سورة آل عمران / الآية رقم 37 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

آل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمران




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


نوح: اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو: العلمية والعجمة الشخصية، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ إِنْ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم، فيمكن ذلك. ويسمى: آدم الثاني واسمه السكن، قاله غير واحد، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم.
عمران: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً.
محرراً: اسم مفعول من حرر، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية، والتحرير: العتق، وهو تصيير المملوك حراً.
الوضع: الحط والإلقاء، تقول: وضع يضع وضعاً وضعة، ومنه الموضع.
الأنثى والذكر: معروفان، وألف أنثى للتأنيث، وجمعت على إناث، كربى ورباب، وقياس الجمع: أناثى، كحبلى وحبالى. وجمع الذكر: ذكور وذكران.
مريم: اسم عبراني، وقيل عربي جاء شاذاً: كمدين، وقياسه: مرام كمنال، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان، قال الراجز:
قلت لزيد لم تصله مريمه ***
عاذ بكذا: اعتصم به، عوذاً وعياذاً ومعاذاً ومعاذة ومعناه: التجأ واعتصم وقيل: اشتقاقه من العوذ وهو: عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح.
رجم: رمى وقذف، ومنه {رجماً بالغيب} أي: رمياً به من غير تيقن، والحديث المرجم هو: المظنون ليس فيه يقين.
والرجيم: يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم، ويحتمل أن يكون بمعنى: مرجوم، أي يُرجم بالشهب أو يبعد ويطرد.
الكفالة: الضمان، يقال: كفل يكفل فهو كافل وكفيل، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء.
زكريا: أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة. وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم، وهو غلط منه، ويقال: ذكرى بحذف الألف، وفي آخره ياء كياء بحتى، منونة فهو منصرف، وهي لغة نجد، ووجهه فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف. انتهى كلامه. وقد حكي: ذكر على وزن: عمر، وحكاها الأخفش.
المحراب: قال أبو عبيدة: سيد المجالس وأشرفها ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، وقال الاصمعي: الغرفة وقال:
وماذا عليه إن ذكرت أوانساً *** كغزلان رمل في محاريب أقيالِ
شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج: الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء: القصر، لشرفه وعلوه وقيل: المسجد وقيل: محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه، وهو مقام الإمام من المسجد.
هنا: اسم إشارة للمكان القريب، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد. وبنو تميم تقول: هناك، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام، وقد يراد بها ظرف الزمان.
النداء: رفع الصوت، وفلان أندى صوتاً، أي أرفع، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه، ويقال: نادى مناداة ونِداء ونُداء، بكسر النون وضمها قيل: فبالكسر المصدر، وبالضم اسم، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم: كالدُعاء والرُغاء والصُراخ وقال يعقوب: يمد مع كسر النون، ويقصر مع ضمها. والندى: المطر، يقال منه ندى يندى ندى.
يحيي: اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية، وقيل: هو عربي، وهو فعل مضارع من: حيى، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وعلى القولين يجمع على: يحيون، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل، وسيبويه ونقل عن الكوفيين: إن كان عربياً فتحت الياء، وإن كان أعجمياً ضمت الياء.
سيد: فيعل من: ساد، أي: فاق في الشرف، وتقدم الكلام في نظير هذا، وجمعه على: فعلة، فقالوا: سادة، شاذ وقال الراغب: هو السايس بسواد الناس، أي: معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد، ولا يقال سيد الثوب. انتهى.
الحصور: فعول من الحصر، وهو للمبالغة من حاصر وقيل: فعول بمعنى مفعول، أي محصور، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء.
الغلام: الشاب من الناس، وهو الذي طرّ شاربه، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها
تسمية بما كان عليه قبل الكهولة، وهو من الغلمة والاغتلام، وذلك شدة طلب النكاح. ويقال: اغتلم الفحل: هاج من شدة شهوة الضراب، واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه، وجمعه على، غلمة، شاذ وقياسه في القلة: أغلمة، وجمع في الكثرة على: غلمان، وهو قياسه: الكبر، مصدر: كبر يكبر من السن قال:
صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
العاقر: من لا يولد له من رجل أو امرأة، وفعله لازم، والعاقر اسم فاعل من عقر أي: قتل، وهو متعد.
الرمز: الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز.
العشي: مفرد عشية، كركيّ. وركية والعشية: أواخر النهار، ولامها واو، فهي كمطي.
الإبكار: مصدر أبكر، يقال أبكر: خرج بكرة.
{إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. ونحن على دينهم، فنزلت. وقيل: في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه، ابن الله تعالى، واتخذوه إلهاً، نزلت رداً عليهم، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها. وأيضاً. لما قدم قبل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ووليه {قل أطيعوا الله والرسول} وختمها بأنه {لا يحب الكافرين} ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعاً بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة، أي مختارين نقاوة. والمعنى أنه نقاهم من الكدر. وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس.
واصطفاء آدم بوجوه.
منها خلقة أول هذا الجنس الشريف، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، واسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرّفه به.
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء، منها: أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم: البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب. قال ابن عباس، والحسن: آل إبراهيم من كان على دينه. وقال مقاتل: آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. وقيل: المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه. وتقدّم لناشئ من الكلام على ذلك في قوله: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}
وعمران هذا المضاف إليه: آل، قيل هو: عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام، قاله: الحسن ووهب. وقيل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل. فعلى الأول آله عيسى، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون، قاله مقاتل. وقيل: المراد بآل عمران عمران نفسه، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد {إذ قالت امرأة عمران} فذكر قصة مريم وابنها عيسى، ونص على أن الله اصطفاها بقوله {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} فقوله: {إذ قالت امرأة عمران} كالشرح لكيفية الاصطفاء، لقوله: وآل عمران، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول، نحو: أكرم زيداً رجل صالح. وإذا كان المراد بالثاني غير الأول، كان في ذلك إلباس على السامع.
وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون، وإن كانت له بنت تسمى مريم، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة. قيل: بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة.
والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم.
وذهب قاضي القضاة بالأندلس: أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله ورضي عنه، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما، وأن الآل الأتباع، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم، ولأن الكلام في قصة بعضهم. انتهى ما قال ملخصاً، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف، أي: أن الله اصطفى دين آدم.
وروي معناه عن ابن عباس، قال: المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره الفراء. وقال التبريزي: هذا ضعيف، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان: ونوح مجروراً، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته. لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى إلى قوله {واسأل القرية} وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو.
{على العالمين} متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن. قيل: والمعنى على عالمي زمانهم، واللفظ عام، والمراد به الخصوص كما قال جرير:
ويضحى العالمون له عيالاً ***
وقال الحطيئة:
أراح الله منك العالمينا ***
وكما تؤول في وأني فضلتكم على العالمين وقال القتبي: لكل دهر عالم، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء، ويكون قد اندرج في قوله: وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: إن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين. واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل، كما تقول: زيد وعمر وخال أغنياء، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى، وإذا حملنا: العالمين، على من سوى هؤلاء، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين، وقد استدل بالآية على ذلك. ولا يمكن حمل: العالمين، على عمومه لأجل التناقض، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر، وهو محال.
وقرأ عبد الله: وآل محمد على العالمين.
{ذرية بعضها من بعض} أجازوا في نصب: ذرية، وجهين:.
أحدهما: أن يكون بدلاً. قال الزمخشري {من آل إبراهيم وآل عمران} يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وقال ابن عطية: لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده. وقال الراغب: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل. كقوله: {حملنا ذريتهم} أي آباءهم، ويقال للنساء: الذراري. وقال صاحب النظم: الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء، والابناء ذرية للآباء، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق، فالأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب. وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم، يجوز أن يكون: ذرية، بدلاً من: آدم، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضاً نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر من البدل.
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً، فأغنى عن إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذِرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
{بعضها من بعض} جملة في موضع الصفة لذرية و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه، وهو من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام. وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عمران بن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: من، للتبعيض مجازاً أي: من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن، قال: من بعض في تناصر الدين، وقال أبوروت: بعضها على دين بعض. وقال قتادة: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
{والله سميع عليم} أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه. أو: سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد. أو: سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره. ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري: عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو: يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. إنتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله {والله سميع عليم} مناسب لقوله {آل إبراهيم وآل عمران} لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} بقوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات}
وحمد ربه تعالى فقال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} وقال مخبراً عن ربه: {إن ربي لسميع الدعاء} ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته، وقال حين بنى هو واسماعيل الكعبة {ربنا تقبل منا} إلى سائر ما دعا به حتى قوله: {وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك} ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم» فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته، ناسب أن يختم بقوله: {والله سميع عليم} وكذلك آل عمران، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى، فناسب أيضاً ذكر الوصفين، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله، أخبرت عن ربها بأنه {السميع العليم} أي: السميع لدعائها، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى.
{إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك} الآية، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران، ذكر ابتداء حال آل عمران، وامرأة عمران اسمها: حنة، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث، وهو اسم عبراني، وهي حنة بنت فاقود، ودير حنة بالشام معروف، وثم دير آخر يعرف بدير حنة، وقد ذكر أبو نواس دير حنة في شعره فقال:
يا دير حنة من ذات الاكيداح *** من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة، جدّة عيسى، بظاهر دمشق. وقال القرطبي: لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ: حنة أم عمر ويروي حديثها ابن جريج.
ويستفاد حنة مع: حبة، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل، و: حية، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل، وهما اسمان لناس، ومع: خبة، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي، أم محمد بن نصر، ومع: جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر، لا نعرف سواه.
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ، وخاطبت به الله تعالى، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب. الذي هو مالكها ومالك كل شيء، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر. وقيل: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة. قال الشاعر:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و: لك، اللام فيه لام السبب، وهو على حذف التقدير: لخدمة بيتك، أو للاحتباس على طاعتك. {ما في بطني} جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً.
{محرراً} معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو من لفظ الحرية. قال محمد بن جعفر بن الزبير: أو خادماً للبيعة.
قاله مجاهد، أو: مخلصاً للعبادة، قاله الشعبي. ورواه خصيف عن عكرمة، ومجاهد، وأتى بلفظ: ما، دون: من، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل، أو لأن: ما، مبهمة تقع على كل شيء، فيجوز أن تقع موقع: من. ونسب هذا إلى سيبويه.
{فتقبل مني} دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به، وأصله المقابلة بالجزاء، و: تقبل، هنا بمعنى: قبل، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد، كقولهم: تعدى الشيء وعدّاه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل.
{إنك أنت السميع العليم} ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر، وعقدته بنيتها، وتلفظت به، ودعت بقبوله. فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين.
والعامل في: إذ، مضمر تقديره: أذكر، قاله الأخفش، والمبرد، أو معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران. قاله الزجاج، وعلى هذا يجعل {وآل عمران} من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء، وزمان قول امرأة عمران، فلا يصح عمله فيه.
وقال الطبري ما معناه: إن العامل فيه: سميع، وهو ظاهر قول الزمخشري، أو: سميع عليم، لقول امرأة عمران ونيتها، و: إذ، منصوب به. انتهى. ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما ان يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: سميع، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل: سميع، في الظرف، لأنه قد وصف. اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك، ولأن اتصافه تعالى: بسميع عليم، لا يتقيد بذلك الوقت.
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة، المعنى: قالت امرأة عمران. وتقدّم له نظير هذا القول في: مواضع، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو.
وانتصب محرراً، على الحال. قيل: من ما، فالعامل: نذرات وقيل من الضمير الذي في: استقر، العامل في الجار والمجرور، فالعامل في هذا: استقر، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره: غلاماً محرراً. وقال ابن عطية: وفي هذا نظر، يعني أن: نذر، قد أخذ مفعوله، وهو: ما في بطني، فلا يتعدّى إلى آخره، ويحتمل أن ينتصب: محرراً، على أن يكون مصدراً في معنى: تحريراً، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة، كما قال الشاعر:
ألم تعلم مسرحي القوافي *** فلا عياً بهنّ ولا اجتلابا
التقدير: تسريحي القوافي، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف، أي: نذر تحرير، أو على أنه مصدر من معنى: نذرت، لأن معنى: {نذرت لك ما في بطني} حررت لك بالنذر ما في بطني.
والظاهر القول الأول، وهو أن يكون حالاً من: ما، ويكون، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله: محرراً، خادماً للكنيسة، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً، لأن عتق ما في البطن يجوز.
وكتبوا: امرأة عمران، بالتاء لا بالهاء، وكذلك امرأة العزيز في موضعين، وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون. سبعة مواضع، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت، بالتاء. ووقف أبو عمرو، والكسائي: بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك، وهي لغة أكثر العرب، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له، فتحركت به نفسها للولد، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً. فحملت. ومات عمران زوجها وهي حامل، فحسبت الحمل ولداً فنذرته لله حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان، وكانت الجارية لا تصلح لذلك، وكان جائزاً في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ، فيخير، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها، وليس له الخروج بعد ذلك، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس.
{فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى} أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في: ما، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال ابن عطية: حملاً على الموجدة، ورفعاً للفظ: ما، في قولها: ما في بطني. وقال الزمخشري: أو على تأويل الجبلة، أو النفس، أو النسمة. جواب: لما، هو: قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته محرراً. وجاء في قوله: {إني وضعتها} الضمير مؤنثاً، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر، إذ تكون الحال في قوله: أنثى، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها؛ وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟.
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال، وذا الحال شيء واحد، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} إنتهى. وآل قوله إلى أن: أنثى، تكون حالاً مؤكدة، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة.
وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك، حيث عاد الضمير على معنى: من، فليس ذلك نظير: وضعتها أنثى، لأن ذلك حمل على معنى: من، إذ المعنى: أية امرأة، كانت امّك، أي: كانت هي أيّ المرأة أمّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى: من، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير: وضعتها أنثى، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى، فإنه لمجرد التأكيد.
وأما تنظيره بقوله: {فإن كانتا اثنتين} فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات، فالأحسن أن يجعل الضمير في: وضعتها أنثى، عائداً على النسمة، أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
وقيل: خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.
وقيل: كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ.
{والله أعلم بما وضعت} قرأ ابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب: بضم التاء، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم، وكأنها خاطبت نفسها بقولها: والله أعلم. ولم تأت على لفظ: رب، إذ لو أتت على لفظه لقالت: وأنت أعلم بما وضعت. ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها. ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر، إذ أرادها الله، سلت بذلك نفسها.
وتكون: الألف واللام في: الذكر، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية، لأن الذكر يصلح للتحرير، والاستمرار على خدمة موضع العبادة، ولأنه أقوى على الخدمة، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة.
قال ابن عطية: كالانثى، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان؟ قاله قتادة، والربيع، والسدّي، وعكرمة، وغيرهم. وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول: وليست الانثى كالذكر، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. إنتهى. وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في: الذكر، للجنس.
وقرأ باقي السبعة: بما وضعت، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته. أي: بحاله، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى، فإن قولها: وضعتها أنثى، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور، إذ جعلها وابنها آية للعالمين.
ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً. وقرأ ابن عباس: بما وضعت، بكسر تاء الخطاب، خاطبها الله بذلك أي: إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها.
و: ما، موصولة بمعنى: الذي، أو: التي، وأتى بلفظ: ما، كما في قوله: {نذرت لك ما في بطني} والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
{وإني سميتها مريم} مريم في لغتهم معناه: العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث: «ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم» وفي الحديث أنه: «يعق عن المولود في السابع ويسمى».
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ: بما وضعت، بضم التاء. وأما من قرأ: بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري: هي معطوفة على: إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان، كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} إنتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه {وليس الذكر كالأنثى} في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: وضعت، بضم التاء، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي: أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو: {فلا أقسم بمواقع النجوم} وجوابه الذي هو: {إنه لقرآن كريم} بجملة واحدة وهي قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله: {لو تعلمون} اعترض به بين المنعوت الذي هو: لقسم، وبين نعته الذي هو: عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله: {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته زيداً.
قال:
وسميت كعباً بشر العظام *** وكان أبوك يسمى الجعل
أي: وسميت بكعب، ويسمى: بالجعل، وهو باب مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في علم النحو.
{وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم} أتى خبر: إن، مضارعاً وهو: أعيذها، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة، والتكرار بخلاف: وضعتها، وسميتها، فإنهما ماضيان قد انقطعا، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود، وورد في الحديث، من رواية أبي هريرة: «كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها، فإن أمّها قالت حين وضعتها: واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب».
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق، والمعنى واحد. وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث، قال: لأنه خبر واحد على خلاف الدليل، فوجب رده، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير، والصبي ليس كذلك، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذلك، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري: وما يروي في الحديث: «ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها» فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان صفتهما لقوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} واستهلاله صارخاً من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها *** يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه. إنتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس}
{فتقبلها ربها بقبول حسن} قال الزجاج: الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على: قبلها قبولاً، يقال: قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم: كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال: قبلته قَبولاً وقُبولاً. وقال ابن عباس: معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم: تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن: معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي: استقبلها ربها، نحو: تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم: استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال:
وخير الأمر ما استقبلت منه *** وليس ببأن تتبعه اتباعاً
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل: المعنى فقبلها أي: رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون: تفعل، بمعنى الفعل المجرد نحو: تعجب وعجب، وتبرأ وبريء.
والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة.
والقبول اسم لما يقبل به الشيء: كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر، أو: مصدر على تقدير حذف مضاف أي: بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن، وهو الاختصاص.
{وأنبتها نباتاً حسناً} عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق، فأنشأها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار. وقيل: لم تجر عليها خطيئة. قال قتادة: حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم. وقيل: معنى {وأنبتها نباتاً حسناً} أي: جعل ثمرتها مثل عيسى.
وانتصب: نباتاً، على أنه مصدر على غير الصدر، أو مصدر لفعل




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال