سورة غافر / الآية رقم 15 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ

غافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافر




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله من ثم كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: {غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير}.. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!
كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..
من مصارع الغابرين: {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟}.. {أو لم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم؛ وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب} ومن مشاهد القيامة: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}.. {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون} ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم}..
ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: {هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخاً. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟} {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين} وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة: {غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير}.. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم؛ وقد أخذهم الله أخذاً، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم: {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون}.. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا.. {هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً} ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه: {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون}. ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء} وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون: {لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار}.
ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف عليه السلام ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعاً. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلاً ما تتذكرون} ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً. والأرض قراراً والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الذين يجادلون في الله؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون}
وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم: {ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..
والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} على أن في الكون آيات قائمة، وبين أيديهم آيات قريبة؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها.. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين، وهم يرون بأس الله فيؤمنون؛ {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنة الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون} هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين، وينفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.
فلنسر الآن مع سياق السورة بالتفصيل..
{حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب. وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير}..
هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: {حا. ميم}. منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: {عين. سين. قاف}. وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.
وتليها الإشارة إلى تنزيل الكتاب.. إحدى الحقائق التي يتكرر الحديث عنها في السور المكية بوجه خاص، في معرض بناء العقيدة:
{تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم}..
وهي مجرد إشارة ينتقل السياق منها إلى التعريف ببعض صفات الله الذي نزل هذا الكتاب. وهي مجموعة من الصفات ذات علاقة موضوعية بمحتويات السورة كلها وقضاياها:
{العزيز العليم، غافر الذنب. وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير}..
العزة. والعلم. وغفران الذنب. وقبول التوبة. وشدة العقاب. والفضل والإنعام. ووحدانية الألوهية، ووحدانية المرجع والمصير..
وكل موضوعات السورة تتعلق بهذه المعاني، التي جاءت في مطلع السورة. والتي سيقت في إيقاعات ثابتة الجرس، قوية التركيب، توحي بالاستقرار والثبات والرسوخ.
والله سبحانه يعرف نفسه لعباده بصفاته، ذات الأثر في حياتهم ووجودهم، ويلمس بها مشاعرهم وقلوبهم؛ فيثير رجاءهم وطمعهم؛ كما يثير خوفهم وخشيتهم، ويشعرهم بأنهم في قبضته لا مهرب لهم من تصريفه.
ومنها هذه الصفات:
{العزيز}: القوي القادر الذي يغلب ولا يغلب، والذي يصرف الأمر لا يقدر عليه أحد، ولا يعقب عليه أحد.
{العليم}.. الذي يصرف الوجود عن علم وعن خبرة، فلا يخفى عليه شيء، ولا يند عن علمه شيء.
{غافر الذنب}.. الذي يعفو عن ذنوب العباد، بما يعلمه سبحانه من استحقاقهم للغفران.
{وقابل التوب}.. الذي يتوب على العصاة، ويتقبلهم في حماه، ويفتح لهم بابه بلا حجاب.
{شديد العقاب} الذي يدمر على المستكبرين ويعاقب المعاندين، الذين لا يتوبون ولا يستغفرون.
{ذي الطول}.. الذي يتفضل بالإنعام، ويضاعف الحسنات، ويعطي بغير حساب.
{لا إله إلا هو}.. فله الألوهية وحده لا شريك له فيها ولا شبيه.
{إليه المصير}.. فلا مهرب من حسابه ولا مفر من لقائه. وإليه الأوبة والمعاد.
وهكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به. تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه.
وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة، لا يعرفون عنها شيئاً مضبوطاً؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها، ويصورونها متقلبة الأهواء، غامضة الاتجاهات، شديدة الانفعالات، ويعيشون معها في قلق دائم يتحسسون مواضع رضاها، بالرقى والتمائم والضحايا والذبائح، ولا يدرون سخطت أم رضيت إلا بالوهم والتخمين!
فجاء الإسلام واضحاً ناصعاً، يصل الناس بإلههم الحق، ويعرفهم بصفاته، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه، وكيف يرجون رحمته، ويخشون عذابه، على طريق واضح قاصد مستقيم.
{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا، فلا يغررك تقلبهم في البلاد. كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأخذتهم، فكيف كان عقاب؟ وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار}..
بعد تقرير تلك الصفات العلوية، وتقرير الوحدانية، يقرر أن هذه الحقائق مسلمة من كل من في الوجود، وكل ما في الوجود، ففطرة الوجود كله مرتبطة بهذه الحقائق، متصلة بها الاتصال المباشر، الذي لا تجادل فيه ولا تماحل. والوجود كله مقتنع بآيات الله الشاهدة بحقيقته ووحدانيته. وما من أحد يجادل فيها إلا الذين كفروا وحدهم، شذوذاً عن كل ما في الوجود وكل من في الوجود:
{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا}..
فهم وحدهم من بين هذا الوجود الهائل يشذون؛ وهم وحدهم من بين هذا الخلق العظيم ينحرفون. وهم بالقياس إلى هذا الوجود أضعف وأقل من النمل بالقياس إلى هذه الأرض. وهم حين يقفون في وصف يجادلون في آيات الله؛ ويقف الوجود الهائل كله في صف معترفاً بخالق الوجود مستنداً إلى قوة العزيز الجبار.. هم في هذا الموقف مقطوع بمصيرهم، مقضي في أمرهم؛ مهما تبلغ قوتهم؛ ومهما يتهيأ لهم من أسباب المال والجاه والسلطان:
{فلا يغررك تقلبهم في البلاد}.
فمهما تقلبوا، وتحركوا، وملكوا، واستمتعوا، فهم إلى اندحار وهلاك وبوار. ونهاية المعركة معروفة. إن كان ثمت معركة يمكن أن تقوم بين قوة الوجود وخالقه، وقوة هؤلاء الضعاف المساكين!
ولقد سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم، توحي عاقبتهم بعاقبة كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرض لها من يعرض نفسه لبأس الله:
{كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟}..
فهي قصة قديمة من عهد نوح. ومعركة ذات مواقع متشابهة في كل زمان. وهذه الآية تصور هذه القصة. قصة الرسالة والتكذيب والطغيان على مدى القرون والأجيال كما تصور العاقبة في كل حال.
رسول يجيء. فيكذبه طغاة قومه. ولا يقفون عند مقارعة الحجة بالحجة، إنما هم يلجأون إلى منطق الطغيان الغليظ، فيهمون أن يبطشوا بالرسول، ويموهون على الجماهير بالباطل ليغلبوا به الحق.. هنا تتدخل يد القدرة الباطشة، فتأخذهم أخذاً يعجب ويدهش، ويستحق التعجيب والاستعراض:
{فكيف كان عقاب؟}..
ولقد كان عقاباً مدمراً قاضياً عنيفاً شديداً، تشهد به مصارع القوم الباقية آثارها، وتنطق به الأحاديث والروايات.
ولم تنته المعركة. فهي ممتدة الآثار في الآخرة:
{وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار}..
ومتى حقت كلمة الله على أحد فقد وقعت، وقضي الأمر، وبطل كل جدال.
وهكذا يصور القرآن الحقيقة الواقعة. حقيقة المعركة بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، وبين الدعاة إلى الله الواحد والطغاة الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق. وهكذا نعلم أنها معركة قديمة بدأت منذ فجر البشرية. وأن ميدانها أوسع من الأرض كلها، لأن الوجود كله يقف مؤمناً بربه مسلماً مستسلماً، ويشذ منه الذين كفروا يجادلون في آيات الله وحدهم دون سائر هذا الكون الكبير. ونعلم كذلك نهاية المعركة غير المتكافئة بين وصف الحق الطويل الضخم الهائل وشرذمة الباطل القليلة الضئيلة الهزيلة، مهما يكن تقلبها في البلاد؛ ومهما يكن مظهرها من القوة والسيطرة والمتاع!
هذه الحقيقة حقيقة المعركة والقوى البارزة فيها، وميدانها في الزمان والمكان يصورها القرآن لتستقر في القلوب؛ وليعرفها على وجه خاص اولئك الذين يحملون دعوة الحق والإيمان في كل زمان ومكان؛ فلا تتعاظمهم قوة الباطل الظاهرة، في فترة محدودة من الزمان، ورقعة محدودة من المكان؛ فهذه ليست الحقيقة. إنما الحقيقة هي التي يصورها لهم كتاب الله، وتنطق بها كلمة الله. وهو أصدق القائلين. وهو العزيز العليم.
ويتصل بتلك الحقيقة الأولى أن حملة العرش ومن حوله وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم، ويستغفرون لهم، ويستنجزون وعد الله إياهم؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين:
{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}..
ونحن لا نعرف ما هو العرش؟ ولا نملك صورة له، ولا نعرف كيف يحمله حملته، ولا كيف يكون من حوله، حوله؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها، ولا من الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله، {يسبحون بحمد ربهم}. {ويؤمنون به}.. وينص القرآن على إيمانهم وهو مفهوم بداهة ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر.. هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن.
وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال. يقولون:
{ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً}..
يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم في طلب الرحمة للناس إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون:
{فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم}..
وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة، وبصفة الله هناك: {غافر الذنب وقابل التوب}.. كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيمِ، بصفة الله: {شديد العقاب}..
ثم يرتقون في الدعاء من الغفران والوقاية من العذاب إلى سؤال الجنة واستنجاز وعد الله لعباده الصالحين:
{ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. إنك أنت العزيز الحكيم}..
ودخول الجنة نعيم وفوز. يضاف إليه صحبة من صلح من الآباء والأزواج والذريات. وهي نعيم آخر مستقل. ثم هي مظهر من مظاهر الوحدة بين المؤمنين أجمعين. فعند عقدة الإيمان يلتقي الآباء والأبناء والأزواج، ولولا هذه العقدة لتقطعت بينهم الأسباب:
والتعقيب على هذه الفقرة من الدعاء: {إنك أنت العزيز الحكيم} يشير إلى القوة كما يشير إلى الحكمة. وبها يكون الحكم في أمر العباد..
{وقهم السيئات. ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم}..
وهذه الدعوة بعد الدعاء بإدخالهم جنات عدن لفتة إلى الركيزة الأولى في الموقف العصيب. فالسيئات هي التي توبق أصحابها في الآخرة، وتوردهم مورد التهلكة. فإذا وقى الله عباده المؤمنين منها وقاهم نتائجها وعواقبها.
وكانت هذه هي الرحمة في ذلك الموقف. وكانت كذلك أولى خطوات السعادة. {وذلك هو الفوز العظيم}.. فمجرد الوقاية من السيئات هو أمر عظيم!
وبينما أن حملة العرش ومن حوله يتجهون إلى ربهم بهذا الدعاء لإخوانهم المؤمنين. نجد الذين كفروا في الموقف الذي تتطلع كل نفس فيه إلى المعين وقد عز المعين. نجد الذين كفروا هؤلاء وقد انبتت العلاقات بينهم وبين كل أحد وكل شيء في الوجود. وإذا هم ينادون من كل مكان بالترذيل والمقت والتأنيب. وإذا هم في موقف الذلة بعد الاستكبار. وفي موقف الرجاء ولات حين رجاء:
{إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل؟ ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير}..
والمقت: أشد الكره. وهم ينادون من كل جانب. إن مقت الله لكم يوم كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون، أشد من مقتكم لأنفسكم وأنتم تطلعون اليوم على ما قادتكم إليه من شر ونكر، بكفرها وإعراضها عن دعوة الإيمان، قبل فوات الأوان.. وما أوجع هذا التذكير وهذا التأنيب في ذلك الموقف المرهوب العصيب!
والآن وقد سقط عنهم غشاء الخداع والضلال يعرفون أن المتجه لله وحده فيتجهون:
{قالوا: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل}..
وهي كلمة الذليل اليائس البائس.. {ربنا}.. وقد كانوا يكفرون وينكرون. أحييتنا أول مرة فنفخت الروح في الموات فإذا هو حياة، وإذا نحن أحياء. ثم أحييتنا الأخرى بعد موتنا، فجئنا إليك. وإنك لقادر على إخراجنا مما نحن فيه. وقد اعترفنا بذنوبنا. {فهل إلى خروج من سبيل؟}. بهذا التنكير الموحي باللهفة واليأس المرير.
هنا في ظل هذا الموقف البائس يجبههم بسبب هذا المصير:
{ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير}.
فهذا هو الذي يقودكم إلى ذلك الموقف الذليل. إيمانكم بالشركاء، وكفركم بالوحدانية. فالحكم لله العلي الكبير: وهما صفتان تناسبان موقف الحكم. الاستعلاء على كل شيء، والكبر فوق كل شيء. في موقف الفصل الأخير.
وفي ظل هذا المشهد يستطرد إلى شيء من صفة الله تناسب موقف الاستعلاء؛ ويوجه المؤمنين في هذا المقام إلى التوجه إليه بالدعاء، موحدين، مخلصين له الدين؛ كما يشير إلى الوحي للإنذار بيوم التلاقي والفصل والجزاء، يوم يتفرد الله بالملك والقهر والاستعلاء:
{هو الذي يريكم آياته، وينزل لكم من السماء رزقاً، وما يتذكر إلا من ينيب. فادعوا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون. رفيع الدرجات. ذو العرش، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء. لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت. لا ظلم اليوم. إن الله سريع الحساب}..
{هو الذي يريكم آياته}.. وآيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود. في المجالي الكبيرة من شمس وكواكب، وليل ونهار، ومطر وبرق ورعد.. وفي الدقائق الصغيرة من الذرة والخلية والورقة والزهرة.. وفي كل منها آية خارقة، تتبدى عظمتها حين يحاول الإنسان أن يقلدها بله أن ينشئها وهيهات هيهات التقليد الكامل الدقيق، لأصغر وأبسط ما أبدعته يد الله في هذا الوجود.
{وينزل عليكم من السماء رزقاً}.. عرف الناس منه المطر، أصل الحياة في هذه الأرض، وسبب الطعام والشراب. وغير المطر كثير يكشفه الناس يوماً بعد يوم. ومنه هذه الأشعة المحيية التي لولاها ما كانت حياة على هذا الكوكب الأرضي. ولعل من هذا الرزق تلك الرسالات المنزلة، التي قادت خطى البشرية منذ طفولتها ونقلت أقدامها في الطريق المستقيم، وهدتها إلى مناهج الحياة الموصولة بالله، وناموسه القويم.
{وما يتذكر إلا من ينيب}.. فالذي ينيب إلى ربه يتذكر نعمه ويتذكر فضله ويتذكر آياته التي ينساها غلاظ القلوب.
وعلى ذكر الإنابة وما تثيره في القلب من تذكر وتدبر يوجه الله المؤمنين ليدعوا الله وحده ويخلصوا له الدين، غير عابئين بكره الكافرين:
{فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون}:
ولن يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله، وأن يدعوه وحده دون سواه. ولا أمل في أن يرضوا عن هذا مهما لاطفهم المؤمنون أو هادنوهم أو تلمسوا رضاهم بشتى الأساليب. فليمض المؤمنون في وجهتهم، يدعون ربهم وحده، ويخلصون له عقيدتهم. ويصغون له قلوبهم. ولا عليهم رضي الكافرون أم سخطوا. وما هم يوماً براضين!
ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون. يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه:
{رفيع الدرجات ذو العرش، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده}..
فهو سبحانه وحده صاحب الرفعة والمقام العالي، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي. وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده. وهذا كناية عن الوحي بالرسالة. ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي، وأنه روح وحياة للبشرية، ويبين ثانياً أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد.. وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله {العلي الكبير}..
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره، فهي الإنذار:
{لينذر يوم التلاق}..
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً. ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا. ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال