سورة الشورى / الآية رقم 36 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ

الشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورىالشورى




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
فى الآية الكريمة تهوين من شأن الدنيا، واستخفاف بمتاعها، إلى جانب ما في الحياة الآخرة من جزاء كريم، ونعيم خالد لا يفنى.
فقوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} هو حكم على هذه الحياة الدنيا، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان- هو متاع، أي زاد لا يلبث أن ينفد، أو ثوب لا بد أن يبلى.
فكل ما في الحياة الدنيا إلى نفاد، وزوال.. وإن كثر وعظم.
وقوله تعالى: {وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي والذي يبقى ولا ينفد، هو ما تقبّله اللّه من أعمال صالحة، حيث يكون ثوابها عند اللّه نعيما لا يفنى، ورزقا لا ينفد.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي أن هذا الذي عند اللّه من جزاء حسن، هو للذين آمنوا، وتوكلوا على ربهم، وأسلموا أمرهم له.. وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره: لمن هذا الذي عند اللّه فكان الجواب: للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هذا الذي عند اللّه من خير، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون.
وكبائر الإثم، هى كبائر الذنوب، كالقتل، والربا، وشرب الخمر، والزنا، ونحوها.. والفواحش: هى المنكرات، من قول، أو فعل.. وصورتها البالغة في الفحش، تتمثل في الزنا، ولهذا غلب على الزنا، الوصف بالفاحشة.
وفى قصر التجنب على كبائر الإثم، وكبائر الفواحش- إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها، فضلا من اللّه وإحسانا، كما يقول سبحانه: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} [32: النجم].
فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا، ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة، وأن يتجنب الكبائر، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا.. أما الصغائر، فإنها كثيرا ما تعرض للإنسان، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا في أن تكونوا أقرب شيء إلى الاستقامة والسداد.
وقوله تعالى: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} هو صفة أخرى من صفات الذين آمنوا.. وهى أنهم إذا ما استغضبوا، وغضبوا، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم.
وفى قرن المغفرة بالغضب، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان في حال الاستثارة والغضب، هى المحمودة في باب المغفرة، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس، إذ يقهر فيها الإنسان شهوة الانتقام، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [35: فصلت].
وقرن المغفرة بالغضب، أبلغ من قرنها بالإساءة.. فقد يساء إلى الإنسان، ولا يغضب، ولا تتحرك في نفسه داعية الانتقام، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة، ولم يحمل في سبيلها مئونة.
وفى ذكر المغفرة هنا، إغراء بها، إذ كانت في معرض مغفرة اللّه سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان من اللمم، ومن صغائر الذنوب.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فهؤلاء المؤمنون، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم، أي يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه.. ومن امتثالهم لأمر، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. وإقامة الصلاة، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان باللّه. وإيتاء الزكاة، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة.
وفى قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} إشارة إلى أن من صفات المؤمنين أن يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون.. فتكون طريقهم واحدة، ووجهتهم واحدة، ويدهم واحدة، وموقفهم واحدا، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا، ولا تركب كل جماعة طريقا.. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية، ويفتّ في عضدها، ويوقع الشحناء بين جماعاتها وأفرادها.
هذا، ولم تجىء الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى، دعوة قاهرة ملزمة، من غير أن يقوم إلى جانبها الوجود الذاتي للإنسان، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته، إلى هذه الوحدة، بل قام مع هذه الدعوة، بل أمام هذه الدعوة، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية، في الأمر الذي يعرض لها، ويتطلب وحدة جماعتها.. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا، ويتدارسونه فيما بينهم، ويقلّبون الرأى فيه، وفى هذا العرض للأمر، ما يكشف لهم عن وجه الرأى فيه، وما يأخذون أو يدعون منه.. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة واحدة، هى الوجهة التي رضيها الجميع، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت من آرائهم، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها.. وبهذا تكون مسيرة المسلمين تحت هذه الراية، مسيرة ينتظمها شعور واحد، ويحكمها رأى واحد، وتحتويها عزيمة واحدة، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم، أشبه بنسيج هذه الراية التي تشكلت من مجتمع آرائهم.
وهذا هو بعض السر في أن جاء النظم القرآنى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} بدلا من أن يجىء مثلا هكذا: وكانوا أمة واحدة، أو مجتمعا واحدا.. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا، إلا إذا توحدت المشاعر، ولن تتوحد المشاعر، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت، ولن تتلاقى الآراء وتتوحد، إلا مع عرضها، وتنخّلها، وذلك لا يكون إلا بالتشاور بينهم، وعرض رأى كل ذى رأى، في صراحة مطلقة، وحرية كاملة.
الشورى في الإسلام.. منهجا وتطبيقا:
ولابد هنا من وقفة مع هذا المبدأ العظيم، الذي قرره الإسلام، ليكون مادة أولى، من مواد هذا الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية، ويدين به الفرد والجماعة على السواء.. ذلك هو مبدأ الشورى.
فالشورى شريعة من شرائع الرسالة الإسلامية، حيث ينعقد بها الإجماع، الذي هو أصل من أصول التشريع الأربعة، المعتمدة في الإسلام، وهى الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع.. حيث لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه، وتقديم الحجج والأدلة بين يدى كل رأى، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى فيه من المسلمين، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد.
وليس المراد بأهل الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس، أو طائفة معينة من طوائفهم، بل هم في كيان المجتمع الإسلامى كله، في كل زمان ومكان، لا يختص بهم موطن، ولا يحصرهم زمن.. فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى، وفيهم أهل الحل والعقد.. أي أصحاب الرأى والنظر.. فكل ذى رأى ونظر، هو من أهل الحل والعقد، وله أن يأخذ مكانه في الأمر الذي يعرض للمسلمين، وأن يدلى برأيه، وبحجته التي تدعم هذا الرأى، كما أن له أن ينظر في رأى غيره، وأن يقول رأيه فيه، معدّلا أو مجرّحا.. كل ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل، لا الهوى وحبّ الغلب.
والرأى الذي ينتهى إليه المسلمون، أو أولو الحل والعقد فيهم، هو ملزم لجماعتهم، لا يجوز لأحد منهم الخروج عليه.. وليس في هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد، أو عدوان على حقه في النظر في الأمور، ووزنها بميزان إدراكه وتقديره، بل إن هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة، لو أنه أخذ برأيه، وترك رأى الجماعة، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده الآراء، ونخلته العقول.
وإذا كان الإجماع هو الوجه البارز من وجوه الشورى، فإن للشورى وجوها أخرى.. إذ ليس كل أمر يعرض للجماعة الإسلامية، ينتهى بالتشاور فيه، إلى إجماع في الرأى، على نحو الإجماع المعروف في الشريعة.
بل قد يقع الخلاف في الرأى على أمر من الأمور، ثم يرجح جانب فيه على جانب، فيؤخذ بالجانب الراجح، ويترك الجانب المرجوح..!
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو صور الشورى، وأشكالها، وإنما الذي يعنينا، وله المقام الأول، هو مبدأ الشورى ذاتها، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام، وحكما من أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها، ويقيم حياته عليها.
ففى قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} خبر يراد به الأمر، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين، وتوسطهما، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، المأمور بهما شرعا.. فكان حكم الشورى حكمهما، من حيث الوجوب والإلزام.
وفى مجىء الشورى بعد إقامة الصلاة، وقبل إيتاء الزكاة، إشارة إلى أمور:
أولا: أن الصلاة أقوال وأفعال، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال.
أما الزكاة فهى أفعال خالصة.. فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها في صورتها، وأن تتقدم من أجل هذا على الزكاة.
وثانيا: أن الصلاة يؤديها المؤمن منفردا، أو في جماعة.. وهو في حال انفراده يؤديها على الصورة التي يراها، من حيث الطول والقصر في أفعالها، قياما، وركوعا، وسجودا.. أما في حال أدائها في جماعة، فإنه ليس له هذا الخيار، بعد أن يأخذ مكانه في الجماعة، وينتظم في عقدها، فهو والجماعة من وراء الإمام، الذي يجب أن يلزموا متابعته في كل حركاته وسكناته.
والشورى، صورة مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به.
فإذا كان الإنسان خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له، كان له أن يتصرف في هذا الأمر على الوجه الذي يراه بعقله، ويؤديه إليه اجتهاده.. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين في أمر عام، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء، لم يكن له أن يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم، والذي يتمثل لهم حينئذ في صورة الإمام الذي يأتمون به في الصلاة.. فكما لا يخرج المأموم في الصلاة عن متابعة الإمام، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته في أن بطيل أو يقصّر، في قيام، أو ركوع، أو سجود- كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد تشاورهم فيه، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من رأى الإسلام، والسبيل التي يسلكها المسلمون- متابعة لهذا الرأى- هى سبيل اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
وثالثا: أن الصلاة فريضة عامة، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين، ـ وكذلك التشاور بين المسلمين، أمر ملزم لهم جميعا، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء الرأى الذي يراه، في أي أمر يعرض لهم، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أن يأخذ مكانه في صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة في الصلاة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ}.
ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها.. وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها.. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى، كما هو أهل للصلاة في جماعة.
ورابعا: أن الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها، وذلك بالتطهر، والوضوء.. وكذلك الشورى، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى، وخلوها من الدخل.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول اللّه؟: قال: «للّه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق.
وخامسا: أن للصلاة وقتا، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها، ودعا المسلمين إليها.. وكذلك للشورى وقتها.. فإذا حزب المسلمين أمر، تنادوا به، واجتمعوا له، وتشاوروا فيه.
ذلك هو بعض السر في قرن المشورة بإقامة الصلاة.. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى.
أما وصلها بالزكاة من طرفها الآخر، فإنه يشير كذلك إلى أمور.. منها:
فمن رأى في أمر من أمور المسلمين خللا، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك رأيه، وحبس نصحه، كان آثما.
شأنه في هذا شأن من كان ذا مال وسعة، ثم لم ينفق من ماله في سبيل اللّه، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين.
وثانيا: لم يقيد النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه، من مال أو نحوه، بل جعله، إنفاقا مطلقا، يشمل كل ما يرزقه اللّه الإنسان من خير.. فسمّاه سبحانه رزقا، ليشمل المال وغير المال، من رأى، وعلم، وفنّ.
خلا يستبد المؤمن وحده، برزق رزقه اللّه إياه، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين.
وثالثا: كذلك لم يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود، كالزكاة، بل جعله إنفاقا مطلقا.. لأنه في مقام الشورى لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من علم، ومما عنده من معرفة، بل إنه مطلوب منه في تلك الحال أن ينفق كل ما لديه، وأن يبذل كل ما عنده، غير ممسك بشىء من رأيه، أو محتجز شيئا من جهده، واجتهاده.
ونقرأ الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وننظر مرة أخرى في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} وفى مقام هذا المقطع من الآية، بين ما سبقها، وما جاء بعدها من كلمات اللّه، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى، وكيف أنه أفسح لها مكانا بين فريضتين من فرائضه، هما الصلاة والزكاة، اللتان آخى بينهما في كل موضع جاء فيه ذكرهما في القرآن الكريم.. كما يقول سبحانه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} [3: البقرة] ويقول جلّ شأنه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43: البقرة] ويقول سبحانه: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ} [55: مريم] ويقول عزّ من قائل: {وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا} [31: مريم].
ويقول تبارك اسمه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} [1- 4: المؤمنون].
والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ليس فصلا، لأن الإعراض عن اللغو هنا، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية.. أما الفصل بين الصلاة والزكاة بالشورى، فهو لما للشورى من منزلة في ذاتها، وأنها جديرة بأن تكون في هذا المقام، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام، وأهم ركنين من أركانه، بعد الإيمان باللّه.
والسؤال هنا: لما ذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولما ذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية بهذا القدر، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟
ولقد أشرنا من قبل إلى ما للشورى من آثار في بناء المجتمع، وفى حياطة هذا البناء، وفى دفع العوارض التي تعرض له، وتهدّد وجوده.
ونريد هنا أن ننظر إلى المجتمع الإسلامى، الذي يقوم أمره على الشورى، وما للشورى من آثار مادية، ونفسية، وروحية، وعقلية. في حياطته، ودعم بنائه.
فالمسلمون مطالبون.. ديانة.. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا.. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى.. وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما في تواصل وفى تواص بالنصح، ومشاركة في السراء والضرّاء، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له، فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له في إخلاص، بل ويسعى معه في دفع الضرّ عنه، ما استطاع، حسبة للّه، وأداء لحق وجب عليه.
فإذا كان الأمر العارض من البلايا العامة، التي تمسّ المجتمع، أو طائفة من المجتمع، تنادى لها المسلمون جميعا، وتداعوا عليها بالرأى، والعمل معا، وحمل كلّ منهم همها، وشارك فيها بكل ما وسعه من جهد.. هذا ما يقضى به الدّين، إلى جانب ما تقضى به ضرورات أخرى كثيرة..
وآثار هذه المشاركة كثيرة عميقة.
فأولا: أنها توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض.. وتجعل منهم جسدا واحدا، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم في قوله تعالى: {مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر}.
وثانيا: في عرض مشكلات المجتمع على الجماعة، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها- تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية معها، وإفساح مكان له فيها.. وهذا من شأنه أن يهيىء للفرد فرصا طيبة، يبرز فيها وجوده، ويربّى فيها ملكاته، وينمى قواه المدركة، حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها، وهذا بدوره، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم والمعرفة، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم، وما وعى من معرفة.
وثالثا: في عرض الآراء، وفى تقليب وجوهها، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة، وبالتالى تصحيح للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء، والتي لو شارك المرء الجماعة في عمل من الأعمال، وهو بهذه الآراء، وتلك المشاعر، لكان آلة متحركة بغير وعى، عاملة بغير شعور، إن لم يكن جسدا غريبا، يعوق مسيرة الجماعة، ويقلل من جهدها.. ولهذا كانت دعوة اللّه سبحانه إلى النبىّ الكريم، بأن يقيم أمره في المسلمين على الشورى، فيقول سبحانه:
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [159: آل عمران].. والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- بما أراه ربه- في غنى عن المشورة، وعن أخذ الرأى من أحد، فإنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما وصفه الحق جلّ وعلا: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} [3: النجم].. ولكن هكذا أقام اللّه سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة، حتى تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ في إقامة الرأى، وفى حمل تبعة العمل، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه.. وقد رأينا النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه- بين يدى غزوة بدر يدعو الناس إليه قائلا: «أيها الناس.. أشيروا علىّ».
وذلك أنه صلوات اللّه وسلامه عليه، حين خرج بالمسلمين من المدينة للقاء عير أبى سفيان، لم يكن مخرجه لحرب قريش.
فلما أفلتت العير، جاءت قريش لتستنقذ العير أولا، ثم لتحارب النبي ثانيا.
فلما خلصت لها العير اتجهت إلى الحرب.. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين، ولم ير صلوات اللّه وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه، فطلب رأيهم في الحرب ولقاء قريش، أو العودة إلى المدينة.. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون، هو الحرب، ولقاء العدوّ.. وقد كانت الحرب، وكان النصر! هذه هى بعض ملامح الشورى، في الإسلام. وهى.. كما ترى.
وثيقة من أروع الوثائق، ودستور من أقوم الدساتير في بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها ببعض، وفى صبّ آراء أفراده في مجرى واحد يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}.
هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فإن من صفاتهم- إلى جانب ما ذكر لهم من صفات- أنهم لا يقبلون الظلم، ولا ينزلون على حكم الظالمين، بل إنهم حرب على الظلم وأهله، يبذلون في سبيل ذلك كل جهدهم وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم، ويبيعونها بيع السماح من أجل إقرار الحق، وإعلاء كلمته، والضرب على يد الباطل، وتنكيس رايته.. وليس الجهاد في سبيل اللّه، والاستشهاد في ميدان الجهاد، إلا صورة من صور دفع الظلم في أبشع صوره وردّ البغي في أقبح وجوهه.. لأن حرب الشرك والكفر هى حرب على الظالمين والباغين، الذين يسعون في الأرض فسادا، ويبغون في الأرض بغير الحق.
وسواء أكان البغي الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو في ذات نفسه، أو واقعا على الجماعة الإسلامية، فإن المؤمن مطالب- ديانة، إن لم يكن حمية وأنفة- أن يدفع هذا البغي، ويرد ذلك العدوان.. فالبغى منكر غليظ، والمؤمن حرب على المنكر، أيّا كان، وبأى سلاح يقدر عليه، وفى الحديث الشريف: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان».
فأدنى منازل الحرب للظلم، هو إنكاره بالقلب، وازدراؤه وازدراء أهله.. وهذه منزلة لا يصير إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان، والتشنيع على الظلم والظالمين، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان، إلا إذا لم يملك القوة المادية التي يضرب بها في وجه البغي والباغين.
وفى قوله تعالى: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ}.
وفى الإتيان بضمير الفصل {هم} إشارة إلى أن من وقع عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له، العاملين على دفعه، لا ينتظرون حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم، والانتصاف لهم ممن ظلمهم، وإن كان هذا لا يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم.
وفى إسناد دفع الظلم، ورد البغي، إلى من وقع عليه ظلم وبغى- هو إعلان لإنكار هذا المنكر، ممن وقع عليه، وإلا كان سكوته عليه، هو رضا به، وتقبلا له، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر له، ويقف في المعركة معه.
وفى التعبير عن التصدّى للعدوان، ودفع البغي بقوله تعالى: {يَنْتَصِرُونَ}.
بدلا من التعبير بلفظ مثل: يدفعون، أو يردّون، أو نحو هذا- تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك لرد هذا العدوان- لأنه، إن فعل- فسيكون على موعد مع النصر، الذي وعده اللّه سبحانه وتعالى إياه في قوله جل شأنه:
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [60: الحج] قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
هو تحريك لمشاعر أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة، وعملا مبرورا، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى، فيكون العفو هنا، عن فضل وإحسان، ممن بغى عليه، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت، فلا يتمادى بعد هذا في بغيه، بل ينزجر ويندحر، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا.
ففى وصف البغي بالسيئة، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته.
وفى وصف ردّ العدوان ودفع البغي بالسيئة، إشارة إلى أن من أساء، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من الإساءة إليه، وإلحاق الضرر به، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى.. فالسيئة هنا، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة.. فما هى إلا عمله قد ردّ إليه.. وفى قوله تعالى: {سَيِّئَةٌ مِثْلُها} إشارة إلى أن الجزاء، هو من جنس العمل.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إشارة إلى الأخذ بما هو أولى من جزاء السيئة بسيئة مثلها، وهو العفو عن المسيء، وذلك بعد القدرة عليه، ووقوعه ليد من بغى عليه.. فإن العفو مع القدرة- كما قلنا- هو عقوبة للمعتدى، ووقعها على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة.
وفى قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ} إشارة إلى أن لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه في هذا المقام، فله أن يعفو عفوا عامّا، وأن يعفو عن بعض، ويأخذ ببعض، حسب ما يرى من المعفوّ عنه، ومن الظروف والأحوال المحيطة به.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} إشارة إلى المنتصر بعد ظلمه، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه، وإلا كان ظالما، وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ، ومن مظلوم إلى ظالم، وقد كان اللّه سبحانه نصيرا له، فأصبح مخذولا من اللّه، مذموما: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
هو عرض شارح لقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}.
وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي، ودفع لما يجد أهل السلامة والصلاح في صدورهم من حرج في أن ينالوا أحدا بسوء، حتى ولو كان مسيئا.. وهذا خروج على سنن العدل، ومجافاة لطبيعة الحياة، وإطلاق لأيدى السفهاء أن يعيثوا في الأرض فسادا، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما.. ولهذا جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم، بلا بغى أو عدوان، حتى يكون لهم من ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان.
ولقد كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى اليهود، أن من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك رداءك، فاخلع له ثوبك أيضا- كانت تلك الدعوة بلاء من اللّه لليهود، ونقمة منه سبحانه، بعد أن بغوا وأفسدوا في الأرض.. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم- هى من بقايا الكئوس المرة القاسية، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم، ومكرهم!.
فليس ثمة من سبيل ولا لوم، على من انتصر من بعد ظلمه، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه.. وإنما السبيل واللوم على من بدأ بالظلم، وبغى على الناس.. أو على من انتصر من بعد ظلمه، فجاوز الحد، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين.. فهؤلاء لهم عذاب أليم، هو قصاص من العدل الإلهى، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه.
قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
الواو للقسم، واللام واقعة في جواب القسم.. والإشارة إلى الصبر والمغفرة.
أي إن الصبر والمغفرة من عزم الأمور.
وعزم الأمور، هو موجبها، ولازمها، الذي هو ملاكها، الذي تقوم عليه، بحيث لا يتم لها وضع صحيح إلّا به.. فلكل أمر عزيمة، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه.. وفى الحديث: «إن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه».
وهى فرائضه، وما أوجبه اللّه سبحانه على عباده.
وفى إسناد عزم الأمور إلى الفاعل، أي فاعل الصبر والمغفرة، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر والمغفرة- إشارة إلى أن المعوّل عليه في إعطاء القيمة للصبر والمغفرة هو الفاعل لها، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة، الصفة المناسبة التي تكون له منهما.. ومن حكم العرب: خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله.
والآية الكريمة تعقيب على هذه القضية العامة، التي تنتظم الناس جميعا، فهم بين ظالمين معتدين، ومتتصفين من الظالمين المعتدين.. وهذا يعنى أنهم في حرب متصلة لا تنقطع أبدا.. يوقد الظالمون المعتدون نارها، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما، بالاشتباك في صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم.
وهذه فتنة وابتلاء للناس.. وأنه إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم، فإن عليهم أن يذكروا أنهم في وجه فتنة وابتلاء، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق، وأن يأتوا إليه لإطفاء ناره، لا لتأججها.. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان، على ألا يخرج به الحال أبدا إلى الظلم والبغي.
فإن شاء صبر، وعفا، وإن شاء انتصف وانتصر.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال