سورة لقمان / الآية رقم 2 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الـم تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

لقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمان




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلاً في تكوينها الأول.. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح.. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم؛ وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيماً مع العقيدة، مستقيماً مع الفطرة، مستقيماً على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير..
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره؛ وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها..
هذه القضية الواحدة قضية العقيدة تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره. أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره... وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة، وآيات مبثوثة عن الأيمان والشمائل، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها، وتأخذ عليها المسالك والدروب.
ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة، ومتبعة أسلوباً كذلك جديداً في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة.
تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة؛ فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله.
ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟. وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذ تلك الآيات هزواً. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله: {أولئك لهم عذاب مهين}.. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها}.. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق: {كأن في أذنيه وقراً} ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير: {فبشره بعذاب أليم} والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!.. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئاً من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة؛ ويبين جزاءهم في الآخرة، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً، وهو العزيز الحكيم}.. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالاً للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين: {خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}.. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة، التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم: {هذا خلق الله. فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين}..
وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير.
فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة.. {ولقد آتينا لقمان الحكمة} فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر: {أن اشكر الله} فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم.. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة: نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}.. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافاً ورحمة: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين، فيقدمها عليها: {أن أشكر لي ولوالديك}.
ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إلي}. ويقرر معها قضية الآخرة: {ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو يصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته، تصويراً يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله. إن الله لطيف خبير}.. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله. ألا يتطاول على الناس، فيفسد بالقدوة ما يصلح بالكلام: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً، إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد.
ثم تبدأ الجولة الثالثة.. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله لناس وهم لا يشركون: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكراً من الفطرة، تمجه القلوب المستقيمة.. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} وهو موقف سخيف مطموس، يتبعه بمؤثر مخيف: {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟} ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.. ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم، فننبئهم بما عملوا} ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق: {إن الله عليم بذات الصدور} ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}
وقرب ختام الجولة يقفهم وجهاً لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله. قل: الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون} ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود؛ ويجعل من هذا دليلاً كونياً على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير} وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد؛ والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وأن الله بما تعملون خبير} ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته؟} ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم الذي يبعدها عن بارئها؛ ويتخذ من هذا المنطق دليلاً على قضية التوحيد: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد؛ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} وبمناسبة موج البحر وهوله يذكرهم بالهول الأكبر، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائج الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول: {يا أيها الناس اتقوا ربكم. واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً. إن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعاً، في إيقاع قوي عميق مرهوب: {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير} وهذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب.
والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق... {ألم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}...
الافتتاح بالأحرف المقطعة. {ألف. لام. ميم} والإخبار عنها بأنها: {تلك آيات الكتاب الحكيم} للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في وجوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، قاصد لما يقول، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة. وفيه إيناس. وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي، وبين الصديق والصديق!
هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. {هدى ورحمة للمحسنين} فهذه حاله الأصيلة الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ..
والمحسنون هم: {الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون}.. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملاً تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة.. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان.. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة، وتصطلح نفوسهم عليه، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق.
وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين!
وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة.. {أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون}. ومن هُدي فقد أفلح، فهو سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في الدنيا، ومن عواقب الضلال في الآخرة؛ وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود؛ فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود.
أولئك المهتدون بالكتاب وآياته، المحسنون، المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الموقنون بالآخرة، المفلحون في الدنيا والآخرة.. أولئك فريق.. وفي مقابلهم فريق:
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً. أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم}..
ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيراً ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان. وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويراً لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم محاولاً أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقاً من الناس واضح السمات، قائماً في كل حين. وقد كان قائماً على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات.
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث}.. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً} فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة؛ وهو سيِّئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيِّئ الأدب يتخذ سبيل الله هزواً، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس.
ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: {أولئك لهم عذاب مهين}.. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم.
ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها} وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة: {كأن في أذنيه وقرا} وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ: {فبشره بعذاب أليم} فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين؛ يليق بالمتكبرين المستهزئين!
وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين، الذين تحدث عنهم في صدر السورة؛ ويفصل شيئاً من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقاً، وهو العزيز الحكيم}..
وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة؛ إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك؛ ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير.
وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح {لهم جنات النعيم خالدين فيها}.. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقاً لوعد الله الحق. {وعد الله حقاً} فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع!
{وهو العزيز الحكيم}.. القادر على تحقيق وعده، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق.
وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحداً آخر خلقه من دون الله؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلماً للحق الواضح المبين:
{خلق السماوات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ بل الظالمون في ضلال مبين}..
وهذه السماوات بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة تواجه النظر والحس، هائلة فسيحة سامقة.
وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار. ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار. ومجرد تأملها بالعين المجردة، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟
ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة: {خلق السماوات بغير عمد ترونها} يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة:
{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}..
والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الأرض؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه، ونقص حجمها، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد، وتقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك. وسواء أصحّت هذه النظرية أم لم تصح، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. وقد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظاً لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك، ويكون نتوء الجبال هنا موازناً لانخفاض في قشرة الأرض هناك. وكلمة الله هي العليا على كل حال. والله هو أصدق القائلين.
{وبث فيها من كل دابة}..
وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد حتى اليوم إدراكه ولا تفسيره.
الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المقعدة. فضلاً على الإنسان، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!!
{وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}..
وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار، والذي تمتلئ به البحيرات، والذي تتفجر به العيون.. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق، مرتبط بنظام السماوات والأرض، وما بينهما من نسب وأبعاد، ومن طبيعة وتكوين.. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة، وعجيبة التنوع، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة..
والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجاً: {من كل زوج كريم} وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريباً جداً. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء.
ووصف الزوج بأنه {كريم} يلقي ظلاً خاصاً مقصوداً في هذا الموضع ليصبح لائقاً بأن يكون {خلق الله} وليرفعه أمام الأنظار مشيراً إليه.. {هذا خلق الله} وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة.. {فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟}.. وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت: {بل الظالمون في ضلال مبين}.. وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل؟
وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق.
بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية. يبدؤها في نسق جديد. نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر. ويعالج قضية الشكر لله وحده، وتنزيهه عن الشرك كله، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية.
{ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد}.
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات: فمن قائل: إنه كان نبياً، ومن قائل: إنه كان عبداً صالحاً من غير نبوة والأكثرون على هذا القول الثاني ثم يقال: إنه كان عبداً حبشياً، ويقال: إنه كان نوبياً. كما قيل: إنه كان في بني إسرائيل قاضياً من قضاتهم.. وأياً من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}.. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو، والله غني عنه. فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه. ومن كفر فإن الله غني حميد}.. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد.
ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه:
{وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم}..
وإنها لعظة غير متهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد صلى الله عليه وسلم على قومه، فيجادلونه فيها؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بهأ؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس؛ يرارد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة:
{ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهناً على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إليَّ. ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلاً.
ومعظمها في حالة الوأد وهي حالة خاصة في ظروف خاصة ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: {حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بإسناده «عن بريد عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة» هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهناً على وهن.
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين؛ ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولاً ويتلوه شكر الوالدين.. {أن اشكر لي ولوالديك}.. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: {إليّ المصير} حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}.. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: {واتبع سبيل من أناب إليّ} من المؤمنين {ثم إليَّ مرجعكم} بعد رحلة الأرض المحدودة {فأنبئكم بما كنتم تعملون} ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت). وروي أنها نزلت في سعد بن مالك. ورواه الطبراني في كتاب العشرة بإسناده عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها لا غموض.
وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه، تجيء الفقرة التالية في الوصية، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف:
{يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، يأت بها الله. إن الله لطيف خبير}..
وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع.. حبة من خردل. صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. {فتكن في صخرة}.. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. {أو في السماوات}.. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. {أو في الأرض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. {يأت بها الله}.. فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها. {إن الله لطيف خبير}.. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف.
ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب.
ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له؛ واليقين بالآخرة لا ريب فيها؛ والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل.. فأما الخطة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون:
{يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال