سورة لقمان / الآية رقم 27 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

لقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمانلقمان




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ}.
كانت قصة لقمان، وما آتاه اللّه من حكمة، عرف بها ربه، وأقام كيانه كله على حمده وشكره، ثم ما كان من وصاته لابنه، ورسم معالم الطريق إلى الخير، والهدى، له- كانت هذه القصة معرضا للمشركين يرون فيه مواقع رحمة اللّه في عباده، وما يسوق إليهم من نعمة العلم الذي يعرفون به ربّهم فيما جاءهم به رسول اللّه من آيات اللّه..، إن ذلك هو خير ما يصيب الإنسان في حياته، وما يحصّل من رزق في دنياه.. وليس المال، ولا الجاه، بالذي يرفع منازل الرجال، وينزلهم منازل الرضوان عند اللّه، وإنما العلم- والعلم وحده- هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويعلى مقامه في الناس.
وها هو ذا رسول اللّه، يحمل الحكمة إلى هؤلاء المشركين، ويكشف لهم بها الطريق إلى اللّه ولكنهم مع هذا، يأبون أن يقبلوا هذا الخير المساق إليهم، وأن ينتفعوا به.
والآيات هنا تعرض صورا من مظاهر قدرة اللّه، فيها الحكمة، لمن يعنيه أن يكون من أهلها.
فهؤلاء المشركون، تظلّهم نعم اللّه، بما سخر في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وتغمرهم آلاؤه بما سخر لهم في الأرض من حيوان، وما أجرى فيها من ماء، وما أخرج منها من نبات- ومع هذا فإنهم لا يلتفتون إلى شيء من تلك النعم، وإن التفتوا إلى شيء منها لم يكن لهم منه عبرة وعظة.
بل هم على ما هم عليه من ضلال وعمى، لا تزيدهم الآيات إلا كفرا وعنادا، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً}.
الإسباغ: الإفاضة والشمول، عن سعة وكثرة.. والنعم السابغة:
الكثيرة المتعددة- ودرع سابغة: أي ضافية، كاسية، ومنه قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} [11: سبأ].
والنعم الظاهرة: ما يعرفها الإنسان، ويلمسها بحواسه، أو يدركها بعقله.
والنعم الباطنة، هى ما لا يعلمه الإنسان من أسرار هذا الوجود الذي يعيش فيه.
والنعم الظاهرة قليلة لا تكاد تذكر إلى جانب النعم الباطنة، التي تغمر الإنسان ولا يشعر بها، ولا يعلم من أمرها شيئا.. وما كشف عنه العلم من أسرار الحياة، لا يعدو أن يكون سطورا من مقدمة كتاب الوجود، وما فيه من أبواب وفصول.
وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} إشارة إلى هؤلاء المشركين، وما هم فيه من لجاج، وعناد، مع ما يتلى عليهم من آيات اللّه.. إنهم يجادلون ويجادلون، وكل ما معهم من أسلحة في هذا الميدان هو الجهل والعناد.. إذ ليس معهم {علم} حصّلوه بالنظر والتأمل، ولا {هدى} تلقوه من الرسول الذي جاءهم بالبينات من رب العالمين ولا {كتاب منير} تلقوه عن رسول من رسل اللّه، وانتفعوا بما فيه من علم وهدى.. ومع هذا فهم يجادلون في اللّه، وفي تصورهم لذاته وصفاته، على هذا النحو من التصور الفاسد، الذي يجعل اللّه على مستوى بشرى، كشيخ قبيلة، أو ملك من ملوك فارس أو الروم، أو أمير من أمراء الأمصار على تخوم مملكتى فارس والروم!.
وفي قوله تعالى: {وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} إشارة إلى ما بين يدى أهل الكتاب من كتب سماوية، كان من شأنها أن تكون كتبا منيرة لهم، تكشف ظلمات الجهل، وتبدو غياهب الضلال، ولكن أهلها غيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي فيها، وأوقعوا الناس منها في حيرة وعمى!.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ}.
هذا موقف من مواقف الضالين في مواجهة الحق، وفي لقاء من يدعوهم إليه.. وهم في هذا الموقف إنما يجادلون في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. فإذا دعوا إلى اللّه، وإلى اتباع ما أنزل اللّه، {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا..}.
تلك هى حجتهم، وهذا هو مستندهم.. إنهم أوفياء لآبائهم، حريصون على الاحتفاظ بتراثهم، وليس شأنهم شأن من يتنكر لقومه، ويخرج على تقاليد الآباء والأجداد، فذلك فوق أنه عقوق: هو عدوان على تلك الجامعة العصبية التي تجمع أبناء القبيلة تحت راية واحدة، سواء أكانت راية حق أو باطل.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا
إنه لا منطق ولا عقل، ولا دليل ولا برهان.. وإنما هى عصبية عمياء، كما يقول سبحانه وتعالى، على لسانهم: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [23: الزخرف].
وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ} هو استفهام توبيخى لهؤلاء المشركين الذين يتلقون معتقدهم عن آبائهم، دون أن يكون لهم نظر أو رأى فيما تلقوه، ودون أن يتعرفوا إلى حقيقة هذا المعتقد، وما فيه من حق أو باطل، ومن خير أو شر، وإنما يأخذونه كما هو، عادة من العادات، وتقليدا من التقاليد.
فلو أن آباءهم هؤلاء جاءوا إليهم على صورة شياطين يدعونهم إلى جهنم ويفتحون لهم أبوابها، لاستجابوا لهم، ولاقتفوا آثارهم، دون وعى، أو التفات إلى النار التي هم مدفوعون إليها، إنه التقليد الأعمى، والمتابعة الحمقاء، التي يسلّم فيها المرء وجوده كله لغيره، دون أن يجعل لعقله حق النظر والاختيار.
وإنه لعدوان أثيم على الجانب الروحي في الإنسان، وذلك بحرمانه من أن يذوق بوسائله الإدراكية، والشعورية، والوجدانية، ما يغذّى هذا الجانب ويرضيه تماما كما يفعل الإنسان فيما يتصل بغذائه الجسدى، فهو الذي يتخير طعامه، ويذوقه، ويمضغه، فإن استساغه تركه يأخذ سبيله إلى جوفه، وإن مجّه، أو استخبثه، ألقى به من فيه. وحمى جوفه من سوء ما ينحم منه.
فكيف يقبل الإنسان أن يدع لغيره اختيار ما يغذّى روحه ومشاعره، ووجدانه؟ إن ذلك أشبه بالتغذية الصناعية، التي يعيش عليها الأطفال أو المرضى، لا يفيد منها الجسم إلا بالقدر الذي يمسك عليه الحياة.. هذا إذا كان الغذاء الصناعى طيبا سليما.. فكيف به إذا كان خبيثا فاسدا؟.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وإذا كان هؤلاء المشركون قد أسلموا وجههم للشيطان، وأعطوه أيديهم، فأخذوا طريقهم معه إلى جهنم، فإن المؤمنين الذين أسلموا وجوههم إلى اللّه، فآمنوا به ثم أتبعوا إيمانهم بالعمل الصالح، الذي يقتضيه منهم إيمانهم- هؤلاء قد أمسكوا بحبل النجاة، الذي يعصمهم من الغرق، ويسلمهم إلى شاطىء السلامة والأمن.
وفي تعدية الفعل {يسلم} بحرف الجر {إلى} بدلا من اللام، كما في قوله تعالى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في هذا إشارة إلى أن في هذا الإسلام معاناة، وصراعا داخليا في كيان الإنسان، حتى إن المرء ليقود نفسه ويدفعها دفعا إلى اللّه.. وذلك ما كان في أول الإسلام، حيث كان المسلمون تحت ظروف قاسية قاهرة.
والعروة: ما يناط به الشيء، ويعلق به، ومنه عروة القميص، وهى ما يدخل فيه لزر.. وجمعها عرى.
والوثقى: القوية، المتينة.. مؤنث الأوثق.. ومنها الثقة: وهى الشعور بالاطمئنان للشىء الموثوق به.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي إلى اللّه سبحانه المرجع والمآل، لكل أمر، فما يفعله الناس، وما يتلبسون به، من إيمان أو شرك، ومن خير أو شر، فإن إلى اللّه مرجعه، وعند اللّه الجزاء عليه.
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
فى هذه الآية مواساة للنبى، وعزاء له في قومه، الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يمسكوا بحبل النجاة الممدود لهم.
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين الذي ظلوا على شركهم، بعد أن جاءتهم دعوة الحق، قد كانوا أهل فترة قبل الدعوة، أي غير واقعين تحت دينونة الحساب والجزاء، فلما بلغتهم الدعوة ولم يستجيبوا لها، لزمهم هذا الوصف، وهو الكفر، ووقعوا تحت دينونة الحساب والجزاء.. فكأنّ هذا الكفر الذي وصفوا بهم طارئ عليهم، مستحدث فيهم! ولهذا جاء الخطاب على أسلوب الشرط، الدال على الاستقبال والتجدد معا.
وفي قوله تعالى: {إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} تهديد لهؤلاء المشركين الكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي هو الجزاء لأهل الشرك والكفر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
بالانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، وإن كان عند المشركين والكافرين، غائبا عنهم، لا يشهدون جلاله، ولا يستحضرون عظمته وقدرته، فإنه عليم بما توسوس به النفوس، وما تكنّه الصدور.
قوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ}.
هو وعيد بعد وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا تركوا وما هم فيه من أمن وسلامة، وعافية في أموالهم وأنفسهم، فذلك ظل زائل، لا يلبث أن يزول،. ثم إنهم بعد هذا ليساقون سوقا، ويؤخذون قهرا إلى المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، وهو العذاب الغليظ يوم القيامة.
ووصف العذاب بالغلظ، كناية عن شدته، وقسوته.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين، لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض، لما وجدوا جوابا إلا جوابا واحدا، ولقالوا:- اضطرار أو اختيارا- خلقهن اللّه! فإنهم لن يستطيعوا أن يضيفوا خلق السموات والأرض إلى غير اللّه.. فهذه حقيقة أكبر من أن يتسع لها مراء الممترين، وافتراء المفترين.. إن المشركين ليعلمون أن لهذا الوجود خالقا، ولكن علمهم هذا قد تلبس بأوهام وظنون، واختلط بجهالات وضلالات، فلم يكشف لهم هذا العلم الطريق إلى اللّه، ولم يطلعهم على بعض ما للّه سبحانه من كمال وجلال.. ولهذا كان الطريق بينهم وبين اللّه ضيقا، مظلما، معوجا، تقوم عليه، وعلى جانبه المزالق والمعاثر.
وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هو دعوة إلى النبي، وإلى كل مؤمن، بالتعقيب على هذا الجواب بحمد اللّه، الذي خلق السموات والأرض، فهذا الخلق- ومنه خلق الإنسان- نعمة تستوجب الحمد والشكر للخالق.. كما يقول سبحانه:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [1: الأنعام] وكما يقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [1: فاطر].
فبين يدى كل نعمة جليلة يجىء حمد اللّه، منبها إلى قدر هذه النعمة، ومذكّرا بما ينبغى على العباد إزاءها من حمد وشكران.. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} [1: الكهف]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [2: الفاتحة].
وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو إضراب عن كلام سابق محذوف، دل عليه المقام، وهو لم لم يحمد المشركون اللّه مع إقرارهم بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض، فكان الجواب: لأنهم مستكبرون، ثم أضرب عن هذا الجواب بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وذلك ليدل على أن استكبارهم هذا كان عن جهل مطبق.. ولو كان معهم شيء من العلم لأسلمهم هذا الاعتراف إلى الإيمان باللّه، والانخلاع عن عبادة غير اللّه، ثم لحمدوا اللّه مع الحامدين، وشكروا له مع الشاكرين.
وفي إطلاق نفى العلم: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى أنهم لا يعلمون شيئا، أي شىء، من أي شىء.. علما نافعا، كاشفا.
قوله تعالى: {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} هو إبعاد للمشركين عن اللّه، وقطع للظنون التي تدور في رءوسهم، حين يدعون إلى الإيمان باللّه، وإلى إفراده- سبحانه- بالعبادة، واختصاصه بالحمد، فيخيل إليهم من ظنونهم الفاسدة تلك، أن ذلك الإلحاح عليهم بالدعوة إلى اللّه، هو لحاجة اللّه إليهم، وافتقاره إلى عبادتهم.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فاللّه سبحانه له ما في السموات والأرض.. وإنه ليملك من هؤلاء المشركين ما لا يملكون هم من أنفسهم.. إن كل شيء فيهم، ولهم، ومعهم، هو من عند اللّه، وإلى اللّه مصيره.. فكيف يكون الخالق في حاجة إلى المخلوق؟ وكيف يكون المعطى في حاجة إلى من أعطاه؟ {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [27: ص].
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} توكيد لاستغناء اللّه عن خلقه، وأن إيمانهم أو شركهم، وحمدهم أو كفرهم، لا ينفعه ولا يضره.. فهو {الغنى}.
غنى مطلقا، وهو {الحميد} المستحق للحمد، حمدا مطلقا، لكل ما كان منه في خلقه، من تقدير وتدبير.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ومما يكشف عن غنى اللّه الغنى المطلق، واستحقاقه الحمد، حمدا مطلقا، هو سعة ملكه الذي لا حدود له، وما للّه من تصريف في هذا الملك، كيف شاءت إرادته.. لا معقب لحكمه.
فلو تصور متصور أن كل ما في الأرض من شجر كان أقلاما، وأن كل مياه البحار قد أصبحت مدادا.. ثم أخذت هذه الأقلام تستملى من هذا المداد، وتكتب- من غير توقف- ما تتلقّى من كلمات اللّه- لما نفدت كلمات اللّه! وكلمات اللّه، هى مقدراته التي يقوم بها الوجود، وينشأ عنها كل موجود.
فبالكلمة، خلق اللّه كل شىء.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
وفي قوله تعالى: {مِنْ شَجَرَةٍ} إشارة إلى استغراق كل ما في الأرض، شجرة شجرة، من كل جنس، وكل صنف من أصناف الشجر.
ولو جاء النظم القرآنى من شجر بالجمع بدلا {من شجرة} بالإفراد، لما دلّ على هذا الاستغراق، الذي يشمل كل شجرة في الأرض ولكان فيه متأول يتناول بعض الشجر دون بعض، أو الشجر الذي تستعمل منه الأقلام دون غيره مثلا.
وفي التعبير بكلمات اللّه- وهو جمع قلّة- بدلا من {كلام} الذي هو جمع كثرة، إشارة إلى أن القليل من كلام اللّه، وهو الكلمات، لا ينفذ، ولو فنيت في كتابتها الأقلام من كل شجر الأرض، وجفّت في مدّ هذه الأقلام بالمداد كلّ بحار العالم..! فكيف بالكثير من كلام اللّه.
هذا، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [109: الكهف].
وفي هذه الصورة، لم تذكر الأقلام التي تستملى من هذا البحر، اكتفاء بما جاء هنا من ذكر الأقلام.. فالصورتان تكمل إحداهما الأخرى، وليست إحداهما تكرارا للأخرى، كما يبدو ذلك في ظاهر الأمر.
ويلاحظ أن البحر هنا يمدّه من بعده سبعة أبحر، على حين أنه في سورة الكهف يمدّه بحر مثله.. وقد يبدو أن في هذا تناقضا عند من يأخذ بظاهر الأمور، ولا يتعمق النظر فيها.
إن الأمر قائم على الفرض، وكثير من مادة الفرض وقليلها سواء في تحقيق المطلوب منه، وهو الدلالة على سعة علم اللّه، وبسطة سلطانه، وامتداد ملكه، الذي لا ينفد، وأن بحرا واحدا، أو جزءا من هذا البحر ليكفى عند التجربة في الكشف عن سعة هذا العلم، وبسطة ذلك السلطان، وامتداد هذا الملك.
فالبحر الذي يمده من بعده سبعة أبحر، يواجهه الحكم ب قوله تعالى: {ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} مع السكوت عن نفاد ماء البحر.
والبحر الذي يمده بحر مثله، يواجهه الحكم بقوله سبحانه: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
ففى كل صورة من الصورتين احتمال ترفعه الصورة الأخرى.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} هو أنه يمكن أن تنفد كلمات اللّه، لو جىء بمثلى هذا البحر، مددا، أو بثلاثة أمثاله.. وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ}.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} هو أن الأبحر لم تنفد، وأن كلمات اللّه لم تنفد، وأنه لو نفدت الأبحر لنفدت كلمات اللّه، وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ}.
وعد إلى الآيتين مرة أخرى:
{وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ}.
(لقمان) {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف) واجعل من الآيتين آية واحدة، تجد الأبحر قد نفدت، وما نفذت كلمات اللّه، وتجد كلمات اللّه لا نفاد لها، ولو مدّ البحر، لا ببحر واحد مثله، بل بسبعة أبحر!.
هذا كلام اللّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} توكيد لسلطان اللّه، وتمكنه تمكن العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تجرى أحكام عزّته على العدل والإحسان، لا العسف والجبروت، شأن كل عزّة لا تحكمها الحكمة.
قوله تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
كانت الآية السابقة معرضا فسيحا لقدرة اللّه، وإنه لا يحسن النظر فيه، والإفادة منه، إلا من أوتى بصرا نافذا، وبصيرة مشرقة، ثم كان معه- مع هذا- قلب مؤمن.
وفي هذه الآية، معرض محدود من معارض هذا الوجود، وهو معرض الخلق والبعث.. ثم أجمل هذا العرض في وحدة من وحدات الخلق، وهى الإنسان، في ذات واحدة، ونفس واحدة.
فهذا الإنسان، في خلقه، وبعثه، يكفى النظر إليه وحده، في الاستدلال على قدرة اللّه، وعلى أنه هو الخالق لهذا الوجود الذي لا حدود له.
فمن نظر إلى الإنسان، وإلى أصل نشأته، وكيف تنقل في الخلق، من حال إلى حال، حتى صار هذا الكائن القوىّ، العاقل، الذي يمخر عباب البحر، ويغوص في أعماق المحيط، ويحلق في أجواء السماء، بل ويطأ القمر بقدميه- من نظر إلى هذا الإنسان الذي تخلق من نطفة، تخلقت من من أخلاط مختلفة، ثم نظر إليه في قوته وجبروته، ثم أعاد النظر إليه وقد ردّ إلى الشيخوخة والهرم- رأى كمال قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، وأنه وحده سبحانه، القادر على كل شىء، قدرة مطلقة لا يعجزها شىء.. وأن الذي خلق الإنسان، قادر على أن يخلق الناس جميعا، وأن الذي خلق الناس، قادر على أن يخلق السموات والأرض.. ففى القليل ما يدل على الكثير، وإن قطرة الماء لتحمل في كيانها خصائص ما في البحار كلها من مياه..!
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
إشارة إلى شمول سمع اللّه لكل شىء، وإحاطة بصره بكل شىء، يستوى في هذا خفيض الأصوات وجهيرها، وقريب الأشياء وبعيدها.. وأقرب مثل لهذا- وللّه المثل الأعلى- السمع والبصر، في كيان الإنسان.. فالسمع السليم، يستقبل ويسمع جميع الأصوات الواقعة تحت دائرة حسه، لا فرق في ذلك بين كلام الإنسان، وأصوات الحيوان، وحفيف الأشجار، وهدير الرعد، وخرير الماء.. وكذلك البصر السليم، يرى كل المرئيات التي تقع في دائرته، سواء في ذلك الجميل والقبيح، والأبيض والأسود، والمتحرك والثابت.
فإذا كان سمع الإنسان وبصره، يتّسعان لأكثر من شيء في وقت واحد، أفلا يكون في قدرة اللّه أن يسمع كل شىء، ويبصر كل شى ء؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يتخذ من الوسائل ما يرى بوساطتها الأشياء البعيدة التي لم تكن تراها عينه، ويسمع الأصوات الخفية التي لم تكن تسمعها أذنه- أفلا يكون ذلك مما تطوله القدرة الإلهية وتعمل به؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن ينقل الأصوات والمرئيات، لسمعه وبصره، من أطراف الأرض كلها في لحظة، أفلا تستطيع القدرة القادرة أن تفعل الكثير الذي لا حدود له في هذا المقام؟
وإذا كان بين العلماء الذين يملكون هذه الوسائل، وبين من يعيشون في حدود حواسهم الطبيعية- هذا المدى البعيد في مدركات السمع والبصر- أفلا يكون بين اللّه سبحانه وتعالى وبين خلقه، ما لا نهاية له من فروق؟ وإذن فما الفرق بين الخالق وما خلق؟ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟} [17: النحل].




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال