سورة آل عمران / الآية رقم 156 / تفسير تفسير الألوسي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُـمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ

آل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمران




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}
{حَلِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي ومجاهد وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحًا باينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرًا عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لما سمي المنافق كافرًا، وقيل: المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر {وَقَالُواْ لإخوانهم} في المذهب أو النسب، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب عنى عن، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الأخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم: يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول.
{إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض} أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا قاله السدي وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل: أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل: اكتفى بذكر الأرض مرادًا بها البر عن ذكر البحر، وقيل: المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد، وجىء بإذا وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه {إِذَا} مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضارًا لصورة ضربهم في الأرض، واعترض بوجهين: الأول: أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى {إِذَا ضَرَبُواْ} حين يضربون فيما يستقبل، الثاني: أن قولهم: لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض. وأجيب عن الأول: بأن {إِذَا ضَرَبُواْ} في معنى الاستمرار كما في {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ} [البقرة: 14] فيفسد الاستحضار نظرًا للحال، وعن الثاني: بأن {قَالُواْ لإخوانهم} في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظًا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفًا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} [البقرة: 198] وكقولك إذا طلع هلال المحرم: أتيتك في منتصفه. وقال الزجاج: {إِذَا} هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل {إِذَا ضَرَبُواْ} ظرفًا لقالوا بل ظرف لما يحصل للأخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل: قالوا لأجل الأحوال العارضة للأخوان إذا ضربوا عنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني، وأنت تعلم أن تجريد {إِذَا} عن معنى الاستقبال وجعلها عنى الوقت مطلقًا كاف في توجيه الآية مزيل لإشكالها، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جوابًا إذ يصير مستقبلًا فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضًا ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد، وأقعد منه وإن كان بعيدًا ما قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار {إِذَا} على ما استقر لها من الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل محذوف على أن ضمير {لَّوْ كَانُواْ} عائدًا على إخوانهم لفظًا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه، والتقدير وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزًا لو كانوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا فتكون هذه المقالة تثبيطًا لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين. وإنما لم يحملوا {إِذَا} هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو {واليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] لتصفو لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور، وجوز في الآية كون قالوا عنى يقولون؛ وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي عنى المستقبل ومنه قوله:
وإني لآتيكم تشكر ما مضى *** من الأمر واستيجاب ما كان في غد
وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل {إِذَا} على الماضي فإنها تجىء له كما جاءت إذ للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، وقوله:
وندمان يزيد الكاس طيبا *** سقيت إذا تغورت النجوم
وحينئذٍ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله.
والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قولهم لإخوانهم إذا سافروا {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} جمع غاز كعاف وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل، واستشهد عليه بعضهم بقول امرئ القيس:
ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى *** لها قلب عفى الحياض أجون
ويجمع على غزاة كقاض وقضاة، وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين، وعلى غزاء مثل فاسق وفساق، وأنشدوا له قول تأبط شرًا:
فيومًا بغزاء ويومًا بسرية *** ويومًا بخشخاش من الرجل هيضل
وعلى غازون مثل ضارب وضاربون، وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين إذ أصله غزوا تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا ثم حذفت، وقرئ بتخفيف الزاي قال أبو البقاء: وفيه وجهان، الأول: أن أصله غزاة فحذفت الهاء تخفيفًا لأن التاء دليل الجمع، وقد حصل من نفس الصيغة. والثاني: إنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل: قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناءًا على أن المراد به السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوًا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى.
لَّوْ كَانُواْ مقيمين عندَنَا بأن لم يسافروا أو يغزوا {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا، والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمرًا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا {أَوْ كَانُواْ} فقتلوا، وتقدير فماتوا أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر {قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي، وقيل: متعلق بلا تكونوا على أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، واعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سببًا للنهي إنما يكون سببًا لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو، وكأن القائل التبس عليه استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة.
وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببًا لدخول الجنة، وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سببًا لدخولها، ثم قال: والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه، وقيل: متعلق بلا تكونوا والإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون وقالوا ابتداء كلام معطوفًا على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات، وعلى كل من الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدًا إلى الكافرين، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال.
وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة بقالوا حينئذٍ لا غير، ووجه الآية بما يقضي منه العجب.
{والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ} ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما، وقيل: المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء.
{والله بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم يعملون بالياء، وضمير الجمع حينئذٍ للكفار، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع؛ وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف.
هذا ومن باب الإشارة: {وَكَأَيّن} وكم {مّن نَّبِىٍّ} مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية {قَاتَلَ مَعَهُ} عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة {رِبّيُّونَ} متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله} وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات {وَمَا ضَعُفُواْ} في طلب الحق {وَمَا استكانوا} وما خضعوا للسوي{والله يُحِبُّ الصابرين} [آل عمران: 146] على مقاساة الشدائد في جهاد النفس {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مواطن حروب أنفسنا {وانصرنا} بتأييدك وإمدادك {عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] الساترين لربوبيتك {فاتاهم الله} بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى: {ثَوَابَ الدنيا} وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة} وهو مقام توحيد الذات {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 148] في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الإيمان الحقيقي {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} وهم النفوس الكافرة وصفاتها {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا القهقرى {خاسرين} [آل عمران: 149] أنفسكم {بَلِ الله مولاكم} ناصركم {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} [آل عمران: 150] لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} أي الخوف {ا أَشْرَكُواْ} أي بسبب إشراكهم {بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بوجوده {سلطانا} أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببًا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقرملة {وَمَأْوَاهُمُ النار} وهي نار الحرمان {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} [آل عمران: 151] الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} المشروط بالصبر والتقوى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلًا ذريعًا {بِإِذْنِهِ} وأمره لا على وفق الطبع {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} جبنتم عند تجلي الجلال {وتنازعتم فِى الامر} وخالفتم في أمر الطلب {وَعَصَيْتُمْ} المرشد المربي {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من الفوز بأنوار الحضرة {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} لقصور همته وضعف رأيه {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة} لطول باعه وقوة عقله {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي عن أعداء نفوسكم وجنودها {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 152]، في طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحيانًا على من يرحم
{إِذْ تُصْعِدُونَ} في جبل التوجه إلى الحق {وَلاَ تَلْوُونَ} أي لا تلتفتون {على أَحَدٍ} من الأمرين الدنيا والآخرة {والرسول} أي رسول الواردات {يَدْعُوكُمْ} إليّ عباد الله إليّ عباد الله {فأثابكم غَمًّا بِغَمّ} فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} من زخارف الدنيا {وَلاَ مَا أصابكم} من صدمات تجلي القهر {والله خَبِيرٌ بما تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاسًا} أي واردًا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية {يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} وهم الصادقون في الطلب {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} قتضى سوء استعدادهم {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْء} أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا {قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ} فهو المتصرف وحده حسا يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم} الخبيثة {مَّا لاَ يُبْدُونَ} بزعمهم لك أيها المرشد الكامل {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء مَّا قُتِلْنَا} بسيف الشهوات {هاهنا} أي في هذه النشأة {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ} وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات {لَبَرَزَ} على حسب العلم {الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} في لوح الأزل {إلى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] وهي بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22] أي نظهرها بهذا التعين، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى {عَبْدُ الله} تعالى: {مَا فِى صُدُورِكُمْ} أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل {وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ولله تعالى در من قال:
لله در النائبات فإنها *** صدأ اللئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعنني *** سيفًا وأطلع صرفهن غراري
وذلك لأنهم حينئذٍ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب الأول: للمنافقين، والثاني: للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل: ولهذا قال سبحانه: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 154] بناءًا على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمنًا لها {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة {أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] وقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى. ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم». وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله: اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفًا من قلبه يقول يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم {حَلِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد {أَوْ كَانُواْ} أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان {غُزًّى لَّوْ كَانُواْ} مقيمين {عِنْدِنَا} موافقين لنا {مَا مَاتُواْ} قاساة الرياضة {وَمَا قُتِلُواْ} بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا النصب {لِيَجْعَلَ الله ذلك} أي عدم الكون مثلهم {حَسْرَةً} يوم القيامة {فِى قُلُوبِهِمْ} حين يرون ما أعد الله تعالى لكم {والله يُحْيىِ} من يشاء بالحياة الأبدية {وَيُمِيتُ} من يشاء وت الجهل والبعد عن الحضرة {والله بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156] تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} أيها المؤمنون {فِى سَبِيلِ الله} أي في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلًا أو نية.
{لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى، واللام الأولى: هي موطئة للقسم، والثانية: واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه عناه ومغفرة مبتدأ و{مِنْ} متعلقة حذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارًا للاعتناء بها، ورمزًا إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة {رَحْمَةً} لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناءًا على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرًا في نفس الأمر. وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في ما أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذٍ محذوفًا أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم {مُّتُّمْ} بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا ههنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول: من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني: من مات يموت مثل كنتم من كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم {يَجْمَعُونَ} بالياء على صيغة الغيبة، وقرأ الباقون تجمعون بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابًا وأعظم عند الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه:




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال