سورة غافر / الآية رقم 39 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ

غافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافرغافر




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


سبق أن أجملنا موضوع هذا الشوط من السورة. وقبل الاستعراض التفصيلي له نلاحظ أن هذه الحلقة من القصة تجيء هنا متمشية بموضوعها مع موضوع السورة، ومتمشية بطريقة التعبير فيها وأحياناً بعباراتها ذاتها مع طريقة التعبير في السورة كذلك، وتكرر بعض عباراتها.. وعلى لسان الرجل المؤمن من آل فرعون ترد معان وتعبيرات وردت من قبل في السورة. فهو يذكر فرعون وهامان وقارون بأنهم يتقلبون في البلاد، ويحذرهم يوماً مثل يوم الأحزاب، كما يحذرهم يوم القيامة الذي عرضت مشاهده في مطالع السورة كذلك. ويتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله ومقت الله لهم ومقت المؤمنين كما جاء ذلك في الشوط الأول. ثم يعرض السياق مشهدهم في النار أذلاء ضارعين يدعون فلا يستجاب لهم، كما عرض مشهد أمثالهم من قبل في السورة.
وهكذا وهكذا مما يوحي بأن منطق الإيمان ومنطق المؤمنين واحد، لأنه يستمد من الحق الواحد. ومما ينسق جو السورة، ويجعل لها شخصية موحدة الملامح. وهي الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن.
{أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم. وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات، فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب}..
هذا المعبر بين قصة موسى عليه السلام وموضوع السورة قبلها يذكر المجادلين في آيات الله من مشركي العرب بعبرة التاريخ قبلهم؛ ويوجههم إلى السير إلى الأرض، ورؤية مصارع الغابرين، الذين وقفوا موقفهم. وكانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض. ولكنهم مع هذه القوة والعمارة كانوا ضعافاً أمام بأس الله. وكانت ذنوبهم تعزلهم عن مصدر القوة الحقيقية، وتستعدي عليهم قوى الإيمان ومعها قوة الله العزيز القهار: {فأخذهم الله بذنوبهم. وما كان لهم من الله من واق}.. ولا واقي إلا الإيمان والعمل الصالح والوقوف في جبهة الإيمان والحق والصلاح. فأما التكذيب بالرسل وبالبينات فنهايته إلى الدمار والنكال:
{ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات، فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب}..
وبعد هذه الإشارة الكلية المجملة يبدأ في عرض نموذج من نماذج الذين كانوا من قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض. فأخذهم الله بذنوبهم. وهم فرعون وقارون وهامان. ومن معهم من المتجبرين الطغاة.
وتنقسم هذه الحلقة من قصة موسى عليه السلام إلى مواقف ومناظر، تبدأ من موقف عرض الرسالة على فرعون وملئه. وتنتهي هنالك في الآخرة، وهم يتحاجون في النار. وهي رحلة مديدة. ولكن السياق يختار لقطات معينة من هذه الرحلة، هي التي تؤدي الغرض من هذه الحلقة في هذه السورة بالذات:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون، فقالوا: ساحر كذاب}.
هذا هو موقف اللقاء الأول. موسى ومعه آيات الله، ومعه الهيبة المستمدة من الحق الذي بيده. وفرعون وهامان وقارون. ومعهم باطلهم الزائف وقوتهم الظاهرة ومركزهم الذي يخافون عليه من مواجهة الحق ذي السلطان.. عندئذ لجأوا إلى الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق: {فقالوا: ساحر كذاب}..
ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال، ويطوي موقف المباراة مع السحرة، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون. ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث:
{فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا واستحيوا نساءهم}.
ويعقب عليه قبل أن تكمل الآية:
{وما كيد الكافرين إلا في ضلال}..
إنه منطق الطغيان الغليظ، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب. كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار.
فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا:
{اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم}..
ولقد كان فرعون في أيام مولد موسى قد أصدر مثل هذا الأمر. وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول.. الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده، ولم يكن الأمر منفذاً في العهد الجديد، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد، ويعرف تربيته في القصر، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل. فحاشيته تشير إلى هذا الأمر، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه.. والاحتمال الثاني: أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى، ما يزال على عرشه. وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته. فالحاشية تشير بتجديده، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف.
فأما فرعون فكان له فيما يبدو رأي آخر، أو اقتراح إضافي في أثناء التآمر. ذلك أن يتخلص من موسى نفسه. فيستريح!
{وقال فرعون: ذورني أقتل موسى، وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد}..
ويبدو من قوله: {ذروني أقتل موسى}.. أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة من ناحية الرأي كأن يقال مثلاً: إن قتل موسى لا ينهي الإشكال. فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيداً، والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به، وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع، وإعلانهم سبب إيمانهم، وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه.
وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له، ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه! ويكون قول فرعون: {وليدع ربه}.. رداً على هذا التلويح! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون، كانت تبجحاً واستهتاراً، لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيء.
ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى:
{إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}..
فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله- عليه السلام- {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}؟!!
أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد. يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر. والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.
فأما موسى عليه السلام فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين، ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين، ويجير المستجيرين:
{وقال موسى: إني عذب بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب}..
قالها. واطمأن. وسلم أمره إلى المستعلي على كل متكبر، القاهر لكل متجبر، القادر على حماية العائذين به من المستكبرين. وأشار إلى وحدانية الله ربه وربهم لم ينسها أو يتركها أمام التهديد والوعيد. كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب. فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب، وهو يتصور موقفه يومئذ حاسراً خاشعاً خاضعاً ذليلاً، مجرداً من كل قوة، ما له من حميم ولا شفيع يطاع.
هنا انتدب رجل من آل فرعون، وقع الحق في قلبه، ولكنه كتم إيمانه. انتدب يدفع عن موسى، ويحتال لدفع القوم عنه، ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى، ويتدسس إلى قلوبهم بالنصيحة ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع:
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ وإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟ قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقال الذي آمن: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما الله يريد ظلماً للعباد.
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد. ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات؛ فما زلتم في شك مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم: لن يبعث الله من بعده رسولاً. كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب. الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}..
إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه. وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك.
إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه: {أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله}.. فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة.
ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة: {ربي الله}.. يقولها ومعه حجته، وفي يده برهانه: {وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى عليه السلام ورأوها، وهم فيما بينهم وبعيداً عن الجماهير يصعب أن يماروا فيها!
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض؛ ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية؛ تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: {وإن يك كاذباً فعليه كذبه}.. وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته. وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال!
وهناك الاحتمال الآخر، وهو أن يكون صادقاً. فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه: {وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم}.. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام.
ثم يهددهم من طرف خفي، وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب}.. فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه، فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون، فيصيبكم هذا المآل!
وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفاً بعقاب الله، محذراً من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان، مذكراً إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران:
{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟}..
إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض؛ فهم أحق الناس بأن يحذروه، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه، وأن يبيتوا منه على وجل، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.
ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله: {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟} ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم؛ وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص. وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف.
هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان:
{قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}..
إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً، وأعتقده نافعاً. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً؟ وإلا فلم كانوا طغاة؟!
ولكن الرجل المؤمن يجد من إيمانه غير هذا؛ ويجد أن عليه واجباً أن يحذر وينصح ويبدي من الرأي ما يراه. ويرى من الواجب عليه أن يقف إلى جوار الحق الذي يعتقده كائناً ما كان رأي الطغاة. ثم هو يطرق قلوبهم بإيقاع آخر لعلها تحس وتستيقظ وترتعش وتلين. يطرق قلوبهم بلفتها على مصارع الأحزاب قبلهم. وهي شاهدة ببأس الله في أخذ المكذبين والطغاة:
{وقال الذي آمن: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم. وما الله يريد ظلماً للعباد}..
ولكل حزب كان يوم. ولكن الرجل المؤمن يجمعها في يوم واحد: {مثل يوم الأحزاب} فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الله. وهو يوم واحد في طبيعته على تفرق الأحزاب.. {وما الله يريد ظلماً للعباد} إنما يأخذهم بذنوبهم، ويصلح من حولهم ومن بعدهم بأخذهم بأيام الله.
ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله. يوم القيامة. يوم التنادي:
{ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم. ومن يضلل الله فما له من هاد}..
وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف. وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار. وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.. فالتنادي واقع في صور شتى. وتسميته {يوم التناد} تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام.
وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن: {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم}.. وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار. ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان!
{ومن يضلل الله فما له من هاد}.. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.. وتلميحاً بأن الهدى هدى الله. وأن من أضله فلا هادي له. والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال.
وأخيراً يذكرهم بموقفهم من يوسف، ومن ذريته كان موسى عليهما السلام وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات، فلا يكرروا الموقف من موسى، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف، فكانوا منه في شك وارتياب. ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولاً، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال:
{ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات، فما زلتم في شك مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم: لن يبعث الله من بعده رسولاً. كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب. الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم. كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}..
وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف عليه السلام للقوم في مصر. وقد عرفنا من سورة يوسف، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض، المتصرف فيها. وأنه أصبح عزيز مصر وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر. وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر وإن لم يكن ذلك مؤكداً وذلك قوله:
{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئاً آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية. وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان. ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن. حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! {حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً}.. وكأنما استراحوا لموته، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول، لأن هذه كانت رغبتهم.
وكثيراً ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه، لأن تحققه يلبي هذه الرغبة!
والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول:
{كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب}..
فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات.
ثم يشتد في مواجهتهم بمقت الله ومقت المؤمنين لمن يجادل في آيات الله بغير حجة ولا برهان. وهم يفعلون هذا في أبشع صورة. ويندد بالتكبر والتجبر، وينذر بطمس الله لقلوب المتكبرين المتجبرين!
{الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}..
والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الأصل من التعبير المباشر في مطالع السورة. المقت للمجادلين في آيات الله بغير برهان، والإضلال للمتكبرين المتجبرين حتى ما يبقى في قلوبهم موضع للهدى، ولا منفذ للإدراك.
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها؛ فقد ظل فرعون في ضلاله، مصراً على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً:
{وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى. وإني لأظنه كاذباً. وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب}..
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات، لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك {وإني لأظنه كاذباً}.. هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور، كي لا يواجه الحق جهرة، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور. إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى. وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله، وتبجحه في جحوده: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل}.. وهو مستحق لأن يصد عن السبيل، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل.
ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار:
{وما كيد فرعون إلا في تباب}..
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار، وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله، وهو طريق الرشاد.
وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة؛ وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية؛ وحذرهم عذاب الآخرة؛ وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان:
{وقال الذي آمن: يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار. لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، وأن مردنا إلى الله، وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله. إن الله بصير بالعباد}..
إنها الحقائق التي تقررت من قبل في صدر السورة، يعود الرجل فيقررها في مواجهة فرعون وملئه. إنه يقول في مواجهة فرعون:
{يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}..
وقد كان فرعون منذ لحظات يقول: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار، ولا ملأه المتآمرين معه من أمثال هامان وقارون. وزيري فرعون فيما يقال.
ويكشف لهم عن حقيقة الحياة الدنيا: {إنما هذه الحياة الدنيا متاع}.. متاع زائل لا ثبات له ولا دوام. {وإن الآخرة هي دار القرار}.. فهي الأصل وإليها النظر والاعتبار.
ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار:
{من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها. ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}..
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات، رحمة من الله بعباده، وتقديراً لضعفهم، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة، فضاعف لهم الحسنات، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب، رزقهم الله فيها بغير حساب.
ويستنكر الرجل المؤمن أن يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى النار، فيهتف بهم في استنكار:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؟}..
وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية:
{تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم. وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار}..
وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة مستقمية. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره.
يدعوهم إليه ليغفر لهم وهو القادر على أن يغفر، الذي تفضل بالغفران: {العزيز الغفار}.. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله. عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!
ويقرر من غير شك ولا ريبة أن هؤلاء الشركاء ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم شأن لا في دنيا ولا في آخرة، وأن المرد لله وحده، وأن المسرفين المتجاوزين للحد في الادعاء سيكونون أهل النار:
{لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة. وأن مردنا إلى الله. وأن المسرفين هم أصحاب النار}.
وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة؟ وقد جهر بها الرجل في مواجهة فرعون وملئه بلا تردد ولا تلعثم، بعدما كان يكتم إيمانه، فأعلن عنه هذا الإعلان؟ لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله. وقد قال كلمة وأراح ضميره، مهدداً إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى. والأمر كله إلى الله:
{فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد}..
وينتهي الجدل والحوار. وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.
ويجمل السياق حلقات القصة بعد هذا. وما كان بين موسى وفرعون وبني إسرائيل. إلى موقف الغرق والنجاة: ويقف ليسجل لقطات بعد هذا الموقف الأخير. وبعد الحياة:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا، وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشياً، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
{وإذ يتحاجون في النار، فيقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً، فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ قال الذين استكبروا: إنا كل فيها، إن الله قد حكم بين العباد. وقال الذين في النار لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب. قالوا: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى. قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}..
لقد طويت الدنيا، وعرضت أول صفحة بعدها. فإذا الرجل المؤمن الذي قال كلمة الحق ومضى، قد وقاه الله سيئات مكر فرعون وملئه، فلم يصبه من آثارها شيء في الدنيا، ولا فيما بعدها أيضاً. بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب:
{النار يعرضون عليها غدواً وعشياً. ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
والنص يلهم أن عرضهم على النار غدواً وعشياً، هو في الفترة من بعد الموت إلى قيام الساعة. وقد يكون هذا هو عذاب القبر. إذ أنه يقول بعد هذا: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.. فهو إذن عذاب قبل يوم القيامة. وهو عذاب سيء. عرض على النار في الصباح وفي المساء. إما للتعذيب برؤيتها وتوقع لذعها وحرها وهو عذاب شديد وإما لمزاولتها فعلاً.
فكثيراً ما يستعمل لفظ العرض للمس والمزاولة. وهذه أدهى.. ثم إذا كان يوم القيامة أدخلوا أشد العذاب!
فأما في الآية التالية فقد كانت القيامة فعلاً، والسياق يلتقط لهم موقفاً في النار! وهم يتحاجون فيها:
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً. فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟}.
إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا. لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولاً وإمعات! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنماً تساق! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار!
لقد منحهم الله الكرامة. كرامة الإنسانية. وكرامة التبعة الفردية. وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعاً. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم: لا. بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال.. {إنا كنا لكم تبعاً}.. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعاً لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة. سوق الشياه! ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم: {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟}.. كما كانوا يوهمونهم في الأرض أنهم يقودونهم في طريق الرشاد، وأنهم يحمونهم من الفساد، وأنهم يمنعونهم من الشر والضر وكيد الأعداء!
فأما الذين استكبروا فيضيقون صدراً بالذين استضعفوا، ويجيبونهم في ضيق وبرم وملالة. وفي إقرار بعد الاستكبار:
{قال الذين استكبروا: إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}..
{إنا كل فيها}.. إنا كل ضعاف لا نجد ناصراً ولا معيناً. إنا كل في هذا الكرب والضيق سواء. فما سؤالكم لنا وأنتم ترون الكبراء والضعاف سواء؟
{إن الله قد حكم بين العباد}.. فلا مجال لمراجعة في الحكم، ولا مجال لتغيير فيه أو تعديل. وقد قضي الأمر، وما من أحد من العباد يخفف شيئاً من حكم الله.
وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء:
{وقال الذين في النار لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}..
إنهم يستشفعون حراس جهنم، ليدعوا ربهم. في رجاء يكشف عن شدة البلاء: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}.. يوماً. يوماً فقط. يوماً يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون. فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء.
ولكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة. فهم يعرفون الأصول. ويعرفون سنة الله، ويعرفون أن الأوان قد فات. وهم لهذا يزيدون المعذبين عذاباً بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب:
{قالوا: أو لم تك تأتيكم بالبينات؟.. قالوا: بلى}.
وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار.
وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار:
{قالوا: فادعوا}..
إن كان الدعاء يغير من حالكم شيئاً، فتولوا أنتم الدعاء.
وتعقب الآية قبل تمامها على هذا الدعاء:
{وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}..
لا يبلغ. ولا يصل. ولا ينتهي إلى جواب. إنما هو الإهمال والازدراء للكبراء والضعفاء سواء.
عند هذا الموقف الحاسم يجيء التعقيب الأخير على الحلقة كلها، وعلى ما تقدمها من الإشارة إلى الأحزاب التي تعرضت لبأس الله، بعد التكذيب والاستكبار.
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب. فاصبر إن وعد الله حق. واستغفر لذنبك، وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار}..
هذا التعقيب الجازم، يناسب ذلك الموقف الحاسم. ولقد اطلعت منه البشرية على مثل من نهاية الحق والباطل. نهايتهما في هذه الأرض ونهايتهما كذلك في الآخرة. ورأت كيف كان مصير فرعون وملئه في الحياة الدنيا، كما رأوهم يتحاجون في النار، وينتهون إلى إهمال وصغار. وذلك هو الشأن في كل قضية كما يقرر القرآن:
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}..
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان.
إن وعد الله قاطع جازم: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا..}.. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد.. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى.
وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب!.. والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال..
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم. قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه.
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضاء الله فيه، وقدره عليه، ويحسن أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال