سورة محمد / الآية رقم 14 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مَثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْراطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ

محمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمد




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة مدنية، ولها اسم آخر. اسمها سورة القتال. وهو اسم حقيقي لها. فالقتال هو موضوعها. والقتال هو العنصر البارز فيها. والقتال في صورها وظلالها. والقتال في جرسها وإيقاعها.
القتال موضوعها. فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقية الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا، وتمجيد كذلك للذين آمنوا، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين وليٌّ للآخرين، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه. فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}.
وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم. في صيغة رنانة قوية، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مّناً بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها}
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال، وتشجيع عليه، وتكريم للاستشهاد فيه، ووعد من الله بإكرام الشهداء، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصاراً لله، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم. يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}..
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}.. كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول صلى الله عليه وسلم: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم}
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة. فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات؛ وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}.. كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه، وخمر لذة للشاربين، وعسل مصفى، في وفر وفيض.
في صورة أنهار جارية.. ذلك مع شتى الثمرات، ومع المغفرة والرضوان. ثم سؤال: أهؤلاء {كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم؟}..
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين. أعقبها في السورة جولة مع المنافقين، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطراً على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود، وضعف مركز المنافقين (كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب).
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها. ظلال الهجوم والقتال، منذ أول إشارة. فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله. وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه؛ ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفاً؟ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة؟ فقد جاء أشراطها. فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم؟} ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال- وهم يتظاهرون بالإيمان- والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين: {ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت!} ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات. ويرذل اتجاهاتهم، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن: {فأولى لهم طاعة وقول معروف. فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} ويفضحهم في توليهم للشيطان، وفي تآمرهم مع اليهود، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فرداً فرداً في المجتمع الإسلامي، الذي يدمجون أنفسهم فيه، وهم ليسوا منه، وهم يكيدون له: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم. فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم؟ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم. ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم:
{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم} وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، ولا تبطلوا أعمالكم. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار. فلن يغفر الله لهم} وتحضيض لهم على الثبات عند القتال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها. وحض على البذل الذي يسره الله، ولم يجعله استئصالاً للمال كله، رأفة بهم، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال:
{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيُحِفكم تبخلوا ويُخرج أضغانكم} وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال، وبالبذل في القتال: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم} إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها؛ يظللها جو القتال، وتتسم بطابعه في كل فقراتها.
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة: أعمالهم. بالهم. أمثالهم. أهواءهم. أمعاءهم.. وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء: أوزارها. أمثالها. أقفالها....
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها.. فالقتال أو القتل يقول عنه: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}.. والتقتيل والأسر يصوره بشدة: {حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق}.. والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس: {فتعساً لهم وأضل أعمالهم}.. وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلاً ولفظاً: {دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}.. وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم}.. وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف: {ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت!} حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال..
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل؛ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}..
افتتاح يمثل الهجوم بلا مقدمة ولا تمهيد! وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم- يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها.
ولكن هذا المعنى يتثمل في حركة. فإذا بنا نرى هذه الأعمال شاردة ضالة، ونلمح عاقبة هذا الشرود والضلال، فإذا هي الهلاك والضياع. وهي حركة تخلع ظل الحياة على الأعمال، فكأنما هي شخوص حية أضلت وأهلكت. وتعمق المعنى وتلقي ظلاله. ظلال معركة تشرد فيها الأعمال عن القوم، والقوم عن الأعمال. حتى تنتهي إلى الضلال والهلاك!
وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير. والتي يبدو على ظاهرها الصلاح. فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان. فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه. والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل. قد يكون الباعث طيباً. ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة. لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير، متصل بخط سير الحياة العريض، ولا بناموس الوجود الأصيل. فلا بد من الإيمان ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها، وتتأثر به في كل انفعالاتها. وحينئذ يكون للعمل الصالح معناه. ويكون له هدفه ويكون له اطراده وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس؛ ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثراً في كيان هذا الوجود، وفي قيامه بدوره، وانتهائه إلى غايته.
وفي الجانب الآخر: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم}..
والإيمان الأول يشمل الإيمان بما نزل على محمد. ولكن السياق يبرزه ويظهره ليصفه بصفته: {وهو الحق من ربهم} ويؤكد هذا المعنى ويقرره. وإلى جوار الإيمان المستكن في الضمير، العمل الظاهر في الحياة. وهو ثمرة الإيمان الدالة على وجوده وحيويته وانبعاثه.
وهؤلاء {كفَّر عنهم سيئاتهم}.. في مقابل إبطال أعمال الذين كفروا ولو كانت حسنات في شكلها وظاهرها. وبينما يبطل العمل ولو كان صالحاً من الكافرين، فإن السيئة تغفر للمؤمنين. وهو تقابل تام مطلق ويبرز قيمة الإيمان وقدره عند الله، وفي حقيقة الحياة..
{وأصلح بالهم}.. وإصلاح البال نعمة كبرى تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر. والتعبير يلقي ظلال الطمأنينة والراحة والثقة والرضى والسلام. ومتى صلح البال، استقام الشعور والتفكير، واطمأن القلب والضمير، وارتاحت المشاعر والأعصاب، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والسلام.. وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع؟ ألا إنه الأفق المشرق الوضيء الرفاف.
ولم كان هذا وكان ذاك؟ إنها ليست المحاباة. وليست المصادفة. وليس الجزاف. إنما هو أمر له أصله الثابت، المرتبط بالناموس الأصيل الذي قام عليه الوجود يوم خلق الله السماوات والأرض بالحق، وجعل الحق هو الأساس:
{ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل؛ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم}..
والباطل ليست له جذور ضاربة في كيان هذا الوجود؛ ومن ثم فهو ذاهب هالك؛ وكل من يتبعه وكل ما يصدر عنه ذاهب هالك كذلك.
ولما كان الذين كفروا اتبعوا الباطل فقد ضلت أعمالهم، ولم يبق لهم منها شيء ذو غناء.
والحق ثابت تقوم عليه السماوات والأرض، وتضرب جذوره في أعماق هذا الكون. ومن ثم يبقى كل ما يتصل به ويقوم عليه. ولما كان الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم، فلا جرم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
فهو أمر واضح مقرر يقوم على أصوله الثابتة، ويرجع إلى أسبابه الأصيلة. وما هو فلتة ولا مصادفة ولا جزاف {كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}. وكذلك يضع لهم القواعد التي يقيسون إليها أنفسهم وأعمالهم. فيعلمون المثل الذي ينتمون إليه ويقاسون عليه. ولا يحتارون في الوزن والقياس!
ذلك الأصل الذي قررته الآية الأولى في السورة، يرتب عليه توجيه المؤمنين لقتال الكافرين. فهم على الحق الثابت الذي ينبغي أن يتقرر في الأرض، ويستعلي ويهيمن على أقدار الناس والحياة ليصل الناس بالحق وليقيم الحياة على أساسه. والذين كفروا على الباطل الذي ينبغي أن يبطل وتذهب آثاره من الحياة:
{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منّاً بعد وإما فداء. حتى تضع الحرب أوزارها}..
واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء. فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة براءة التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة- قاعدة الإسلام- أو يسلموا. كي تخلص القاعدة للإسلام.
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعاً. وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة، وبالحركة التي تمثلها، تمشياً مع جو السورة وظلالها.
{حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق}..
والإثخان شدة التقتيل، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع. وعندئذ- لا قبله- يؤسر من استأسر ويشد وثاقه. فأما والعدو ما يزال قوياً فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر.
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف- كما رأى معظم المفسرين- بين مدلول هذه الآية، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر. والتقتيل كان أولى. وذلك حيث يقول تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فالإثخان أولاً لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته؛ وبعد ذلك يكون الأسر.
والحكمة ظاهرة، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال. وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة. وكانت الكثرة للمشركين. وكان قتل محارب يساوي شيئاً كبيراً في ميزان القوى حينذاك. والحكم ما يزال سارياً في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع.
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك، فتحدده هذه الآية. وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى:
{فإما منّاً بعد وإما فداء}..
أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين. وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين.
وليس في الآية حالة ثالثة. كالاسترقاق أو القتل. بالنسبة لأسرى المشركين.
ولكن الذي حدث فعلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى- وهو الغالب- وقتلوا بعضهم في حالات معينة.
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب (أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي) ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه. قبل أن نقرر الحكم الذي نراه:
* قال الله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان. وهو نظير قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف).
* حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان. قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة. عن ابن عباس في قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} قال: ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى: {فإما منّاً بعد وإما فداء}.. فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار. إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم. شك أبو عبيد في.. وإن شاءوا استعبدوهم.. (والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه. وأما جواز القتل فلا نرى له سنداً في الآية وإنما نصها المن أو الفداء).
* وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا أبو مهدي وحجاج، كلاهما عن سفيان. قال: سمعت السدي يقول في قوله: {فإما منّاً بعد وإما فداء}.. قال: هي منسوخة، نسخها قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} قال أبو بكر: أما قوله: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}.. وقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}. وقوله: {فإما تثقفنَّهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم}
فإنه جائز أن يكون حكماً ثابتاً غير منسوخ. وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر- إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم- وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء. فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام. (ونقول: إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة. بينما النص في سورة محمد عام. فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى. وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها)..
* وأما قوله: {فإما منّاً بعد وإما فداء}.. ظاهره يقتضي أحد شيئين: من أو فداء. وذلك ينفي جواز القتل. وقد اختلف السلف في ذلك. حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير، وقال: منّ عليه أو فاده. وحدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: أخبرنا هشيم. قال: أخبرنا أشعث قال: سألت عطاء عن قتل الأسير فقال: منّ عليه أو فاده قال: وسألت الحسن. قال: يصنع به ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر، يمن عليه أو يفادي به. وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله، فأبى أن يقتله، وتلا قوله: {فإما منّاً بعد وإما فداء}.. وروي أيضاً عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير. وقد روينا عن السدي أن قوله: {فإما منّاً بعد وإما فداء} منسوخ بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وروي مثله عن ابن جريج. حدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: هي منسوخة. وقال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبراً، قال أبو بكر: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله الأسير، منها قتله عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر. وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر. وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومنَّ على الزبير بن باطا من بينهم، وفتح خيبر بعضها صلحاً وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئاً، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله. وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن حبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وآخرين، وقال: «اقتلوهم وإن جدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» ومنَّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم. وروي عن صالح ابن كيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول: «وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته، وكنت قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً». وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله. فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه. واتفق فقهاء الأمصار على ذلك. (وجواز القتل لا يؤخذ من الآية، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة. وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر. فالنضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء دعوته. وكذلك أبو عزة الشاعر، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفاً. وهكذا نجد في جميع الحالات أسباباً معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية: {فإما منّاً بعد وإما فداء})..
* وإنما اختلفوا في فدائه، فقال أصحابنا جميعاً (يعني الحنفية): لا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حرباً. وقال أبو حنيفة: لا يفادون بأسرى المسلمين أيضاً، ولا يردون حرباً أبداً. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين. وهو قول الثوري والأوزاعي، وقال الأوزاعي: لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون. وقال المزني عن الشافعي: للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله: {فإما منّاً بعد وإما فداء} وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين؛ وبأن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسارى بدر بالمال. ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران ابن حصين. قال: أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عامر ابن صعصعة؛ فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو موثق، فناداه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام أحبس؟ قال: «بجريرة حلفائك». فقال الأسير: إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح». ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضاً، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذه حاجتك». ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما.
(وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين).
* وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال: وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج. وقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك. ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخاً للفداء المذكور في غيرها.. (وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين- أو الإسلام- مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم. أما غيرهم خارجها فتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب. وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين من قبل التسليم. فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم؟ نقول: إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية. فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى، فحكم الأسرى يظل سارياً في الحالة التي لم تنته بالجزية).
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى. وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر. وأنه هو الأصل الدائم للمسألة. وما وقع بالفعل خارجاً عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية. فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائماً نظائر؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر، لا بمجرد خروجهم للقتال. ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيراً فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير. وإنما كان الأسر وسيلة للقبض عليه.
ويبقى الاسترقاق. وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة، وتقاليد في الحرب عامة. ولم يكن ممكناً أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام: {فإما منَّا بعد وإما فداء}.
في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين. ومن ثم طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى مناً. وفادى ببعضهم أسرى المسلمين، وفادى بعضهم بالمال. وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء.
فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي: {فإما منَّا بعد وإما فداء} لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق. فليس الاسترقاق حتمياً، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام.
وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم. ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث.. والله الموفق للصواب.
ويحسن أن يكون مفهوماً أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده، لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرئ الإسلام منها! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبداً، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير، لأنه ما من إنسان يعرف شيئاً من الأدب يملك أن يقول: إنه يرى خيراً مما يرى الله. إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه.
وذلك..- أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى- {حتى تضع الحرب أوزارها}.. أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. فهي القاعدة الكلية الدائمة. ذلك أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة كما يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى تكون كلمة الله هي العليا.
والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد، لأنه يستعين بهم- حاشاه- على الذين كفروا. فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشراً؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض؛ الابتلاء الذي تقدر به منازلهم:
{ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم}..
إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء. إن هؤلاء جميعاً حفنة من الخلق. تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدوا فيه هذه المجرات والعوالم نقطاً متناثرة، تكاد تكون ضائعة، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله.
فلا يبلغ هؤلاء ومن ورائهم من الأتباع، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها، إن يكونوا نمالاً صغيرة. لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات. لا بل إنهم لا يبلغون شيئاً أصلاً حين يقفون أمام قوة الله.
إنما يتخذ الله المؤمنين- حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم- إنما يتخذهم سبحانه ستاراً لقدرته. ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة. كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم. بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير. وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.
يريد ليبتليهم. وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات. فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليربيهم. فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه. ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه. فترجح هذه وتشيل تلك. ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.
ويريد ليصلحهم. ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه. وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته. سواء سلم منه أو لاقاه. والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس لحظات الخطر شيئاً يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله. ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه.. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد. ويصبح عزيزاً على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله!
ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب.
وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه. وكل ميسر لما خلق له. وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته.
ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله:
{والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم}..
لن يضل أعمالهم.. في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم. فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه، وانبعثت حماية له، واتجاهاً إليه. وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع.
ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة.. حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله.. فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} ولكنها تعرض هنا عرضاً جديداً. تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه. طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء:
{سيهديهم ويصلح بالهم}..
فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله، يظل يتعهدهم بالهداية- بعد الاستشهاد- ويتعهدهم بإصلاح البال، وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض؛ أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه، وإشراقه وسناه. فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون. وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى. وزيدها هدى. ويزيدها صفاء، ويزيدها إشراقاً. وهي حياة نامية في ظلال الله. وأخيراً يحقق لهم ما وعدهم:
{ويدخلهم الجنة عرفها لهم}..
وقد ورد حديث عن تعريف الله الجنة للشهداء رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا زيد بن نمر الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مرة، عن قيس الجذامي- رجل كانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه، تكفر عنه كل خطيئة؛ ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان». تفرد به أحمد. وقد روى حديثاً آخر قريباً من هذا المعنى. وفيه النص على رؤية الشهيد لمقعده من الجنة. أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه.
فهذا تعريف الله الجنة للشهداء في سبيله. وهذه هي نهاية الهداية الممتدة، وإصلاح البال المستأنف بعد مغادرتهم لهذه الأرض. ونماء حياتهم وهداهم وصلاحهم هناك عند الله.
وفي ظل هذه الكرامة للذين قتلوا في سبيل الله. وفي ظل ذلك الرضى، وتلك الرعاية، وبلوغ ذلك المقام. يحرض الله المؤمنين على التجرد لله، والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة؛ ويعدهم على هذا النصر والتثبيت في المعركة؛ والتعس والضلال لأعدائهم وأعدائه:
{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}..
وكيف ينصر المؤمنون الله، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئاً، شركاً ظاهراً أو خفياً، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولا شيئاً، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها.. فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة. ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء، فهذا نصر الله في واقع الحياة.
ونقف لحظة أمام قوله تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله}.. وقوله: {إن تنصروا الله}..
وفي كلتا الحالتين. حالة القتل. وحالة النصرة. يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله. وهي لفتة بديهية، ولكن كثيراً من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال. وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم.
إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده، والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا. وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة. إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف. من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصوراً غريباً على طبيعة العقيدة.
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا. العليا في النفس والضمير. والعليا في الخلق والسلوك. والعليا في الأوضاع والنظم. والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة. وما عدا هذا فليس لله. ولكن للشيطان. وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد.
وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام. وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف.
وإذا عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف، فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهية الأولى في شرط الله..
وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا. فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام. وعد الله لا يخلفه. فإذا تخلف فترة؛ فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت. وذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم- فترة- نصر الله.
ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير: {ينصركم. ويثبت أقدامكم}..
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر، ويكون سبباً فيه. وهذا صحيح. ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت. معنى التثبيت على النصر وتكاليفه. فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الحق والضلال. فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة. للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر. وفي عدم التراخي بعده والتهاون. وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء. ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء. وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر. ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن. والعلم لله.
{والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم}..
وذلك عكس النصر وتثبيت الأقدام. فالدعاء بالتعس قضاء من الله سبحانه بالتعاسة والخيبة والخذلان وإضلال الأعمال ضياع بعد ذلك وفناء..
{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}..
وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم، وتصادمه من داخلها، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان، ويحسن منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله، أن أحبط الله أعمالهم. وإحباط الأعمال تعبير تصوري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام. ينتهي بها إلى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت.. ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام.
المنتفخة كبطون الأنعام، حين ترعى من ذلك النبت السام!
ثم يلوي أعناقهم إلى مصارع الغابرين قبلهم في شدة وعنف:
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ دمر الله عليهم. وللكافرين أمثالها}..
وهي لفتة عنيفة مروعة، فيها ضجة وفرقعة. وفيها مشهد للذين من قبلهم يدمر عليهم كل ما حولهم، وكل مالهم، فإذا هو أنقاض متراكمة، وإذا هم تحت هذه الأنقاض المتراكمة. وذلك المشهد الذي يرسمه التعبير مقصود بصورته هذه وحركته، والتعبير يحمل في إيقاعه وجرسه صورة هذا المشهد وفرقعته في انقضاضه وتحطمه!
وعلى المشهد التدمير والتحطيم والردم، يلوح للحاضرين من الكافرين، ولكل من يتصف بهذه الصفة بعد، بأنها في انتظارهم. هذه الوقعة المدمرة التي تدمر عليهم كل شيء وتدفنهم بين الأنقاض: {وللكافرين أمثالها}!
وتفسير هذا الأمر الهائل المروع الذي يدمر على الكافرين وينصر المؤمنين هو القاعدة الأصيلة الدائمة:
{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}..
ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه، وفيه الكفاية والغناء؛ وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير، لا تخلياً من الله عن ولايته له، ولا تخلفاً لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده. ومن لم يكن الله مولاه فلا مولى له، ولو اتخذ الإنس والجن كلهم أولياء. فهو في النهاية مضيع عاجز؛ ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي يعرفها الناس!
ثم يوازن بين نصيب الذين آمنوا ونصيب الذين كفروا من المتاع بعدما بيّن نصيب هؤلاء وهؤلاء فيما يشتجر بينهم من قتال ونزال. مع بيان الفارق الأصيل بين متاع ومتاع:
{إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم}..
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحياناً من أطيب المتاع؛ ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين- وهو نصيبهم في الجنة- والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه.
ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار. فالله هو الذي يدخلهم. وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع. وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح، متناسقاً في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح.
ونصيب الذين كفروا متاع وأكل {كما تأكل الأنعام}.. وهو تصوير زري، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره، والمتاع الحيواني الغليظ. بلا تذوق، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح.. إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة، ولا من اختيار، ولا حارس عليه من تقوى، ولا رادع عنه من ضمير.
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل، ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم، وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع، كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته، والذي له قيم خاصة للحياة؛ فهو يختار الطيب عند الله. عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة، ولا يضعفها هتاف اللذة. ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام، وفرصة متاع؛ بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح!
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان: أن للإنسان إرادة وهدفاً وتصوراً خاصاً للحياة يقوم على أصولها الصحيحة، المتلقاة من الله خالق الحياة. فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله.
وتعترض سلسلة الموازنات بين الذين آمنوا والذين كفروا لفتة إلى القرية التي أخرجت الرسول صلى الله عليه وسلم وموازنة بينها وبين القرى الهالكة وكانت أشد قوة منها:
{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم}..
وهي آية يروى أنها نزلت في الطريق بين مكة والمدينة في أثناء رحلة الخروج والهجرة، تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه؛ وتهويناً من شأن المشركين الجبارين الذين وقفوا في وجه الدعوة، وآذوا أصحابها، حتى هاجروا من أرضهم وأهلهم وأموالهم فراراً بعقيدتهم.
ثم يمضي في الموازنة بين حال الفريقين؛ ويعلل لم كان الله ولي المؤمنين يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، بعد النصر والكرامة في الدنيا؟ ولم كان الذين كفروا لا مولى لهم معرضين للهلاك في الدنيا- بعد حياة حيوانية هابطة- وللعذاب في الآخرة والثوي في النار والإقامة:
{أفمن كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله، واتبعوا أهواءهم؟}..
فهو فارق أصيل في الحالة التي عليها الفريقان، وفي المنهج والسلوك سواء. فالذين آمنوا على بينة من ربهم.. رأوا الحق وعرفوه، واستيقنوا من مصدره واتصلوا بربهم فتلقوا عنه، وهم على يقين مما يتلقون. غير مخدوعين ولا مضللين. والذين كفروا زين لهم سوء عملهم، فرأوه حسناً وهو سِّيئ؛ ولم يروا ولم يستيقنوا، {واتبعوا أهواءهم}. بلا ضابط يرجعون إليه، ولا أصل يقيسون عليه، ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل.
أهؤلاء كهؤلاء؟ إنهم يختلفون حالاً ومنهجاً واتجاهاً. فلا يمكن أن يتفقوا ميزاناً ولا جزاء ولا مصيراً! وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير:
{مثل الجنة التي وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال