تتتمناه زوجا لها، ويردها حياؤها عن أن تعرض نفسها عليه.
وما كان أبرع شعيبا وأحكمه، وأعدله، فيما بينه وبين موسى من جهة، ثم فيما بينه وبين ابنته من جهة أخرى.
إنه لم يشأ أن يفرض على موسى واحدة بعينها من ابنتيه هاتين.. فلموسى أن يختار من يشاء منهما.. فلقد رآهما من قبل، كما رآهما في بيت أبيهما، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تفرض عليه واحدة بعينها، حتى ولو كان لموسى رغبة فيها، وكان لها رغبة فيه.. إن هذا الفرض من شأنه أن يزعج موسى، وأن يصدم إرادته، ويصادر رأيه.. ثم إن موسى سيعيش في بيت شعيب، فإذا لم يكن قد اختار هو بنفسه من تزوجها، كان في ذلك تنغيص له، واضطراب لحياته الزوجية، ومعادلة وموازنة دائما بين الأختين في كل وقت.
الأمر الذي يجعل هواه دائما مع من لم يكن له خيار فيها.. هكذا الإنسان! ثم إنه بهذا التدبير الحكيم، قد سوّى الأب في القسمة بين ابنتيه، في هذا الذي ساقه اللّه إليهما، في صورة رجل، هو نادرة في الرجال.. فالأب لا يؤثر بهذا الخير إحدى ابنتيه على الأخرى، ولو كانت الكبرى.. إنه لو فعل هذا لكان في نفس الأخرى أسى ومرارة.. وليس الشأن كذلك إذا كان الخيار لموسى، أو كان بالتراضي بين الأختين، حيث تبدو كل منهما، وكأنها تؤثر أختها عليها.
ومن جهة أخرى، فإنه واضح من قول شعيب: {إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين} أنه لم يفصح عمن يكون له الخيار فيهما.
أهو شعيب أم موسى.
وهذا أمر، إن قام على هذا الوجه، في هذا الموقف وفي مواجهة البنتين، فإنه قد ترك البتّ فيه لمجلس خاصّ بين الرجلين، فإذا انكشف الأمر بعد ذلك عمن وقع عليها الاختيار- لم يكن من اليسير لدى البنتين القطع بأن هذا الاختيار، كان من موسى، أو من شعيب، أو منهما معا.. وهكذا تتوزع الصدمة- إن كان هناك صدمة- التي ربما تصيب من لا يقع عليها الاختيار، بين هذه الاحتمالات، فتخفّ وتهون.
{قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ.. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ}.
وهكذا تتم الصفقة بين النبيين الكريمين، فيظفر شعيب بالقويّ الأمين الذي يبذل في خدمته كل ما عنده من قوة وأمانة، ويظفر موسى بابنة هذا النبيّ، التي كان حسن تدبيرها، ولمعة ذكائها، وصدق فراستها، خير سفارة تجمع بين الرجلين، وتفتح قلب كل منهما لصاحبه قبل أن يلتقيا.
والاتفاق، على أن يخدم موسى شعيبا ثمانى سنين في مقابل زواج ابنته.
فإن جعل موسى الثماني عشرا فذلك فضل منه، وإلا فهى ثمان لا أكثر.
ولا شك أن هذا تدبير حكيم من شعيب- عليه السلام-، إذ لم يشأ أن يضع موسى أمام حكم لازم لا خيار له فيه، بل جعل له أمرين، يختار أيهما شاء.. وفي هذا المجال الذي تتحرك فيه إرادة الإنسان شيء غير قليل من الرضا النفسي، حيث يجد المرء لإرادته مكانا في كيان، ويستشعر لها حضورا في هذا المقام، فيقبل على هذا الأمر أو ذاك، وهو شاعر بأنه حرّ في اختياره، غير واقع تحت قوة قاهرة ملزمة.
وهذا عين ما فعله شعيب، حين أراد أن يزوّج موسى إحدى ابنتيه.
إنه لم يفرض عليه واحدة بعينها، بل جعل الأمر بينهما، حتى يفسح المجال للنظر والاختيار، له، ولموسى، ولابنتيه.. أما موسى.. عليه السلام.
فلم يكن أقلّ براعة وحكمة من شعيب.. فقد أجاب هذه الإجابة الحكيمة، التي ترضى شعيبا، ولا تقيد موسى: {ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي هذا الذي قلته أنا موافق عليه، وهو عقد بينى وبينك.. وهذا فيما يختص بإحدى الابنتين التي سيقع الاختيار عليها.. أما الأجل، فهو محتمل للأجلين معا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ}.
فهو بالخيار، بين الثماني سنوات أو العشر.
والمراد بالعدوان في قوله: {فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ} الحرج.. أي لا حرج عليّ إذا أنا أخذت بالثماني سنوات، ولم آخذ بالعشر.. ومن ثمّ فلا يكون عليّ عدوان منك.
وطبيعى أن موسى، قد أخذ بما هو أولى بالمروءة، والكمال، فعمل بالأكثر دون الأقل.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال